رحل سماحة السيد العلامة المجدّد، آية الله محمد حسين فضل الله قبل أربعة كانت كافية للدلالة على مدى حضور هذه الشخصية العلمائية المؤثّرة في واقعنا العربي والإسلامي، والتي تتفاعل معها الأوساط العلمائية والسياسية والفكرية والإعلامية داخل لبنان وخارجه.
ويتخذ حضور الراحل الكبير فضل الله صوراً شتى من الاستعادة، سواء بقراءة فكره وتراثه المتجدّد وإعادة طباعته، أو عرض بعضه متلفزاً، أو من خلال عقد الندوات العلميّة والسجالات الإعلامية المرئية والمكتوبة، وغيرها من أشكال الحضور، ولا سيما في الأوساط الحوزوية والعلمية في لبنان، وغير ذلك من صور الحضور المتجدّد بقدر تجدّد رؤى السيّد وأفكاره من مختلف القضايا الدينية والسياسية والاجتماعية والفكرية التي كان له بشأنها موقف ورؤية سباقة.
عرفت السيد فضل الله منذ بداية اتصالي بعالم الصحافة والكتابة والمتابعة للشأن الثقافي والسياسي والفكري، وذلك منذ بداية الثمانينات، وأحداث الغزو الصهيوني للبنان العام 1982م، حيث كان للسيّد فضل الله من ذلك الحدث وما سبقه وما تلاه في لبنان والمنطقة، دور ومواقف شدت إليه أنظار جيل الشباب في اليمن والمنطقة.
كان لآراء السيد فضل الله الجهادية، ورؤيته النافذة لمآلات الوضع في لبنان والمنطقة، دور حاسم في تصويب النظرة نحو قضايا المقاومة والتحرّر، وتوسيع آفاق الاهتمام الجماهيري إلى قضية فلسطين بكلّ أبعادها، وإلى الكيان الصهيوني كحالة استعمارية توسعية تجب معرفتها موضوعيّاً وعلميّاً، لتكون مجابهتها بعد ذلك لا عن عاطفة، ولكن عن بصيرة وتبصّر بطبيعة هذا العدوّ.
وبالنّسبة إلى جيلنا الذي انبهر وتفاعل مع الثورة الإسلاميّة في إيران، وما تمثّله على صعيد الوعي بطبيعة مشروعها الإسلامي الثوري المقاوم للاستكبار، والمتبني لنصرة المستضعفين في فلسطين ولبنان والعالم، فإنّ أفكار السيّد محمد حسين فضل الله ومواقفه الدّاعمة للمقاومة اللبنانية والفلسطينية، قد رسمت صورة شديدة الإيجابية لرجال العلم الثائرين المتفاعلين مع قضايا الأمة المختلفة، المتطلعين إلى نهضتها في شتى المجالات.
لقد كان مفاجئاً للكثيرين في المنطقة والعالم، أن يحتضن لبنان، ذلك البلد العربي الصغير، المقاومة الفلسطينية، وأن يقدم تضحيات كبيرة دفاعاً عن فلسطين، وكانت المفاجأة الأكبر، أن يبدع لبنان مقاومته الخاصّة التي غيّرت موازين الصراع في المنطقة مع العدوّ الصهيوني وجبهة الاستكبار، وأن يكون في طليعة تلك المقاومة وفي واجهتها، الشباب والفقهاء من طلاب الحوزة، وأن يتصدّى أمثال السيد محمد حسين فضل الله وطلائع المجاهدين المخلصين، للمشروع الصهيوني، وهي الصّورة التي جذبت الكثير من ناشطي التيار الزيدي، ودفعتهم - مطلع الثّمانينات من القرن الماضي - للذهاب إلى لبنان للالتقاء بالسيد فضل الله، والتعرف إلى أفكاره وآرائه عن قرب، والتزوّد بنصائحه وتوجيهاته القيّمة، والتتلمذ على يديه، وأصبحت كتبه ومؤلّفاته ومحاضراته ولقاءاته الصحفية محلّ اهتمام ومتابعة الأوساط العلمية والفكرية والسياسية في اليمن.
