محاضرات
22/07/2024

موقفُ النَّاسِ منَ الدِّينِ والدُّنيا في حديثِ الحسينِ (ع)

موقفُ النَّاسِ منَ الدِّينِ والدُّنيا في حديثِ الحسينِ (ع)

من القضايا الَّتي كان الإمام الحسين (ع) يفكِّر فيها، قضيَّة موقف النَّاس من الدّنيا والدّين، فالحسين (ع) يلاحظ الظَّاهرة العامَّة الَّتي كانت تسود المجتمع في مرحلته، وربما في أغلب المجتمعات، وهي أنَّ الدِّين أو المبادئ لدى الغالبيَّة من النَّاس، تمثِّل مجرَّد حالة نفسيَّة، أو فكرة غير متجذِّرة في الإنسان، بحيث إنَّها إذا اصطدمت بالمصلحة وبالشَّهوة، سقطت وتبخَّرت.
الاختبارُ الصَّعب
وقد عبَّر (ع) عن ذلك في كلمته: "النَّاسُ عبيدُ الدُّنيا - يخضعون لها، ويستسلمون لها، ويسقطون أمام شهواتها ولذَّاتها ومطامعها - والدِّينُ لَعِقٌ على ألسنَتِهم – يلعقونه كما يلعق اللّسانُ العسلَ ويلتذُّ به – يحوطونَهُ – يحركونه كما يحرّك الشَّخص لسانه بلعقة العسل - ما درَّتْ معايشُهم - فما دام الدِّين يتماشى مع مصالحهم ومع معاشاتهم، فهم مع الدّين - فإذا مُحِّصُوا بالبلاءِ – بحيث يقف الإنسان أمام الاختيار بين الدِّين والدّنيا، بين أن يعمل في الحرام أو أن يتحمَّل البلاء، فهنا، قد يختار الكثيرون الحرام وتأييد الظَّالم.. فمثلاً، إذا كان الإنسان مفلساً، وجاءته المخابرات، سواء كانت محليَّة أو دوليَّة أو صهيونيَّة، وقالوا له نحن مستعدّون أن نعطيك ما تحتاجه وأكثر، على أن تصبح جاسوساً لنا، هنا يدور أمره بين أن يبقى مفلساً ومحتاجاً، وبين أن يعمل معهم ويلبّي مطامعه وشهواته. فإذا محِّص هؤلاء بالبلاء - قلَّ الدَّيَّانون"، وهم الأشخاص الَّذين يثبتون على الموقف وعلى الدِّين، والّذين هم في موقع القلَّة لا في موقع الكثرة، لأنَّ الكثيرين يسقطون في الاختبارات، ويقعون تحت الغربال، والّذين يبقون فوقه قليلون.
وهذا المعنى الَّذي أكَّده الإمام الحسين (ع) في الظَّاهرة، تمثَّل في الواقع الَّذي عاشه. لماذا ترك النَّاس الإمام (ع) واتَّبعوا يزيد؟ ماذا كان يملك يزيد من عناصر؟ لم يذكر أحدٌ أنَّ يزيد كان يملك علماً، أو يملك قيماً روحيَّة وأخلاقيَّة كبيرة، ولكنَّه كان يملك مالاً، وكان يملك سلطةً، بينما الإمام الحسين (ع) هو سيِّد شباب أهل الجنَّة، بنصِّ رسول الله (ص)، مما يرويه الشِّيعة والسنَّة معاً، وهو الإمام، وهو الَّذي كان رسول الله (ص) يقول فيه: "اللَّهمَّ إنِّي أحبُّهُ، فأحبَّهُ، وأَحِبَّ مَنْ يُحبُّه"، وهو الَّذي يمثِّل أعلى درجات العلم في زمنه، ويمثِّل الإنسانَ الَّذي يتميَّز بالقيمة الرّوحيَّة بكلِّ درجاتها، وهو الإمامُ المعصومُ، فلماذا تُرِكَ؟ لأنَّ الحسين (ع) تقدَّم إلى النَّاس بالرِّسالة، ولم يتقدَّم إليهم بالمال. ونحن نلاحظ، مثلاً، في تاريخ السِّيرة الحسينيَّة، أنَّ مسلم بن عقيل بايعه ثمانية عشر ألف رجل، حتَّى كتب إلى الحسين (ع) يخبره بذلك، وعندما جاء ابن زياد، وأمسك بالسَّوط في يد، وبالمال في يد، انفضَّ النَّاس عن مسلم ولم يبق معه أحد، وكانت كلمة الفرزدق للإمام الحسين (ع)، عندما سأله عن خبر النَّاس في الكوفة، فقال: "قلوبُهم مَعَكَ، وسيوفُهم عليْكَ".
وقد حدَّثنا الله سبحانه وتعالى عن هذه الظَّاهرة: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ - على الحافة، حسب ما نعبِّر - فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ – يعني ما دام في خيرٍ من عبادةِ الله - اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ – إن دخل في التَّجربة الصَّعبة - انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ – كناية عن انقلابه على مبادئه - خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}[الحجّ: 11]، لأنَّ النَّاس ترتبط بالحسّ، وترتبط بالغريزة، وترتبط بالعاطفة، ولذلك سرعان ما تتغيَّر مواقفها.
وقد بيَّنَ اللهُ سبحانَهُ وتعالى في سورة العنكبوت، أنَّ الله يبتلي عباده ويختبرهم، فلا يكتفي منهم بإعلانهم الإيمان، بل إنَّه يختبرهم في بعض الأوضاع الَّتي تمثِّل الزّلزال النَّفسيّ، فإذا ثبتوا، تبيَّن صدقهم في إيمانهم، وإذا اهتزّوا، تبيَّنَ عدم صدقهم، قال تعالى: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ – لا يُختَبرُون - وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ - ابتليناهم واختبرناهم لتظهرَ حقائقهم - فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا – في إيمانِهم - وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}[العنكبوت: 2-3].
سقوطُ عمرَ بنِ سعد
في مسألة كربلاء، رأيْنا نموذجيْن؛ نموذجاً سقط في الامتحان، ونموذجاً نجح فيه. أمَّا النَّموذج الَّذي سقط فهو عمر بن سعد، هذا الرَّجل يقال عنه إنَّه كان يحبُّ الحسين (ع)، وكان قريباً له، ولم يكن معادياً للحسين (ع)، ولكن عندما عرض عليه ابن زياد ولاية الرّيّ، أن يكون عاملاً على منطقة الرّيّ، عند ذلك عاش حالة اهتزاز، وطلب منه أن يمهله سواد اللَّيل حتَّى يعطي قراره. وقد صوَّر بعض الشّعراء حالته النَّفسيَّة، وربما يكون هذا من شعره:
                                أأتركُ ملكَ الرّيِّ والرّيُّ مـــنيتي      أم أرجعُ مأثــــــوماً بقتلِ حسينِ
                               حسينُ ابن عمِّي والحوادثُ جمّةٌ       لعمري ولـي في الرّيِّ قرّةُ عينِ
بعد ذلك، تغلَّبَتْ شهوته وطمعه على مبادئه، وأنشدَ هذين البيتين، أو أنَّهما نُظِما عن لسان حاله:
                              يقولونَ إنَّ اللَّه خـــــــــــالقُ جنَّةٍ        ونارٍ وتعذيـبٍ وغـــــــــــلِّ يدينِ
                              فإنْ صَدَقُوا فيما يـقولُـــون إنَّني         أتوبُ إلى الرَّحمــنِ من ســـنتينِ
فهو يقول قبل أن أموت بسنتين أتوب، فأكون قد حصلت على الدّنيا والآخرة.
وكثير من النَّاس يفكِّرون هكذا، يأتون إلى الشَّباب المتديّنين والصَّبايا المتديّنات، يقولون لهم لماذا تعذِّبون أنفسَكم، ولماذا تذهبون بهذا العمر إلى الحجّ؟! عيشوا حياتكم، وخذوا حرّيّتكم، وقبل أن يأتيكم الأجل، اذهبوا إلى الحجّ، واعتقوا رقابكم، وتكونون بذلك قد حصلتم على الدّنيا والآخرة، ولكن لا يقولون لهم مَن الَّذي يضمَنُ لهم أعمارهم، ومَن الَّذي يضمن لهم التَّوبة.. ومن الَّذي يعرف كم سيعيشون، هل سيعيشون ثلاثين سنة، أو أربعين سنة، أو أكثر أم أقلّ...؟!
وسقط عمر بن سعد في الامتحان، وقَبِلَ أن يكون القائدَ للجيش الَّذي حاربَ الإمام الحسين (ع).
جدالُ الحرِّ معَ الحسينِ (ع)
والشَّخصيَّة الثَّانية هي شخصيَّة الحرّ بن يزيد الرّياحي، هذا الرَّجل كان في طليعة جيش ابن زياد، وكانت مهمَّته أن يأتيَ بالحسين (ع) ويسلِّمه لابن زياد، والتقى بالحسين (ع)، وحاولَ أن يمنعه من الاستمرار في طريقه، وأن يجبره على المسير إلى الكوفة ليقع بيد ابن زياد. ولكنَّ الرَّجل كانت عنده أصالة.. لقد كانَتْ عندَهُ وظيفة مهمَّة، وهو مكلَّفٌ بأن يقوم بوظيفته. ولكنَّ الحرَّ كان موظَّفاً يملك قيمة روحيَّة، ويملك أصالةً في نفسه، وعندما صارَ الجدالُ بينَه وبينَ الإمام الحسين (ع)، كما تقول الرِّواية، قال له الحسين (ع): "ثكلَتْكَ أمُّك، ما تريد؟"، فقال للحسين (ع): "أمَّا لوْ غيرُكَ منَ العربِ يقولُها لي وهو على مثلِ الحالِ الَّتي أنتَ عليْها، ما تركْتُ ذكرَ أمِّهِ بالثُّكلِ كائناً مَنْ كانَ، ولكنْ واللهِ مالي من ذكرِ أمِّكَ من سبيلٍ إلَّا بأحسنَ ما نقدرُ عليْه"، يعني ماذا أقول وأمُّك فاطمة بنت رسول الله (ص).
