عندما نقف أمام ذكرى وفاة سماحة السيد(رض)، لا يسعنا إلا أن نتذكر بعض المحطات التي جمعتنا بسماحته، حيث كنت واحداً ممن التقوا سماحته في محاضراته، في دروسه، في صلاته، في كل تجربته الإنسانية الحيوية التي كان يسعى من خلالها إلى أن يبني الإنسان، ويبني الحياة على أفضل ما يمكن أن تبنى عليه.
فممّا أتذكره من علاقتي بسماحته، كانت بداية العلاقة، عندما كنا نحضر في مجلس درسه التفسيري الأسبوعي في حسينية الشياح في مسجد الإمام الحسين(ع)، عندما كان يلقي درس التفسير في كلّ يوم أربعاء، وكنا نشارك مع بعض الإخوة. وأذكر أنني شاركت في تفريغ أحد الكاسيتات التي كان يسجّل عليها هذا الدرس التفسيري، وكان بعض آيات من سورة البقرة التي تتحدّث عن أحكام الرّبا.. ومن محاسن الصّدف أيضاً، عندما كان سماحة الشيخ جهاد فرحات يعمل على إخراج الطبعة الجديدة من كتاب تفسير "من وحي القرآن"، قدّم لي إحدى الملازم للنظر فيها والتّدقيق والتصحيح، فإذا بها الآيات نفسها التي كنت قد فرّغتها في تلك الفترة. وهذا لعلّه ذكّرني بكثير من الأمور.
وكنت أيضاً أحضر في النّدوة الأسبوعية التي كان يلقيها في اللّجنة الثقافية للإمام زين العابدين، المعروف بجامع عوّاد في الغبيري.
هذه بداية معرفتي بسماحة السيّد، وكنا نتردّد على المسجد كسائر المصلّين، ولم أكن قد دخلت بعد في عالم الدّراسة الدينيّة والحوزويّة وما إلى ذلك.
ثم شاءت الأقدار أن أسافر إلى سوريا بسبب الأحداث التي ألمت بلبنان، وهناك انتسبت إلى الحوزة العلمية؛ حوزة الإمام الخميني في السيدة زينب(ع)، وبعد مدّة، تعرّفت مجدّداً إلى سماحة السيد، وبدأت أحضر درسه في مرحلة بحث الخارج، وأحضر أيضاً الندوة الأسبوعية في كلّ يوم سبت، إضافةً إلى المجلس الصباحي، واللقاء العام الذي كان يعقده قبل صلاتي الظهر والعصر مع عامّة الناس في مكتبه، بدايةً في مبنى الحوزة العلمية معهد المرتضى، ثم بعد ذلك في المكتب الذي كان قد أنشى لمتابعة شؤون سماحة السيّد في منطقة السيّدة زينب(ع). وبدأت العلاقة شيئاً فشيئاً تتوطّد، حتى أصبحت هناك علاقة شخصية مع سماحته، وأنا أعتبر نفسي محظوظاً، حيث كنت نوعاً ما مقرّباً من سماحته، وأحمد الله سبحانه وتعالى أنّه كان يثق بي في بعض القضايا، والبعض كان يعتبرني ثقة السيّد في تلك البلاد.
وقد عاشرت سماحة السيد ورافقته فترة وجوده في سوريا، من خلال الدرس، ومن خلال بعض النشاطات الّتي كان يمارسها في الشام وفي غيرها من المحافظات، حيث كان سماحته يحرص على أن يقيم العلاقات الوطيدة مع كلّ الشرائح الاجتماعية، بل مع كل الجنسيات التي تتوافد إلى سوريا، وكان منفتحاً على الجميع؛ كان منفتحاً على الشيعة بكلّ أطيافهم، وكذلك على السنّة بكلّ فرقهم ومذاهبهم، وكان يسعى لأن يكون حاضراً في كلّ محفل، إذا ما أسعفته القدرة وأسعفه الوضع الصحي والظرف الأمني وما إلى ذلك، إلى درجة أنّنا كنّا في بعض الأحيان نتحدّث معه في هذا الجهد الذي يبذله.
أذكر مرّة أنني قلت له: سيدنا، أحياناً نأتي إلى درسك حياءً منك، لأننا نراك رغم كبر السنّ، ورغم الوضع الصحي والوضع الأمني والمناخي، أحياناً مصراً على حضور الدرس رغم كلّ الظروف، ونحن أحياناً نشعر بشيء من التكاسل عن حضور الدرس، رغم أننا لا نعاني ما تعانيه. فكان يقول إنه لا يمنعني عن هذا الدرس وعن هذه النشاطات إلا الشديد القوي، أي إلا الموت، فمادمت قادراً، فلا بدّ من أن أحضر هذا الدرس.
أيضاً، عوّدنا سماحته أن نعيش لغة الحوار ولغة النقاش حتى معه، أذكر في إحدى المرات أنّني كنت في نقاش معه في مسألة من المسائل الّتي كان يطرحها في الدرس، فبعد أن انتهينا، ألمح أحد الأخوة الموجودين في المكتب في الشّام لي بأن السيد يتضايق من مسألة النقاش والحوار معه، فيا حبّذا لو لم تثر معه نقاشاً.
فما إن تكلم معي هذا الأخ بهذه الكلمات، حتى ذهبت إلى سماحته، وقلت له: سيدنا، هل صحيح أنك تتضايق وتنزعج من المناقشة والملاحظة التي نبديها؟ فإذا كان هذا الأمر يزعجك، فأنا أتوقف. فقال: أنا ممنون أن تطرح عليَّ الإشكالات، وأن تثار في وجهي الملاحظات والمناقشات، لأنه لا قيمة للدرس ما لم يكن هناك حوار ونقاش.
وهذا مبدأ أساس علّمنا إياه سماحة السيّد، وبدأنا نعيشه في كل أمورنا. وأنا إذا كنت أملك شيئاً من الوعي في العمل والتطلّع إلى قضايا الحياة، فهذا بعض ما أخذته من سماحة السيّد، وبعض ما أعطانا إياه سماحته، لأنه عوّدنا وعلّمنا أن ننفتح على الناس جميعاً، أن ننفتح على كلّ قضايا الحياة، أن نعيش المسؤولية بأعلى درجاتها، كما كان هو يعيش المسؤوليّة في كلّ مناحي الحياة.
تجربتي مع سماحة السيّد كانت تجربة غنيّة جدّاً، أغنتني وأغنت عقلي وفكري، وجعلتني أستطيع أواجه كلّ المشكلات التي يمكن أن تعصف في حياتي. هذا الزخم كله أخذته وتعلّمته من سماحة السيّد، من خلال هذه التجربة البسيطة والفترة الوجيزة التي عشتها مع سماحته.
فإذا أردنا أن نحفظ حياة السيّد؛ لا الحياة الجسدية، بل الحياة الفكرية المعنويّة، فإنّ علينا أن نكرّس هذا النهج وهذا الوعي وهذه المفاهيم والقيم الّتي زرعها فينا، حتى يبقى السيّد حاضراً في وجداننا وفي عقولنا، وهو الحاضر دائماً إن شاء الله.