المهديّ المنتظر (عج) وإشكاليّة الغيبة الطّويلة

المهديّ المنتظر (عج) وإشكاليّة الغيبة الطّويلة

قال الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ}[القصص: 5 ـــ 6].

في هاتين الآيتين، حديث عن وعد الله للمستضعفين ووعد الله للمؤمنين. وهناك أكثر من حديث عن وعد الله {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}[النّور: 55]. وعد الله للمؤمنين العاملين بالصّالحات، ووعد الله للمستضعفين الذين يعيشون حياتهم على أساس الضّغوط التي يمارسها المستكبرون عليهم، سواء كانت ضغوطاً ثقافية أو سياسية أو أمنية، أو ما إلى ذلك من ألوان الضغوط. إنَّ الله يعدهم بأن يمسكوا زمام الأرض، وأن يمسكوا بحكم الحياة، وأن تكون لهم القوّة الكبيرة في كلّ الواقع الذي يعيشون فيه.

إشكاليّة الغيبة الطّويلة!

في هذه الأجواء، نطلّ على العقيدة الإسلاميّة التي ارتكزت على أساس الاعتقاد بالإمام المهدي (عج) الّذي حدّثنا رسول الله وأئمّة أهل البيت (ع) عنه، أنّه "يخرج ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً"، وعند ظهور الإمام، سينتشر الإسلام في كلّ الأرض وفي كلّ الحياة. والمسلمون في أغلبيّتهم متّفقون على عقيدة المهدي، وليس هناك خلاف بينهم حول هذه المسألة، وإنْ حَدَثَت بعض الخلافات أخيراً من ناحية تسييس المسألة في دائرة بعض الأوضاع السياسيّة المعيّنة في المنطقة. يتّفقون على الإمام المهدي، ولكنّ هناك خلافاً على شخصيّته، مَنْ هو، وهل وُلِد أو لم يولَد. هذه هي المسألة التي وَقَعَ الجدل حولها في الدائرة الإسلاميّة، فالمسلمون الشّيعة أتباع آل البيت (ع)، يَرْوون عن أئمّتهم أنّه وُلِدَ، وأنّه الإمام الثاني عشر من أئمّة أهل البيت (ع)، ويستنتجون من حديث رسول الله (ص) في ما يرويه المسلمون جميعاً، وهو حديث الثّقلين، "إنّي تاركٌ فيكم ما إنْ تمسَّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً؛ كتاب الله وعترتي أهل بيتي، وإنَّهما لن يفترقا حتّى يَرِدا عليَّ الحوض" ، أنّ الكتاب ما دام موجوداً، فهناك شخص من العترة موجود، ولهذا، فلا بدّ أن يستمرّ ذلك، وأن لا تنقطع الحالة الزمنية بين فترةٍ وأخرى في هذا المجال.

هناك كلمات تقال في قضيّة طول العمر وفي بعض الجوانب الأخرى، ولكنّنا نريد أن نؤكّد المسألة من ناحية مبدئيّة، وهي أنّ المسألة عندما تثبت عندنا من طريق رسول الله (ص) ومن طريق أوصيائه الذين هم أئمّة أهل البيت (ع) بطريق قطعيّ لا شكّ فيه ولا ريب، فلا بدّ أن نعتبر أنّ المسألة تمثّل الحقيقة في العقيدة على هذا الأساس. ثمّ بعد ذلك، عندما نجد في المسألة بعض الغيب ممّا قد لا يدرك الإنسان تفاصيله في مسألة حكمة الله في ذلك، فإنّنا نلتزم بذلك، ونحاول أن نلاحق الاحتمالات التي توصلنا إلى النّتائج الحاسمة إنْ أمكننا ذلك.

هذا من جهة ما ثبت من رسول الله، سواء كان في دائرة الغيب، أو كان في دائرة الحضور والحسّ، فلا بدَّ من أن نؤمن به على أنّه حقيقة إيمانية، لأنّ رسول الله (ص) {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}[النّجم: 3 ـــ 4]، فما يبلّغه ويثبت عنه بطريقة قطعيّة فهو الحقيقة، فإذا كانت غيباً، فإنّنا نؤمن بالغيب، وإذا كانت حضوراً، فإنّنا نواجه هذا الحضور.