ثمَّ عندما جاء وقت الصَّلاة، قال له الحسين (ع): "تريد أن تصلِّي بأصحابِكَ؟ قالَ: لا، ولكنْ صلِّ أنت ونصلِّي نحن وراءَكَ - فالمهمَّة شيء، والصَّلاة شيء - فصلَّى بهم الحسينُ (ع)".
وفي نهاية المطاف، اتَّخذ الرَّجل قراراً على نحو التَّسوية، بمعنى أن لا يكونَ هناك غالب ولا مغلوب، فقال للحسين (ع): "إذ أبيت، فخذْ طريقاً لا يدخلُكَ الكوفةَ، ولا يردُّكَ إلى المدينةِ، يكونُ بيني وبينَكَ نصفاً"، لكي يكون عندي مجال، فلا أريد أن أبتلى بدمك وأدخلك الكوفة، وأيضاً لا أستطيع أن أقول لابن زياد إنّي تركته يرجع إلى مأمنه.
وفعلاً، بعد هذه التَّسوية، سار الإمام الحسين (ع) إلى كربلاء، وبقي الرَّجل قائدَ هذه الفرقة. وإلى جانب قيادته لهذه الفرقة، كان الحرُّ رئيسَ عشيرة بني رياح، وكان مستقبله أمامه، وكان من الممكن أن يرتقي في وظيفته.
وبقيَ الحرّ مع الجيش، حتَّى إذا وصلت المسألة إلى نقطة اللَّاعودة، وعرف أنَّ الجيش يتَّجه إلى قتال الحسين (ع)، ومن الطَّبيعيّ في مثل هذه المعركة أن يُقتلَ الإمامُ (ع)، لأنَّ كثرة عديد الجيش، وقلَّة أنصار الحسين، لا تجعل هناك توازناً في القوى، حتّى إذا عرف ذلك، جاءَ إلى ابن سعد، كما تقول الرّواية، وقال له: "أمقاتلٌ أنت هذا الرَّجل؟ قال: إي والله، قتالاً أيسره أن تسقط فيه الرّؤوس وتطيح الأيدي، قال: ما لكم فيما عرضَهُ عليْكم منَ الخصالِ؟ فقالَ: لَو كانَ الأمرُ إليَّ لقبلْتُ، ولكنَّ أميرَكَ أبى ذلكَ"، فلا بدَّ أن ينزل الحسين على حكمه وحكم يزيد. والحسين (ع) نفس أبيه بين جنبيه، فلا يمكن أن يقبل.
الحرُّ يتَّخذُ القرار
عرف الحرّ أنَّ المسألة وصلت إلى نقطة اللَّاعودة، فوقف يتَّخذ قراره، وتقول الرّواية إنّه أصبح يرتعد، كما حال الَّذي تغلبه الحمَّى ويرتجف، فرآه أحد أصحابه، فاستغرب، لأنَّ الَّذي يرتعد عادةً هو الَّذي يكون خائفاً من المعركة والموت، فقال له: "لو قيل لي مَنْ أشجعُ أهلِ الكوفة، ما عدوتك"، فأنت شجاع. فما كان جوابُ الحرّ؟ قال له: "إنِّي أخيِّرُ نفسي بينَ الجنَّةِ والنَّارِ – فالرَّعدة ليست خوفاً، ولكنَّ الموقع الَّذي أنا فيه هو موقع النَّار، لأنَّني مع الظَّالمين، والموقع الَّذي مع الحسين هو موقع الجنَّة، لأنَّه سيِّد شباب أهل الجنَّة، ولأنَّه مع الحقّ، هنا الظَّالمون، وهنا المظلومون، فالاهتزاز الَّذي أعيشه ينطلق من أني في لحظةِ أخذِ القرارِ الصَّعب. ثمَّ قال - فواللهِ لا أختارُ على الجنَّةِ شيئاً، ولو قطِّعْتُ وأحرقْتُ". وانطلق إلى الحسين (ع) تائباً في موقف الخضوع، وقَبِلَ الإمام (ع) توبته، وعندما استُشْهِدَ، أعطاه الإمام الحسين (ع) هذا الوسام: "أنتَ الحرُّ كما سمَّتْكَ أمُّك؛ حرٌّ في الدّنيا، وسعيدٌ في الآخرة".
ماذا كان يقصد الحسين (ع) بكلامه؟ فهذه الكلمات ليست مجرَّد تأبين وتكريم للحرّ، وإنَّما أراد (ع) أن يقول للنَّاس إنَّ الحرَّ هو الَّذي يملك موقفه، وهو الَّذي يختار الموقف الصَّعب، لأنَّ الإنسان الحرَّ هو الَّذي يستطيع أن يقول (لا) حتَّى لو كلَّفته الكثير، عندما يكون الموقف يفرض عليه أن يقول لا، ويستطيع أن يقول (نعم) حتَّى لو كلَّفته الـ(نعم) الكثير من السَّلبيَّات، في موقفٍ يفرض عليه أن يقول (نعم).
ولذلك، أكَّد الإمام الحسين (ع) صفة الحريَّة للحرّ، لأنَّه ملك موقفه. وهكذا، فإنَّ كلَّ مَنْ يملك موقفه يتَّصف بالحريَّة. وهذا الَّذي نقرأه في سيرة مسلم بن عقيل، فيما نقل عنه أنَّه كان يرتجز، ويقول: "أقسمْتُ لا أُقتَلُ إلَّا حرّاً - رافضاً لكلِّ ما يطرح عليّ ويعرض من خطِّ الانحراف، ومن كلِّ ما يراد لي من الذُّلّ - وإن رأيْتُ الموتَ شيئاً نكراً".
سيِّدُ الأحرار
وقمَّة الحريَّة أيضاً، هي في كلمة الإمام الحسين (ع)، صحيح أنّه لم يذكر فيها كلمة الحريَّة، ولكنَّه أتى بمعناها، عندما قال: "ألا وإنَّ الدَّعيَّ ابنَ الدَّعيِّ، قَدْ ركَزَ بينَ اثنتيْنِ؛ بينَ السِّلَّةِ والذّلَّةِ، وهيهاتَ منَّا الذّلَّة! يأبى اللهُ لنا ذلكَ ورسولُهُ والمؤمنون، وحجورٌ طابَتْ وطهرَتْ، وأنوفٌ حميَّةٌ، ونفوسٌ أبيَّةٌ، من أنْ نؤثرَ طاعةَ اللِّئامِ على مصارعِ الكرامِ"، "لا واللهِ لا أعطيكم بيدي إعطاءَ الذَّليلِ، ولا أقرُّ لكم إقرارَ العبيدِ". فقد وقف بين السلَّة، وهي الموت، وبين الذلَّة، وكان الحسين (ع) سيِّدَ الأحرار.
وهذا الأمر، أيُّها الأحبَّة، نحتاجه في حياتنا، لأنَّنا في أكثر من موقف، سواء في المواقف الشَّخصيَّة في علاقاتنا الخاصَّة، أو في المواقف العامَّة في أوضاعنا العامَّة، نتعرَّض للكثير من التحدّيات الَّتي تتحدَّى مبادئنا، وهذه هي الَّتي تجعلنا كمسلمين، نعيش إرادتنا في رضا الله وفي الجنَّة، والله يقول: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ}[الحشر: 20]. لذلك، أغلب السّور في القرآن الكريم، يتحدَّث الله فيها عن الجنَّة والنَّار، حتَّى يعيش الإنسان أجواء الجنَّة في القرآن، ويعرف قيمة الجنَّة، ويكون مستعدّاً لتقديم التَّضحيات للحصول عليها.
وهذا أكثر شيءٍ يواجهُ الشَّباب الَّذين تستيقظ في شبابهم عناصر الشَّهوة، أو الأشخاص الَّذين يتحركون من أجل أن يكون لهم موقع في المجتمع، فتراهم لأجل الحصول على هذا الموقع، يسيرون في خطِّ الشَّيطان، ويقدِّمون التَّنازلات من دينهم لمصلحة معيشتهم، فيفقدون بذلك رضا الله والجنَّة.
لذلك، لا بدَّ للإنسان أن يكون واعياً لنفسه، بحيث عندما يقف بين خيارين، فعليه أن يحسن الاختيار ليحصل على النَّتائج الكبرى، حتَّى لو كانت هذه النَّتائج متأخِّرة بالنِّسبة إليه، لأنَّه صحيح أنَّ بعض النَّاس تحبّ النَّقدَ لا الدَّيْن، ولكنَّ دَيْنَ الله أشدُّ حضوراً من نَقْدِ النَّاس {مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ ٱللَّهِ بَاقٍ}[النَّحل: 96]، {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا}[الكهف: 46].
هذه بعضٌ من دروس الإمام الحسين (ع).
