التسويـف
قال(ع): "تأخير التوبة اغترار، وطول التسويف حيرة، والاعتلال على الله هلكة، والإصرار على الذنب أمنٌ لمكر الله، ولا يأمن من مكر الله إلا القوم الخاسرون".
إن على الإنسان أن يستعجل التوبة لأنه لا يعرف ماذا يُقبل عليه من عمره، فلعلّ الموت يأتيه على حين غفلة، وعليه أن لا يغترّ بطول الأمل، لأنّه سوف ينقطع به في الطريق، ولا يسوّف التوبة، فإنّ التسويف الذي ينتقل به من موعد إلى آخر قد يوقعه في الحيرة عندما يعيش التردّد بين الاندفاع نحو التوبة أو الرجوع عنها، ما قد يدفعه إلى الاضطراب والإرباك النفسي.
أما الاعتلال على الله وترك المبادرة إلى الحصول على رضاه من خلال مواقع القرب عنده، فإنّه يؤدي به إلى الهلَكة عندما يتابع المعصية تلو المعصية، فيتعرّض لسخطه الذي يؤدي إلى عذابه. أمّا الإصرار على الذنب، فإنه يوحي بأنّ هذا الإنسان متمرّد على الله مستمرّ في عصيانه، في عملية استسلام للرجاء الذي لا يقف عند حدٍّ ولا يلتقي بالخوف من مكر الله الذي قد يملي للإنسان ويمهله دون أن يهمله، فيأتيه العذاب من حيث لا يشعر.. في الوقت الذي لا بدَّ للإنسان الذي يؤمن بالله ويعرف قدرته وسطوته وطريقته في التعامل مع عباده المنحرفين، أن يأمن مكر الله، فإنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون الذين سوف يخسرون مصيرهم في الدنيا والآخرة.
موقفُه من الفتوى بغير علم
كان وقت الموسم (موسم الحج)، فاجتمع من فقهاء بغداد والأمصار وعلمائهم ثمانون رجلاً، فخرجوا إلى الحجّ، وقصدوا المدينة ليشاهدوا أبا جعفر(ع)، فلما وافوا أتوا دار جعفر الصادق(ع) لأنَّها كانت فارغة، ودخلوها وجلسوا على بساط كبير، وخرج إليهم عبد الله بن موسى (الكاظم) فجلس في صدر المجلس، وقام منادٍ وقال: هذا ابن رسول الله، فمن أراد السؤال فليسأله، فَسُئِل عن أشياء أجاب عنها بغير الواجب، فورد على الشيعة ما حيّرهم وغمّهم، واضطربت الفقهاء، وقاموا وهمُّوا بالانصراف، وقالوا في أنفسهم: لو كان أبو جعفر(ع) يكمل لجواب المسائل لما كان من عبد الله ما كان، ومن الجواب بغير الواجب.
فَفُتِح عليهم بابٌ من صدر المجلس، فقاموا إليه بأجمعهم واستقبلوه وسلّموا عليه، وجلس وأمسك الناس كلُّهم، فقام صاحب المسألة فسأله عن مسائله، فأجاب عنها بالحقّ، ففرحوا ودعوا له وأثنوا عليه، وقالوا له: إنَّ عمَّك عبد الله أفتى بكيت وكيت، فقال: "لا إله إلا الله، يا عمّ، إنَّه عظيمٌ عند الله أن تقف غداً بين يديه، فيقول لك: لِمَ تُفتِي عبادي بما لم تعلم، وفي الأمة من هو أعلمُ منك"(20).
