كان الحرُّ بن يزيد الرّياحي في طليعة جيش ابن زياد، وكانت مهمَّته أن يأتيَ بالحسين (ع) ويسلِّمه لابن زياد، والتقى بالحسين (ع)، وحاولَ أن يمنعه من الاستمرار في طريقه، وأن يجبره على المسير إلى الكوفة ليقع بيد ابن زياد. ولكنَّ الرَّجل كانت عنده أصالة.. لقد كانَتْ عندَهُ وظيفة مهمَّة، وهو مكلَّفٌ بأن يقوم بوظيفته. ولكنَّ الحرَّ كان موظَّفاً يملك قيمة روحيَّة، ويملك أصالةً في نفسه، وعندما صارَ الجدالُ بينَه وبينَ الإمام الحسين (ع)، كما تقول الرِّواية، قال له الحسين (ع): "ثكلَتْكَ أمُّك، ما تريد؟"، فقال للحسين (ع): "أمَّا لوْ غيرُكَ منَ العربِ يقولُها لي وهو على مثلِ الحالِ الَّتي أنتَ عليْها، ما تركْتُ ذكرَ أمِّهِ بالثُّكلِ كائناً مَنْ كانَ، ولكنْ واللهِ مالي من ذكرِ أمِّكَ من سبيلٍ إلَّا بأحسنَ ما نقدرُ عليْه"، يعني ماذا أقول وأمُّك فاطمة بنت رسول الله (ص).
ثمَّ عندما جاء وقت الصَّلاة، قال له الحسين (ع): "تريد أن تصلِّي بأصحابِكَ؟ قالَ: لا، ولكنْ صلِّ أنت ونصلِّي نحن وراءَكَ - فالمهمَّة شيء، والصَّلاة شيء - فصلَّى بهم الحسينُ (ع)".
وفي نهاية المطاف، اتَّخذ الرَّجل قراراً على نحو التَّسوية، بمعنى أن لا يكونَ هناك غالب ولا مغلوب، فقال للحسين (ع): "إذ أبيت، فخذْ طريقاً لا يدخلُكَ الكوفةَ، ولا يردُّكَ إلى المدينةِ، يكونُ بيني وبينَكَ نصفاً"، لكي يكون عندي مجال، فلا أريد أن أبتلى بدمك وأدخلك الكوفة، وأيضاً لا أستطيع أن أقول لابن زياد إنّي تركته يرجع إلى مأمنه.
وفعلاً، بعد هذه التَّسوية، سار الإمام الحسين (ع) إلى كربلاء، وبقي الرَّجل قائدَ هذه الفرقة. وإلى جانب قيادته لهذه الفرقة، كان الحرُّ رئيسَ عشيرة بني رياح، وكان مستقبله أمامه، وكان من الممكن أن يرتقي في وظيفته.
وبقيَ الحرُّ مع الجيش، حتَّى إذا وصلت المسألة إلى نقطة اللَّاعودة، وعرف أنَّ الجيش يتَّجه إلى قتال الحسين (ع)، ومن الطَّبيعيّ في مثل هذه المعركة أن يُقتلَ الإمامُ (ع)، لأنَّ كثرة عديد الجيش، وقلَّة أنصار الحسين، لا تجعل هناك توازناً في القوى، حتّى إذا عرف ذلك، جاءَ إلى ابن سعد، كما تقول الرّواية، وقال له: "أمقاتلٌ أنت هذا الرَّجل؟ قال: إي والله، قتالاً أيسره أن تسقط فيه الرّؤوس وتطيح الأيدي، قال: ما لكم فيما عرضَهُ عليْكم منَ الخصالِ؟ فقالَ: لَو كانَ الأمرُ إليَّ لقبلْتُ، ولكنَّ أميرَكَ أبى ذلكَ"، فلا بدَّ أن ينزل الحسين على حكمه وحكم يزيد. والحسين (ع) نفس أبيه بين جنبيه، فلا يمكن أن يقبل.
