يقول تعالى في سورة عبس: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى * وَمَا
يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا
مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى *
وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى *
كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ * فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ}[سورة عبس: 1 – 12].
هذه قصّة كَثُرَ فيها اللَّغط والاعتراض حول عصمة النبيّ محمَّد (ص)، لما قد تدلّ
عليه من احتقاره وإعراضه عن الأعمى الضَّعيف الفقير الَّذي جاءه يسعى وهو يخشى،
فتلهّى عنه وتشاغل، بينما أقبل على الغنيّ بكلّ قلبه ووجهه وتصدّى له، في الوقت
الَّذي كان هذا الأعمى ممّن تنفعه الذّكرى إذا ذُكِّر، وممّن يمكن أن يتزكّى
ويتطهَّر!
ولكنَّ دراستنا للقصّة تبعدها عن كلّ هذه الأجواء التي أُثيرت حولها.
فالأعمى هو ابن أمّ مكتوم الَّذي كان من الأشخاص المقرّبين إلى النبيّ (ص)،
بالمستوى الذي كان يدخل على النبيّ وهو جالس بين زوجاته، وكان النبيّ يستخلفه على
المدينة في كثيرٍ من الأوقات الَّتي كان يغيب فيها عنها لغزوٍ أو غيره، ما يجعل
العلاقة بينهما علاقة حميمة تقرب من (وحدة الحال)، كما يقولون، وتفرض الابتعاد عن
كلّ جوّ من أجواء الاحتشام الاجتماعيّ الذي تقتضيه التقاليد والعادات.
وقد جاء هذا الأعمى، وهو لا يعرف طبيعة المهمّة التي كان النبيّ مشغولاً بها، وقد
يكون النبيّ ـــ في تلك الحالة ـــ مندمجاً بأجواء الحديث الَّذي يأمل من خلاله أن
يحلّ مشكلة أو يهدي جماعة من الناس، ففاجأه الأعمى بالسّؤال الّذي أربك الجوّ
وضايقه، فما كان من النبيّ إلَّا أن عَبَسَ عبوس المضايقة لا عبوس الاحتقار، كأيِّ
إنسان يفاجأ ببعض المضايقات الطّارئة فيتقلّص وجهه، وأعرض عنه انسجاماً مع وحدة
الحال الَّتي تسمح له بذلك، تماماً كما يعرض الإنسان عن ولده أو أخيه أو صديقه إذا
كان مشغولاً عنه بشخصٍ آخر أو بمهمَّة صعبة، دون أن يؤدّي ذلك إلى شعور مضادّ
بالاحتقار أو غيره، لأنَّ الوقت واسع لسؤاله ولقضيّته، بينما لا يتّسع لهذا الإنسان
الذي يحاوره في غير هذا المجال.
ربّما كان هذا هو الجوّ الذي يسود القضية من خلال تحليلنا لطبيعة الشّخص صاحب
العلاقة، ولا سيّما إذا عرفنا أنَّ العبوس الذي لم يكن خلق النبيّ بشكلٍ طبيعيّ ـــ
فقد كان دائم الابتسام ـــ لا يشكِّل أيّ عنصر مؤذٍ لابن أمّ مكتوم، لأنّه أعمى لا
يلتفت إلى تقلّصات الوجه.
أمّا تفسيرنا لأجواء السّورة من خلال أسلوب العتاب المرّ الَّذي يطغى عليه، فهو
التعبير والإيحاء للنبيّ بأنَّ الجهد الّذي بذله مع هذا الإنسان الغنيّ المستكبر
الَّذي لم يأتِ ليهتدي، هو جهد ضائع، لأنّه بدون فائدة، بينما لو بذل أقلّ منه في
جواب هذا الأعمى الَّذي ليس بينه وبين العمل إلَّا أن يعرف ويتعلَّم ويتذكَّر، لكان
ذلك جهداً كبيراً منتجاً.
إنّ السورة تريد أن تنبّه النبيّ (ص) إلى ما لم يكن قد عرفه منذ البداية من طبيعة
هذا الإنسان الَّذي جاءه ليبدأ معه الحوار دون جدوى.
وبذلك، لا نجد فيها أيّ مساس بعظمة النبيّ من جهة خلقه ورسالته. وقد نحتاج إلى أن
نعرف أنَّ الأسلوب القرآنيّ يعنف ويشتدّ إذا كانت القصّة تفرض العنف والشدّة، من
زاوية الإيحاء بطبيعة الموقف، وما يفرضه على المؤمنين في الحالات المماثلة الَّتي
قد تشبه الموقف بالصّورة، وإنْ لم تشبهه بالذّات.
* من كتاب "مع الحكمة في خطّ القرآن".
