لو درسنا تاريخ أكثر الأئمة (ع)، لرأينا الجواسيس تحيط بهم من كلّ جانب، ممن قد يخبرون صدقاً وممن قد يفترون كذباً، ورأينا أن الحاكمين آنذاك يعملون على التعسف في تصرفاتهم معهم، فقد يسجنون إماماً هنا، وقد يحصرون في بيته هناك، وقد يستقدمونه من بلده إلى أماكن سلطتهم ليكون تحت رقابتهم، حتى إنهم كانوا يبعثون بجماعتهم أو بموظفيهم ليهجموا عليهم في منتصف الليل، كما فعلوا ذلك مع الإمام الهادي (ع)، حيث وُشِيَ به إلى المتوكِّل بأن لديه أموالاً وأسلحة.. ودخل الزبانية عليه في الليل، وكان يصلي لربه في صحن الدار، وعندما أحسَّ بهم، تحدث معهم برفق، كأنه خاف عليهم أن يسقطوا وقد جاءوا متسلّقين الجدار، فقال لهم اصبروا حتى أبعث إليكم سراجاً، ثم قال لهم دونكم البيوت ـ أي الغرف ـ ففتشوها، ولم يجدوا إلا كتب العلم والمصاحف وما إلى ذلك.
وهكذا عانى الإمام الهادي (ع) الكثير من خلفاء بني العباس، فقد عاش مع المعتصم في بقية خلافته، ثم بعد ذلك عاش مع أكثر من شخص من هؤلاء، كما يتحدث "ابن الصباغ المالكي" في "الفصول المهمة" أنه عاش مدة في بقية ملك "المعتصم"، ثم مع "الواثق" خمس سنين وتسعة أشهر، ثم مع "المتوكل" أربعة عشر عاماً، ثم مع ابنه "المنتصر" ستة أشهر، ثم مع "المستعين" ابن أخ المتوكّل ثلاث سنين وتسعة أشهر، ثم مع "المعتز" وهو ابن الزبير بن المتوكل، وقد استشهد في آخر ملكه، لأنه (ع) كما في "الفصول المهمة"، مات مسموماً.
عاش الإمام (ع) كل حياته تلك معلماً هادياً مرشداً، يحتضن الناس كلهم في كل مواقع بؤسهم ليساعدهم، ولذلك لما جاء رسول المتوكّل إلى المدينة ليحمله إلى بغداد، قال المؤرخون وهم ينقلون عن الشخص الذي أرسله المتوكّل: "ضجّت المدينة ضجةً واحدة، لأنهم خافوا على الإمام"، وكان يتحدث في ذلك، فيقول عن ترحيل الإمام: "كما لو كانت السماء قد أطبقت على الأرض"، وحاول أن يطمئنهم بطريقة وبأخرى، وعمل المتوكل ـ كما أشرنا ـ على أن يتعسَّف به، بين سجن تارةً، وبين محاولة إضعاف موقعه وما إلى ذلك.
ومن المفاهيم الإسلامية [التي ركّز عليها الإمام (ع)]، التي قد توحي إلينا بالكثير مما قد نختلف فيه، وقد تصحح لنا الكثير مما أخطأنا فيه، ذلك بأن قيمة هذه الكلمات أنها كلمات النور والحقّ الذي يضيء للناس الطريق في كلّ زمان ومكان، لأنَّ الإمام لم يتحدَّث عن فكر ذاتي يمكن أن يخطئ فيه المفكِّر أو يصيب، بل تحدَّث عن إسلام نقيّ صافٍ يتحرك فيه من خلال ما قاله الشَّاعر:
ووالِ أناساً قولهم وحديثهم روى جدّنا عن جبرئيل عن الباري
وينقل بعض الذين عاصروه، كما يذكر ذلك "المسعودي" في"مروج الذهب"، في مسألة هذا الإسناد المتسلسل الذي يربط الفكرة برسول الله (ص)، على أساس أن الكلام كلامه، وأن الفكرة فكرته {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ}[النَّجم: 3 -4]. قال المسعودي: "حدثني محمد بن الفرج بمدينة جرجان في المحلة المعروفة ببئر أبو عناب، قال حدثني أبو دعامة، قال أتيت علي بن محمد بن علي بن موسى، عائداً في علّته التي كات وفاته منها في هذه السنة". لاحظ أنَّ الإمام وهو في مرض الموت، لم يكن ليترك الفرصة في أن يعلّم الناس الذين يعودونه... "فلما هممت بالانصراف، قال لي: يا أبا دعامة، قد وجب عليّ حقّك، ألا أحدثك بحديث تسرُّ به؟ قال: فقلت: ما أحوجني إلى ذلك يابن رسول الله! قال: حدثني أبي محمد بن علي، قال حدثني أبي علي بن موسى، قال حدثني أبي موسى بن جعفر، قال حدثني أبي جعفر بن محمد، قال حدثني أبي محمد بن علي، قال حدثني أبي علي بن الحسين، قال حدثني أبي الحسين بن علي، قال حدثني علي بن أبي طالب (ع)، قال: قال لي رسول الله: يا علي، اكتب، قال: فقلت ما أكتب؟ فقال: اكتب: "بسم الله الرحمن الرحيم، الإيمان ما وقر في القلوب وصدّقته الأعمال، والإسلام ما جرى على اللّسان وحلّت به المناكحة".. قال أبو دعامة: فقلت: يابن رسول الله، والله ما أدري أيّهما أحسن، الحديث أم الإسناد؟ فقال: إنها لصحيفة بخطّ عليّ بن أبي طالب (ع) وإملاء رسول الله (ص) نتوارثها صاغراً عن كابر"1.
[1]بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج50، ص 208.
لو درسنا تاريخ أكثر الأئمة (ع)، لرأينا الجواسيس تحيط بهم من كلّ جانب، ممن قد يخبرون صدقاً وممن قد يفترون كذباً، ورأينا أن الحاكمين آنذاك يعملون على التعسف في تصرفاتهم معهم، فقد يسجنون إماماً هنا، وقد يحصرون في بيته هناك، وقد يستقدمونه من بلده إلى أماكن سلطتهم ليكون تحت رقابتهم، حتى إنهم كانوا يبعثون بجماعتهم أو بموظفيهم ليهجموا عليهم في منتصف الليل، كما فعلوا ذلك مع الإمام الهادي (ع)، حيث وُشِيَ به إلى المتوكِّل بأن لديه أموالاً وأسلحة.. ودخل الزبانية عليه في الليل، وكان يصلي لربه في صحن الدار، وعندما أحسَّ بهم، تحدث معهم برفق، كأنه خاف عليهم أن يسقطوا وقد جاءوا متسلّقين الجدار، فقال لهم اصبروا حتى أبعث إليكم سراجاً، ثم قال لهم دونكم البيوت ـ أي الغرف ـ ففتشوها، ولم يجدوا إلا كتب العلم والمصاحف وما إلى ذلك.
وهكذا عانى الإمام الهادي (ع) الكثير من خلفاء بني العباس، فقد عاش مع المعتصم في بقية خلافته، ثم بعد ذلك عاش مع أكثر من شخص من هؤلاء، كما يتحدث "ابن الصباغ المالكي" في "الفصول المهمة" أنه عاش مدة في بقية ملك "المعتصم"، ثم مع "الواثق" خمس سنين وتسعة أشهر، ثم مع "المتوكل" أربعة عشر عاماً، ثم مع ابنه "المنتصر" ستة أشهر، ثم مع "المستعين" ابن أخ المتوكّل ثلاث سنين وتسعة أشهر، ثم مع "المعتز" وهو ابن الزبير بن المتوكل، وقد استشهد في آخر ملكه، لأنه (ع) كما في "الفصول المهمة"، مات مسموماً.
عاش الإمام (ع) كل حياته تلك معلماً هادياً مرشداً، يحتضن الناس كلهم في كل مواقع بؤسهم ليساعدهم، ولذلك لما جاء رسول المتوكّل إلى المدينة ليحمله إلى بغداد، قال المؤرخون وهم ينقلون عن الشخص الذي أرسله المتوكّل: "ضجّت المدينة ضجةً واحدة، لأنهم خافوا على الإمام"، وكان يتحدث في ذلك، فيقول عن ترحيل الإمام: "كما لو كانت السماء قد أطبقت على الأرض"، وحاول أن يطمئنهم بطريقة وبأخرى، وعمل المتوكل ـ كما أشرنا ـ على أن يتعسَّف به، بين سجن تارةً، وبين محاولة إضعاف موقعه وما إلى ذلك.
ومن المفاهيم الإسلامية [التي ركّز عليها الإمام (ع)]، التي قد توحي إلينا بالكثير مما قد نختلف فيه، وقد تصحح لنا الكثير مما أخطأنا فيه، ذلك بأن قيمة هذه الكلمات أنها كلمات النور والحقّ الذي يضيء للناس الطريق في كلّ زمان ومكان، لأنَّ الإمام لم يتحدَّث عن فكر ذاتي يمكن أن يخطئ فيه المفكِّر أو يصيب، بل تحدَّث عن إسلام نقيّ صافٍ يتحرك فيه من خلال ما قاله الشَّاعر:
ووالِ أناساً قولهم وحديثهم روى جدّنا عن جبرئيل عن الباري
وينقل بعض الذين عاصروه، كما يذكر ذلك "المسعودي" في"مروج الذهب"، في مسألة هذا الإسناد المتسلسل الذي يربط الفكرة برسول الله (ص)، على أساس أن الكلام كلامه، وأن الفكرة فكرته {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ}[النَّجم: 3 -4]. قال المسعودي: "حدثني محمد بن الفرج بمدينة جرجان في المحلة المعروفة ببئر أبو عناب، قال حدثني أبو دعامة، قال أتيت علي بن محمد بن علي بن موسى، عائداً في علّته التي كات وفاته منها في هذه السنة". لاحظ أنَّ الإمام وهو في مرض الموت، لم يكن ليترك الفرصة في أن يعلّم الناس الذين يعودونه... "فلما هممت بالانصراف، قال لي: يا أبا دعامة، قد وجب عليّ حقّك، ألا أحدثك بحديث تسرُّ به؟ قال: فقلت: ما أحوجني إلى ذلك يابن رسول الله! قال: حدثني أبي محمد بن علي، قال حدثني أبي علي بن موسى، قال حدثني أبي موسى بن جعفر، قال حدثني أبي جعفر بن محمد، قال حدثني أبي محمد بن علي، قال حدثني أبي علي بن الحسين، قال حدثني أبي الحسين بن علي، قال حدثني علي بن أبي طالب (ع)، قال: قال لي رسول الله: يا علي، اكتب، قال: فقلت ما أكتب؟ فقال: اكتب: "بسم الله الرحمن الرحيم، الإيمان ما وقر في القلوب وصدّقته الأعمال، والإسلام ما جرى على اللّسان وحلّت به المناكحة".. قال أبو دعامة: فقلت: يابن رسول الله، والله ما أدري أيّهما أحسن، الحديث أم الإسناد؟ فقال: إنها لصحيفة بخطّ عليّ بن أبي طالب (ع) وإملاء رسول الله (ص) نتوارثها صاغراً عن كابر"1.
[1]بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج50، ص 208.