إنّ هذه الكلمة الجوادية تؤكد قاعدةً ثقافية في جلوس الإنسان في موقع المبادرات العلمية، فلا بدّ أن يكون ممن يملك علم ما يعلّمه للناس وثقافة ما يجيب الناس عنه، فلا يجلس مجالس العلماء ليفتي الناس بما لا يعلم من حقائق الإسلام وأحكامه، لأنّ ذلك سوف يقودهم إلى الضلال، لا سيّما أن هذا المجلس هو في نظر الناس ـ ولا سيما العلماء ـ مجلس أهل البيت الذين عوّدوا الناس على أن يجيبوهم بالحقيقة التي لا ريب فيها، بحيث يزول الشك عنهم بذلك، وتذهب الحيرة من أفكارهم، ما يجعل جلوس الجاهل سبباً في النظرة السلبيّة إلى أهل البيت باعتباره منه، ويؤدي إلى فقدان الثقة بهم، في الوقت الذي يمكن للناس أن يرجعوا إلى العالم بالأحكام، وهو الإمام الجواد، الذي يتميز عنه ـ عن عمّه ـ بالعلم الغزير والإمامة الهادية.
فإنه لا يجوز للإنسان أن يفتي الناس بغير علم وفي الساحة من هو أعلم منه ممن يملك العلم كله.
كفالة الله
يقول(ع): "كيف يضيع مَنِ الله كافلُه، وكيف ينجو منِ الله طالبُه، ومَنِ انقطع لله وكّله الله إليه، ومن عمل على غير علم كان ما يُفسد أكثر مما يُصلح، مَن أطاع هواه أعطى عدوّه مناه".
إنه(ع) يتعجّب من تصوّرات بعض النماذج من الناس، فهناك الذي يوحي لنفسه بالضياع والحيرة والتمزق في عملية سقوط أمام احتمالات الحاضر والمستقبل، فيتعجب كيف يضيع وهو المخلوق الذي كفله الله في رزقه وفي كل تفاصيل حياته في نطاق النظام الذي أودعه الله في السنن الكونية والتاريخية.. إنّ المؤمن لا يشعر بالضياع، بل الكافر هو الذي يشعر بالضياع، لأنّ المؤمن الذي يؤمن بأن الكون في رعاية الله لا يفكر بالضياع.
وهناك الذي يهرب من ربه ويشعر بأنه قادر على النجاة منه بفعل ما يملكه من القوة من خلال الوسائل المتجمّعة عنده، ولكنه لا يفكر بأن الله المهيمن على الكون كله في الحاضر والمستقبل لا يفلت منه أحد ولا ينجو منه مطلوب. وهناك الذي يكل أمره إلى الله وينقطع إليه ويقطع أمله من كل مَنْ عداه، فإنَّ الله يكله إليه، فهو حسبه وبه الكفاية وعليه التكلان. وهناك الذي ينطلق إلى العمل من دون تخطيط لخطوطه ومفرداته ومراحله على أساس العلم الذي ينفتح عليه، فإنه سوف يتعرض للفساد بفعل حالة التخبط في السير على غير هدى أو كتاب منير، لأنَّ الجهل سوف يقود صاحبه إلى ما يفسده وهو يفكر أنه يصلحه، فتكون نتائج الفساد عنده أكثر من نتائج الصلاح. وهناك الذي يخضع لهواه، فلا يتحرك من قاعدة إيمان ومن منطق عقل، فهذا هو الذي سوف يوقع نفسه في قبضة التيه وفي مواطن الهلاك، وبذلك فإنه يحقق لعدوه ـ وهو الشيطان ـ أمنياته في إبعاده عن مواقع رضوان الله وعن الجنة، بإيقاع نفسه في المعصية التي هي سرّ هلاكه.
صفات المروءة
يقول(ع): "حَسْبُ المرء من كمال المروءة تركُه ما لا يَجْمُلُ به، ومن حيائه ألاَّ يلقى أحداً بما يكره، ومن أدبه ألا يترك ما لا بدَّ له منه، ومن عرفانه علمُه بزمانه، ومن ورعه غضُّ بصره وعفة بطنه، ومن حُسن خُلُقه كفُّه أذاه، ومن سخائه برُّه بمن يجب حقّه عليه وإخراجه حقّ الله من ماله، ومن إسلامه تركه ما لا يعنيه وتجنّبه الجدال والمراء في دينه".
المروءة مفهوم يختزن في داخله العناصر الإنسانية التي تمثل التوازن في حركة الإنسان في حياته الفردية والاجتماعية بما يوحي بالكمال الأخلاقي والاتزان السلوكي.. والإمام الجواد(ع) ـ حسب هذه الرواية ـ يحدّد كمال هذه القيمة السلوكية للإنسان بترك الكلام أو العمل الذي لا يتناسب مع مقامه وخطه المستقيم ومواقفه المبدئية، بحيث يتحرّك من خلال المقارنة بين ما ينطلق به من نشاط وما يتناسب معه.. أما الحياء ، وهو الحالة النفسية التي تبتعد بالإنسان عن كل قبيح يُخجل الإنسان في حياته ويبتعد به عن ساحة المواجهة القاسية في العلاقات، فمن مظاهره أن لا تلقى الناس في كلماتك وأفعالك وعلاقاتك بما يكرهون، مما قد يدخلك في مداخل الحرج الذي يسيء إلى موقعك عندهم، ويخلق لك المشاكل معهم، ومن الأدب أن يوجّه اهتماماته إلى الضرورات العملية التي لا بد للإنسان من الإتيان بها، لأن لها علاقة بالقضايا الحيوية في حياته وحياة الآخرين في نطاق مسؤولياته العامة والخاصة، ومن المعرفة أن يعرف عصره في ذهنيته التي يفكر بها، وفي قضاياه التي يتحرك في داخلها، وفي تطلعاته التي يتطلع إليها، وفي حاجاته التي يتطلبها، وفي خطوطه الفكرية التي ينفتح عليها، وفي التحديات التي يواجهها أو يطلقها ويحركها، وفي أوضاعه السياسية والاجتماعية والأمنية والثقافية التي تحيط به.. فيكون من خلال ذلك في مستوى الوعي الذي يسير به نحو التقدّم والتطوّر في ساحات المعرفة الشاملة. أمّا الورع عن الحرام، فمن مظهره عفة البطن عن الأكل الحرام والشراب الحرام، وعفّة جسده عن الشهوة الحرام..
أما خُلقه الحسن، فمن مظهره أن يكف أذاه عن الناس انطلاقاً من روحيّته الأخلاقية بالمسالمة للناس، فلا يسيء إلى أحد، بل ينفتح على الإحسان.. أما البرّ في حياته، فمن خصاله أن يتحمّل مسؤوليته عن الذين يجب عليه الإنفاق عليهم والرعاية لهم وإخراج الحقوق الشرعية الإلهية من ماله لأصحابها.. أما إسلامه، فقد يتمثّل بأن يترك الكلام في ما لا يعنيه لأنه من لغو القول ومن زوائده، وأن يترك الجدال في الدين بما لا ضرورة له.
حقيقة الإيمان
قال(ع): "لن يستكمل العبد حقيقة الإيمان حتى يؤثر دينه على شهوته، ولن يهلك حتى يؤثر هواه وشهوته على دينه".
إنّ على المؤمن أن يعيَ حقيقة دينه في طبيعته من حيث انطلاقه من قاعدة الحقيقة التي تحكم الحياة كلها والوجود كله، ومن حيث أثره في تركيز موقف الإنسان على أرض صلبة لا اهتزاز فيها، ومن حيث نتائجه في النجاة من عذاب الله في يوم القيامة.. وعلى هذا الأساس، فلا بد له من أن يختار السير على الخط الديني في العقيدة وفي الشريعة وفي المنهج وفي الحركة، لأنه الخط المستقيم الذي يحصل به الإنسان على رضا الله والقرب إليه، وأن لا يطيع شهوته في حركة غرائزه في نقاط ضعفها، فإن الشهوة لا تخضع لقاعدة ولا تتحرك في خطة ولا تنسجم مع الاستقامة، بل إنها تهتز بالإنسان في كل مواقعه، ولا تثبت به على أساس متين، وتؤدي به في النهاية إلى الهلاك الدنيوي والأخروي عندما تتغلّب عليه وتصادر التزامه الديني وتتحرك به مع الأهواء ليضيع في متاهات الحياة فيسير على غير هدى، أما الثابتون على دينهم الذين ينظرون بعين البصيرة إلى عمق الشهوات في نتائجها السلبية، فهم الناجون عند الله، الكاملون في إيمانهم.