يقول تعالى في سورة عبس: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى * وَمَا
يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا
مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى *
وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى *
كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ * فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ}[سورة عبس: 1 – 12].
هذه قصّة كَثُرَ فيها اللَّغط والاعتراض حول عصمة النبيّ محمَّد (ص)، لما قد تدلّ
عليه من احتقاره وإعراضه عن الأعمى الضَّعيف الفقير الَّذي جاءه يسعى وهو يخشى،
فتلهّى عنه وتشاغل، بينما أقبل على الغنيّ بكلّ قلبه ووجهه وتصدّى له، في الوقت
الَّذي كان هذا الأعمى ممّن تنفعه الذّكرى إذا ذُكِّر، وممّن يمكن أن يتزكّى
ويتطهَّر!
ولكنَّ دراستنا للقصّة تبعدها عن كلّ هذه الأجواء التي أُثيرت حولها.
فالأعمى هو ابن أمّ مكتوم الَّذي كان من الأشخاص المقرّبين إلى النبيّ (ص)،
بالمستوى الذي كان يدخل على النبيّ وهو جالس بين زوجاته، وكان النبيّ يستخلفه على
المدينة في كثيرٍ من الأوقات الَّتي كان يغيب فيها عنها لغزوٍ أو غيره، ما يجعل
العلاقة بينهما علاقة حميمة تقرب من (وحدة الحال)، كما يقولون، وتفرض الابتعاد عن
كلّ جوّ من أجواء الاحتشام الاجتماعيّ الذي تقتضيه التقاليد والعادات.
وقد جاء هذا الأعمى، وهو لا يعرف طبيعة المهمّة التي كان النبيّ مشغولاً بها، وقد
يكون النبيّ ـــ في تلك الحالة ـــ مندمجاً بأجواء الحديث الَّذي يأمل من خلاله أن
يحلّ مشكلة أو يهدي جماعة من الناس، ففاجأه الأعمى بالسّؤال الّذي أربك الجوّ
وضايقه، فما كان من النبيّ إلَّا أن عَبَسَ عبوس المضايقة لا عبوس الاحتقار، كأيِّ
إنسان يفاجأ ببعض المضايقات الطّارئة فيتقلّص وجهه، وأعرض عنه انسجاماً مع وحدة
الحال الَّتي تسمح له بذلك، تماماً كما يعرض الإنسان عن ولده أو أخيه أو صديقه إذا
كان مشغولاً عنه بشخصٍ آخر أو بمهمَّة صعبة، دون أن يؤدّي ذلك إلى شعور مضادّ
بالاحتقار أو غيره، لأنَّ الوقت واسع لسؤاله ولقضيّته، بينما لا يتّسع لهذا الإنسان
الذي يحاوره في غير هذا المجال.
ربّما كان هذا هو الجوّ الذي يسود القضية من خلال تحليلنا لطبيعة الشّخص صاحب
العلاقة، ولا سيّما إذا عرفنا أنَّ العبوس الذي لم يكن خلق النبيّ بشكلٍ طبيعيّ ـــ
فقد كان دائم الابتسام ـــ لا يشكِّل أيّ عنصر مؤذٍ لابن أمّ مكتوم، لأنّه أعمى لا
يلتفت إلى تقلّصات الوجه.
أمّا تفسيرنا لأجواء السّورة من خلال أسلوب العتاب المرّ الَّذي يطغى عليه، فهو
التعبير والإيحاء للنبيّ بأنَّ الجهد الّذي بذله مع هذا الإنسان الغنيّ المستكبر
الَّذي لم يأتِ ليهتدي، هو جهد ضائع، لأنّه بدون فائدة، بينما لو بذل أقلّ منه في
جواب هذا الأعمى الَّذي ليس بينه وبين العمل إلَّا أن يعرف ويتعلَّم ويتذكَّر، لكان
ذلك جهداً كبيراً منتجاً.
إنّ السورة تريد أن تنبّه النبيّ (ص) إلى ما لم يكن قد عرفه منذ البداية من طبيعة
هذا الإنسان الَّذي جاءه ليبدأ معه الحوار دون جدوى.
وبذلك، لا نجد فيها أيّ مساس بعظمة النبيّ من جهة خلقه ورسالته. وقد نحتاج إلى أن
نعرف أنَّ الأسلوب القرآنيّ يعنف ويشتدّ إذا كانت القصّة تفرض العنف والشدّة، من
زاوية الإيحاء بطبيعة الموقف، وما يفرضه على المؤمنين في الحالات المماثلة الَّتي
قد تشبه الموقف بالصّورة، وإنْ لم تشبهه بالذّات.
* من كتاب "مع الحكمة في خطّ القرآن".