في هذا اللّقاء، نتحدَّث عن أحد أئمَّة الإسلام، وهو الإمام محمد بن عليّ الباقر(ع)، ونحن عندما نريد أن نستعيد ذكرى أيّة شخصيَّة إسلاميَّة قياديَّة عاشت مرحلتها وعصرها، فأغنت الواقع الإسلامي كلّه، وأجابت عن الكثير من الأسئلة التي قد تكون جواباً عن أكثر من سؤال معاصر، فلأننا عندما نعيش مع الشخصيات الفكرية في تاريخنا، ولا سيّما الّتي تمثّل إمامة إسلامية منفتحة على واقع المسؤوليّة في إغناء المعرفة الإسلامية وملاحقة القضايا الفكرية التي تمثل تحديات الفكر آنذاك، فإننا لا نتحدث عن ماضٍ، ولكننا نتحدث عن حركة الإسلام في الحياة، لأنّ المفاهيم الإسلامية لا تُعالج مرحلة معيّنة، بل تعالج الحياة كلّها.
قيمة مدرسة الباقر(ع)
والإمام الباقر(ع) هو الإمام الخامس من أئمة أهل البيت(ع)، وقد تعلّم في مدرسته علماء كثيرون، وكانت مرحلته من أشدّ المراحل التي مرّت على العالم الإسلامي آنذاك، وهي مرحلة انتقال الخلافة من الأمويين إلى العباسيين، والتي عاش فيها المسلمون صراعاً عنيفاً انتهى بسقوط العهد الأموي وبداية العهد العباسي.
ففي تلك الفترة، كان الإمام الباقر(ع)، ومعه ولده الإمام جعفر الصّادق(ع)، يتحركان في مدرسة مفتوحة على الواقع الإسلامي كله، فبالرغم من أنهما كانا يمثلان في موقعهما المميّز عنواناً مذهبيّاً فيما يعتقده الكثير من المسلمين بأنهما إمامان في موقع الوصاية عن رسول الله(ص)، لكنهما في مدرستهما الواسعة التي بدأها الإمام الباقر(ع)، كانا منفتحين على الواقع الإسلامي كله، فنرى أن مختلف العلماء ممن يلتزمون اجتهاداً معيناً أو يتبنّون مذهباً معيناً، سواء كان ذلك في خطّ المذهبية الكلامية مما يختلف فيه الناس في علم الكلام، أو المذهبية الفقهية مما يتنوّع فيه الناس في مذاهبهم الفقهية، أو في بعض حركية المفاهيم في الواقع الاجتماعي الذي كان يعيشه الناس، نرى أنهم كانوا تلامذة هاتين المدرستين اللتين هما مدرسة الإسلام.
ولقد كانت مدرسة الإمام الباقر(ع) مدرسة منفتحة على المسلمين كلّهم، فلا تضيق بفكر يختلف عن فكرها، ولا تتعقّد من أي سؤال، ولا تحجب أحداً عن أي موقع من المواقع، ونحن عندما ندرس تلك المرحلة، فإننا نأخذ الدرس الإسلامي الوحدوي في المسألة الثقافية، بحيث يمكننا أن نوسّع الساحة الإسلامية بعيداً عن حساسياتها وعن تعقيداتها وعن اختلافاتها، لينطلق المسلمون مع اختلاف أفكارهم، ليلتقوا في مدرسة واحدة، يطرح فيها كلّ واحد فكره من دون أيّ تعقيد.. فما دام الخلاف في تحديد ما هو الإسلام في العقيدة، وما هو الإسلام في الشريعة، وما هو الإسلام في المفاهيم، ما دامت المسألة هي في اكتشاف الحقيقة الإسلامية من الكتاب أو السنّة، فلماذا يحمل المسلم في داخل نفسه حقداً على المسلم الآخر؟!
إنّ للمسلمين اجتهاداتهم، و"للمجتهد أجران إن أصاب، وأجر واحد إن أخطأ"، فلماذا هذه التّعقيدات؟ فقد تخطئ أنت على أساس قاعدة اعتبرتها قاعدةً للحكم، وقد أخطئ أنا، لكن قد يكون خطئي مبرّراً عندي، وقد يكون خطؤك مبرّراً عندك، فلماذا لا تكون المسألة هي أن أحاول أن أدلّك على خطأ هنا، وتدلّني على خطأ هناك.