مصاحبة الشرير
قال(ع): "إيّاك ومصاحبة الشّرِّير، فإنَّه كالسيف المسلول، يَحْسُن منظره ويقبح أثرُه".
إن مسألة اختيار الصاحب لا بد أن تخضع لدراسة دقيقة في المواصفات التي يتمتع بها في أخلاقياته الاجتماعية، من حيث إنه يحب الخير أو يتبنى الشرّ، أو أنه يرتكز على قاعدة الحق أو يتحرك في خط الباطل، أو أنه ينفتح على العدل أو ينطلق في مواقع الظلم، ليختار الخيّر لا الشرير، والمحق لا المبطل، والعادل لا الظالم، لأن للصاحب تأثيراً نفسياً وروحياً وأخلاقياً على صاحبه بفعل العلاقة الحميمة التي تجعله ينجذب إليه فيتأثر به لا شعورياً، لأن للعاطفة دورها في المؤثرات الذاتية على الإنسان الآخر الذي يرتبط به الإنسان ارتباطاً وثيقاً.. لذلك، فلا بد أن لا ينظر إلى جمال صورته وحسن هندامه وعراقة نسبه وموقعه في المجتمع، بل أن ينظر إلى أخلاقيته في تعامله مع نفسه ومع الناس من حوله ومع الحياة، فيجتنب الشرير الذي قد يعجبك مظهره ويزعجك مخبره ويقبح أثره، كما هو السيف في لمعانه الذي يجذب النظر ولكنه يقتلك بحدّه عندما يضربك.
المحافظة على مال الله وسؤاله سبحانه يوم القيامة عنه
دخل إليه صالح بن محمّد بن سهل الهمداني وكان يتولّى له، فقال له: جُعلت فداك، اجعلني من عشرة آلاف درهم في حِلٍّ فإني أنفقتها، فقال له أبو جعفر(ع): أنت في حِلّ. فلما خرج صالح من عنده، قال(ع): "أحدهم يثبُ على مال آل محمد(ص) وفقرائهم ومساكينهم وأبناء سبيلهم فيأخذه، ثم يقول: اجعلني في حِلّ. أتراه ظنّ بي أنّي أقول له لا أفعل، والله ليسألنّهم اللهُ يوم القيامة عن ذلك سؤالاً حثيثاً"(21).
إنّ هذه الملاحظة توحي بأن بعض الناس ممن يتولون أعمال جمع الحقوق الشرعية قد يواجهون المسؤول الأول عنها بأساليب الإحراج النفسي عندما يطلبون منه أن يسامحهم ببعضها في الوقت الذي لا يجد فيه فرصةً للامتناع عن الاستجابة لطلباتهم، فيجيبهم إلى ذلك تفادياً للوقوع في الحرج، ولكنه ليس راضياً في نفسه عن ذلك، لأنّه قد يرى الشخص السائل غير مستحق، أو لأنّ هناك مَن هو أحوج منه، أو لأن هناك بعض الموارد التي تبلغ درجة الأهمية أكثر مما يخضع له هذا الشخص من حاجاته، فتكون المسألة بمثابة القاعدة المعروفة: "المأخوذ حياءً كالمأخوذ غصباً"، ولذلك فإنّ الله سوف يسألهم عن ذلك يوم القيامة.
وفي وفاته(ع) قال الشيخ المفيد: "ورد بغداد لليلتين بقيتا من المحرّم سنة عشرين ومائتين، وتُوفي بها في ذي القعدة من هذه السنة، وقيل: إنَّه مضى مسموماً ولم يثبت بذلك عندي خبر فأشهد به، ودُفِن في مقابر قريش (في بغداد) في ظهر جدّه أبي الحسن موسى بن جعفر(ع)، وكان يومَ قُبض خمس وعشرون سنة وأشهر"(22).
المصادر:
(20)بحار الأنوار، ج:5، ص:100.
(21)كتاب الغيبة، ص:227.
(22)الإرشاد، ص:307.