هذا من جهة، ومن جهةٍ ثانية، إنَّ مسألة العمر الطّويل هي من المسائل التي لا يرفضها العقل، فالعقل لا يمنع أن يعيش الإنسان وقتاً طويلاً إلى ما شاء الله، ما دامت أجهزته تستطيع أن تستمرّ، والنظريّات العلمية التي تبحث الآن في المسألة الإنسانية وفي مسألة طول العمر، لا ترى مانعاً مبدئيّاً من أن يعيش الإنسان مدّةً طويلةً إلى ما شاء الله. ولكنّ العلم يقول إنّنا لم نستطع حتّى الآن أن نصل إلى الأُسس أو النّظريّات التي نستطيع من خلالها اكتشاف سرّ تجدُّد الخلايا واستمرارها، وإذا اكتشفنا ذلك، فيمكن أن يطول عمر الإنسان إلى أَمَد طويل. فالعلم لا يمنع، ولكنّه يقول لم أستطع أن أصل إلى السرّ الذي يمكنني من خلاله أن أتحرّك في اتّجاه تحويل الموضوع إلى أمرٍ واقعيّ في هذا المجال. العقل لا يمنع، والعلم لا يمنع، والقرآن يثبت لنا عمراً لأحد أنبياء الله أنّه لبث في قومه ألف سنةٍ إلّا خمسين عاماً.. قبل الطوفان كانت ألف سنة إلّا خمسين عاماً، ولا ندري كم عاش بعد ذلك، الذي يمكن أن يعيش ألف سنة إلّا قليلاً، يمكن له أن يعيش الألف الثّاني وما إلى ذلك، لأنَّ الأشياء إذا بدت ممكنةً في هذه الدائرة، فإنّها تكون ممكنة في الدائرة الأخرى.

فالقرآن الكريم يؤكّد أنّ مسألة طول العمر ليست من المسائل المستحيلة، وحتّى إنّها ليست من المسائل البعيدة في ما حدَّثنا به عن نوح، ونحن في عصرنا هذا، نسمع كثيراً من الأحاديث عن أُناس عاشوا مئتي سنة، أو عاشوا ثلاثمائة سنة. عندما يمكن حصول ذلك في هذا الحجم، تصبح المسألة ممكنة. وقدرة الله فوق ذلك كلّه.

المسألة إذاً تعتبر من الحقائق الإسلاميّة التي يمتزج فيها الجانب الغيبي بجانب الحضور والحسّ.

وُلِدَ الإمام المهدي (عج) كما يولَد كلّ الناس، وغاب بإرادة الله وبعلم الله، وأخبرنا رسول الله (ص) والأئمّة من بعده، بأنّه سيظهر ليملأ الأرض قِسطاً وعدلاً كما مُلِئت ظلماً وجوراً، وعندما نريد أن نؤكّد المسألة الغيبيّة في العقيدة، فإنَّ علينا أن نفهم أنّنا عندما نؤمن بالغيب، فإنَّ الغيب يرتكز على العقل ويرتكز على النّقل. يعني كيف نؤمن بالغيب؟! نحن الآن، مثلاً، نؤمن بالجنّة والنار، نؤمن بالآخرة من دون أن نشاهد الآخرة، ونؤمن بالملائكة من دون أن نراهم، ونؤمن بكثير من الأشياء المحسوسة لدينا، كيف آمنّا بها؟ آمنّا بها في البداية من خلال أنّنا بحثنا: هل هذا الأمر ممكن، أم غير ممكن؟ هل هو مستحيل أم ليس مستحيلاً؟ مثلاً، هل يمكن أن يعيد الله الإنسان بعد أن يصير تراباً، هل يمكن أن يخلقه الله أم هذا مستحيل؟ الله القادر على الإيجاد قادر على الإعادة {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ...}[يس: 78 ـــ 79]. إذا كان إخراج الحياة من العدم أمراً ممكناً ومقبولاً، فإعادة الحياة بعد أن تتحوَّل إلى عدم أمر ممكن أيضاً، لأنَّ القادر على هذا قادرٌ على ذاك، بل إنَّ عملية الإعادة أهون من عمليّة الخلق، لأنَّ عملية الخلق هي عمليّة إيجاد من دون نموذج، من دون مثال، بينما عملية الإعادة هي عمليّة خلق على أساس النّموذج الّذي كان. فعمليّة الإيجاد عمليّة إبداع، وعندما يعيدها، يعيدها بعد أن صَنَعَ المثال.

بعد أن أثبتنا أنّ المسألة ممكنة من النّاحية العقليّة، وأنّ العقل لا يرفض ذلك، قلنا من يثبت لنا ذلك؟ هذا ممكن، لكن ليس كلّ ممكن يصير موجوداً. هناك أشياء ممكنة لكنّها لم توجد، كيف نثبت اليوم الآخر، كيف نثبت أنَّ هناك جنّة وناراً؟! نقول: جاءنا الأنبياء وحكَّمنا عقلنا في تصديقهم، أيضاً النبيّ ليس مجرّد إنسان نؤمن بنبوّته من خلال صداقتنا له، أو محبَّتنا له، نؤمن بنبوَّته من خلال الأدلّة القاطعة على نبوّته، إمّا من طريق المعجزة التي هي على شكل معجزات الأنبياء السابقين موسى ـــ عيسى وإبراهيم (عليهم السلام)، أو بالنّسبة إلى معجزة القرآن، أو الأشياء الأخرى التي تمثّل صدق رسول الله (ص). فبعد أن أثبتنا أنّ رسول الله هو رسولٌ من الله، وأنّه صادق في ما يخبرنا، جاء رسول الله وأخبرنا أنّ هناك جنّة وناراً من خلال كتاب الله، وأخبرنا رسول الله من خلال كتاب الله أنّ هناك ملائكة، وأخبرنا أيضاً أنّ هناك مهديّاً يخرج آخر الزمان، فنحن آمنّا بالغيب على أساس أنّ الإيمان بالغيب ارتكز على الإيمان بالحسّ من خلال تصديق رسول الله (ص)، ومن خلال الدَّليل الذي دلَّنا على أنّه نبيّ من عند الله.

لهذا، مسألة الغيب ليست مسألة معلَّقة بالهواء، أو نؤمن بها افتراضاً، بل لا بدّ أن يرتكز الإيمان بالغيب على حقيقة علميّة أو عقليّة على الطريقة التي بيَّناها، ونحن آمنّا بالغيب لأنّنا آمنّا برسول الله وصدَّقناه وأخبرنا رسول الله عن ذلك. ولما كان هذا الأمر ممكناً، فقد آمنّا به...

*من كتاب "الجمعة منبر ومحراب".

قال الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ}[القصص: 5 ـــ 6].

في هاتين الآيتين، حديث عن وعد الله للمستضعفين ووعد الله للمؤمنين. وهناك أكثر من حديث عن وعد الله {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}[النّور: 55]. وعد الله للمؤمنين العاملين بالصّالحات، ووعد الله للمستضعفين الذين يعيشون حياتهم على أساس الضّغوط التي يمارسها المستكبرون عليهم، سواء كانت ضغوطاً ثقافية أو سياسية أو أمنية، أو ما إلى ذلك من ألوان الضغوط. إنَّ الله يعدهم بأن يمسكوا زمام الأرض، وأن يمسكوا بحكم الحياة، وأن تكون لهم القوّة الكبيرة في كلّ الواقع الذي يعيشون فيه.

إشكاليّة الغيبة الطّويلة!

في هذه الأجواء، نطلّ على العقيدة الإسلاميّة التي ارتكزت على أساس الاعتقاد بالإمام المهدي (عج) الّذي حدّثنا رسول الله وأئمّة أهل البيت (ع) عنه، أنّه "يخرج ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً"، وعند ظهور الإمام، سينتشر الإسلام في كلّ الأرض وفي كلّ الحياة. والمسلمون في أغلبيّتهم متّفقون على عقيدة المهدي، وليس هناك خلاف بينهم حول هذه المسألة، وإنْ حَدَثَت بعض الخلافات أخيراً من ناحية تسييس المسألة في دائرة بعض الأوضاع السياسيّة المعيّنة في المنطقة. يتّفقون على الإمام المهدي، ولكنّ هناك خلافاً على شخصيّته، مَنْ هو، وهل وُلِد أو لم يولَد. هذه هي المسألة التي وَقَعَ الجدل حولها في الدائرة الإسلاميّة، فالمسلمون الشّيعة أتباع آل البيت (ع)، يَرْوون عن أئمّتهم أنّه وُلِدَ، وأنّه الإمام الثاني عشر من أئمّة أهل البيت (ع)، ويستنتجون من حديث رسول الله (ص) في ما يرويه المسلمون جميعاً، وهو حديث الثّقلين، "إنّي تاركٌ فيكم ما إنْ تمسَّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً؛ كتاب الله وعترتي أهل بيتي، وإنَّهما لن يفترقا حتّى يَرِدا عليَّ الحوض" ، أنّ الكتاب ما دام موجوداً، فهناك شخص من العترة موجود، ولهذا، فلا بدّ أن يستمرّ ذلك، وأن لا تنقطع الحالة الزمنية بين فترةٍ وأخرى في هذا المجال.

