م ـ 31: الإحياء هو: (إنجاز عمل عمراني في الأرض الميتة تتحول بسببه عن حالة الموت إلى حالة العمران)، لذا فإنه لا يتحقق الإحياء ولا تترتب عليه آثاره بمجرد المباشرة بالعمل، بل لا بد من وصول العمل إلى درجة يصدق عليه فيها أنه منزل أو بستان أو حظيرة أو بئر، أو غير ذلك من عناوين ومظاهر العمران؛ نعم إن مجرد المباشرة يعتبر "تحجيراً" يثبت به للمُحجِّر حق الأولوية، وسيأتي بيان ذلك.
ولا يشترط لتحقق الملكية به أن يقصد التملك بهذا الإحياء، بل يكفي قصد إحياء هذه الأرض بهذا العمل الذي أنجزه ولو لم يلتفت إلى رغبته الدفينة بالتملك من خلاله، فلو لم يقصد الإحياء، بل كان عابثاً ولاهياً، أو كان يُعلِّم غيره كيف يبني بيتاً أو حظيرة، لم يتحقق به الإحياء ولم يملك الأرض إذا بدا له بعد ذلك التمسك بهذه الأرض وبما أنشأه عليها.
م ـ 32: أشرنا في المسألة السابقة إلى أن عملية الإحياء فيها ما يكون "إحياءً" فعلاً، وفيها ما يكون من نوع المقدمة له وهو "التحجير". وهذا يعني أن الراغب في الإحياء قد يقوم بالإحياء دفعة واحدة وفي وقت واحد، كأن يستقدم بيتاً جاهزاً ويثبته في الأرض قاصداً إحياءها، فتحيا بذلك وتصبح ملكاً له، وقد يقوم بالإحياء على دفعات، فيضع علاماتٍ لحدودها، ثم يهيىء مواد البناء، ثم يبنيه تدريجاً في أشهر أو سنوات، وكل عمل من هذه الأعمال بمجرده يُعدّ تحجيراً وحبساً للأرض على نفسه، فلا يحق لغيره مزاحمته فيها ولا أخذها منه حتى يحقق غايته فيها ضمن الاعتبار الشرعي. ويكفي في تحقق التحجير كل ما دل على إرادة الإحياء من الأعمال المتجسدة في مظهر مادي، وذلك مثل تسويرها بشريط ونحوه، أو وضع حديد أو أحجار على جوانبها أو على زواياها الأربعة، أو حفر ركائز فيها، أو تمهيد أرضها وتنقيتها من الصخور، أو غير ذلك من الأمور التي يَفهم منها الناظر إليها أن هذه الأرض مُحجَّرة ومرغوبة من قِبَل من يريد إحياءها.
م ـ 33: يتحقق التحجير ويؤثر أثره إذا تمّ وفقاً لما يلي:
أولاً: أن يقصد الإحياء ويريده، فلو وضع تلك العلامات عبثاً ولهواً لم تفد التحجير.
ثانياً: أن تكون العلامات على حالة تدل على إرادة التحجير وعلى المقدار الذي يرغب في تحجيره، فإذا وضع علامة غير حاسمة، أو لا تدل على مقدار الأرض المحجرة، لم يثبت للمحجر حق فيها، وجاز لغيره إحياء ذلك القسم الذي لم تظهر إرادته في تحجيره، وهذه الأمور ليس لها قاعدة يمكن حصرها فيها سوى نظر العرف الذي يختلف بين زمان وزمان وبين حالة وحالة.
وفي هذا الصدد يمكن القول: إن القناة الدارسة الخربة التي لها عدة أجزاء، إذا أحيا الراغب فيها جزءاً منها عُدّ ذلك تحجيراً لجميع القناة، بل ولجميع الأراضي التي كانت تُسقى منها؛ وكذا حفر البئر في الأرض الموات بهدف توزيع مائه عبر قنوات إلى مساحة من الأرض، فإن مجرد حفر البئر يعد تحجيراً للجزء الذي سوف تمر به القناة وللأراضي التي سيصل ماؤها إليها بعد تمامها.
ثالثاً: إنما تثبت الأولوية بالتحجير إذا كان المحجِّر قادراً على القيام بعمارتها وإحيائها، فلو لم يكن قادراً من الأول، أو كان قادراً فطرأ العجز لمرض أو فقر أو غيرهما لم يثبت له حق، وجاز لغيره إحياؤها؛ ومن ذلك ما لو حجر مقداراً يزيد عن قدرته، فإنه لا أثر لتحجيره في المقدار الزائد.
رابعاً: يجب على المحجِّر أن يشتغل بالإحياء وينجزه عقيب التحجير بفترة معقولة بنحو لا يصدق على التأخير فيها أنه إهمال وتعطيل، فإذا أهمل الإحياء وعطله وطالت المدة ورغب غيره في إحيائها لم يكن لغيره أن يحييها إلا بعد رفع الأمر إلى الحاكم الشرعي أو وكيله، وللحاكم ـ حينئذ ـ أن يحثه على الإحياء أو يرفع يده عن الأرض، فإن أبدى عذراً أمهله الحاكم حتى يزول عذره ويشتغل بالعمارة، فإن زال ولم يشتغل نزعها منه وبطل حقه فيها وجاز لغيره إحياؤها حينذاك؛ وإذا لم يكن الحاكم أو وكيله موجوداً، أو كان ولكنه غير مبسوط اليد ليُلزمه بذلك، فالظاهر سقوط حق المحجر إذا أهمل بمقدار يعد عرفاً تعطيلاً له، والأحوط الأولى مراعاة حقِّه إلى ثلاث سنين.
م ـ 34: لا يشترط في التحجير أو الإحياء قيام المكلف نفسه به وتحققه من قبله مباشرة، بل يجوز له أن يوكل أو يستأجر من يحجر له مكاناً، ويكون الحق الناتج عن عملهما لصاحب العمل الذي هو الموكِّل والمُستأجر لا للوكيل والأجير؛ بل لو أن شخصاً حجر أو أحيا لشخص أرضاً نيابة عنه دون أن يكون مكلفاً بذلك من قبله، فإنه يثبت للمنوب عنه حقّ الأولوية في تلك الأرض إذا أجاز فعل النائب ورضي به.
م ـ 35: قلنا: "إن التحجير يفيد (حق الأولوية) في إحياء الأرض"، ويترتب على ذلك قابلية هذا الحق للنقل الاختياري بالبيع - ثمناً ومثمناً - وبالصلح والهبة ونحوهما، وكذا قبوله للانتقال القهري بمثل الميراث أيضاً، مثله في ذلك كمثل سائر الحقوق الأخرى، كحق الاختصاص وحق الفسخ والخيار وغيرها.
نعم في صورة ما لو حجَّر العاجز عن الإحياء لا يصحّ له أن ينقل ذلك إلى غيره ويرفع يده عنه لصالحه، لأننا قلنا: "إن تحجير العاجز لا يعطيه حقاً في الأرض كي ينقله إلى غيره".
م ـ 36: إذا انمحت معالم التحجير التي وضعها الراغب في الإحياء بعد مرور فترة على وضعها، فإن كان ذلك عن إهمال منه في تثبيتها ومراقبتها وتعهدها بنحو يكشف عن عدم اهتمامه بحفظ حقه فيها بطل حقه فيها وجاز لغيره إحياؤها، وإن كان ذلك لطارىء، كالريح العاصفة أو السيل القوي أو عبث العابثين، لم يبطل حقه فيها إذا بادر إلى وضع علامات غيرها ولم يتهاون في ذلك بعد علمه به، وإلا بطل حقه حينئذ.