الحرُّ يتَّخذُ القرار
عرف الحرّ أنَّ المسألة وصلت إلى نقطة اللَّاعودة، فوقف يتَّخذ قراره، وتقول الرّواية إنّه أصبح يرتعد، كما حال الَّذي تغلبه الحمَّى ويرتجف، فرآه أحد أصحابه، فاستغرب، لأنَّ الَّذي يرتعد عادةً هو الَّذي يكون خائفاً من المعركة والموت، فقال له: "لو قيل لي مَنْ أشجعُ أهلِ الكوفة، ما عدوتك"، فأنت شجاع. فما كان جوابُ الحرّ؟ قال له: "إنِّي أخيِّرُ نفسي بينَ الجنَّةِ والنَّارِ – فالرَّعدة ليست خوفاً، ولكنَّ الموقع الَّذي أنا فيه هو موقع النَّار، لأنَّني مع الظَّالمين، والموقع الَّذي مع الحسين هو موقع الجنَّة، لأنَّه سيِّد شباب أهل الجنَّة، ولأنَّه مع الحقّ، هنا الظَّالمون، وهنا المظلومون، فالاهتزاز الَّذي أعيشه ينطلق من أني في لحظةِ أخذِ القرارِ الصَّعب. ثمَّ قال - فواللهِ لا أختارُ على الجنَّةِ شيئاً، ولو قطِّعْتُ وأحرقْتُ". وانطلق إلى الحسين (ع) تائباً في موقف الخضوع، وقَبِلَ الإمام (ع) توبته، وعندما استُشْهِدَ، أعطاه الإمام الحسين (ع) هذا الوسام: "أنتَ الحرُّ كما سمَّتْكَ أمُّك؛ حرٌّ في الدّنيا، وسعيدٌ في الآخرة".
ماذا كان يقصد الحسين (ع) بكلامه؟ فهذه الكلمات ليست مجرَّد تأبين وتكريم للحرّ، وإنَّما أراد (ع) أن يقول للنَّاس إنَّ الحرَّ هو الَّذي يملك موقفه، وهو الَّذي يختار الموقف الصَّعب، لأنَّ الإنسان الحرَّ هو الَّذي يستطيع أن يقول (لا) حتَّى لو كلَّفته الكثير، عندما يكون الموقف يفرض عليه أن يقول لا، ويستطيع أن يقول (نعم) حتَّى لو كلَّفته الـ(نعم) الكثير من السَّلبيَّات، في موقفٍ يفرض عليه أن يقول (نعم).
ولذلك، أكَّد الإمام الحسين (ع) صفة الحريَّة للحرّ، لأنَّه ملك موقفه. وهكذا، فإنَّ كلَّ مَنْ يملك موقفه يتَّصف بالحريَّة. وهذا الَّذي نقرأه في سيرة مسلم بن عقيل، فيما نقل عنه أنَّه كان يرتجز، ويقول: "أقسمْتُ لا أُقتَلُ إلَّا حرّاً - رافضاً لكلِّ ما يطرح عليّ ويعرض من خطِّ الانحراف، ومن كلِّ ما يراد لي من الذُّلّ - وإن رأيْتُ الموتَ شيئاً نكراً".
*من محاضرة عاشورائيَّة لسماحته، بتاريخ: 22/03/ 2002م.
كان الحرُّ بن يزيد الرّياحي في طليعة جيش ابن زياد، وكانت مهمَّته أن يأتيَ بالحسين (ع) ويسلِّمه لابن زياد، والتقى بالحسين (ع)، وحاولَ أن يمنعه من الاستمرار في طريقه، وأن يجبره على المسير إلى الكوفة ليقع بيد ابن زياد. ولكنَّ الرَّجل كانت عنده أصالة.. لقد كانَتْ عندَهُ وظيفة مهمَّة، وهو مكلَّفٌ بأن يقوم بوظيفته. ولكنَّ الحرَّ كان موظَّفاً يملك قيمة روحيَّة، ويملك أصالةً في نفسه، وعندما صارَ الجدالُ بينَه وبينَ الإمام الحسين (ع)، كما تقول الرِّواية، قال له الحسين (ع): "ثكلَتْكَ أمُّك، ما تريد؟"، فقال للحسين (ع): "أمَّا لوْ غيرُكَ منَ العربِ يقولُها لي وهو على مثلِ الحالِ الَّتي أنتَ عليْها، ما تركْتُ ذكرَ أمِّهِ بالثُّكلِ كائناً مَنْ كانَ، ولكنْ واللهِ مالي من ذكرِ أمِّكَ من سبيلٍ إلَّا بأحسنَ ما نقدرُ عليْه"، يعني ماذا أقول وأمُّك فاطمة بنت رسول الله (ص).
ثمَّ عندما جاء وقت الصَّلاة، قال له الحسين (ع): "تريد أن تصلِّي بأصحابِكَ؟ قالَ: لا، ولكنْ صلِّ أنت ونصلِّي نحن وراءَكَ - فالمهمَّة شيء، والصَّلاة شيء - فصلَّى بهم الحسينُ (ع)".
وفي نهاية المطاف، اتَّخذ الرَّجل قراراً على نحو التَّسوية، بمعنى أن لا يكونَ هناك غالب ولا مغلوب، فقال للحسين (ع): "إذ أبيت، فخذْ طريقاً لا يدخلُكَ الكوفةَ، ولا يردُّكَ إلى المدينةِ، يكونُ بيني وبينَكَ نصفاً"، لكي يكون عندي مجال، فلا أريد أن أبتلى بدمك وأدخلك الكوفة، وأيضاً لا أستطيع أن أقول لابن زياد إنّي تركته يرجع إلى مأمنه.
وفعلاً، بعد هذه التَّسوية، سار الإمام الحسين (ع) إلى كربلاء، وبقي الرَّجل قائدَ هذه الفرقة. وإلى جانب قيادته لهذه الفرقة، كان الحرُّ رئيسَ عشيرة بني رياح، وكان مستقبله أمامه، وكان من الممكن أن يرتقي في وظيفته.
وبقيَ الحرُّ مع الجيش، حتَّى إذا وصلت المسألة إلى نقطة اللَّاعودة، وعرف أنَّ الجيش يتَّجه إلى قتال الحسين (ع)، ومن الطَّبيعيّ في مثل هذه المعركة أن يُقتلَ الإمامُ (ع)، لأنَّ كثرة عديد الجيش، وقلَّة أنصار الحسين، لا تجعل هناك توازناً في القوى، حتّى إذا عرف ذلك، جاءَ إلى ابن سعد، كما تقول الرّواية، وقال له: "أمقاتلٌ أنت هذا الرَّجل؟ قال: إي والله، قتالاً أيسره أن تسقط فيه الرّؤوس وتطيح الأيدي، قال: ما لكم فيما عرضَهُ عليْكم منَ الخصالِ؟ فقالَ: لَو كانَ الأمرُ إليَّ لقبلْتُ، ولكنَّ أميرَكَ أبى ذلكَ"، فلا بدَّ أن ينزل الحسين على حكمه وحكم يزيد. والحسين (ع) نفس أبيه بين جنبيه، فلا يمكن أن يقبل.
الحرُّ يتَّخذُ القرار
عرف الحرّ أنَّ المسألة وصلت إلى نقطة اللَّاعودة، فوقف يتَّخذ قراره، وتقول الرّواية إنّه أصبح يرتعد، كما حال الَّذي تغلبه الحمَّى ويرتجف، فرآه أحد أصحابه، فاستغرب، لأنَّ الَّذي يرتعد عادةً هو الَّذي يكون خائفاً من المعركة والموت، فقال له: "لو قيل لي مَنْ أشجعُ أهلِ الكوفة، ما عدوتك"، فأنت شجاع. فما كان جوابُ الحرّ؟ قال له: "إنِّي أخيِّرُ نفسي بينَ الجنَّةِ والنَّارِ – فالرَّعدة ليست خوفاً، ولكنَّ الموقع الَّذي أنا فيه هو موقع النَّار، لأنَّني مع الظَّالمين، والموقع الَّذي مع الحسين هو موقع الجنَّة، لأنَّه سيِّد شباب أهل الجنَّة، ولأنَّه مع الحقّ، هنا الظَّالمون، وهنا المظلومون، فالاهتزاز الَّذي أعيشه ينطلق من أني في لحظةِ أخذِ القرارِ الصَّعب. ثمَّ قال - فواللهِ لا أختارُ على الجنَّةِ شيئاً، ولو قطِّعْتُ وأحرقْتُ". وانطلق إلى الحسين (ع) تائباً في موقف الخضوع، وقَبِلَ الإمام (ع) توبته، وعندما استُشْهِدَ، أعطاه الإمام الحسين (ع) هذا الوسام: "أنتَ الحرُّ كما سمَّتْكَ أمُّك؛ حرٌّ في الدّنيا، وسعيدٌ في الآخرة".
ماذا كان يقصد الحسين (ع) بكلامه؟ فهذه الكلمات ليست مجرَّد تأبين وتكريم للحرّ، وإنَّما أراد (ع) أن يقول للنَّاس إنَّ الحرَّ هو الَّذي يملك موقفه، وهو الَّذي يختار الموقف الصَّعب، لأنَّ الإنسان الحرَّ هو الَّذي يستطيع أن يقول (لا) حتَّى لو كلَّفته الكثير، عندما يكون الموقف يفرض عليه أن يقول لا، ويستطيع أن يقول (نعم) حتَّى لو كلَّفته الـ(نعم) الكثير من السَّلبيَّات، في موقفٍ يفرض عليه أن يقول (نعم).
ولذلك، أكَّد الإمام الحسين (ع) صفة الحريَّة للحرّ، لأنَّه ملك موقفه. وهكذا، فإنَّ كلَّ مَنْ يملك موقفه يتَّصف بالحريَّة. وهذا الَّذي نقرأه في سيرة مسلم بن عقيل، فيما نقل عنه أنَّه كان يرتجز، ويقول: "أقسمْتُ لا أُقتَلُ إلَّا حرّاً - رافضاً لكلِّ ما يطرح عليّ ويعرض من خطِّ الانحراف، ومن كلِّ ما يراد لي من الذُّلّ - وإن رأيْتُ الموتَ شيئاً نكراً".
*من محاضرة عاشورائيَّة لسماحته، بتاريخ: 22/03/ 2002م.