حركةُ إصلاحٍ لا عنف
وهناك مسألة نأخذها من خلال الفقرة الأخيرة في وصيَّة الإمام الحسين (ع) لأخيه محمَّد بن الحنفيَّة، عندما قال: "وإنَّما خَرَجْتُ لِطَلَبِ الإِصْلَاحِ في أمَّةِ جدِّي، أُريدُ أنْ آمرَ بالمَعْروفِ وأنْهَى عنِ المنكَرِ، فَمَنْ قَبِلَني بِقَبولِ الحقِّ فاللهُ أولَى بالحَقِّ، وَمَنْ رَدَّ عليَّ هذا أَصْبر حتَّى يقضيَ اللهُ بيني وبينَ القومِ بالحقِّ، وهوَ خيرُ الحاكمين".
هنا، نستطيع أن نستوحي من هذه الكلمة ومن كلماتٍ أخرى تشبهها، تحدَّث بها الإمام الحسين (ع) في بعض رسائله، أو في بعض احتجاجاته على أهل الكوفة، عندما قال لهم: "يا أيُّها النَّاسُ، إذْ قد كَرهتموني، فدعوني أنصرفْ عنكم".. نستطيع أن نستوحي طبيعة حركة الحسين (ع). إنَّ هناك الكثيرين ممن يتحدَّثون عن حركة الإمام الحسين (ع) بأنَّها حركة عنف، وأنَّ الحسين (ع) خرج ليقاتل، ولكنَّ هذا النَّصَّ، وهو من أوثق النّصوص، وأمثاله، يعطينا فكرةً أنَّ الحسين (ع) خرج داعيةً إلى الله، كما خرج جدّه داعيةً إلى الله.
لقد كان دور الإمام الحسين (ع) في مرحلته أن ينطلق ليجدِّد شباب الدَّعوة، لأنَّ الدَّعوة الإسلاميَّة الَّتي انطلقت من رسول الله (ص)، مرَّت في هذه الفترة الفاصلة بين رسول الله (ص) والحسين (ع) بتعقيدات كثيرة، بحيث نسي النَّاس حيويَّة الدَّعوة وواقعيَّتها وآفاقها، وشُغِلوا بأمورهم وخلافاتهم ومشاكلهم. لذلك كان الحسين (ع) يعمل من أجل تجديد حركيَّة الدَّعوة في العقل والقلب والواقع، وعندما قال: "خرجت لطلب الإصلاح في أمَّة جدّي"، كانت كلمة الإصلاح في وعي الإمام الحسين (ع)، ككلمة الإصلاح في وجدان النَّبيِّ شعيب (ع): {إِنْ أُرِیدُ إِلَّا ٱلإِصلَاحَ مَا ٱستَطَعْتُ}[هود: 88].
التَّشابهُ مع حركةِ الرَّسول (ص)
كان الحسين (ع) يريد أن يصلح فكر الأمَّة بعد أن أصابه الفساد، وكان يريد أن يصلح قلب الأمَّة، وكان يريد أن يصلح حركيَّة الأمَّة في طاقاتها، وأن يصلح واقع الأمَّة. ومن الطبيعي أنَّ الإنسان الَّذي ينطلق من أجل أن يغيِّر التَّفكير ويغيِّر الواقع، من خلال أن يجمع النَّاس على الفكر المستقيم والفكر الصَّحيح، لا يبادر إلى القتال، لأنَّ القتال يشغل النَّاس بأحداثه، فينسى النَّاس الفكرة الَّتي كانت من أجلها غالباً، وهذا الَّذي جعل الرَّسول (ص) في مدى ثلاث عشرة سنة قضاها في مكَّة يصبر ولا يقاتل.. كان المسلمون يُضطَهدون، وحوصرَ النَّبيُّ وبنو هاشم مدّةً من قبل قريش، وكانت هناك مقاطعة من قبل قريش، فلم يكونوا يبيعون المسلمين ولا يشترون منهم، ولا يزوِّجونهم ولا يتزوَّجون منهم، واضطُهِدَ المسلمون، وقُتِلَ بعضهم، وعندما كانوا يقولون: يا رسول الله، ائذنْ لنا في القتال، نحن عندنا قوّة، لأنّ المسلمين لم يكونوا جبناء، كان رسول الله (ص) يقول لهم إنَّ الله لم يأذن لي في القتال، فأنا مهمَّتي الآن أن أجعل المرحلةَ مرحلةً سلميَّة، على الأقلّ من قبلي، أن أصبر على كلِّ شيء، لأنّي لا أريد للعنف أن يقفَ حاجزاً بيني وبين دعوتي الَّتي أريدها أن تدخلَ إلى عقولِ النَّاسِ وإلى قلوبهم. ولذلك، عندما رأى بعضاً من أصحابِهِ يُضطَهدون، لم يتحمَّلُ هذا الاضطهاد، فأمرَهُم بالهجرةِ إلى الحبشة، ولم يؤذَن له في القتال، بالرّغم من أنَّه اضطُهِدَ اضطهاداً فوق العادة، حتَّى قال: "مَا أوذيَ نَبيُّ بمثلِ ما أوذيْتُ"، وكان الله يقول له: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ}[النّحل: 127]. وصبرَ النَّبيّ (ص).
الإمام الحسين (ع) كانت مهمَّته أن يصنع للنَّاس وعياً جديداً للإسلام، وعياً يتناول المفاهيم الإسلاميَّة، ويتناول حركيَّة الواقع الإسلاميّ، ولذلك كان يريد للنَّاس أن يسمعوا منه. وتنقل السِّيرة الحسينيَّة أنَّه عندما وقف (ع) أمام هذا الجيش الَّذي جاء ليقاتله، كان يقول لهم أنصتوا واسمعوا كلامي، ولكنَّهم كانوا يرفعون أصواتهم حتَّى لا يسمعوا كلامه، كما كان النَّبيّ (ص) عندما كان يقرأ القرآن: {وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَا تَسْمَعُواْ لِهَٰذَا ٱلْقُرْءَانِ وَٱلْغَوْاْ فِيهِ}[فصّلت: 26]. والجوُّ نفسه كان مع الحسين (ع).
الحسينُ (ع) داعيةٌ ومصلح
كان الحسين (ع) حواريّاً، لم ينزل في منزل والتقى فيه ببعض النَّاس الَّذين لم يكونوا على خطِّه، إلَّا ودخل في حوارٍ معهم، فبعضهم نفعَ فيهم الحوار، كزهير بن القين، وبعضهم لم ينفع فيهم الحوار.
لذلك، لم ينطلق الحسين (ع) ليقاتل، وإلَّا فإنَّ الشَّخص الَّذي يستعدُّ للقتال، لا يكتفي بسبعين رجلاً أمام قوَّة كبرى، فهذا ليس طبيعيّاً. ربما يقال إنَّ الحسين (ع) إمام معصوم ومزوَّد بقوَّة غيبيَّة.. صحيح، لكنَّ الله سبحانه وتعالى لم يجعل مسيرة الإسلام في عالم حركة القتال مسيرة غيبيَّة، إلَّا في بدر، وفي معركة الأحزاب أيضاً، كان هناك نوع من أنواع الجانب الغيبي، أمَّا في المعارك الأخرى، فكان المسلمون ينكسرون تارةً وينتصرون تارة، على حسب طبيعة الأمور. ولذلك، نرى أنَّه في حروب الإمام عليّ (ع)، لم تكن هناك حالة غيبيَّة تتدخَّل في المسألة، ولذلك قتل الحسين (ع) والصَّفوة الطيِّبة من أهل بيته وأصحابه.
فالحسين (ع) خرج داعيةً ومصلحاً، وخرج مغيِّراً للواقع، وعندما رأى أنَّ الأمَّة تطالبه بأن يتحرَّك، تحرّكَ باعتبار قيام الحجَّة عليه، وعلى أساس مسؤوليَّته. وعندما دخل الإمامُ (ع) في القتال، دخله للدِّفاع فقط، حتَّى قيل إنَّ الحسينَ (ع) قال: لا تبدأوهم بقتالٍ.. ولكن عندما جاءت السِّهام، وبدأ عمر بن سعد، ووضع سهماً في كبد القوس، وقال: "اشهدوا لي عند الأمير أنّي أوَّل مَنْ رمى"، وتتالت الأسهم، قال الحسين (ع) لأصحابه: "إنَّ هذهِ السِّهامَ رسلُ القومِ إليْكم".
حركةٌ دفاعيَّة
ولذا، كانت مهمَّة الحرب في كربلاء مهمَّة دفاعيَّة، على أساس أنَّ الجماعة قطعوا الحوار والمفاوضات مع الحسين (ع)، وصاروا يقولون له: ما ندري ما تقول يا بن فاطمة، ولكن انزل على حكم بني عمِّك. وابن زياد أيضاً للؤمه، لم يكن يريد للحسين (ع) أن ينزل على حكم يزيد فقط – وطبعاً، لم يكن الحسين (ع) ليقبل بأن ينزل على حكم يزيد – ولكنَّه قال له: انزل على حكمي وحكم يزيد بن معاوية.. وهذا يعني أن يعطي الحسينُ (ع) الشَّرعيَّةَ لهم، وهو لو أراد أن يعطيهم الشّرعيَّة، لكان أعطاهم إيّاها من البداية، ولكنَّه، وهو الإمام، لا يمكن أن يعطي الشّرعيّة لهم، لذلك قال: "لا واللهِ، لا أعطيكم بيدي إعطاءَ الذَّليل".
لذلك، كانت مسألة الحسين (ع) كمسألة جدِّه، حتى إنَّ النَّبيَّ (ص) في كلِّ حروبه لم يكن مهاجماً، بل كان دفاعيّاً، ففي كلِّ الحروب الّتي خاضها النّبيّ (ص)، كان مدافعاً، وقد فرضت عليه قريش الحرب، وفرض عليه اليهود الحرب، وكانت عمليَّة دفاع، ولم تكن عمليَّة هجوم بالمعنى العسكريّ.
وهذا هو الفرق بين الَّذي يطلب الحكم من أجل أن يتسلَّط، وبين الرِّساليِّ الَّذي يريد من الحكم أن يكون وسيلةً من وسائل تنفيذ رسالته في الواقع.
لهذا، يجب أن ندرس قضيَّة الامام الحسين (ع) أنَّها حركة اللّا عنف، وليست حركة العنف، لا عن ضعف في الإمام الحسين (ع)، فالحسين كان قادراً على أن يجمع النَّاس على أساس المال أو ما أشبه ذلك، لكنَّه (ع) كان صاحب رسالة، وكان يريد جيشاً يؤمن برسالته، ويؤمن بهدفه في هذا المجال.
الابتعادُ عن ذهنيَّةِ العنف
وفي ضوء ذلك، أيُّها الأحبَّة، عندما نريد أن ندرس الاقتداء بالإمام الحسين (ع)، فلا بدَّ أن ندرس المرحلة الَّتي نعيش فيها، والمرحلة الَّتي عاش فيها الحسين (ع)، فقد تكون المرحلة في بعض الحالات مثل مرحلة الإمام عليّ (ع) الَّذي بادر إلى القتال لكي يستطيع أن يركِّز قواعد الدَّولة الإسلاميَّة، وقد تكون المرحلة مرحلةَ الإمام الحسين (ع) في هذا الأسلوب الَّذي نهجه.. لذلك، لا بدَّ أن ندقِّق في حركة الإمام الحسين (ع)، وفي دراسة واقعنا في هذا المقام، وعلينا أن نأخذ من هذه الرّوح السَّمحاء الرَّحبة الَّتي تميَّزت بها حركة الإمام الحسين (ع)، وتميَّز بها أيضاً أصحابه وأهل بيته، أن نأخذ منها فكرة، كما هو خطُّ الإسلام، أن لا نعيش حالة العنف الحاقد ضدّ الَّذين يخالفوننا في الرَّأي، بل أن نعيش روحيَّة الرَّحمة لهم لجهلهم، والمحبَّة لهم لهدايتهم، لأنَّ تراكمات السِّنين، وتراكمات العصبيَّات في الواقع الإسلاميِّ، حوَّلت الرّوح الإسلاميَّة فيما يختلف فيه المسلمون إلى حالةِ حقدٍ، بحيث أصبحَ العنفُ هو الظَّاهرةَ البارزةَ في كثيرٍ من المواقعِ بين السنَّة والشّيعة. لماذا يقتل هؤلاء هؤلاء، أو العكس؟ هل يقتل بعضهم بعضاً على أساس أنَّ الإمام عليّاً هنا وأبا بكر هناك؟!
لو درسْنا سلوكَ الإمام عليٍّ (ع) مع الَّذين تقدَّموه وأخذوا حقَّه، لرأينا أنه يمثِّل الوحدة الإسلاميَّة السَّمحاء الرَّحبة الَّتي تحافظ على مصالح المسلمين، وهذا قوله: "لأسلمنَّ ما سلِمَتْ أمورُ المسلمين".
ثمَّ نلاحظ أيضاً أنَّ هذا الحقد الإسلاميّ الإسلاميّ قد لا يتمثَّل بالقتال، ولكن قد يتمثَّل بالتَّكفير؛ هناك اتجاه لدى السنَّة بتكفير الشّيعة، وهناك اتجاه لدى الشّيعة بتكفير السنَّة، هذا يكفِّر هذا، وذاك يكفِّر ذاك، فعلى أيِّ أساس؟ هذا يقول: أشهد أن لا إله إلَّا الله، وأنَّ محمَّداً رسول الله، وذاك يقولها أيضاً، ومَن قال: لا إله إلَّا الله، محمَّد رسول الله، حُقِنَ بها دمُه ومالُه وعرضُه، وصار له ما للمسلمين وعليه ما عليهم.
وانتقلت روحيَّة العنف حتَّى في داخل المجتمع الشِّيعي، في خلافات بعضه مع بعض، وفي داخل المجتمع السنّيّ أيضاً.. قد يتحوَّل الخلاف بين الشّيعة أنفسهم إلى قتال، كما حدث عندنا في لبنان وفي أماكن أخرى في العالم. لماذا؟ هناك قصَّة سياسيَّة هنا وقصَّة سياسيَّة هناك، وقصّة أمنيّة هنا وقصَّة أمنيَّة هناك، ولكن عندما نختلف، علينا أن نعمل على أن نتفاهم، والله يقول: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}[النّساء: 59].
وهذا ما نلاحظه عند السنَّة أيضاً، فهناك مذاهب مختلفة عندهم، وقد يسبِّب ذلك خلافات وقتالاً فيما بينهم.. وحتَّى الآن في داخل الشّيعة أو السنَّة، صارت عندنا اتجاهات أيضاً؛ فالشِّيعي يكفِّر شيعيّاً، والسنّي يكفِّر سنّيّاً، فالسنَّة عندهم تكفير بعضهم لبعض، والشّيعة أيضاً عندهم تكفير بعضهم لبعض. من أين يأتي هذا؟! هذا يأتي من طبيعة العنف.
العلاقة مع اليهود والنَّصارى
وهذا لم يقتصر أيضاً على الواقع الإسلاميّ الإسلاميّ، فهناك خلافٌ بيننا وبين النَّصارى، والقرآن تحدَّث عن الخلاف بين المسلمين والنَّصارى من ناحية عقيديَّة، ولكن ليس معناه أن نتقاتل، بل أن نتحاور {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَٰهُنَا وَإِلَٰهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُون}[العنكبوت: 46]. هذا هو الخطُّ الإسلاميّ {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ}[آل عمران: 64]، وليس المقصودُ فقط النَّصارى، بل حتّى اليهود، فالإسلامُ لا يقاتل اليهود إلَّا إذا ظلموا {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ}، وهم من الظَّالمين، ولكن لا لمجرَّد يهوديَّتهم، وإلّا فإنَّ اليهود عاشوا في البلاد الإسلاميَّة دون أن يصابوا بسوء، في الوقت الَّذي كان العالم الغربيّ يحتقرهم ويضطهدهم، والنَّصارى أيضاً عاشوا في مدى القرون الأربعة عشر أو الخمسة عشر دون أن يتعرَّض لهم أيّ أحد بسوء، فقد كانت لهم كنائسهم ومعابدهم ومؤسَّساتهم، ولم يكن هناك أيّ مشكلة معهم، ولكن عندما صارَ هناك عنف، صرْنا نرى مسلمين يهجمون على كنائس، كما حدث في باكستان، وربَّما نصارى أيضاً يهجمون على أماكن إسلاميَّة، كما حدث في أمريكا في 11 أيلول.
من أين يأتي هذا؟ يأتي من ذهنيَّة العنف، وأنَّنا لا نقدر على أن نحلَّ المشاكل إلَّا بطريقة العنف. ولكن لو درسنا المسألة ميدانيّاً، أيُّها الأحبَّة، قد يكون هناك حرب في علاقة الدّول بعضها ببعض، وقد تكون للحرب شرعيّتها، كما في حربنا مع إسرائيل، وحربنا مع كثير من الّذي يريدون أن يصادروا حرّيّتنا وحياتنا.. ولكن في الواقع الاجتماعي، لا ينبغي أن يكون هناك عنف على المستوى الشَّعبي لحلِّ المشكلة أبداً، بل العكس هو الصَّحيح، فالعنف يعقِّد المشاكل أكثر، ويزيد في الحقدِ أكثر.
حتّى لا ننشغلَ عن قضايانا
هناك قصَّة يذكرها ابن المقفَّع في كتاب "كليلة ودمنة"، وقد ذكرتها سابقاً، ولكن كما يقال، فالمسك ما كرَّرْتَه يتضوَّع.
تقول القصَّة إنَّ شخصاً سقط في بئر، ولكنَّ البئر كانت فيها شجرة، فتعلَّق بأغصان هذه الشَّجرة وثبَّت نفسه، وبعدما استقرَّ، نظرَ إلى أسفل البئر، فرأى تنِّيناً فاتحاً فاه ينتظر متى يسقط ليلتقمه، التفتَ إلى جنبه، فرأى جرذاً يقرض الغصن الَّذي هو متعلِّق به، نظر حوله فرأى قفير نحل ينتج عسلاً، فقام بلحس العسل بإصبعه، فرآه لذيذاً، فشغلته حلاوة العسل عن الجرذ الَّذي يقرض الحبل، وعن التَّنّين الَّذي ينتظر سقوطه ليأكله.
ألا ينطبق هذا المثل علينا؟ فحلاوة العصبيَّات والحزبيَّات والخلافات شغلتنا عن التنّين الأمريكي الَّذي يريد أن يلتهم كلَّ ثرواتنا وسياستنا وأمننا، وشغلتنا عن الجرذ الإسرائيلي الَّذي يريد أن يقرض بلادنا.. وهذه يجب أن نفهمها، العسل طيِّب، ولكنّ الحياة أطيب، والمستقبل أطيب، ورضا الله أطيب.