هناك كلمات تقال في قضيّة طول العمر وفي بعض الجوانب الأخرى، ولكنّنا نريد أن نؤكّد المسألة من ناحية مبدئيّة، وهي أنّ المسألة عندما تثبت عندنا من طريق رسول الله (ص) ومن طريق أوصيائه الذين هم أئمّة أهل البيت (ع) بطريق قطعيّ لا شكّ فيه ولا ريب، فلا بدّ أن نعتبر أنّ المسألة تمثّل الحقيقة في العقيدة على هذا الأساس. ثمّ بعد ذلك، عندما نجد في المسألة بعض الغيب ممّا قد لا يدرك الإنسان تفاصيله في مسألة حكمة الله في ذلك، فإنّنا نلتزم بذلك، ونحاول أن نلاحق الاحتمالات التي توصلنا إلى النّتائج الحاسمة إنْ أمكننا ذلك.

هذا من جهة ما ثبت من رسول الله، سواء كان في دائرة الغيب، أو كان في دائرة الحضور والحسّ، فلا بدَّ من أن نؤمن به على أنّه حقيقة إيمانية، لأنّ رسول الله (ص) {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}[النّجم: 3 ـــ 4]، فما يبلّغه ويثبت عنه بطريقة قطعيّة فهو الحقيقة، فإذا كانت غيباً، فإنّنا نؤمن بالغيب، وإذا كانت حضوراً، فإنّنا نواجه هذا الحضور.

هذا من جهة، ومن جهةٍ ثانية، إنَّ مسألة العمر الطّويل هي من المسائل التي لا يرفضها العقل، فالعقل لا يمنع أن يعيش الإنسان وقتاً طويلاً إلى ما شاء الله، ما دامت أجهزته تستطيع أن تستمرّ، والنظريّات العلمية التي تبحث الآن في المسألة الإنسانية وفي مسألة طول العمر، لا ترى مانعاً مبدئيّاً من أن يعيش الإنسان مدّةً طويلةً إلى ما شاء الله. ولكنّ العلم يقول إنّنا لم نستطع حتّى الآن أن نصل إلى الأُسس أو النّظريّات التي نستطيع من خلالها اكتشاف سرّ تجدُّد الخلايا واستمرارها، وإذا اكتشفنا ذلك، فيمكن أن يطول عمر الإنسان إلى أَمَد طويل. فالعلم لا يمنع، ولكنّه يقول لم أستطع أن أصل إلى السرّ الذي يمكنني من خلاله أن أتحرّك في اتّجاه تحويل الموضوع إلى أمرٍ واقعيّ في هذا المجال. العقل لا يمنع، والعلم لا يمنع، والقرآن يثبت لنا عمراً لأحد أنبياء الله أنّه لبث في قومه ألف سنةٍ إلّا خمسين عاماً.. قبل الطوفان كانت ألف سنة إلّا خمسين عاماً، ولا ندري كم عاش بعد ذلك، الذي يمكن أن يعيش ألف سنة إلّا قليلاً، يمكن له أن يعيش الألف الثّاني وما إلى ذلك، لأنَّ الأشياء إذا بدت ممكنةً في هذه الدائرة، فإنّها تكون ممكنة في الدائرة الأخرى.

فالقرآن الكريم يؤكّد أنّ مسألة طول العمر ليست من المسائل المستحيلة، وحتّى إنّها ليست من المسائل البعيدة في ما حدَّثنا به عن نوح، ونحن في عصرنا هذا، نسمع كثيراً من الأحاديث عن أُناس عاشوا مئتي سنة، أو عاشوا ثلاثمائة سنة. عندما يمكن حصول ذلك في هذا الحجم، تصبح المسألة ممكنة. وقدرة الله فوق ذلك كلّه.