إن مشكلة الواقع الشرقي كلّه المرتكز على الانفعال والعصبيّة، هي أنّ كلّ واحد منا يدّعي أنه يملك الحقيقة المطلقة، ولكن المسألة الواقعيّة هي أنني أدركت ما أعتقد أنه الحقيقة من خلال المعطيات التي بين يدي وقد لا تكون موجودة عندك، وأنت أدركت الحقيقة في معتقدك من خلال المعطيات التي بين يديك، فالمسألة هي أنه ليست هناك معطيات مطلقة في عالم الحوار، وإن كانت هناك معطيات مطلقة في عالم الواقع يصيبها من أصابها ويخطئها من أخطأها.
حكمة الباقر(ع)
لذلك ـ أيّها الأحبّة ـ كانت قيمة مدرسة الإمام الباقر(ع) أنها ضمّت مختلف المذاهب والاتجاهات الإسلامية، لأن المذهبية لم تكن قد برزت للواقع آنذاك، كما أن الإمام كان منفتحاً في المسألة الثقافية حتى في الجانب التاريخي، فنحن نجد أن (الطبري) في تاريخه، يسند الكثير مما ينقله في هذا التاريخ عن الإمام محمد بن علي الباقر(ع)، وكان الإمام يشارك في حركية الواقع، حتى إنه ينقل في تاريخه[1]، أنّ ملك الروم هدّد (عبد الملك بن مروان) بعد أن أراد (عبد الملك) تبديل العملة، وكانت العملة المتداولة آنذاك هي الرومية، فأرسل إليه ملك الروم أنك إذا بدّلتها، فسأصدر عملة أذكر فيها سبّ نبيّكم.
وأطلق هذا التهديد في وجهه، وتحيّر (عبد الملك) كيف يمكن له أن يتراجع عن موقفه الذي يضعف موقف الدولة، وإذا لم يتراجع، فسيصدر ملك الروم عملةً ينقش فيها سبّ النبي(ص)، فأشير عليه أن يرسل إلى الإمام محمد الباقر(ع) ليستقدمه إلى الشام، وقدم عليه، وأعطى الرأي في الإصرار على إصدار عملة إسلامية، وبيّن له ما يكتب فيها، وطلب إليه أن يلزم المسلمين آنذاك باستعمال هذه العملة، وأن لا يستعلموا عملة ملك الروم تحت طائلة العقوبة، وهكذا حدث، وعندما قيل لملك الروم: لماذا لم تنفّذ تهديدك؟ قال: إن معنى ذلك أنّ العملة التي سوف نصدرها على أساس التهديد، سوف نستعملها نحن بعد أن منع المسلمون من تداول عملتنا، وبهذا أنقذ الإمام الباقر(ع) الواقع الإسلامي من ورطة وأزمة حقيقية، بل كان يشارك حتى في القضايا التي تتصل بالواقع الإسلامي في مثل هذه الجوانب.
ونحن ـ أيها الأحبة ـ نريد في هذا اللقاء أن نتحدَّث عن بعض كلماته التي كان يثيرها أمام الناس في مختلف جوانب المعرفة، لأننا نرى أنَّ الارتباط بنبينا(ص) وبأئمّتنا(ع)، لا بد من أن يكون ارتباطاً ثقافياً روحياً، ولا يكفي أن يكون ارتباطاً عاطفياً ولائياً، لأنَّ الارتباط العاطفي يجعلك تعيش مع هذه الشخصيات المقدّسة في نبضات قلبك، أما الارتباط الثّقافي الرّوحيّ، فإنه يجعلك تعيش مع هؤلاء في حركة عقلك، وفي تخطيط طريقك، وفي كلّ حيويّة نشاطك في الواقع.