والحمد لله ربِّ العالمين.
*محاضرة عاشورائيَّة لسماحته، بتاريخ: 22/03/ 2002م.
من القضايا الَّتي كان الإمام الحسين (ع) يفكِّر فيها، قضيَّة موقف النَّاس من الدّنيا والدّين، فالحسين (ع) يلاحظ الظَّاهرة العامَّة الَّتي كانت تسود المجتمع في مرحلته، وربما في أغلب المجتمعات، وهي أنَّ الدِّين أو المبادئ لدى الغالبيَّة من النَّاس، تمثِّل مجرَّد حالة نفسيَّة، أو فكرة غير متجذِّرة في الإنسان، بحيث إنَّها إذا اصطدمت بالمصلحة وبالشَّهوة، سقطت وتبخَّرت.
الاختبارُ الصَّعب
وقد عبَّر (ع) عن ذلك في كلمته: "النَّاسُ عبيدُ الدُّنيا - يخضعون لها، ويستسلمون لها، ويسقطون أمام شهواتها ولذَّاتها ومطامعها - والدِّينُ لَعِقٌ على ألسنَتِهم – يلعقونه كما يلعق اللّسانُ العسلَ ويلتذُّ به – يحوطونَهُ – يحركونه كما يحرّك الشَّخص لسانه بلعقة العسل - ما درَّتْ معايشُهم - فما دام الدِّين يتماشى مع مصالحهم ومع معاشاتهم، فهم مع الدّين - فإذا مُحِّصُوا بالبلاءِ – بحيث يقف الإنسان أمام الاختيار بين الدِّين والدّنيا، بين أن يعمل في الحرام أو أن يتحمَّل البلاء، فهنا، قد يختار الكثيرون الحرام وتأييد الظَّالم.. فمثلاً، إذا كان الإنسان مفلساً، وجاءته المخابرات، سواء كانت محليَّة أو دوليَّة أو صهيونيَّة، وقالوا له نحن مستعدّون أن نعطيك ما تحتاجه وأكثر، على أن تصبح جاسوساً لنا، هنا يدور أمره بين أن يبقى مفلساً ومحتاجاً، وبين أن يعمل معهم ويلبّي مطامعه وشهواته. فإذا محِّص هؤلاء بالبلاء - قلَّ الدَّيَّانون"، وهم الأشخاص الَّذين يثبتون على الموقف وعلى الدِّين، والّذين هم في موقع القلَّة لا في موقع الكثرة، لأنَّ الكثيرين يسقطون في الاختبارات، ويقعون تحت الغربال، والّذين يبقون فوقه قليلون.
وهذا المعنى الَّذي أكَّده الإمام الحسين (ع) في الظَّاهرة، تمثَّل في الواقع الَّذي عاشه. لماذا ترك النَّاس الإمام (ع) واتَّبعوا يزيد؟ ماذا كان يملك يزيد من عناصر؟ لم يذكر أحدٌ أنَّ يزيد كان يملك علماً، أو يملك قيماً روحيَّة وأخلاقيَّة كبيرة، ولكنَّه كان يملك مالاً، وكان يملك سلطةً، بينما الإمام الحسين (ع) هو سيِّد شباب أهل الجنَّة، بنصِّ رسول الله (ص)، مما يرويه الشِّيعة والسنَّة معاً، وهو الإمام، وهو الَّذي كان رسول الله (ص) يقول فيه: "اللَّهمَّ إنِّي أحبُّهُ، فأحبَّهُ، وأَحِبَّ مَنْ يُحبُّه"، وهو الَّذي يمثِّل أعلى درجات العلم في زمنه، ويمثِّل الإنسانَ الَّذي يتميَّز بالقيمة الرّوحيَّة بكلِّ درجاتها، وهو الإمامُ المعصومُ، فلماذا تُرِكَ؟ لأنَّ الحسين (ع) تقدَّم إلى النَّاس بالرِّسالة، ولم يتقدَّم إليهم بالمال. ونحن نلاحظ، مثلاً، في تاريخ السِّيرة الحسينيَّة، أنَّ مسلم بن عقيل بايعه ثمانية عشر ألف رجل، حتَّى كتب إلى الحسين (ع) يخبره بذلك، وعندما جاء ابن زياد، وأمسك بالسَّوط في يد، وبالمال في يد، انفضَّ النَّاس عن مسلم ولم يبق معه أحد، وكانت كلمة الفرزدق للإمام الحسين (ع)، عندما سأله عن خبر النَّاس في الكوفة، فقال: "قلوبُهم مَعَكَ، وسيوفُهم عليْكَ".
وقد حدَّثنا الله سبحانه وتعالى عن هذه الظَّاهرة: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ - على الحافة، حسب ما نعبِّر - فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ – يعني ما دام في خيرٍ من عبادةِ الله - اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ – إن دخل في التَّجربة الصَّعبة - انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ – كناية عن انقلابه على مبادئه - خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}[الحجّ: 11]، لأنَّ النَّاس ترتبط بالحسّ، وترتبط بالغريزة، وترتبط بالعاطفة، ولذلك سرعان ما تتغيَّر مواقفها.
وقد بيَّنَ اللهُ سبحانَهُ وتعالى في سورة العنكبوت، أنَّ الله يبتلي عباده ويختبرهم، فلا يكتفي منهم بإعلانهم الإيمان، بل إنَّه يختبرهم في بعض الأوضاع الَّتي تمثِّل الزّلزال النَّفسيّ، فإذا ثبتوا، تبيَّن صدقهم في إيمانهم، وإذا اهتزّوا، تبيَّنَ عدم صدقهم، قال تعالى: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ – لا يُختَبرُون - وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ - ابتليناهم واختبرناهم لتظهرَ حقائقهم - فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا – في إيمانِهم - وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}[العنكبوت: 2-3].
سقوطُ عمرَ بنِ سعد
في مسألة كربلاء، رأيْنا نموذجيْن؛ نموذجاً سقط في الامتحان، ونموذجاً نجح فيه. أمَّا النَّموذج الَّذي سقط فهو عمر بن سعد، هذا الرَّجل يقال عنه إنَّه كان يحبُّ الحسين (ع)، وكان قريباً له، ولم يكن معادياً للحسين (ع)، ولكن عندما عرض عليه ابن زياد ولاية الرّيّ، أن يكون عاملاً على منطقة الرّيّ، عند ذلك عاش حالة اهتزاز، وطلب منه أن يمهله سواد اللَّيل حتَّى يعطي قراره. وقد صوَّر بعض الشّعراء حالته النَّفسيَّة، وربما يكون هذا من شعره:
                                أأتركُ ملكَ الرّيِّ والرّيُّ مـــنيتي      أم أرجعُ مأثــــــوماً بقتلِ حسينِ
                               حسينُ ابن عمِّي والحوادثُ جمّةٌ       لعمري ولـي في الرّيِّ قرّةُ عينِ
بعد ذلك، تغلَّبَتْ شهوته وطمعه على مبادئه، وأنشدَ هذين البيتين، أو أنَّهما نُظِما عن لسان حاله:
                              يقولونَ إنَّ اللَّه خـــــــــــالقُ جنَّةٍ        ونارٍ وتعذيـبٍ وغـــــــــــلِّ يدينِ
                              فإنْ صَدَقُوا فيما يـقولُـــون إنَّني         أتوبُ إلى الرَّحمــنِ من ســـنتينِ
فهو يقول قبل أن أموت بسنتين أتوب، فأكون قد حصلت على الدّنيا والآخرة.
وكثير من النَّاس يفكِّرون هكذا، يأتون إلى الشَّباب المتديّنين والصَّبايا المتديّنات، يقولون لهم لماذا تعذِّبون أنفسَكم، ولماذا تذهبون بهذا العمر إلى الحجّ؟! عيشوا حياتكم، وخذوا حرّيّتكم، وقبل أن يأتيكم الأجل، اذهبوا إلى الحجّ، واعتقوا رقابكم، وتكونون بذلك قد حصلتم على الدّنيا والآخرة، ولكن لا يقولون لهم مَن الَّذي يضمَنُ لهم أعمارهم، ومَن الَّذي يضمن لهم التَّوبة.. ومن الَّذي يعرف كم سيعيشون، هل سيعيشون ثلاثين سنة، أو أربعين سنة، أو أكثر أم أقلّ...؟!
وسقط عمر بن سعد في الامتحان، وقَبِلَ أن يكون القائدَ للجيش الَّذي حاربَ الإمام الحسين (ع).
جدالُ الحرِّ معَ الحسينِ (ع)
والشَّخصيَّة الثَّانية هي شخصيَّة الحرّ بن يزيد الرّياحي، هذا الرَّجل كان في طليعة جيش ابن زياد، وكانت مهمَّته أن يأتيَ بالحسين (ع) ويسلِّمه لابن زياد، والتقى بالحسين (ع)، وحاولَ أن يمنعه من الاستمرار في طريقه، وأن يجبره على المسير إلى الكوفة ليقع بيد ابن زياد. ولكنَّ الرَّجل كانت عنده أصالة.. لقد كانَتْ عندَهُ وظيفة مهمَّة، وهو مكلَّفٌ بأن يقوم بوظيفته. ولكنَّ الحرَّ كان موظَّفاً يملك قيمة روحيَّة، ويملك أصالةً في نفسه، وعندما صارَ الجدالُ بينَه وبينَ الإمام الحسين (ع)، كما تقول الرِّواية، قال له الحسين (ع): "ثكلَتْكَ أمُّك، ما تريد؟"، فقال للحسين (ع): "أمَّا لوْ غيرُكَ منَ العربِ يقولُها لي وهو على مثلِ الحالِ الَّتي أنتَ عليْها، ما تركْتُ ذكرَ أمِّهِ بالثُّكلِ كائناً مَنْ كانَ، ولكنْ واللهِ مالي من ذكرِ أمِّكَ من سبيلٍ إلَّا بأحسنَ ما نقدرُ عليْه"، يعني ماذا أقول وأمُّك فاطمة بنت رسول الله (ص).
ثمَّ عندما جاء وقت الصَّلاة، قال له الحسين (ع): "تريد أن تصلِّي بأصحابِكَ؟ قالَ: لا، ولكنْ صلِّ أنت ونصلِّي نحن وراءَكَ - فالمهمَّة شيء، والصَّلاة شيء - فصلَّى بهم الحسينُ (ع)".
وفي نهاية المطاف، اتَّخذ الرَّجل قراراً على نحو التَّسوية، بمعنى أن لا يكونَ هناك غالب ولا مغلوب، فقال للحسين (ع): "إذ أبيت، فخذْ طريقاً لا يدخلُكَ الكوفةَ، ولا يردُّكَ إلى المدينةِ، يكونُ بيني وبينَكَ نصفاً"، لكي يكون عندي مجال، فلا أريد أن أبتلى بدمك وأدخلك الكوفة، وأيضاً لا أستطيع أن أقول لابن زياد إنّي تركته يرجع إلى مأمنه.
وفعلاً، بعد هذه التَّسوية، سار الإمام الحسين (ع) إلى كربلاء، وبقي الرَّجل قائدَ هذه الفرقة. وإلى جانب قيادته لهذه الفرقة، كان الحرُّ رئيسَ عشيرة بني رياح، وكان مستقبله أمامه، وكان من الممكن أن يرتقي في وظيفته.
وبقيَ الحرّ مع الجيش، حتَّى إذا وصلت المسألة إلى نقطة اللَّاعودة، وعرف أنَّ الجيش يتَّجه إلى قتال الحسين (ع)، ومن الطَّبيعيّ في مثل هذه المعركة أن يُقتلَ الإمامُ (ع)، لأنَّ كثرة عديد الجيش، وقلَّة أنصار الحسين، لا تجعل هناك توازناً في القوى، حتّى إذا عرف ذلك، جاءَ إلى ابن سعد، كما تقول الرّواية، وقال له: "أمقاتلٌ أنت هذا الرَّجل؟ قال: إي والله، قتالاً أيسره أن تسقط فيه الرّؤوس وتطيح الأيدي، قال: ما لكم فيما عرضَهُ عليْكم منَ الخصالِ؟ فقالَ: لَو كانَ الأمرُ إليَّ لقبلْتُ، ولكنَّ أميرَكَ أبى ذلكَ"، فلا بدَّ أن ينزل الحسين على حكمه وحكم يزيد. والحسين (ع) نفس أبيه بين جنبيه، فلا يمكن أن يقبل.
الحرُّ يتَّخذُ القرار
عرف الحرّ أنَّ المسألة وصلت إلى نقطة اللَّاعودة، فوقف يتَّخذ قراره، وتقول الرّواية إنّه أصبح يرتعد، كما حال الَّذي تغلبه الحمَّى ويرتجف، فرآه أحد أصحابه، فاستغرب، لأنَّ الَّذي يرتعد عادةً هو الَّذي يكون خائفاً من المعركة والموت، فقال له: "لو قيل لي مَنْ أشجعُ أهلِ الكوفة، ما عدوتك"، فأنت شجاع. فما كان جوابُ الحرّ؟ قال له: "إنِّي أخيِّرُ نفسي بينَ الجنَّةِ والنَّارِ – فالرَّعدة ليست خوفاً، ولكنَّ الموقع الَّذي أنا فيه هو موقع النَّار، لأنَّني مع الظَّالمين، والموقع الَّذي مع الحسين هو موقع الجنَّة، لأنَّه سيِّد شباب أهل الجنَّة، ولأنَّه مع الحقّ، هنا الظَّالمون، وهنا المظلومون، فالاهتزاز الَّذي أعيشه ينطلق من أني في لحظةِ أخذِ القرارِ الصَّعب. ثمَّ قال - فواللهِ لا أختارُ على الجنَّةِ شيئاً، ولو قطِّعْتُ وأحرقْتُ". وانطلق إلى الحسين (ع) تائباً في موقف الخضوع، وقَبِلَ الإمام (ع) توبته، وعندما استُشْهِدَ، أعطاه الإمام الحسين (ع) هذا الوسام: "أنتَ الحرُّ كما سمَّتْكَ أمُّك؛ حرٌّ في الدّنيا، وسعيدٌ في الآخرة".
ماذا كان يقصد الحسين (ع) بكلامه؟ فهذه الكلمات ليست مجرَّد تأبين وتكريم للحرّ، وإنَّما أراد (ع) أن يقول للنَّاس إنَّ الحرَّ هو الَّذي يملك موقفه، وهو الَّذي يختار الموقف الصَّعب، لأنَّ الإنسان الحرَّ هو الَّذي يستطيع أن يقول (لا) حتَّى لو كلَّفته الكثير، عندما يكون الموقف يفرض عليه أن يقول لا، ويستطيع أن يقول (نعم) حتَّى لو كلَّفته الـ(نعم) الكثير من السَّلبيَّات، في موقفٍ يفرض عليه أن يقول (نعم).
ولذلك، أكَّد الإمام الحسين (ع) صفة الحريَّة للحرّ، لأنَّه ملك موقفه. وهكذا، فإنَّ كلَّ مَنْ يملك موقفه يتَّصف بالحريَّة. وهذا الَّذي نقرأه في سيرة مسلم بن عقيل، فيما نقل عنه أنَّه كان يرتجز، ويقول: "أقسمْتُ لا أُقتَلُ إلَّا حرّاً - رافضاً لكلِّ ما يطرح عليّ ويعرض من خطِّ الانحراف، ومن كلِّ ما يراد لي من الذُّلّ - وإن رأيْتُ الموتَ شيئاً نكراً".
سيِّدُ الأحرار
وقمَّة الحريَّة أيضاً، هي في كلمة الإمام الحسين (ع)، صحيح أنّه لم يذكر فيها كلمة الحريَّة، ولكنَّه أتى بمعناها، عندما قال: "ألا وإنَّ الدَّعيَّ ابنَ الدَّعيِّ، قَدْ ركَزَ بينَ اثنتيْنِ؛ بينَ السِّلَّةِ والذّلَّةِ، وهيهاتَ منَّا الذّلَّة! يأبى اللهُ لنا ذلكَ ورسولُهُ والمؤمنون، وحجورٌ طابَتْ وطهرَتْ، وأنوفٌ حميَّةٌ، ونفوسٌ أبيَّةٌ، من أنْ نؤثرَ طاعةَ اللِّئامِ على مصارعِ الكرامِ"، "لا واللهِ لا أعطيكم بيدي إعطاءَ الذَّليلِ، ولا أقرُّ لكم إقرارَ العبيدِ". فقد وقف بين السلَّة، وهي الموت، وبين الذلَّة، وكان الحسين (ع) سيِّدَ الأحرار.
وهذا الأمر، أيُّها الأحبَّة، نحتاجه في حياتنا، لأنَّنا في أكثر من موقف، سواء في المواقف الشَّخصيَّة في علاقاتنا الخاصَّة، أو في المواقف العامَّة في أوضاعنا العامَّة، نتعرَّض للكثير من التحدّيات الَّتي تتحدَّى مبادئنا، وهذه هي الَّتي تجعلنا كمسلمين، نعيش إرادتنا في رضا الله وفي الجنَّة، والله يقول: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ}[الحشر: 20]. لذلك، أغلب السّور في القرآن الكريم، يتحدَّث الله فيها عن الجنَّة والنَّار، حتَّى يعيش الإنسان أجواء الجنَّة في القرآن، ويعرف قيمة الجنَّة، ويكون مستعدّاً لتقديم التَّضحيات للحصول عليها.
وهذا أكثر شيءٍ يواجهُ الشَّباب الَّذين تستيقظ في شبابهم عناصر الشَّهوة، أو الأشخاص الَّذين يتحركون من أجل أن يكون لهم موقع في المجتمع، فتراهم لأجل الحصول على هذا الموقع، يسيرون في خطِّ الشَّيطان، ويقدِّمون التَّنازلات من دينهم لمصلحة معيشتهم، فيفقدون بذلك رضا الله والجنَّة.
لذلك، لا بدَّ للإنسان أن يكون واعياً لنفسه، بحيث عندما يقف بين خيارين، فعليه أن يحسن الاختيار ليحصل على النَّتائج الكبرى، حتَّى لو كانت هذه النَّتائج متأخِّرة بالنِّسبة إليه، لأنَّه صحيح أنَّ بعض النَّاس تحبّ النَّقدَ لا الدَّيْن، ولكنَّ دَيْنَ الله أشدُّ حضوراً من نَقْدِ النَّاس {مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ ٱللَّهِ بَاقٍ}[النَّحل: 96]، {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا}[الكهف: 46].
هذه بعضٌ من دروس الإمام الحسين (ع).
حركةُ إصلاحٍ لا عنف
وهناك مسألة نأخذها من خلال الفقرة الأخيرة في وصيَّة الإمام الحسين (ع) لأخيه محمَّد بن الحنفيَّة، عندما قال: "وإنَّما خَرَجْتُ لِطَلَبِ الإِصْلَاحِ في أمَّةِ جدِّي، أُريدُ أنْ آمرَ بالمَعْروفِ وأنْهَى عنِ المنكَرِ، فَمَنْ قَبِلَني بِقَبولِ الحقِّ فاللهُ أولَى بالحَقِّ، وَمَنْ رَدَّ عليَّ هذا أَصْبر حتَّى يقضيَ اللهُ بيني وبينَ القومِ بالحقِّ، وهوَ خيرُ الحاكمين".
هنا، نستطيع أن نستوحي من هذه الكلمة ومن كلماتٍ أخرى تشبهها، تحدَّث بها الإمام الحسين (ع) في بعض رسائله، أو في بعض احتجاجاته على أهل الكوفة، عندما قال لهم: "يا أيُّها النَّاسُ، إذْ قد كَرهتموني، فدعوني أنصرفْ عنكم".. نستطيع أن نستوحي طبيعة حركة الحسين (ع). إنَّ هناك الكثيرين ممن يتحدَّثون عن حركة الإمام الحسين (ع) بأنَّها حركة عنف، وأنَّ الحسين (ع) خرج ليقاتل، ولكنَّ هذا النَّصَّ، وهو من أوثق النّصوص، وأمثاله، يعطينا فكرةً أنَّ الحسين (ع) خرج داعيةً إلى الله، كما خرج جدّه داعيةً إلى الله.
لقد كان دور الإمام الحسين (ع) في مرحلته أن ينطلق ليجدِّد شباب الدَّعوة، لأنَّ الدَّعوة الإسلاميَّة الَّتي انطلقت من رسول الله (ص)، مرَّت في هذه الفترة الفاصلة بين رسول الله (ص) والحسين (ع) بتعقيدات كثيرة، بحيث نسي النَّاس حيويَّة الدَّعوة وواقعيَّتها وآفاقها، وشُغِلوا بأمورهم وخلافاتهم ومشاكلهم. لذلك كان الحسين (ع) يعمل من أجل تجديد حركيَّة الدَّعوة في العقل والقلب والواقع، وعندما قال: "خرجت لطلب الإصلاح في أمَّة جدّي"، كانت كلمة الإصلاح في وعي الإمام الحسين (ع)، ككلمة الإصلاح في وجدان النَّبيِّ شعيب (ع): {إِنْ أُرِیدُ إِلَّا ٱلإِصلَاحَ مَا ٱستَطَعْتُ}[هود: 88].
التَّشابهُ مع حركةِ الرَّسول (ص)
كان الحسين (ع) يريد أن يصلح فكر الأمَّة بعد أن أصابه الفساد، وكان يريد أن يصلح قلب الأمَّة، وكان يريد أن يصلح حركيَّة الأمَّة في طاقاتها، وأن يصلح واقع الأمَّة. ومن الطبيعي أنَّ الإنسان الَّذي ينطلق من أجل أن يغيِّر التَّفكير ويغيِّر الواقع، من خلال أن يجمع النَّاس على الفكر المستقيم والفكر الصَّحيح، لا يبادر إلى القتال، لأنَّ القتال يشغل النَّاس بأحداثه، فينسى النَّاس الفكرة الَّتي كانت من أجلها غالباً، وهذا الَّذي جعل الرَّسول (ص) في مدى ثلاث عشرة سنة قضاها في مكَّة يصبر ولا يقاتل.. كان المسلمون يُضطَهدون، وحوصرَ النَّبيُّ وبنو هاشم مدّةً من قبل قريش، وكانت هناك مقاطعة من قبل قريش، فلم يكونوا يبيعون المسلمين ولا يشترون منهم، ولا يزوِّجونهم ولا يتزوَّجون منهم، واضطُهِدَ المسلمون، وقُتِلَ بعضهم، وعندما كانوا يقولون: يا رسول الله، ائذنْ لنا في القتال، نحن عندنا قوّة، لأنّ المسلمين لم يكونوا جبناء، كان رسول الله (ص) يقول لهم إنَّ الله لم يأذن لي في القتال، فأنا مهمَّتي الآن أن أجعل المرحلةَ مرحلةً سلميَّة، على الأقلّ من قبلي، أن أصبر على كلِّ شيء، لأنّي لا أريد للعنف أن يقفَ حاجزاً بيني وبين دعوتي الَّتي أريدها أن تدخلَ إلى عقولِ النَّاسِ وإلى قلوبهم. ولذلك، عندما رأى بعضاً من أصحابِهِ يُضطَهدون، لم يتحمَّلُ هذا الاضطهاد، فأمرَهُم بالهجرةِ إلى الحبشة، ولم يؤذَن له في القتال، بالرّغم من أنَّه اضطُهِدَ اضطهاداً فوق العادة، حتَّى قال: "مَا أوذيَ نَبيُّ بمثلِ ما أوذيْتُ"، وكان الله يقول له: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ}[النّحل: 127]. وصبرَ النَّبيّ (ص).
الإمام الحسين (ع) كانت مهمَّته أن يصنع للنَّاس وعياً جديداً للإسلام، وعياً يتناول المفاهيم الإسلاميَّة، ويتناول حركيَّة الواقع الإسلاميّ، ولذلك كان يريد للنَّاس أن يسمعوا منه. وتنقل السِّيرة الحسينيَّة أنَّه عندما وقف (ع) أمام هذا الجيش الَّذي جاء ليقاتله، كان يقول لهم أنصتوا واسمعوا كلامي، ولكنَّهم كانوا يرفعون أصواتهم حتَّى لا يسمعوا كلامه، كما كان النَّبيّ (ص) عندما كان يقرأ القرآن: {وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَا تَسْمَعُواْ لِهَٰذَا ٱلْقُرْءَانِ وَٱلْغَوْاْ فِيهِ}[فصّلت: 26]. والجوُّ نفسه كان مع الحسين (ع).
الحسينُ (ع) داعيةٌ ومصلح
كان الحسين (ع) حواريّاً، لم ينزل في منزل والتقى فيه ببعض النَّاس الَّذين لم يكونوا على خطِّه، إلَّا ودخل في حوارٍ معهم، فبعضهم نفعَ فيهم الحوار، كزهير بن القين، وبعضهم لم ينفع فيهم الحوار.
لذلك، لم ينطلق الحسين (ع) ليقاتل، وإلَّا فإنَّ الشَّخص الَّذي يستعدُّ للقتال، لا يكتفي بسبعين رجلاً أمام قوَّة كبرى، فهذا ليس طبيعيّاً. ربما يقال إنَّ الحسين (ع) إمام معصوم ومزوَّد بقوَّة غيبيَّة.. صحيح، لكنَّ الله سبحانه وتعالى لم يجعل مسيرة الإسلام في عالم حركة القتال مسيرة غيبيَّة، إلَّا في بدر، وفي معركة الأحزاب أيضاً، كان هناك نوع من أنواع الجانب الغيبي، أمَّا في المعارك الأخرى، فكان المسلمون ينكسرون تارةً وينتصرون تارة، على حسب طبيعة الأمور. ولذلك، نرى أنَّه في حروب الإمام عليّ (ع)، لم تكن هناك حالة غيبيَّة تتدخَّل في المسألة، ولذلك قتل الحسين (ع) والصَّفوة الطيِّبة من أهل بيته وأصحابه.
فالحسين (ع) خرج داعيةً ومصلحاً، وخرج مغيِّراً للواقع، وعندما رأى أنَّ الأمَّة تطالبه بأن يتحرَّك، تحرّكَ باعتبار قيام الحجَّة عليه، وعلى أساس مسؤوليَّته. وعندما دخل الإمامُ (ع) في القتال، دخله للدِّفاع فقط، حتَّى قيل إنَّ الحسينَ (ع) قال: لا تبدأوهم بقتالٍ.. ولكن عندما جاءت السِّهام، وبدأ عمر بن سعد، ووضع سهماً في كبد القوس، وقال: "اشهدوا لي عند الأمير أنّي أوَّل مَنْ رمى"، وتتالت الأسهم، قال الحسين (ع) لأصحابه: "إنَّ هذهِ السِّهامَ رسلُ القومِ إليْكم".
حركةٌ دفاعيَّة
ولذا، كانت مهمَّة الحرب في كربلاء مهمَّة دفاعيَّة، على أساس أنَّ الجماعة قطعوا الحوار والمفاوضات مع الحسين (ع)، وصاروا يقولون له: ما ندري ما تقول يا بن فاطمة، ولكن انزل على حكم بني عمِّك. وابن زياد أيضاً للؤمه، لم يكن يريد للحسين (ع) أن ينزل على حكم يزيد فقط – وطبعاً، لم يكن الحسين (ع) ليقبل بأن ينزل على حكم يزيد – ولكنَّه قال له: انزل على حكمي وحكم يزيد بن معاوية.. وهذا يعني أن يعطي الحسينُ (ع) الشَّرعيَّةَ لهم، وهو لو أراد أن يعطيهم الشّرعيَّة، لكان أعطاهم إيّاها من البداية، ولكنَّه، وهو الإمام، لا يمكن أن يعطي الشّرعيّة لهم، لذلك قال: "لا واللهِ، لا أعطيكم بيدي إعطاءَ الذَّليل".
لذلك، كانت مسألة الحسين (ع) كمسألة جدِّه، حتى إنَّ النَّبيَّ (ص) في كلِّ حروبه لم يكن مهاجماً، بل كان دفاعيّاً، ففي كلِّ الحروب الّتي خاضها النّبيّ (ص)، كان مدافعاً، وقد فرضت عليه قريش الحرب، وفرض عليه اليهود الحرب، وكانت عمليَّة دفاع، ولم تكن عمليَّة هجوم بالمعنى العسكريّ.
وهذا هو الفرق بين الَّذي يطلب الحكم من أجل أن يتسلَّط، وبين الرِّساليِّ الَّذي يريد من الحكم أن يكون وسيلةً من وسائل تنفيذ رسالته في الواقع.
لهذا، يجب أن ندرس قضيَّة الامام الحسين (ع) أنَّها حركة اللّا عنف، وليست حركة العنف، لا عن ضعف في الإمام الحسين (ع)، فالحسين كان قادراً على أن يجمع النَّاس على أساس المال أو ما أشبه ذلك، لكنَّه (ع) كان صاحب رسالة، وكان يريد جيشاً يؤمن برسالته، ويؤمن بهدفه في هذا المجال.
الابتعادُ عن ذهنيَّةِ العنف
وفي ضوء ذلك، أيُّها الأحبَّة، عندما نريد أن ندرس الاقتداء بالإمام الحسين (ع)، فلا بدَّ أن ندرس المرحلة الَّتي نعيش فيها، والمرحلة الَّتي عاش فيها الحسين (ع)، فقد تكون المرحلة في بعض الحالات مثل مرحلة الإمام عليّ (ع) الَّذي بادر إلى القتال لكي يستطيع أن يركِّز قواعد الدَّولة الإسلاميَّة، وقد تكون المرحلة مرحلةَ الإمام الحسين (ع) في هذا الأسلوب الَّذي نهجه.. لذلك، لا بدَّ أن ندقِّق في حركة الإمام الحسين (ع)، وفي دراسة واقعنا في هذا المقام، وعلينا أن نأخذ من هذه الرّوح السَّمحاء الرَّحبة الَّتي تميَّزت بها حركة الإمام الحسين (ع)، وتميَّز بها أيضاً أصحابه وأهل بيته، أن نأخذ منها فكرة، كما هو خطُّ الإسلام، أن لا نعيش حالة العنف الحاقد ضدّ الَّذين يخالفوننا في الرَّأي، بل أن نعيش روحيَّة الرَّحمة لهم لجهلهم، والمحبَّة لهم لهدايتهم، لأنَّ تراكمات السِّنين، وتراكمات العصبيَّات في الواقع الإسلاميِّ، حوَّلت الرّوح الإسلاميَّة فيما يختلف فيه المسلمون إلى حالةِ حقدٍ، بحيث أصبحَ العنفُ هو الظَّاهرةَ البارزةَ في كثيرٍ من المواقعِ بين السنَّة والشّيعة. لماذا يقتل هؤلاء هؤلاء، أو العكس؟ هل يقتل بعضهم بعضاً على أساس أنَّ الإمام عليّاً هنا وأبا بكر هناك؟!
لو درسْنا سلوكَ الإمام عليٍّ (ع) مع الَّذين تقدَّموه وأخذوا حقَّه، لرأينا أنه يمثِّل الوحدة الإسلاميَّة السَّمحاء الرَّحبة الَّتي تحافظ على مصالح المسلمين، وهذا قوله: "لأسلمنَّ ما سلِمَتْ أمورُ المسلمين".
ثمَّ نلاحظ أيضاً أنَّ هذا الحقد الإسلاميّ الإسلاميّ قد لا يتمثَّل بالقتال، ولكن قد يتمثَّل بالتَّكفير؛ هناك اتجاه لدى السنَّة بتكفير الشّيعة، وهناك اتجاه لدى الشّيعة بتكفير السنَّة، هذا يكفِّر هذا، وذاك يكفِّر ذاك، فعلى أيِّ أساس؟ هذا يقول: أشهد أن لا إله إلَّا الله، وأنَّ محمَّداً رسول الله، وذاك يقولها أيضاً، ومَن قال: لا إله إلَّا الله، محمَّد رسول الله، حُقِنَ بها دمُه ومالُه وعرضُه، وصار له ما للمسلمين وعليه ما عليهم.
وانتقلت روحيَّة العنف حتَّى في داخل المجتمع الشِّيعي، في خلافات بعضه مع بعض، وفي داخل المجتمع السنّيّ أيضاً.. قد يتحوَّل الخلاف بين الشّيعة أنفسهم إلى قتال، كما حدث عندنا في لبنان وفي أماكن أخرى في العالم. لماذا؟ هناك قصَّة سياسيَّة هنا وقصَّة سياسيَّة هناك، وقصّة أمنيّة هنا وقصَّة أمنيَّة هناك، ولكن عندما نختلف، علينا أن نعمل على أن نتفاهم، والله يقول: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}[النّساء: 59].
وهذا ما نلاحظه عند السنَّة أيضاً، فهناك مذاهب مختلفة عندهم، وقد يسبِّب ذلك خلافات وقتالاً فيما بينهم.. وحتَّى الآن في داخل الشّيعة أو السنَّة، صارت عندنا اتجاهات أيضاً؛ فالشِّيعي يكفِّر شيعيّاً، والسنّي يكفِّر سنّيّاً، فالسنَّة عندهم تكفير بعضهم لبعض، والشّيعة أيضاً عندهم تكفير بعضهم لبعض. من أين يأتي هذا؟! هذا يأتي من طبيعة العنف.
العلاقة مع اليهود والنَّصارى
وهذا لم يقتصر أيضاً على الواقع الإسلاميّ الإسلاميّ، فهناك خلافٌ بيننا وبين النَّصارى، والقرآن تحدَّث عن الخلاف بين المسلمين والنَّصارى من ناحية عقيديَّة، ولكن ليس معناه أن نتقاتل، بل أن نتحاور {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَٰهُنَا وَإِلَٰهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُون}[العنكبوت: 46]. هذا هو الخطُّ الإسلاميّ {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ}[آل عمران: 64]، وليس المقصودُ فقط النَّصارى، بل حتّى اليهود، فالإسلامُ لا يقاتل اليهود إلَّا إذا ظلموا {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ}، وهم من الظَّالمين، ولكن لا لمجرَّد يهوديَّتهم، وإلّا فإنَّ اليهود عاشوا في البلاد الإسلاميَّة دون أن يصابوا بسوء، في الوقت الَّذي كان العالم الغربيّ يحتقرهم ويضطهدهم، والنَّصارى أيضاً عاشوا في مدى القرون الأربعة عشر أو الخمسة عشر دون أن يتعرَّض لهم أيّ أحد بسوء، فقد كانت لهم كنائسهم ومعابدهم ومؤسَّساتهم، ولم يكن هناك أيّ مشكلة معهم، ولكن عندما صارَ هناك عنف، صرْنا نرى مسلمين يهجمون على كنائس، كما حدث في باكستان، وربَّما نصارى أيضاً يهجمون على أماكن إسلاميَّة، كما حدث في أمريكا في 11 أيلول.
من أين يأتي هذا؟ يأتي من ذهنيَّة العنف، وأنَّنا لا نقدر على أن نحلَّ المشاكل إلَّا بطريقة العنف. ولكن لو درسنا المسألة ميدانيّاً، أيُّها الأحبَّة، قد يكون هناك حرب في علاقة الدّول بعضها ببعض، وقد تكون للحرب شرعيّتها، كما في حربنا مع إسرائيل، وحربنا مع كثير من الّذي يريدون أن يصادروا حرّيّتنا وحياتنا.. ولكن في الواقع الاجتماعي، لا ينبغي أن يكون هناك عنف على المستوى الشَّعبي لحلِّ المشكلة أبداً، بل العكس هو الصَّحيح، فالعنف يعقِّد المشاكل أكثر، ويزيد في الحقدِ أكثر.
حتّى لا ننشغلَ عن قضايانا
هناك قصَّة يذكرها ابن المقفَّع في كتاب "كليلة ودمنة"، وقد ذكرتها سابقاً، ولكن كما يقال، فالمسك ما كرَّرْتَه يتضوَّع.
تقول القصَّة إنَّ شخصاً سقط في بئر، ولكنَّ البئر كانت فيها شجرة، فتعلَّق بأغصان هذه الشَّجرة وثبَّت نفسه، وبعدما استقرَّ، نظرَ إلى أسفل البئر، فرأى تنِّيناً فاتحاً فاه ينتظر متى يسقط ليلتقمه، التفتَ إلى جنبه، فرأى جرذاً يقرض الغصن الَّذي هو متعلِّق به، نظر حوله فرأى قفير نحل ينتج عسلاً، فقام بلحس العسل بإصبعه، فرآه لذيذاً، فشغلته حلاوة العسل عن الجرذ الَّذي يقرض الحبل، وعن التَّنّين الَّذي ينتظر سقوطه ليأكله.
ألا ينطبق هذا المثل علينا؟ فحلاوة العصبيَّات والحزبيَّات والخلافات شغلتنا عن التنّين الأمريكي الَّذي يريد أن يلتهم كلَّ ثرواتنا وسياستنا وأمننا، وشغلتنا عن الجرذ الإسرائيلي الَّذي يريد أن يقرض بلادنا.. وهذه يجب أن نفهمها، العسل طيِّب، ولكنّ الحياة أطيب، والمستقبل أطيب، ورضا الله أطيب.
والحمد لله ربِّ العالمين.
*محاضرة عاشورائيَّة لسماحته، بتاريخ: 22/03/ 2002م.
اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية