عندما نلتقي أيَّ إمام من أئمة أهل البيت(ع) في التاريخ، فإننا نلتقي بالفكر الذي يريد أن يشيع السلام في العالم من خلال الإسلام، وأن يحرّك السلام في عقل الإنسان وروحه وحركته من خلال علاقة الإنسان بالله في ما شرّع من شرائع، وركّز من قيم، وأنزل من وحي، وأطلق من مفاهيم، حتى يتحسّس الإنسان الحياة على أساس أنَّها البعيدة عن الهوى، والتي لا تتركّز فيها نقاط الضعف، والتي يتحرّك فيها الخطُّ الإسلامي بكلِّ ثبات وقوّة في العقيدة والشريعة والمنهج والحركة والمفاهيم.
التراث الغنيُّ الواسع
وعندما نتحدّث عن الإمام الباقر(ع) ، الذي هو الإمام الخامس من أئمة أهل البيت(ع) ، فإننا نتحدّث عن شخصيّة معصومة فذّة عاشت مرحلتها وعصرها، فأغنت الواقع الإسلامي كلّه، وأجابت عن الكثير من الأسئلة التي قد تكون جواباً على أكثر من سؤال معاصر... فنحن عندما نعيش مع الشخصيات الفكريّة في تاريخنا، ولا سيما التي تمثّل إمامةً إسلامية منفتحة على واقع المسؤولية في إغناء المعرفة الإسلامية وملاحقة القضايا الفكريّة التي كانت تمثّل تحديّات الفكر آنذاك، فإننا نعيش حركة الإسلام على امتداد الحياة، لأنَّ المفاهيم الإسلامية لا تعالج مرحلة ماضية أو معيَّنة، بل تعالج الحياة كلّها...
وهكذا عندما نلتقي بهذا الإمام العظيم، فإنَّنا نطلُّ على المرحلة الواسعة التي عاش فيها، فملأ الواقع الإسلامي علماً بما أعطاه من ثمرات العقل، وما أفاض عليه من روحه بما انفتح عليه من سموّ الروح، فانطلق بحركته ليعطي الإنسان منهجيّة الانطلاق نحو الحياة المثلى، من خلال ما خطّط له من المناهج التي تتحرّك مع منهج الإسلام في كلِّ مواقعه.
ونحن إذا توقفنا عند حياة الباقر(ع) ، نجد أنَّ مرحلته من أشدِّ المراحل التي مرّت على العالم الإسلاميّ آنذاك، وهي مرحلة انتقال الخلافة من الأمويين إلى العباسيّين، والتي عاش فيها المسلمون صراعاً عنيفاً انتهى بسقوط العهد الأمويّ وبداية العهد العباسيّ، والإمام الباقر(ع) هو الذي استطاع أن يغني الواقع الإسلاميّ في العمق والامتداد، ذلك أنَّ الظروف السياسيّة، كانت بين وقت وآخر تضغط على هذا الإمام أو ذاك، فتمنعه من أن يبلّغ رسالته كاملةً غير منقوصة، بفعل الاضطهاد الجسدي والمعنوي ومصادرة الحريّات وما إلى ذلك، ما منع بعض الأئمة من أن يزيدوا في عطائهم الإسلامي في ما يتضمنه الإسلام من عقائد وقضايا ومفاهيم ومناهج ووسائل وأهداف، فلقد كانت مشكلتهم مع أكثر من حاكم في تلك المراحل، هي أنَّ هؤلاء الحاكمين كانوا يعرفون ما يملكه أئمة أهل البيت(ع) من غنى الفكر والروح والحركة مما لو اطّلع الناس عليه لأقبلوا عليهم كما يُقبل الظامىء على الماء، والرواية التي يذكرها المفيد في الإرشاد توضح هذا المعنى، فقد قال: "حجَّ هشام بن عبد الملك، فدخل المسجد الحرام متكئاً على يد سالم مولاه، ومحمد (الباقر) بن علي بن الحسين(ع) جالسٌ في المسجد، فقال له سالم مولاه: يا أمير المؤمنين، هذا محمد بن عليّ، قال هشام: المفتونُ به أهلُ العراق؟"(1). وهذه الرواية تظهر لنا كم كان المسلمون يلجأون إلى أهل البيت(ع) في قضاياهم العقائدية والاجتماعية والفقهية، وكم كان الحكام يحاصرونهم ويصدّونهم عن التحرّك في تبليغ ما أمر الله تعالى. فالحكّام يمنعون الإنسان من أن يفكّر بحريّة، ويمنعون المفكّر من أن يعلن عن فكره بحريّة، فهم يحاصرون الحريّة لأنّهم يخافون منها ومن الفكر عندما يعبّر عن نفسه في مستوى قضايا الناس في العدالة والقوّة وما إلى ذلك...