فالمطلوب في حركة الناس مع رموز العقيدة الإسلاميّة، هو أن يعيشوا فكرهم كلّه، لا أن يبقوا عندنا مجرد دمعة نسيلها، أو فرحة نطلقها في مولد هنا، وحزن في وفاة هناك، لأنهم حدّثونا عن الإسلام في عقائده، فلا بدَّ من أن تكون أحاديثهم أحاديث العقيدة عندنا، وحدثونا عن الإسلام في شرائعهم، فلا بدّ من أن تكون أحاديثهم هي أحاديث الشّرائع عندنا، حتى يكونوا حاضرين معنا حضور الإسلام الَّذي جاهدوا من أجله في المجالات كلّها، ولكي لا يكونوا مجرّد شخصيات في التاريخ نحترمها، بل أن يكونوا شخصيات الحياة المتحركة مع كلّ جيل يتبعها.
روحيّة طلب العلم
فهناك كلمات تحدّث فيها الإمام(ع) في إطار العلم، ما هي الروحيّة التي ينبغي للمتعلّم أن يعيشها لغاية العلم في نفسه؟ لأنّ هناك من يطلب العلم من أجل أن يخدم العلم شخصه في معنى الجاه وفي معنى الكسب المادّي، وهناك من يطلب العلم ليستعرض عضلاته العلميّة في مواجهة الناس لتأكيد ذاته، وهناك من يطلب العلم من أجل أن ينير ذاته في معرفة الحقيقة، وأن ينير في العلم مجتمعه في إضاءة قضاياه كلّها بالحقيقة.
يقول(ع): "من طلب العلم ليباهي به العلماء"، يعني أن يصير عالماً يفاخر العلماء بعلمه، "أو يماري به السفهاء"، يجادلهم، "أو يصرف به وجوه الناس إليه"، حتى يصبح شخصية علمية، بحيث يتوجّه الناس إليه من أجل أن يعظّموه وأن يحترموه وأن يمنحوه الامتيازات التي يريدها لنفسه، بحيث يعيش الشخصية الطاووسية في داخل ذاته وفي حركته في الواقع، "فليتبوّأ مقعده من النار"[2]، لأنه يطلب العلم للشيطان، ولا يطلبه لله.
وفي حديثٍ آخر، يعرّفنا(ع) كيف نستوعب العلم عندما نستمع إليه في أيّ خطٍّ من خطوطه، كيف نستوعبه، وكيف نهضمه، وكيف نحوّله إلى فكر يحكم تطوراتنا الثقافية كلها، والتزاماتنا العلمية كلها، وانتماءاتنا الحركية كلها. يقول أحد الرواة (محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى) عن أبيه، قال: سمعت أبا جعفر(ع) ـ وهذه كنية الإمام الباقر(ع) ـ يقول: "إذا سمعتم العلم فاستعملوه"، يعني حوّلوه إلى واقع عملي حركي، بحيث لا يبقى مجرد فكرة في العقل، بل لا بدّ من أن يتحوّل إلى حركة في الواقع، "ولتتّسع قلوبكم"، يعني اجعلوا قلوبكم واسعة، والمراد بقلوبكم هنا هي المنطقة الداخليّة للفكر وللإحساس، "فإنّ العلم إذا كثر في قلب رجل لا يحتمله"، يعني يعجز عن احتماله واحتمال ما يتبعه من العمل، "قدر الشيطان عليه"، لأنه عندما لا ينضج العلم في قلبك، ولا يتحوّل إلى فكرة ثابتة في الذات، فإن من الطبيعي أن يبقى في السطح، وإذا بقي في السّطح وابتعد عن العمق، سيطر الشيطان عليه.
"فإذا خاصمكم الشيطان"، يعني أراد أن يدخل إليكم بوسوسته وبشبهاته، "فأقبلوا عليه بما تعرفون"، يعني حاول أن تكون لديك المعرفة بكلّ ما يثيره الشيطان أمامك، مما يريد أن يوسوس لك لتهتزّ عقيدتك، أو يريد أن يزيّن لك لينحرف طريقك، "فإنّ كيد الشيطان كان ضعيفاً"، يعني لا تعتبر الشيطان قوياً عندما يقتحم عليك عقلك فيما يحمل من فكر، وقلبك فيما يحمل من مشاعر وأحاسيس، وخطّك فيما تستقيم به خطواتك، لا تتصوّر أنَّ الشَّيطان قويّ، ذلك أنَّ مشكلتنا مع الشيطان هي أنه يستغلّ ضعفنا، ويبعدنا عمّا نعرف، ليقودنا إلى ما نهوى.
