الإسلام رسالة الحياة
يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}[1]. وامتدّت هذه الرّحمة الرسولية التي أفاض الله بها على العالم كلّه، ليُخرج النّاس من الظّلمات إلى النّور، وليجعل العالم كلّه يعيش في سلام مبنيّ على عدل يشمل كلّ النّاس، لأنّ الله تعالى جعل منطلق الرّسالات كلّها وغاياتها القيام بالعدل.
ومنذ أرسله الله تعالى بالرّسالة، والرّسول يتحرّك من أجل تأكيد عقيدة التوحيد، وإسقاط عقيدة الشّرك الّتي تمثّل العقليّة المتخلّفة، وخصوصاً في عبادة الأصنام الّتي كان يلتزمها المشركون، عندما كانوا يحوّلون الأحجار إلى آلهة يعبدونها...
وعانى النبي(ص) ما عاناه من تعنّت المشركين، وامتدّت حياته حتّى ركّز قواعد الرّسالة الّتي حاول المشركون أن يمنعوا امتدادها في العالم، ولكنّ الله تعالى أراد لهذه الرّسالة أن تمتد إلى كلّ زمان ومكان، لأنّ الرّسالة الإسلاميّة الّتي جعلها الله خاتمة الرّسالات، كما جعل رسولها خاتم الأنبياء، هي رسالة للحياة كلّها.
وانطلق النبي(ص) في تأدية رسالته، وتعرّض لما تعرّض له من قِبَل المشركين الّذين أخرجوه من مكّة، في مؤامرة تحدّث القرآن الكريم عنها.
وتحدّثنا كتب السّيرة، أنّ المشركين كانوا إذا ضاقوا بالنبيّ ذرعاً، فلم يستطيعوا أن يهزموا موقفه، أو يُسقطوا حجّته، أو يقابلوا دعوته، تمنّوا له الموت، لتنتهي قصّة الصّراع بموته، حتى يخلو لهم الجوّ بعبادة الأصنام، ولكنّ القرآن أكّد له أن لا فائدة لهم من تمنّي موتك، فقد يموتون قبلك، وقد يموتون معك، فكلّ نفس ذائقة الموت: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ}[2].
ولأنّ النبيّ(ص) بشر كبقيّة البشر، يولد ويموت ويُبعث، أنزل الله تعالى عليه: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ـ هذا هو القانون الحتميّ الّذي فرضه الله على النّاس، ولا فرق فيه بين الأنبياء وغيرهم، فلا خلود لأحد في هذه الحياة حتّى لو كان نبيّاً ـثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ}[3]، حيث يقف الجميع يوم الحساب أمام الله.
وعاش النبيّ(ص) تجربةً صعبةً في معركة "أُحد"، كما يذكر في سيرته، فبعد أن انتصر المسلمون في بداية المعركة، دارت الدّائرة على المسلمين في "أُحد"، بفعل انسحاب الرّماة الّذين أمرهم النبي(ص) بالبقاء في مواقعهم، بعدما رأوا انتصار الجيش وانتهاب الغنيمة، فصاح صائح: "ألا إنّ محمداً قد قُتل"، فانكفّ المسلمون، وجعل رسول الله(ص) يدعوهم ويقول: "إليّ عباد الله"، فاجتمع إليه ثلاثون رجلاً، فحموه حتى كشفوا عنه المشركين، بعد أن أُصيب بحجر، وكُسر أنفه، وشُجّ وجهه، وتفرّق عنه أصحابه، إلا قليلاً منهم، وفي مقدّمهم الإمام عليّ(ع).
الرّسالة التزام بالقضيّة
وفشا في النّاس أنّ رسول الله(ص) قد قُتل، فقال بعض المسلمين: ليت لنا رسولاً إلى عبد الله بن أبيّ ـ شيخ المنافقين ـ ليأخذ لنا أماناً من أبي سفيان، وجلس بعضهم وأُلقي بأيديهم، فقال أناس من أهل النّفاق: "إن كان محمد قد قُتل فالحقوا بدينكم الأوّل"، فقال أنس بن النّضر (عم أنس بن مالك): "يا قوم، إن كان محمد قد قُتل، فإنّ ربّ محمد لم يُقتل، وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله(ص)، فقاتلوا على ما قاتل عليه رسول الله، وموتوا على ما مات عليه". ثم قال: "اللّهمّ إني أعتذر إليك مما يقول هؤلاء (يعني المسلمين)، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء (يعني المنافقين)". ثم شدّ بسيفه فقاتل حتّى قُتل.
ثم إنّ رسول الله(ص) انطلق إلى الصّخرة وهو يدعو النّاس، فأوّل من عرف رسول الله كعب بن مالك، فقال: "عرفت عينيه تحت المغفر تزهران، فناديت بأعلى صوتي: يا معشر المسلمين، هذا رسول الله، فأشار إليّ أن اسكت، فانحازت إليه طائفة من أصحابه، فلامهم النبيّ(ص) على الفرار، فقالوا: يا رسول الله، فديناك بآبائنا وأمّهاتنا، أتانا الخبر بأنّك قُتلت، فرُعِبَت قلوبنا، فولّينا مدبرين، فأنزل الله تعالى هذه الآية: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ}[4].
لقد أراد الله تعالى أن يبيّن للنّاس كافّةً، أنّ الرسالة تعيش مع الرسول في مدى عمره، ولكنّ الرّسول يموت وتبقى الرّسالة، فإذا مات الرّسول أو قُتل، فعلى الأمّة أن تتابع دينه ونهجه وسيرته، فلا تتراجع، ولا تنقلب على عقبيها، لأنها إن فعلت، فإنما تضرّ بذلك نفسها. ولذلك علينا أن نثبت في خطّ الرّسالة في كلّ الأحوال، ومهما واجهنا من تحديات، وأن نتعلّم أنّ غياب القيادة لا يعني غياب القضيّة، فقد يُقتل القادة والعلماء، ولكنّ القضيّة تبقى، وعلينا أن نخلص لها ونتابع المسيرة من أجلها، لأنّ المسيرة لا ترتبط بالشّخص حتّى لو كان الشخص نبيّاً، ولذلك رأينا أنّ الأنبياء والأئمّة منهم من مات ومنهم من قُتل، ولكنّ الرّسالة بقيت، والولاية بقيت، وبقي الخطّ الإسلاميّ الأصيل، وهذا ما يفترض على الأمّة أن تتحرّك به، لتصنع قادةً ومصلحين مكان من يرحل من المصلحين والقادة.
في استعداده(ص) للقاء ربّه
وتنقل لنا كتب سيرته(ص) مقدّمات استعداده للقاء الله، فيروي أبو مويهبة مولى رسول الله، أنّه(ص) قال: "إني قد أُمرت أن أستغفر لأهل هذا البقيع، فانطلق معي ـ وهذا توجيه نبويّ إلى ضرورة زيارة القبور، وهي بمثابة الهديّة الّتي نقدّمها إلى أمواتنا ـ فخرجت معه حتى جاء البقيع، فاستغفر لأهله طويلاً، ثم قال: ليهنئكم ما أصبحتم فيه مما أصبح النّاس فيه، قد أقبلت الفتن كقِطَع اللّيل المظلم يتبع بعضها بعضاً، يتبع آخرها أوّلها، الآخرة شرٌّ من الأولى".
ونقرأ في سيرة النبيّ(ص)، أنّه خرج إلى المسجد معصوب الرّأس، معتمداً على أمير المؤمنين بيمنى يديه، وعلى الفضل بن العباس باليد الأخرى، حتى صعد المنبر فجلس عليه، ثم قال: "معاشر النّاس، قد حان مني خفوق من بين أظهركم، فمن كان له عندي عِدةٌ، فليأتني أُعطه إيّاها، ومن كان له عليَّ دَين فليأتني أقضه. أيّها النّاس، إنّه ليس بين الله وبين أحدٍ نسب ولا أمر يؤتيه به خيراً أو يصرف عنه شرّاً إلا العمل ـ الكلّ خلق الله، سواء الأنبياء والأولياء والأوصياء والنّاس جميعاً، فليس بين الله وبين أحد قرابة ـ ألا لا يدّعينّ مدعٍّ، ولا يتمنّينّ متمنٍّ ـ كالّذين يقولون إنّنا نحن من شيعة عليّ وإنّ الله لا يعاقبنا ـ والّذي بعثني بالحقّ، لا ينجي إلا عمل مع رحمة، ولو عصيت لهويت. اللّهمّ هل بلّغت"[5].
ويروي ابن سعد عن أبي سعيد الخدري عن النبيّ(ص) أنّه قال: "إني أوشك أن أُدعى فأُجيب، وإني تارك فيكم الثّقلين؛ كتاب الله؛ حبل ممدود من السّماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، وإنّ اللّطيف الخبير أخبرني أنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليَّ الحوض، فانظروا ماذا تخلفونني فيهما"[6].
وقال(ص): "أيّها النّاس، إنّما المؤمنون أخوة، ولا يحلّ لامرئ مال أخيه إلا عن طيب نفسه، ألا هل بلّغت، اللّهم اشهد. فلا ترجعوا بعدي كفّاراً يضرب بعضكم أعناق بعض... أيّها النّاس، إنّ ربّكم واحد، وإنّ أباكم واحد، كلّكم لآدم وآدم من تراب، إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربي على أعجمي فضل إلا بالتّقوى"[7].
وروى ابن سعد في طبقاته، أنّ النبيّ(ص) توفّي في حجر علي بن أبي طالب(ع)، وعن ابن عبّاس: "توفي، وإنّه لمستند إلى صدر عليّ، وهو الّذي غسّله"، والقوم مجتمعون في مكان آخر، لم يتوقّفوا عند هذه المصيبة الكبيرة الّتي انقطع فيها الوحي من السماء.
إنَّنا عندما نستقبل ذكرى وفاة النبيّ(ص)، فإنَّ علينا أن نعرف أنَّ النبي(ص) قد ترك الإسلام والقرآن وعترته من أهل البيت أمانةً عندنا، وعلينا أن نحفظ أمانته(ص) في الإسلام والقرآن وأهل البيت(ع)، حتّى عندما نقدم عليه نقول له: يا رسول الله، لقد أدّينا الأمانة. وصلّى الله على محمد رسوله يوم وُلد، ويوم انتقل إلى رحاب ربّه، ويوم يُبعث حيّاً.
[1] ـ[الأنبياء: 107].
[2] ـ[الأنبياء: 34]..
[3] ـ[الزّمر: 31].
[4] ـ[آل عمران: 144].
[5] ـ بحار الأنوار، ج10، ص184.
[6] ـ م.ن، ج23، ص109.
[7] ـ الشيخ الأميني، الغدير، ج6، ص187.