ولقد عاش الإمام الباقر(ع) في أواخر الحكم الأمويّ، وكان الأمويون في صراعهم مع العباسيين مشغولين عنه من أجل الحفاظ على ملكهم، كما انشغل العباسيون عن ابنه الإمام الصادق(ع) من أجل تأسيس ملكهم. ولذلك اندفع الإمامان الباقر والصادق(ع) ليغنيا الساحة الإسلامية بما وهبهما الله من علم، وعلمهما هو من علم رسول الله(ص). فالله أعطى رسوله(ص) علم ما أراد أن يبلّغه مما يحتاجه الناس، والأئمة(ع) أخذوا من رسول الله(ص) ذلك كلَّه..
وفي تلك الفترة، كان الإمام الباقر(ع) ومعه ولده الإمام جعفر الصادق(ع) ، يتحرّكان في مدرسة مفتوحة على الواقع الإسلامي كلِّه، فبالرغم من أنّهما كانا يمثّلان في موقعهما المميّز عنواناً مذهبياً في ما يعتقده الكثيرون من المسلمين بأنَّهما إمامان في موقع الوصاية من رسول الله(ص)، لكنهما في مدرستهما الواسعة التي بدأها الإمام الباقر(ع) ، كانا منفتحين على الواقع الإسلامي كلِّه، فنرى أنَّ مختلف العلماء ممّن يلتزمون اجتهاداً معيّناً، سواء أكان ذلك في خطِّ المذهبيّة الكلامية مما يختلف فيه الناس في علم الكلام، أو المذهبيّة الفقهيّة مما يتنوّع فيه الناس في مذاهبهم الفقهية، أو في بعض حركيّة المفاهيم في الواقع الاجتماعي الذي كان يعيشه الناس، نرى أن كلَّ هؤلاء العلماء كانوا تلامذة هاتين المدرستين اللتين ليستا إلا مدرسة الإسلام.
معالم المدرسة المعصومة
لقد كانت مدرسة الإمام الباقر(ع) مدرسة منفتحةً على المسلمين كلِّهم، فلا تضيق بفكر يختلف عن فكرها، ولا تتعقّد من أيِّ سؤال، بل تتلقّى كلَّ ذلك بصدر رحب، وتناقش في شتى الموضوعات من دون أيِّ حرج.. ومن هنا كانت قيمة مدرسة الإمام الباقر(ع) ، أنَّها ضمّت مختلف المذاهب والاتجاهات المذهبيّة، فنحن نجد أنَّ الطبري في تاريخه يسند الكثير مما ينقله في هذا التاريخ إلى الإمام محمد الباقر(ع) ، لأنَّه(ع) كان يشارك في حركيّة الواقع، فينقل الطبري في تاريخه(2) أنَّ ملك الروم في عهد الدولة الأموية هدّد عبد الملك بن مروان بعدما أراد هذا الأخير تبديل العملة، وكانت العملة المتداولة آنذاك هي الرومية، فأرسل إليه ملك الروم أنَّك إذا بدّلتها فسأصدر عملةً أذكر فيها سبَّ نبيّكم، وأطلق هذا التهديد في وجهه، واحتار عبد الملك، فكيف يمكن له أن يتراجع عن موقفه الذي يُضعف موقف الدولة، وإذا تراجع، فإنَّ عملة سيصدرها ملك الروم سيُنقش فيها سبّ النبيّ(ص)، فأشير عليه أن يرسل إلى الإمام محمد الباقر ليستقدمه إلى الشام، وإعطاء الرأي في الإصرار على إصدار عملة إسلاميّة، وهكذا كان .. فعندما أتاه(ع) بيّن له ما يُكتب فيها، وقال: "تدعو في هذه الساعة بصنّاع، فيضربون بين يديك سِككاً للدراهم والدنانير، وتجعل النقش صورة التوحيد وذِكرَ رسول الله(ص)، أحدهما في وجه الدرهم والآخر في الوجه الثاني، وتجعل في مدار الدرهم والدينار ذكرَ البلد الذي يُضرَب فيه والسنَة التي يُضرَب فيها"، وطلب إليه أن يُلزم المسلمين آنذاك باستعمال هذه العملة، وألا يستعملوا عملة ملك الروم تحت طائلة العقوبة، وعندما أدرك ملك الروم إصرار الدولة على ذلك ألغى قراره، وبذلك أنقذ الإمام الباقر(ع) الواقع الإسلامي من أزمة حقيقيّة.
من هنا، عندما ندرس هذا التراث الكبير الذي تركه الإمام الباقر(ع) وولده الإمام الصادق(ع)، فإنّنا نلتقي بالآفاق الفلسفيّة في حركة العقيدة الإسلاميّة، ونلتقي بالآفاق الفقهيّة من خلال الانفتاح على الشريعة الإسلاميّة، ونلتقي بالقِيَم الإسلامية المتحرّكة في السلوك والعلاقات والمواقف، وفي الأوضاع الداخلية التي يعيشها الإنسان مع ربِّه ومع الإنسان الآخر. ويروي الشيخ المفيد في الإرشاد: "وكان أبو جعفر محمد بن عليّ بن الحسين(ع) من بين إخوته خليفة أبيه عليِّ بن الحسين ووصيَّه والقائم بالإمامة من بعده، وبرز على جماعتهم بالفضل في العلم والزهد والسؤدد، وكان أنبههم ذكراً وأجلّهم في العامة والخاصة وأعظمهم قدراً، ولم يظهر عن أحد من وُلد الحسن والحسين(ع) من علم الدين والآثار والسّنّة وعلم القرآن والسيرة وفنون الآداب ما ظهر على أبي جعفر(ع)، وروى عنه معالمَ الدين بقايا الصحابة ووجوه التابعين ورؤساء فقهاء المسلمين، وصار بالفضل به عَلَماً لأهله تُضْرَبُ به الأمثال وتسير بوصفه الآثار والأشعار"
الإعلام الملتزم في مواجهة الظالمين
ونجد في تراثه(ع) كيف كان يحرّك الإعلامَ الشعريَّ في تلك المرحلة الأمويّة من خلال شاعر معروف آنذاك وهو (الكميت بن زيد)، الذي عُرِف بحبه وولائه لأهل البيت(ع)، فدفع ثمن هذا الحب سجناً وتشريداً وشهادة... فقد حرص هذا الشاعر وبإيحاء من الإمام الباقر(ع) ، على أن يدعو في شعره إلى إسقاط الحكم الأمويّ، وقد حفلت "الهاشميات" بذكر فضائل أهل البيت(ع) والتحريض على النظام الأمويّ، فنراه ينشد في أهل البيت(ع):
فهم الأقربون من كلّ خيــر وهم الأبعدون من كلّ ذام