قوَّة الشيطان في ضعفنا
ولذلك، فإنَّ قوَّة الشّيطان تنطلق من ضعفنا، كما هي الحال الآن في واقعنا السياسيّ في العالم، فليس من الضّروريّ أنَّ أعداءنا من الشّياطين الكبار والصّغار هم أقوى منّا، صحيح أنهم يملكون القوّة، ولكنّهم أقوياء بضعفنا، فإذا قوينا وأخذنا بأسباب القوّة، أمكننا أن نقف أمامهم وجهاً لوجه، ولكنّنا نصنع الضّعف لأنفسنا، ويصنعون القوَّة لأنفسهم، فيسيطرون علينا من خلال سيطرتهم على نقاط الضّعف، فالشّيطان لا يملك الحجَّة، لأنّه ينطلق من الباطل.
فما هي أساليب الشيطان؟ {لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ}[3]، {يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ}[4]، {يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ}[5]، وهو في يوم القيامة يعلن الخطّة التي اتّبعها في الحياة الدّنيا، {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم}[6]، فالشَّيطان يقول لكم إنّني أكذب وحرفتي هي الكذب، وأنا أخدع وأغوي، فأنا كذلك طبيب التّجميل أجمّل القبيح وأقبّح الجميل، فالشَّيطان متخصِّص بالصّورتين معاً، إذ إنّه لا يملك القاعدة ولا الحجَّة، لذلك فإذا تسلّحت بمعرفة الحقيقة وهضمتها، وحوَّلتها إلى جزء من ذاتك الثقافيّة والفكريّة، أمكنك أن تكتشف أسلوب وسوسة الشّيطان، وأمكنك كشف أسلوب اللَّعب على الصّور ومحاولة تغيير الصّورة: "فإذا خاصمكم الشّيطان، فأقبلوا عليه بما تعرفون، فإنّ كيد الشّيطان كان ضعيفاً"، فقلت: وما الّذي نعرفه؟ قال: "خاصموه بما ظهر لكم من قدرة الله عزّ وجلّ"[7]، يعني اعرفوا الله في مواقع قدرته، فإذا أراد أن يثير الوسوسة والشكَّ في الله، حركوا ثقافتكم كلّها فيما تعرفونه من أسرار خلق الله، ومن مواقع قدرته، ووجِّهوها إليه فسيسقط أمامكم.
الحذر من تجهيل النّاس
ثم يدخل الإمام الباقر(ع) في مسألة أنَّ الإنسان يجب عليه أن يقف عند ما يعلم، ولا يحاول أن يتحرَّك أو يتحدَّث بما لا يعلم، لأنّه يفقد القاعدة الثقافيَّة في هذا الموضوع، ويمكن أن يسيء إلى النَّاس الّذين يتحدَّث إليهم عندما يتحدَّث إليهم بالجهل. يقول(ع): "ما علمتم فقولوا، وما لم تعلموا فقولوا: الله أعلم، إنَّ الرَّجل لينتزع بالآية من القرآن"، يعني يحاول أن يفسِّر القرآن، وهو لا يملك ثقافة تفسير الآية، لأنّه لا يعرف عمقها وامتدادها وآفاقها، وإنما يحاول أن يتحدَّث عنها في السَّطح، "إنَّالرّجل لينتزع بالآية من القرآن"، أي يستخرجها ليتحدَّث عنها، "يخرّ فيها أبعد ما بين السّماء"[8]، نتيجة هذا الجهل الذي يسلّطه عليها، فيشوّه صورة الآية بجهله، وبذلك يقدّم للناس تفسيراً يبتعد بهم عن القرآن، ويبتعد بهم عن الله سبحانه وتعالى.
وهذا من الأمور الّتي ربما نعيشها في حياتنا، لأنَّ الكثير من النّاس الَّذين قد يملكون بفعل طبيعة التَّعقيدات الاجتماعيَّة اسماً علميّاً يجعل النّاس يطلبون منهم أن يتحدَّثوا في كلِّ شيء، حتى فيما يجهلونه، ربما يوسوس إليهم الشَّيطان أنهم إذا قالوا عن شيء أنهم لا يعلمونه، وأنَّ هذا ليس من اختصاصي، أو لم أطّلع عليه، أو يحتاج إلى مراجعة، فإنَّ قيمته تسقط، ولذلك فإنهم يحدِّثون النَّاس بما يجهلونه من ذلك، مستغلّين جهلهم، ما يجعل النَّاس لا يكتشفون ذلك. ولعلَّ مشكلتنا في العالم الإسلاميّ كلّه، هي أنَّ الّذين يملكون الجهل كأوسع ما يكون، يحاولون أن يتمثّلوا واقعهم في حياة النّاس، كما لو كانوا علماء في أوسع ما يكون العلم.
مذاكرة العلم
ثم يحاول الإمام الباقر(ع) أن يبيّن لنا أنَّ مسألة العلم لا تقتصر على أن تقرأ وتسمع، لأنَّ قراءة العلم وسماعه مسألة سلبيَّة، فأنت تتلقَّى ما يعطيك الآخرون، وقد لا يتعمَّق العلم عندك بالقراءة وحدها وبالسَّماع وحده، فلا بدَّ لك لكي تعمِّق العلم من أن تذاكره، يعني أن تذاكر العلم مع الّذين يملكون ما تملك، أو أنهم يتعلَّمون ما تتعلّم، لأنّ التّذاكر يجعل فكراً يصطدم بفكر أو ينفتح على فكر، وربما يكون هذا التّذاكر عمليّة تفاعل ذاتيّ مع العلم، ما يجعل العلم يتعمَّق في ذاتك، "تذاكر العلم دراسة، والدّراسة صلاة حسنة"[9]، وهنا يرتفع الإمام بدراسة العلم إلى أن يعتبره صلاة، فأنت حينما تتدارس العلم مع الآخرين، فإنّك تصلّي، أي يصلّي عقلك ليتعبَّد إلى الحقّ، حتى يفيض عليه الحقيقة.
ونحن نعلم أنَّ في العلم حالة ربانيَّة، كما أنَّ فيه حالة بشريّة، لأنَّ الله يفيض على الإنسان الذي يطلب العلم بالحقّ مما لم يطّلع عليه ربما في دراسته، وقد ورد في بعض الأحاديث: "وليس العلم بكثرة التعلّم، إنّما هو نور يقذفه الله في قلب من يريد أن يهديه"[10]، فأنت حينما تتعلّم، فإنّك تضيء شمعةً في عقلك، ولكنَّ الأضواء الّتي تأتي من حالة الرّوح، تجعل عقلك شموعاً كلّه، وقد روينا عن عليّ(ع) أنّه قال: "المال تنقصه النّفقة، والعلم يزكو على الإنفاق"[11]، فكلّما أنفقته أكثر انفتح عليك أفق من العلم أوسع، وهذه مسألة قد تتّصل بجانب الرّوح أكثر مما تتّصل بجانب العقل.
وحتى الآن، لم يستطع الإنسان ـ بالرّغم مما وصل إليه من الاكتشافات ـ أن يدرك جدليَّة العلاقة بين الرّوح والعقل، ذلك أنَّ هناك أشياء تعيشها وتحسّ بها، فتغمرك بشيءٍ يشبه الفيضان في الأحاسيس والمشاعر، ولا تدري كيف جاء هذا وكيف تعمّق ذاك، ولكنَّه شيء قد يلتقي فيه العقل بالرّوح، وتندمج الرّوح بالعقل، فينشأ من ذلك شيء مما تتعلَّمه، وشيء مما تفيض به الرّوح عليك.
استيحاء القرآن
وننطلق إلى دائرةٍ أخرى مما يتحدَّث به الإمام الباقر(ع)، وهو العمل على استيحاء الجانب المادّيّ في القرآن من الجانب المعنويّ، فنحن نقرأ في قوله تعالى: {فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبّاً * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقّاً}[12]، فالله تعالى هنا يتحدَّث عن الطّعام الّذي نتغذَّى به، وقد تحدَّث عن الزّيتون والنّخل والعنب والرمّان وما إلى ذلك، ولكن ـ عن زيد الشحّام ـ عن أبي جعفر في قول الله عزّ وجلّ: {فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ}[13]، قال: قلت: ما طعامه؟ قال: "علمه الّذي يأخذه ممن يأخذه"[14].
فالآية تتحدَّث عن طعام الجسد، والإمام يتحدَّث عن طعام العقل وعن طعام الرّوح، فكأنّه يقول إذا امتنّ الله عليك بهذا الغذاء الَّذي يبني جسدك مما هيَّأه لك في زراعة الأرض، فعليك أن تفكِّر في أنَّ الله يمتنّ عليك بما ينمِّي عقلك وروحك وإحساسك وشعورك، وكما أنَّك تهتمّ بطعامك ممن تأخذه، لتأخذ ممن يؤتمن على نظافة الطّعام، وعلى ما فيه من غنى غذائيّ، فعليك أن تهتمّ أيضاً في من تأخذ منه طعامك الثّقافيّ والرّوحيّ، بل ربما يكون هذا أخطر من ذاك، لأنَّ ذلك قد يخلق لك مرضاً تداويه، أمَّا هذا، فقد يخلق لك انحرافاً وضلالاً لا تملك دواءه.
هذه هي بعض الكلمات الّتي تكلَّم بها الإمام الباقر(ع) فيما يتعلَّق بمسألة العلم.
الوقوف عند الشّبهات
وهناك مسألة تتَّصل بهذا الجانب أيضاً، وهي مسألة الرّواية، أي عندما تروي حديثاً، ولا سيَّما إذا كان هذا الحديث عن مصدرٍ يتَّصل بعقيدتك وبمسؤوليَّتك الشّرعيَّة، قال: "الوقوف عند الشّبهة خير من الاقتحام في الهلكة"، فإذا كانت هناك حالة يشتبه فيها الأمر عليك، فلا تملك وضوحاً في معرفة الخير والشّرّ، أو الصّلاح والفساد، أو الحقّ والباطل، فإنّ عليك أن تقف لتبحث ولتسأل ولتثبت ولتحرّك التّجربة، لتضيء لك تلك الشّبهة، ولتعرف الحقيقة الّتي تضيء الموقف كلّه، لأنّك إذا تحركت في الشّبهة من دون أن تعرف إلى أين وفي أيّ مجال تتحرَّك، فقد تنتظرك الهلكة الّتي قد تقع فيها وأنت لا تعلم، "وتركك حديثاً لم تروِه خير من روايتك حديثاً لم تحصه"[15]، فإذا أردت أن تقدِّم حديثاً، فإنّ عليك أن تعرفه، وأن تحفظ عناصره كلَّها، لتكون دقيقاً في نقله، ولتكون واعياً لمفاهيمه ولعناصره، فذلك خير من أن تنقله كيفما كان.
القرآن هو الأساس
وهناك نقطة أكَّدها الإمام(ع) في شموليَّة الإسلام في كتاب الله وسنَّته، لحاجات الإنسان كلّها، لأنَّ المشكلة ليست هي في أنَّ الله تعالى لم يبيّن للإنسان الخطوط العامّة أو التفصيليّة التي يحتاجها في مواجهته لمشاكله وحاجاته في الحياة، بل المشكلة هي أنَّ النّاس قد لا يفهمون الخطوط العامّة، الّتي لو وعوا طبيعتها وامتداداتها وسعتها، لاستطاعوا أن يكتشفوا الحلّ الإسلاميّ لأية مشكلة طارئة، أو البيان لكلّ سؤال يرتسم في الذّهن، فعن (عمر بن قيس عن أبي جعفر) يقول: "إنَّ الله تبارك وتعالى لم يدع شيئاً تحتاج إليه الأمَّة إلى يوم القيامة، إلا أنزله في كتابه وبيّنه لرسوله، وجعل لكلِّ شيء حدّاً، وجعل عليه دليلاً يدلّ عليه"، سواء كان هذا الدّليل دليلاً من شخص يبيِّنه، أي يملك المعرفة، كالنّبيّ والإمام، أو من تعلّم منهما، أو من خلال أنَّ النصّ يمكن أن يكون دليلاً لتفسير نصٍّ آخر، "وجعل على من تعدَّى الحدّ حدّاً"[16]، ثم يؤكِّد الإمام في هذا المنهج، أنَّ القرآن هو الأساس، حيث يقول: "لا تتَّخذوا من دون الله وليجة"، والوليجة هي خاصَّة الشَّخص ومن يعتمد عليهم، أي لا تتَّخذوا من دون الله معتمداً، "فلا تكونوا مؤمنين"، لأنّ الإيمان هو العمل والامتثال، {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً}[17]، {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}[18]، "فإنّ كلّ سبب ونسب وقرابة ووليجة وبدعة وشبهة منقطع... إلا ما أثبته القرآن"[19].
ومن خلال ذلك، يريدنا الإمام(ع) أن نقرأ القرآن، وأن نتدبَّره، وأن نستوحيه، وأن نستلهمه، وأن لا نجمِّده من خلال تخلّفنا وجهلنا الّذي نعتبره وعياً، وجهلنا الّذي نعتبره علماً، لأنَّ القرآن نور يضيء لنا الطَّريق في ثقافتنا وروحيَّتنا وحركتنا في الحياة.. ولكنَّ المسألة هي كيف نفهم القرآن، وكيف نجعله كتاب الحياة، لنفهمه في حركة الحياة، ولا نجعله كتاب القاموس لنفهمه في مفردات اللّغة؛ إنّه الكتاب الّذي ينفتح على كلّ ما يحقّق للإنسان الخير والسّعادة، وذلك هو درس أهل البيت(ع) وخطّهم القرآني، فالله أوّلاً، ثم القرآن والنّبيّ، ثم الإسلام الّذي يحتوي ذلك كلّه.
أيّها الأحبّة، إنَّ أئمّة أهل البيت(ع) هم الأدلاّء على الله، وهم منار الهدى ونور الحقّ، فافهموهم، لا من خلال دموعكم في حركة المأساة، ولا من خلال مشاعركم في حركة الفرح، فإنهم يريدون منكم أن تعيشوا مأساة ما تتخبّطون به من جهل وتخلّف في فهم الإسلام وفي حركة الواقع، لتخرجوا من هذا الجهل إلى العلم، ومن هذا التخلّف إلى التقدّم، ويريدونكم أن تعيشوا إنسانيّتكم في أن تعترفوا ببعضكم البعض، بأن لا تجعلوا من الاختلاف الفكريّ حقداً وعصبيّة وطائفيّة، وأن لا تجعلوا من التنوّع في الواقع حاجزاً يفصلكم عن بعضكم البعض، فلقد أرادنا تعالى أن نعترف بالتنوّع، ولكنّه أراد لهذا التنوّع أن لا يكون دائرةً مغلقةً ننغلق بها عن الآخر، بل دائرة مفتوحة، {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا}، ليفتح كلّ واحد منكم عقله للآخر، وقلبه للآخر، وطاقته للآخر، وعند ذلك يمكن لكم إذا تعارفتم أن تتعاونوا على فهم الحقيقة، وإذا تعاونتم على فهم الحقيقة، فقد تتعاونون على الارتفاع بالحقيقة في ممارساتكم، {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ}[20]، {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ}[21].
*ندوة الشّام الأسبوعيّة، فكر وثقافة، بتاريخ: 18 رجب 1419هـ/ الموافق: 7 - 11 - 1998م.
[1] راجع: المحاسن والأضداد للبيهقي، 1/31، وحياة الحيوان لدميري، 1/63، وقد نقل ابن كثير في تاريخه أنه الإمام زين العابدين، البداية والنهاية، 9/68.
[2] الكافي، الشيخ الكليني، ج 1، ص 47.
[3] [الحجر: 39].
[4] [الناس: 5].
[5] [آل عمران: 175].
[6] [إبراهيم: 22].
[7] الكافي، ج 1، ص 46.
[8] بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 2، ص 119.
[9] الكافي، ج 1، ص 41.
[10] بحار الأنوار، ج 67، ص 140.
[11] نهج البلاغة، خطب الإمام علي(ع)، ج 4، ص 36.
[12] [عبس: 24، 26].
[13] [عبس: 24].
[14] ميزان الحكمة، محمد الريشهري، ج 3، ص 2082.
[15] الكافي، ج 1، ص 50.
[16] وسائل الشيعة، ج 28، ص 16.
[17] [النساء: 65].
[18] [الأحزاب: 36].
[19] الكافي، ج 8، ص 242.
[20] [الحجرات: 13].
[21] [المطففين: 26].