ومنذ أن تمكن حزب الله من تحرير لبنان من الاحتلال الصهيوني في تموز2000م، واستعادة بيروت لدورها الفكري والسياسي العربي، كان السيد فضل الله مقصد الزوار اليمنيّين للبنان في مناسبات متعدّدة، من سياسيين وعلماء وباحثين وناشطين وطلاب علم، وأسهمت إطلالات السيّد فضل الله - عبر الفضائيات اللّبنانيّة والعربيّة - في تعريف عامّة الجمهور اليمني والعربي بأفكاره ومواقفه من معظم أحداث المنطقة وقضاياها، وبخاصّة منذ أحداث 11سبتمبر 2001م، حيث كان للسيّد موقف مدافع عن الإسلام، معتبراً أنّ استهداف برجي مركز التجارة في نيويورك، عمل يقود إلى الانتحار ولا يقود إلى الشهادة، وكان لهذا الموقف الشجاع لسماحته صداه العالمي الواسع الّذي جاء في حمأة حادثة ضرب البرجين التي أريد استغلالها لضرب صورة الإسلام وتشويهها. وكانت لسماحته مواقفه الشجاعة من الغزو الأمريكي لأفغانستان والعراق، وغيرها من الأحداث في لبنان والمنطقة، ما جعله محطّ أنظار الشعوب وقواها المقاومة وطلائعها المستنيرة.
إنّ المواقف الجهادية لقائد الثورة الإسلامية الإيرانية، الإمام الراحل آية الله الخميني(رض)، والثورة التي قادها في مواجهة الظلم والطغيان والاستكبار العالميّ، قد كسرت القوالب الذهنيّة الجامدة المكرّسة لصورة رجال الدين والفقهاء، الّتي غلب عليها الجمود ومداهنة الحكام الظلمة، والقبول بسياسة الأمر الواقع المفروضة من قبل الحكام المستبدّين والقوى الاستعمارية التي يوالونها ويدورون في فلكها، وكأن لا شأن للعلماء الذين أوجب الله عليهم في القرآن القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتبصير الأمّة بواجباتها الجهاديّة، وتغيير واقعها بنفسها.
كان للإمام الخميني فضل إعادة رسم الصّورة الجليلة للإسلام، بكلّ عظمته وحيويته الحضاريّة، وللعلماء ودورهم المهم والحاسم في قيادة الأمّة، وهدايتها وتوجيهها نحو طريق الحريّة والعدالة والبناء والاستقلال وفق منهج الإسلام، وانطلاقاً منه، وليس بتوسّل النظريات والثقافات الشرقية والغربية التي قادت الأمّة إلى الفشل التنموي والبنائي، والوقوع في التبعية الذليلة للمستكبرين.
إنّ نهضة الإمام الخميني وثورته العظيمة، أعادت إلى الأمّة الإسلاميّة شعورها بالعزّة والكرامة، وقدَّمت الإسلام وعلماءه ضمن الفاعلية الرسالية التي تليق بهم وبمكانتهم وبمؤهلاتهم في قيادة الأمة، بوصفهم ورثة الأنبياء والرسل، وهو ما كان له تأثيره في واقع الأمّة على اختلاف مذاهبها وأعراقها وأقطارها العربيّة والإسلاميّة.
في اليمن، كانت أصداء الثورة الإسلامية الإيرانية واسعة، تفاعل معها الشعب اليمني إيجابيّاً، وبخاصّة لدى الوسط الزيدي، الّتي تمثل الإمامة بالنسبة إليه أصلاً من أصول الدين، ففي الإمام الخميني، رأى الكثير من مراجع الزيدية نموذجاً للإمام الذي يجمع إلى جانب: الاجتهاد، والشجاعة، والصفات والمؤهلات الخلقية الرفيعة، والنسب الشريف - إلى البطنين الزكيين - القيام بالثورة على الظالمين فيما يعرف بمبدأ الخروج على الظّلمة كشرط من شروط استحقاق الإمام البيعة والولاء.
لقد نظرت الحركة السياسية الإسلامية الزيدية المعاصرة في اليمن، بمختلف مكوّناتها (حزب اتحاد القوى الشعبية اليمنية - حزب الحق - حركة أنصار الله) بإعجاب إلى الثّورة الإسلامية الإيرانية، ومقارعتها للظلم والاستكبار الأمريكي والصهيوني، ونلمس تجلّيات ذلك التقدير والإعجاب بالثورة الإسلامية الإيرانية، على صعيد التقارب السياسي في المواقف من قضايا المنطقة، وبخاصّة القضية الفلسطينية، ودعم خيار المقاومة الفلسطينية واللبنانية، ورفض التطبيع مع الكيان الصهيوني، وغيرها من القضايا.
كما أصبح السيّد العلامة الراحل محمد حسين فضل الله - منذئذ - من أبرز العلماء المؤثّرين والملهمين لشباب الصحوة الإسلامية في اليمن، المنتمين إلى الزيدية خصوصاً، ولعموم المثقفين من التيارات القومية واليسارية، الّذين كانوا يعجبون بآراء السيّد فضل الله السياسيّة والفكريّة والسياسيّة، وباجتهاداته وفتاواه الجريئة الّتي تخاطب عموم المسلمين، بتعدد مذاهبهم الفقهية والكلامية. إنّ استيعاب السيّد فضل الله الواسع والعميق لمشكلات العصر الفكريّة والفلسفيّة، جعلته في قلب التفاعلات والقضايا الّتي عاشتها المنطقة لعدّة عقود، قريباً إلى المثقّفين والمبدعين، ونصيراً للمرأة وحقوقها الشرعية، وداعية للانفتاح والحوار مع المسيحيّين وغيرهم.
كما أنّ إدراكه لخطورة ما يمثّله المشروع الصهيوني على لبنان والمنطقة، جعل منه نموذجاً للعالم المجاهد الّذي تمثّل حياته المباركة الفكر الّذي كان يحمله. ومما يضاعف من أهمية السيد فضل الله ومكانته لدى عموم المسلمين، أنه كان داعية وحدة إسلاميّ، وداعية حوار إنساني، وإسهاماته النظرية في هذا المضمار، تجعله رائداً للوحدة والحوار والتقارب والانفتاح، وتوسيع المشتركات بين المسلمين مع احترام الخصوصيّات.
كانت له - رضوان الله عليه - إسهاماته في التبصير بخطر تيارات التطرف والتكفير التي يجري توظيفها واستثمارها من قبل القوى الاستعمارية الأمريكية والصهيونية.
كان السيد فضل الله أمّة في شخص، لا يستطيع المرء أن يفيه إلا بعض الحق، ولا يستطيع سوى الاقتباس من حياة بذخت ونمت وتعدّدت في اتجاهات شتّى، حيث تشهد له بالفضل والسّبق والريادة العلمية والمعرفية، تلك المؤلفات والأبحاث المفيدة والنافعة الغزيرة والجديرة، وتشهد له مبرّاته ومشاريعه الخيريّة التربويّة والصحيّة والاجتماعيّة والمعرفيّة، بأنه كان يحمل همّ الفقراء والأيتام والمحتاجين، وأنّه كان مهموماً ببناء الإنسان الناهض المقتدر والمؤهّل، وتشهد له أستاذيته ومرجعيته العلمية الطويلة، بأنّه كان نهر العطاء العلمي المستمرّ لمن تشرّفوا في التتلمذ عليه والنّهل من معارفه، ويكفي الأمّة تشرّفاً بحبّ هذا العالم والمجاهد الكبير، أن تكون المقاومة الشريفة في لبنان عنواناً اقترنت به في أولى محطّاتها، ذاد من أجلها ونافح، واستهدفت حياته الشريفة من أجلها من قبل العدوّ الصهيونيّ غير مرّة.
ودوماً، وفي مقام الفقد والوقوف في رحاب السيّد محمد حسين فضل الله - رضوان الله عليه - تعجز الكلمات عن أن تعبّر، إلا بالقليل، عمّا تحمله النّفس من الحبّ والعرفان له، فلقد كان فضل الله على الأمّة، ولا يمكن لمثله أن يغيب إلا بشخصه الكريم، أمّا شمس معارفه وعلومه ومواقفه وآرائه، فسوف تبقى معيناً للأمّة وأجيالها، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
فسلام عليه يوم ولد، ويوم يموت، ويوم يبعث حيّاً.
*محمد المنصور: كاتب وسياسي يمني