كنّا من النّاس الّذين أثاروا الجوّ السياسيّ ضدّ هذا الاتّفاق قبل أن يولد، وكنّا نتحدث بلهجة قويّة وثائرة في خُطب الجمعة آنذاك، وفي التصريحات السياسيّة، وكنّا نتحدّث مع بعض القيادات الدينيّة وغير الدينيّة، لكي يتّخذوا موقفاً من ذلك، لكنّنا شعرنا بأنّ الكثيرين من هؤلاء النّاس كانوا خائفين، وكانوا يعيشون السّقوط أمام الهيمنة الإسرائيليّة والأمريكيّة والقبضة الحديديّة الكتائبيّة المتمثّلة برئيس الجمهوريّة آنذاك، وكان البعض منهم يسأل ما هو البديل، والبعض الآخر لا يقول ذلك بالأسلوب نفسه، ولكنه كان يوحي بالتّساؤل ذاته.
وكنّا نلاحظ أنّ المفاوض الإسرائيلي كان يتحدّث مع المفاوض اللّبنانيّ، الّذي كان يثير بعض المطالب، بلهجة المحتلّ الّذي يقول له: عليك أن تتكلّم وتتحدّث عن الشّروط من خلال وعيك للواقع الّذي تعيش فيه، فنحن موجودون هنا في "خلدة" الّتي نتفاوض في ساحتها، ولذلك، فإنّ دورك أن توافق لا أن تفرض شروطاً معيّنة.
وبالطبع كان الجوّ كذلك، لأنّ المفاوضات كانت تجري بين سلطات احتلال، مع الشّعب الّذي يحتلّ أرضه، وليس مفاوضات بين دولة مع دولة أخرى، كان المفاوض الإسرائيليّ يتكلّم بهذه الطّريقة، أو بما يوحي بهذا المضمون، وكنّا نلاحظ أنّ المفاوض اللّبناني كان ينطلق من موقع العجز، وربما كانت أمريكا تريد أن تحتفظ له ببعض ماء الوجه، ولكنّ العجز كان أقوى من ذلك، وكانت الرّغبة في الوصول إلى حلّ تفاوضيّ يؤدّي إلى الصّلح لإبعاد لبنان عن محيطه العربي، ليقترب من إسرائيل، وليكون الدّولة الثّانية التي تعترف به...
وكنّا نلاحظ أنّ اتفاق 17 أيّار أدخل لبنان في وضع فقد فيه استقلاله، بحيث أصبح الجنوب أرضاً قد تحمل الهويّة اللّبنانيّة، ولكنّها في المسألة الأمنيّة والعسكريّة والاقتصاديّة، تعيش واقع الهويّة الإسرائيليّة، فلا حريّة للطّيران حتّى المدني في أن يطير فوق الجنوب، إلا بإذن إسرائيليّ، ولا حريّة للجيش اللّبنانيّ بالتّواجد في الجنوب إلا بحجم معيّن، ولإسرائيل كلّ الحريّة في أن تلاحق كلّ وضع أمني سلبيّ ضدّها، ومسؤوليّة الجيش اللّبنانيّ هي في العمل على حماية حدود إسرائيل من أيّة حركة مقاومة هنا وهناك.
وكانت المسألة في اتّفاق 17 أيّار، الّذي وافق عليه المجلس النيابيّ بأكثريّته، أنهم صوّروه للّبنانيّين على أنّه الاتفاق الواقعيّ الّذي يخرج لبنان من الاحتلال الإسرائيلي، ولكنّنا لاحظنا أنّه يريد أن يؤكّد الاحتلال السياسيّ تحت صورة الانسحاب من المواقع الجغرافيّة، ولاحظنا أيضاً في نهاية المطاف، أنّ الرّسائل المتبادلة بين أمريكا وإسرائيل، أكّدت أنّ الانسحاب الإسرائيليّ مرتبط بالانسحاب السّوريّ من لبنان، وبما أنّ الانسحاب السوريّ لسبب أو آخر غير ذي موضوع، فمن الطبيعيّ أن يكون الانسحاب الإسرائيليّ غير ذي موضوع، وقد وافقت أمريكا على ذلك.
ولهذا، فإنّ الإسرائيليّين لم يحتفظوا للعهد الكتائبي في ذلك الوقت، حتّى بماء الوجه، لأنّه بعد كلّ التّنازلات المهمّة الّتي قدّموها والتّوقيع على هذا التّنازل، لم يحصل لبنان على مسألة الانسحاب، لأنّ الشّرط الّذي وضع للانسحاب هو شرط غير واقعيّ، وأعتقد أنّ الوضع السياسيّ كان لا يريد لإسرائيل أن تنسحب آنذاك، لأنّ من الطبيعيّ أنّه لو انسحبت إسرائيل في ذلك الوقت، لكانت المسألة من الناحية السياسيّة مبرّراً للحكم اللّبناني لكي يفرض على سوريا أن تنسحب، ولكن لم يكن يُراد للأزمة اللّبنانيّة آنذاك أن تتّجه نحو الحلّ، لأنّه كان يراد إرباك الوضع السياسيّ في داخل لبنان والمنطقة، بعمليّة التّجاذب في ساحات الحرب الباردة الّتي يمثّل لبنان أحد مواقعها بين أمريكا والاتحاد السوفياتي آنذاك، باعتبار أنّ إسرائيل تمثّل فريق أمريكا في هذه الحرب، كما أنّ سوريا تمثّل فريق الاتحاد السوفياتي في تلك الحرب، لأنّ المطلوب أن تبقى القضيّة كنقطة تسجّل هنا ونقطة تسجّل هناك في عمليّة هذا التّجاذب.
ومن خلال ذلك، دعا "تجمّع العلماء المسلمين"، الّذي كنّا ولا نزال في تنسيق دائم معه، إلى اعتصام في يوم توقيع هذا الاتّفاق، وفي مسجد الإمام الرّضا في بئر العبد، فجئت إلى هذا المسجد، وصلّيت صلاة الظّهر مع المعتصمين، وتحدّثت إليهم بعد ذلك، واعتصمت معهم بعضاً من الوقت، ولاحظنا آنذاك أنّ الحكومة اللّبنانيّة أرسلت جيشها ليطوّق المسجد، ولينشر الرّعب في المنطقة كلّها، وقصف المسجد، واستشهد الشّهيد محمد نجدي آنذاك.
وانطلقت المعتصمات مع المعتصمين ليواجهوا هذا الجيش الّذي أخطأ الموقع، فلم يواجه المحتلّ في خلدة، ولكنّه واجه الّذين كانوا يحتجّون على الرّضوخ للمحتلّ، كما يحتجّون على احتلال المحتلّ، ومن خلال ذلك، نعرف أيّة مناقبيّة يُراد لهذا الجيش أن يتحلّى بها، من خلال هذه الكلمة الّتي تردّدت لدى قياداته المتتابعة، لتكون قضيّة هذا الجيش أن يضرب النّاس الّذين يطالبون بالحريّة للبلد كلّه، لحساب المحتلّ الّذي يريد فرض الاستعباد على هذا البلد.
ومن خلال ذلك، نفهم جيّداً كيف يتحرّك الخطّ الطائفيّ المتحالف مع إسرائيل ضدّ شعبه، ليقصف شعبه وأماكن العبادة، حتّى ترضى إسرائيل وأمريكا، ونحن هنا لا نتحدَّث عن الشّعارات، ولكنّنا نتحدّث عن الوقائع والتّاريخ.. وأعتقد أنَّ هذا الاعتصام الّذي قام به العلماء المسلمون في هذا المسجد، الّذي كان ولا يزال المسجد الشّعبيّ الّذي ينفتح على كلّ قضايا الأمّة، يمثّل النقطة المضيئة في تلك المرحلة، لأنّنا لاحظنا أنّ كلّ الخطوط السياسيّة الموجودة في الساحة اللّبنانيّة، كانت تعيش الخوف والسّقوط لولا بعض الكلمات والتّصريحات.
لهذا، لم تنطلق هناك مظاهرة، ولم يشارك كلّ هؤلاء النّاس في الاعتصام، خوفاً من الجيش ومن إسرائيل، ومن خلال ذلك، نسجّل للموقف الإسلاميّ في يوم توقيع اتّفاق 17 أيّار، أنه الموقف الوحيد الرّائد الّذي عبّر بالكلمة والموقف وبالدّم عن رفضه للاحتلال الإسرائيليّ، ورفضه لاتّفاق 17 أيّار، وعندما تراجعت الحكومة اللّبنانيّة عن هذا الاتّفاق، وعندما وضحت السّلبيّات الّتي يختزنها هذا الاتّفاق، على مستوى الواقع اللّبناني والعربي، عرف النّاس أنّ الإسلاميّين، والمشايخ في طليعتهم، كانوا أكثر وعياً لمسألة الحريّة ولمسألة الحركة السياسيّة، من الّذين كانوا يتحرّكون في الواقع السياسيّ اللّبنانيّ آنذاك.
*المصدر: كتاب "العلامة فضل الله وتحدّي الممنوع" .
* اتّفاق 17 أيّار: أبرمته الحكومة اللّبنانيّة مع العدوّ الإسرائيلي بعد اجتياحه لبنان وحصار بيروت في العام 1982م، ويتضمَّن الاتّفاق بنوداً مذلّة، وإقامة منطقة أمنيّة وسلام دائم بين لبنان والكيان الصّهيوني، وتحت ضغط الرّفض الشعبي، قامت الحكومة اللّبنانيّة ومجلس النواب اللّبناني بإلغاء هذا الاتفاق.