وهم الأوفون بالناس في الـرأ فة والأحلمون في الأحلام
بسطوا أيدي النوال وكفّـوا أيدي البغي عنهم والعرام
أخذوا القصد فاستقاموا عليه حين مالت زوامل الآثام
أسرة الصادق الحديث أبي القا سم فرع القدامى القدام
ويقدح بالأمويين الذين عطّلوا أحكام الله، ففي اللاميّة من "هاشمياته"، يتحدث عما حلَّ بأهل البيت(ع) من التنكيل والإرهاب، فيقول في مطلعها:
ألا هل عـمّ في رأيـه متأمـل وهل مدبر بعد الإساءة مقبـلُ
وهل أمّةٌ مستيقظون لرشـدهم فيكشف عنه النعسة المتزمـلُ
وعُطّلت الأحكام حتـى كأننا على ملّة غير التـي نتنحّـلُ
كلام الهداة النبييـن كلامنـا وأفعال أهل الجاهليـة نفعـل
رضينا بدينا لا نريـد فراقـها على أننا نموت فيهـا ونقتـلُ
ونحن بها مستمسكـون كأنّهـا لنـا ممـا نخـاف ونعـقـلُ
فتلك أمور الناس أضحت كأنّها أمور مضيع آثر النـوم بهّـل
فيا ساسة هاتوا لنا من حديثكم ففيكم لعمري ذو أفانين مقول
أأهل كتاب نحن فيـه وأنتـم على الحق نقضي بالكتاب ونعدل
ولما سمع الإمام الباقر(ع) بذلك، جعل يدعو للكميت قائلاً: "اللهم اغفر للكميت"(3).
عقلٌ منفتحٌ على الله
إننا نرى من خلال هذه الثروة في عقل هذا الإمام الكبير، عقلاً ينفتح على الله من خلال الألطاف التي أغدقها الله عليه، ونرى فيه ثقافة معصومةً واسعةً منفتحةً على كلِّ الواقع الإسلامي في كلِّ المشاكل التي أحاطت بالواقع، وفي كلِّ التحديات التي قفزت لتطبق على الواقع الإسلامي... لقد كانت كلمته متحرّكة في كلِّ المجالات. ومن هنا نأخذ الدرس من حياة هؤلاء الأئمة(ع) ، ذلك أنهم كانوا يحدّقون بكل ما يحدث في واقع الإسلام والمسلمين من قضايا تتصل بالسياسة والثقافة والاجتماع وحركة الإنسان في كلِّ قضاياه الخاصة والعامة، لنعرف أنَّ علينا أن نسير في هذا الخطّ، وألا نكون منعزلين عن الواقع كلِّه، فأن تكون الإنسانَ المسلم، يعني أن يكون همُّك العقليُّ والعاطفيّ والروحيّ والحركيّ همَّ الإسلام والمسلمين، وهذا ما يترجمه قول أبي عبد الله(ع): "من لم يهتمّ بأمور المسلمين فليس بمسلم"، وهذه هي الملامح العامة لما نتمثّله من حياة الإمام الباقر(ع) ، في ما نستنطقه من مفردات هذه الحياة. لقد ملأ(ع) الحياة الإسلامية في مرحلته علماً، حتى أنَّ معاصريه ومَنْ جاء بعدهم ممن لا يدينون بإمامته ولا يلتزمون خطَّ التشيّع لأهل البيت(ع) ، تحدّثوا عنه بما لا يُتحدّث إلا عن الكبار الكبار من الرجال.
وروى المفيد أيضاً في الإرشاد(4): "وجاءت الأخبار أنَّ نافع بن الأزرق (الخارجيّ) جاء إلى محمد بن عليّ(ع) فجلس بين يديه، فسأله عن مسائل في الحلال والحرام، فقال له أبو جعفر(ع) في عُرْض كلامه: "قل لهذه المارقة ـ يقصد الخوارج ـ بمَ استحللتم فراق أمير المؤمنين(ع) وقد سفكتم دماءَكم بين يديه في طاعته والقربة إلى الله بنصرته؟ فسيقولون لك: إنَّه حكَّم في دين الله، فقل لهم: قد حكّم اللهُ تعالى في شريعة نبيّه(ع) رجلين من خلقه، فقال تعالى: {فابعَثُوا حَكَماً من أهلِهِ وحَكَماً مِنْ أهلِهَا إنْ يُريدا إصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما} [النساء:35]، حكَّم رسول الله(ص) سعدَ بن معاذ في بني قُريظة، فحكم فيهم بما أمضاه الله، أوَما علمتم أنَّ أميرَ المؤمنين(ع) إنَّما أمر الحكمين أن يحكُما بالقرآن ولا يتعدَّياه، واشترط ردَّ ما خالف القرآن من أحكام الرجال، وقال حين قالوا له: حكّمت على نفسك مَنْ حَكَم عليك، فقال: ما حكّمت مخلوقاً، وإنَّما حكّمتُ كتاب الله. فأين تجدُ المارقةُ تضليلَ مَنْ أمرَ بالحكم بالقرآن واشترط ردَّ ما خالفه؟ لولا ارتكابهم في بدعتهم البهتانَ". فقال نافع بن الأزرق: "هذا كلامٌ ما مرَّ بسمعي قطُّ، ولا خطر مني ببال، وهو الحقُّ إن شاء الله".
ونقرأ في كتاب الصواعق المحرقة لابن حجر وهو يتحدّث عن الإمام الباقر(ع) يقول: "سُمِّي بذلك الباقر من بَقَرَ الأرض، أي شقَّها وأثار مخبآتها ومكامنها، كذلك هو أظهرَ من مخبآت كنوز المعارف وحقائق الأحكام والحكم واللطائف ما لا يُحصى إلا على مطمس البصيرة أو فاسد الطويّة، ومن ثَمَّ قيل فيه هو باقر العلم وجامعه وشاهر علمه ورافعه".
ويقول صاحب المناقب ابن شهرآشوب: يقال لم يظهر عن أحد من وُلد الحسن والحسين(ع) من العلوم ما ظهر منه في التفسير والكلام والفتيا والحلال والحرام.
وقال محمد بن مسلم أحد الذين رووا عنه: لقد سألته عن ثلاثين ألف حديث. وعن عبد الله بن عطاء المكّي قال: "ما رأيت العلماء عند أحد قطّ أصغر منهم عند أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين(ع)، ولقد رأيت الحكم بن عُتيبة مع جلالته في القوم بين يديه كأنَّه صبيٌّ بين يدي معلّمه"(5).
وعندما ندرس الأسماء الكبيرة التي عاشت في عصره، وكانت تمثّل رموز الثقافة الإسلامية في ذلك العصر، فإننا نرى كلَّ هؤلاء تتلمذوا على يديه ورووا عنه، وكانوا يأتون إليه وهم مختلفون في مذاهبهم واتجاهاتهم وأفكارهم، فيجدون لديه الصدر الرحب والأفق الواسع والعلم الغزير والمعرفة الشاملة، فينطلقون وقد شعروا بالاكتفاء.. وما سأله أحدٌ عن مسألة إلا وأجاب(ع) عنها، في أيِّ شأنٍ من شؤون المعرفة الإسلاميّة.
"وروى العلماء: أنَّ عمرو بن عبيد وفد على محمد بن عليّ بن الحسين(ع) ليمتحنه بالسؤال، فقال له: جُعلت فداك، ما معنى قوله عزّ اسمه: {أوَلم يرَ الذين كفروا أنَّ السّموات والأرضَ كانتا رَتْقاً ففتقناهما} [الأنبياء:30]، ما هذا الرتق والفتق؟ قال له أبو جعفر(ع): كانت السماء رتقاً لا تُنْزِل القَطْر، وكانت الأرض رتقاً لا تُخرج النبات، فانقطع عمروٌ ولم يحدث اعتراضاً... ومضى ثم عاد إليه فقال له: خبّرني جُعلت فداك عن قوله جلَّ ذكره: {ومَنْ يَحْلِلْ عليه غَضَبي فَقَد هَوَى} [طه:81] ما غضبُ الله؟ فقال أبو جعفر(ع) : غَضَبُ الله عقابُه يا عمرو، ومَنْ ظنَّ أنَّ اللهَ يُغَيِّره شيءٌ فقد كفر"(6).
وكان من أسلوبه(ع) أنَّه كان يطلب من الرواة الذين يروون عنه إذا حدّثهم عن شيء أن يسألوه ما مصدره، وأن يتعرّفوا منه ما هو أساسه في القران، لأنَّه كان يقول إنَّه لا يحدّثهم إلا من خلال القران. فالقران أساس العلم لديه ومصدر المعرفة عنده... وهذا ما ثبّت دعائمه من بعده الإمامُ الصادق(ع)، حيث يقول: "ما جاءك من روايةٍ من برٍّ أو فاجر يوافق القرآن فخذ به، وما جاءك من رواية من برٍّ أو فاجر يخالف القرآن فلا تأخذ به"(7)، وهذا الموضوع سنعود إليه بإذن الله في الحديث عن الإمام الصادق(ع) .
الوقوف عند الشبهات
لقد حذّر الإمام الباقر(ع) من أنَّك عندما تروي حديثاً، ولا سيما إذا كان هذا الحديث له صلةٌ بعقيدتك وبمسؤوليتك الشرعية، فيقول: "الوقوف عند الشبهة خير من الإقتحام في الهلكة ـ فإذا كانت هناك حالةٌ يشتبه فيها الأمر عليك ولا تملك من خلالها وضوحاً في معرفة الخير والشرّ أو الفساد أو الحقّ والباطل، فإنَّ عليك أن تقف لتبحث وتسأل ولتتثبّت ولتحرك التجربة، لتعرف الحقيقة التي تضيء الموقف كلّه، لأنَّك إذا تحرّكت في الشبهة من دون أن تعرف إلى أين وفي أيِّ مجال تتحرّك، فقد تنتظرك الهَلْكَة التي قد تقع فيها وأنت لا تعلم ـ وتركك حديثاً لم تروه خيرٌ من روايتك حديثاً لم تحصه"(8)، فإذا أردت أن تقدّم حديثاً، فإنَّ عليك أن تعرفه وتحفظ عناصره كلّها، لتكون دقيقاً في نقله، واعياً لمفاهيمه وعناصره، وذلك خيرٌ من أن تنقله كيفما اتفق.
تأكيدٌ على الصدق
كان(ع) يريد للناس أن يكونوا الصادقين، كما كان يريد للمحدِّثين الذين كانوا يقصدونه ليرووا الحديث عنه، أن يَصْدُقوا في ما ينقلونه، وألا يكذبوا انطلاقاً من شهوة للفكرة التي يكذبون فيها، أو من خلال عقدة، أو لأنهم يرون أنَّ الناس يرتاحون للكذب، كما يكذب البعض ممن هم في مواقع إرشادية تبليغيّة عندما ينقلون أحاديث ليس لها أيُّ أساس من الحقّ، لا لشيء، إلاَّ لأنَّ الناس تحب "الكذبة" في ما تحبه وفي ما تبغضه. ومن هنا، فقد كثُر الكذّابة على رسول الله(ص) وعلى أئمة أهل البيت(ع) .
فعن عمرو بن أبي المقدام، قال: "قال لي أبو جعفر(ع) في أول دخلة دخلت عليه: "تعلّموا الصدق قبل الحديث"(9): فقبل أن تصبح فقيهاً أو خطيباً أو واعظاً أو مبلّغاً أو سياسيّاً أو شخصية اجتماعية في حركة المجتمع، تعلّم أن تكون صادقاً، حتى تعطي الناس الصدق، لأنَّك عندما تملك موقعاً يحترمه الناس، فإنَّ خطورتك عندما تكون كاذباً أخطر، لأنَّ كذبك سوف يكون "محترماً" عندهم، فيكون الفكرَ الذي يفكّرون فيه والحياة التي يحيونها.
وهكذا كان أئمتنا(ع) ينطلقون في كلِّ معرفتهم وكلِّ علمهم من القرآن الكريم، لأنَّ القرآن هو النور الذي أراد الله للناس أن يستضيئوا به، ليتعرّفوا من خلاله على شؤون دينهم ودنياهم ، على أساس الخطوط العامة التي يرسمها القرآن للحياة وللإنسانية في الحياة.
استيحاء القرآن
وقد دعا الإمام الباقر(ع) إلى استيحاء الجانب المعنوي في القرآن من الجانب المادي، فنحن نقرأ في قوله تعالى: {فلينظر الإنسانُ إلى طعامه* أنَّا صببنا الماءَ صبّاً* ثُمَّ شقَقنا الأرضَ شقّاً} [عبس:24ـ26]، فالله تعالى هنا يتحدّث عن الطعام الذي نتغذّى به، وقد تحدّث عن الزيتون والنخل والعنب والرمان، وما إلى ذلك... وفي الرواية عن أحد أصحابه ، ويدعى زيد الشحّام، سأله عن قول الله عزَّ وجلّ {فلينظر الإنسان إلى طعامه} قال: قلت: ما طعامه؟ قال: "علمه الذي يأخذه ممن يأخذه"(10).
فالآية تتحدّث عن طعام الجسد في ظاهرها، والإمام يتحدّث عن طعام العقل والروح، فكأنَّه يقول، إذا امتنَّ الله عليك بهذا الغذاء الذي يبني جسدك مما هيّأه لك في زراعة الأرض، فعليك أن تفكّر في أنَّ الله يمتنّ عليك بما ينمّي عقلك وروحك وإحساسك وشعورك، وكما أنَّك تهتمّ بأخذ طعامك ممن تأمنه على نظافته وعلى ما فيه من غنى غذائي، فعليك أن تهتم أيضاً في أن تأخذ ممن تأمنه على طعامك الثقافي والروحيّ، بل ربما يكون هذا أخطر من ذاك، لأنَّ ذلك قد يخلق لك مرضاً تداويه، أما هذا، فقد يخلق لك انحرافاً وضلالاً لا تملك دواءه.
وفي صفة علم الإمام الباقر(ع) يقول الشيخ المفيد: "وقد روى أبو جعفر(ع) أخبار المبتدأ ـ يعني ابتداء خلق العالم ـ وأخبار الأنبياء، وكتب عنه الناس المغازي، وآثروا عنه السُّنن، واعتمدوا عليه في مناسك الحج التي رواها عن رسول الله(ص)، وكتبوا عنه تفسير القرآن، وروت عنه الخاصة والعامة الأخبار، وناظر من كان يَرِد عليه من أهل الآراء، وحفظ الناس عنه الكثير من علم الكلام"(11).
نهج للحياة
يحدّث عنه أحد معاصريه، واسمه محمد بن المنكدر، وهو من الصوفيّة الذين كان التصوّف عندهم ينطلق من أسلوب إهمال الدنيا بكلِّ أنشطتها وحركتها ومسؤوليتها، ليكون الزهد عندهم طعاماً يحرمون أنفسهم منه، ولباساً يحرمون أنفسهم من زينته، ويعيشون الحياة عبادة مجرّدة ليس فيها أيّة نافذة تطلّ على مسؤولية الإنسان في الحياة، فيقول: "ما كنتُ أرى أنَّ مثلَ عليِّ بن الحسين يَدَعُ خلفاً لفضل عليِّ بن الحسين حتى رأيت ابنه محمد بن عليّ، فأردت أن أعظه فوعظني... فقال له أصحابه: بأيِّ شيءٍ وعظك؟
قال: خرجت إلى بعض نواحي المدينة في ساعة حارّة، فلقيت محمد بن علي، وكان رجلاً بديناً ممتلىء الجسم، وهو متكىء على غلامين له أسودين، فقلتُ في نفسي: شيخٌ من شيوخ قريش في هذه الساعة على هذه الحال في طلب الدنيا، أشهد لأعظنّه ـ لأنّ الإمام في ما يبدو من هيئته كان يعمل في بعض أرضه، لأنّ الأئمة(ع) كانوا يفلحون ويزرعون أراضيهم بأيديهم ولا يستنكرون هذا، مع علوّ مقامهم وهيبتهم ومركزهم ـ فدنوت منه فسلّمت عليه، فسلّم عليّ بِبُهْر ـ أي بتتابع نفس من شدّة الإجهاد ـوقد تصبّب عرقاً، فقلت: أصلحك الله، شيخٌ من أشياخ قريش في هذه السّاعة على مثل هذه الحال في طلب الدنيا، لو جاءك الموت وأنت على هذه الحال؟
قال: فخلّى عن الغلامين من يده، ثم تساند وقال: لو جاءني واللهِ الموت وأنا في هذه الحال، جاءني وأنا في طاعة من طاعات الله، أكفُّ بها نفسي عنك وعن الناس، وإنَّما كنتُ أخاف الموت لو جاءني وأنا على معصية من معاصي الله"(12).
إنَّ هذا الإنسان يتصوّر أنَّ مسألة طاعة الله تعني أن يتخلّى الإنسان عن مسؤوليته في طلب الرزق الحلال، وأنّ الإنسان الذي يعبد الله ويخدمه غيره ويكون كلاً على الناس، هو المطيع لله، لكنّ الإمام(ع) أراد أن يفهمه أنَّ مسألة طاعة الله لا تختصّ فقط بعبادة تتمثّل في صلاة وصيام وحجٍّ، ولكنّ طاعة الله تتمثّل في أن يقوم الإنسان بمسؤولياته التي كلّفه الله بها في الحياة، فلا يريد له سبحانه أن يكون بطّالاً لا شغل له إلاَّ الصلاة والصيام، يترك أولاده يجوعون ويظمأون ويعرون، ولا يعمل أيَّ شيء في سبيل سدِّ حاجاتهم... إنَّ الله لا يريد للإنسان أن يكون بطّالاً حتى ولو كان يعبد الله في بطالته..
فالعبادة إذاً في الإسلام لا تقتصر على الصلاة والصوم، ولكنَّ العبادة تنطلق في كلِّ عمل يريد الله أن نعمله، سواء كان يتعلّق بمسؤوليتنا الشخصيّة في بيتنا أو في عائلتنا، أو بمسؤولياتنا الاجتماعية في مجتمعنا، أو بمسؤوليتنا السياسية في أمتنا. إنَّ أيّة مسؤولية نقوم بها مما يرضاها الله، ومما حمّلنا الله إيّاها هي عبادة.
ومع انشغالات الإمام الباقر(ع) بقضايا الأمة على كل المستويات، لم ينشغل(ع) أبداً عن ذكر الله تعالى، فقد جاء في كتاب (أعيان الشيعة) للسيد محسن الأمين (رحمه الله): "ويذكر المؤرخون أنَّه كان دائم الذكر لله، وكان لسانه يلهج بذكر الله في أكثر أوقاته، فكان يمشي ويذكر الله، ويحدّث القوم وما يشغله ذلك عن ذكره تعالى، وكان يجمع وُلده ويأمُرهم بذكر الله حتى تطلع الشمس، كما كان يأمرهم بقراءة القران، ومَنْ لا يقرأ منهم أمره بذكر الله"(13).
* * * *
المصادر
(1) الإرشاد، طبعة بيروت، ص:163.
(2) راجع المجاسن والأضداد للبيهقي 1/31، وحياة الحيوان للدميري 1/64.
(3) أخبار شعراء الشيعة للمرزباني، ص:72.
(4) الإرشاد، ص:164، طبعة بيروت.
(5) بحار الأنوار، ج:46، ص:286.
(6) الإرشاد، ص:165، طبعة بيروت، وأخرجه الصدوق في التوحيد 168/1، والطبرسي في الاحتجاج 326.
(7) الكافي، ج:1، ص:101.
(8) المصدر نفسه.
(9) بحار الأنوار، ج:2، ص:244.
(10)المصدر السابق.
(11)الإرشاد، ص:163.
(12)الإرشاد، ص:161.
(13)نقلاً عن الكافي، ج:2، ص:104.