المسألة إذاً تعتبر من الحقائق الإسلاميّة التي يمتزج فيها الجانب الغيبي بجانب الحضور والحسّ.

وُلِدَ الإمام المهدي (عج) كما يولَد كلّ الناس، وغاب بإرادة الله وبعلم الله، وأخبرنا رسول الله (ص) والأئمّة من بعده، بأنّه سيظهر ليملأ الأرض قِسطاً وعدلاً كما مُلِئت ظلماً وجوراً، وعندما نريد أن نؤكّد المسألة الغيبيّة في العقيدة، فإنَّ علينا أن نفهم أنّنا عندما نؤمن بالغيب، فإنَّ الغيب يرتكز على العقل ويرتكز على النّقل. يعني كيف نؤمن بالغيب؟! نحن الآن، مثلاً، نؤمن بالجنّة والنار، نؤمن بالآخرة من دون أن نشاهد الآخرة، ونؤمن بالملائكة من دون أن نراهم، ونؤمن بكثير من الأشياء المحسوسة لدينا، كيف آمنّا بها؟ آمنّا بها في البداية من خلال أنّنا بحثنا: هل هذا الأمر ممكن، أم غير ممكن؟ هل هو مستحيل أم ليس مستحيلاً؟ مثلاً، هل يمكن أن يعيد الله الإنسان بعد أن يصير تراباً، هل يمكن أن يخلقه الله أم هذا مستحيل؟ الله القادر على الإيجاد قادر على الإعادة {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ...}[يس: 78 ـــ 79]. إذا كان إخراج الحياة من العدم أمراً ممكناً ومقبولاً، فإعادة الحياة بعد أن تتحوَّل إلى عدم أمر ممكن أيضاً، لأنَّ القادر على هذا قادرٌ على ذاك، بل إنَّ عملية الإعادة أهون من عمليّة الخلق، لأنَّ عملية الخلق هي عمليّة إيجاد من دون نموذج، من دون مثال، بينما عملية الإعادة هي عمليّة خلق على أساس النّموذج الّذي كان. فعمليّة الإيجاد عمليّة إبداع، وعندما يعيدها، يعيدها بعد أن صَنَعَ المثال.

بعد أن أثبتنا أنّ المسألة ممكنة من النّاحية العقليّة، وأنّ العقل لا يرفض ذلك، قلنا من يثبت لنا ذلك؟ هذا ممكن، لكن ليس كلّ ممكن يصير موجوداً. هناك أشياء ممكنة لكنّها لم توجد، كيف نثبت اليوم الآخر، كيف نثبت أنَّ هناك جنّة وناراً؟! نقول: جاءنا الأنبياء وحكَّمنا عقلنا في تصديقهم، أيضاً النبيّ ليس مجرّد إنسان نؤمن بنبوّته من خلال صداقتنا له، أو محبَّتنا له، نؤمن بنبوَّته من خلال الأدلّة القاطعة على نبوّته، إمّا من طريق المعجزة التي هي على شكل معجزات الأنبياء السابقين موسى ـــ عيسى وإبراهيم (عليهم السلام)، أو بالنّسبة إلى معجزة القرآن، أو الأشياء الأخرى التي تمثّل صدق رسول الله (ص). فبعد أن أثبتنا أنّ رسول الله هو رسولٌ من الله، وأنّه صادق في ما يخبرنا، جاء رسول الله وأخبرنا أنّ هناك جنّة وناراً من خلال كتاب الله، وأخبرنا رسول الله من خلال كتاب الله أنّ هناك ملائكة، وأخبرنا أيضاً أنّ هناك مهديّاً يخرج آخر الزمان، فنحن آمنّا بالغيب على أساس أنّ الإيمان بالغيب ارتكز على الإيمان بالحسّ من خلال تصديق رسول الله (ص)، ومن خلال الدَّليل الذي دلَّنا على أنّه نبيّ من عند الله.

لهذا، مسألة الغيب ليست مسألة معلَّقة بالهواء، أو نؤمن بها افتراضاً، بل لا بدّ أن يرتكز الإيمان بالغيب على حقيقة علميّة أو عقليّة على الطريقة التي بيَّناها، ونحن آمنّا بالغيب لأنّنا آمنّا برسول الله وصدَّقناه وأخبرنا رسول الله عن ذلك. ولما كان هذا الأمر ممكناً، فقد آمنّا به...

*من كتاب "الجمعة منبر ومحراب".

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية