أمّا بواعث هجرة الإمام من مكّة، وخروجه إلى العراق بهذه السّرعة، فهي ـ فيما نحسب، تعود إلى ما يلي:
١ ـ الحفاظ على الحرم:
وخاف الإمام على انتهاك بيت الله الحرام الذي من دخله كان آمناً، فإن بني أمية كانوا لا يرون له حرمة، فقد عهد يزيد إلى عمرو بن سعيد الأشدق أن يناجز الإمام الحرب، وإن عجز عن ذلك اغتاله، وقدم الأشدق في جند مكثّف إلى مكة، فلما علم الإمام خرج منها، فلم يعتصم بالبيت الحرام حفظاً على قداسته. يقول (ع): "لأن أقتل خارجاً منها ـ أي من مكّة ـ بشبرٍ أحبّ إليّ". ويقول (ع) لابن الزبير: "لئن أقتل بمكان كذا وكذا، أحبّ إليَّ من أن تستحلّ"، يعني مكَّة. وقد كشفت الأيّام عدم تقديس الأمويّين لهذا البيت العظيم، فقد قذفوه بالمنجنيق، وأشعلوا فيه النّار عند ما حاربوا ابن الزّبير، كما استباحوا المدينة قبل ذلك. لقد تحرّج الإمام كأشدّ ما يكون التحرّج على قداسة بيت الله من أن تنتهك حرمته، فنزح عنه لئلا تسفك فيه الدّماء.
٢ ـ الخوف من الاغتيال:
وخاف الإمام من الاغتيال في مكّة، أو يقع غنيمة باردة بأيدي الأمويّين، فقد دسّ إليه يزيد شرطته لاغتياله، يقول عبد الله بن عباس في رسالته ليزيد: "وما أنسى من الأشياء، فلست بناس اطّرادك الحسين بن عليّ من حرم رسول الله (ص) إلى حرم الله، ودسّك إليه الرجال تغتاله، فأشخصته من حرم الله إلى الكوفة، فخرج منها خائفاً يترقّب، وقد كان أعزّ أهل البطحاء بالبطحاء قديماً، وأعزّ أهلها بها حديثاً، وأطوع أهل الحرمين بالحرمين لو تبوّأ بها مقاماً واستحلّ بها قتالاً".
٣ ـ رسالة مسلم:
ومما دعا الإمام إلى الخروج من مكّة، رسالة سفيره مسلم بن عقيل، الّتي تحثّه على السفر إلى العراق، وقد جاء فيها أنّ جميع أهل الكوفة معه، وأن عدد المبايعين له يربو على ثمانية عشر ألفاً. هذه بعض الأسباب التي حفّزت الإمام على الخروج إلى العراق، وأن من أوهى الأقوال القول بأنّ خروجه من مكّة كان راجعاً إلى وجود ابن الزّبير فيها، فإن ابن الزبير لم تكن له أية أهمية حتى يخرج الإمام منها، وإنما الأسباب التي ألمحنا إليها، فقد أصبحت مكّة لا تصلح لأن تكون مركزاً للحركات السياسية بعد أن أصبحت مهدَّدة بغزو الجيوش الأمويّة لها.
خطابه في مكّة:
ولما عزم الإمام على مغادرة الحجاز والتوجّه إلى العراق، أمر بجمع الناس ليلقي عليهم خطابه التاريخي، وقد اجتمع إليه خلق كثير في المسجد الحرام من الحجاج وأهالي مكة، فقام فيهم خطيباً، فاستهل خطابه بقوله: "الحمد لله وما شاء الله، ولا قوة إلا بالله، وصلى الله على رسوله، خطّ الموت على ولد آدم مخطّ القلادة على جيد الفتاة، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف، وخيرٌ لي مصرع أنا لاقيه، كأني بأوصالي تقطّعها عسلان الفلاة بين النواويس وكربلا، فيملأنّ مني أكراشاً جوفاً، وأجربة سغباً، لا محيص عن يوم خطّ بالقلم، رضا الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه، ويوفينا أجور الصّابرين، لن تشذّ عن رسول الله (ص) لحمته، بل هي مجموعة له في حضيرة القدس، تقربهم عينه، وينجز بهم وعده، ألا ومن كان فينا باذلاً مهجته، موطّناً على لقاء الله نفسه، فليرحل معنا فإني راحل مصبحاً إن شاء الله تعالى".
لا أعرف خطاباً أبلغ ولا أروع من هذا الخطاب، فقد حفل بالدّعوة إلى الحق والاستهانة بالحياة في سبيل الله، وقد جاء فيه هذه النقاط:
١ ـ إنه نعى نفسه، ورحّب بالموت، واعتبره زينةً للإنسان كالقلادة التي تتزين بها جيد الفتاة، وهذا التشبيه من أروع وأبدع ما جاء في الكلام العربي. ومن الطبيعي أنّ الموت الذي يتحلّى به الإنسان، إنما هو الموت في سبيل الله والحقّ.
٢ ـ إنّه أعرب عن شوقه البالغ إلى أسلافه الطيّبين الذين استشهدوا في سبيل الله، وقد كان شوقه إليهم كاشتياق يعقوب إلى يوسف حسب ما يقول.
٣ ـ إنه أخبر أنّ الله تعالى قد اختار له الشّهادة الكريمة، والميتة المشرِّفة، دفاعاً عن الحقّ، وذوداً عن الإسلام.
٤ ـ إنه أعلن عن البقعة الطيبة التي يسفك على صعيدها دمه الزاكي، وهي ما بين النواويس وكربلا، فبها تتقطّع أوصاله، وتتناهب الرماح جسمه الشّريف.
٥ ـ إنه أخبر أن الذئاب الكاسرة من وحوش بني أميّة وأذنابهم لا يقرّ لهم قرار حتى تمتلئ أكراشهم من لحمه ودمه، وهو كناية عن تسلطهم على الأمّة بعد قتله، فيمعنون في نهب ثروات الأمّة وخيراتها.
٦ ـ وأخبر (ع) أن ما يجري عليه من الخطوب والأهوال أمر لا محيص عنه، فقد خطّ عليه بالقلم، وجرى في علم الله، وليس من الممكن بأيّ حال من الأحوال تبديل أو تغيير ما كتبه الله عليه.
٧ ـ أعلن أن الله تعالى قد قرن رضاه برضا أهل البيت، وقرن طاعته بطاعتهم، وحقّاً أن يكون ذلك، فهم دعاة دين الله، والأدلاء على مرضاته، وتحملوا من الأهوال التي لا توصف في سبيله.
٨ ـ إنه تحدث عن نزعة كريمة من نزعات أهل البيت (ع)، وهي الخلود إلى الصبر، والتسليم لأمر الله على ما يجري عليهم من عظيم المحن والخطوب، وأن الله تعالى قد أجزل لهم الثواب ووفّاهم بذلك أجور الصابرين.
٩ ـ وأخبر (ع) أنَّ الواقع المشرق لأهل البيت إنما هو امتداد ذاتي لواقع الرّسول الأعظم (ص)، فهم لحمته وفرعه، والفرع لا يختلف عن أصله، وسوف تقرّ عين النبيّ (ص) في حضيرة القدس بعترته التي سهرت على أداء رسالته، وجاهدت كأعظم ما يكون الجهاد في الذَّود عن دينه.
١٠ ـ إنّه دعا المسلمين إلى الخوض معه في ساحات الجهاد، وأن من ينطلق معه فقد بذل مهجته ووطّن نفسه على لقاء الله.
وهذه النقاط المشرقة في خطابه دلّت على أنّه آيس من الحياة وعازم على الموت، ومصمّم على التضحية، ولو كان يروم الملك لما عرض لذلك، وكان عليه أن يقدّم الوعود المعسولة، والآمال البرّاقة لمن يسير معه.
ولم يستجب لنداء الإمام أحد من أهالي مكّة، ولا أحد من الحجاج الذين سمعوا خطابه سوى نفر يسير من المؤمنين. وهذا مما يكشف عن قلة الوعي الديني، وتخدير المجتمع، وانحرافه عن الحقّ.
إتمام العمرة:
ولما عزم الإمام على مغادرة مكّة، أحرم للعمرة المفردة، فطاف بالبيت، وسعى وقصّر وطاف طواف النساء، وأحلّ من عمرته، وذكر الشيخ المفيد أن الإمام الحسين لما أراد التوجّه إلى العراق، طاف بالبيت، وسعى بين الصفا والمروة، وأحلّ من إحرامه وجعلها عمرة، لأنه لم يتمكّن من إتمام الحجّ، مخافة أن يقبض عليه بمكّة فينفذ به إلى يزيد، وهذا لا يخلو من تأمّل، فإنّ المصدود عن الحجّ يكون إحلاله بالهدي حسبما نصّ عليه الفقهاء، لا بقلب إحرام الحجّ إلى عمرة، فإنّ هذا لا يوجب الإحلال من إحرام الحج، أمّا ما ذكرناه، فتدعمه روايتان ذكرهما الشيخ الحرّ العاملي في "وسائل الشيعة" في كتاب الحجّ، في "باب أنه يجوز أن يعتمر في أشهر الحجّ عمرة مفردة، ويذهب حيث شاء".
أما الرّوايتان، فهما: 1 ـ رواها إبراهيم بن عمر اليماني عن أبي عبد الله (ع، أنّه سئل عن رجل خرج في أشهر الحج معتمراً، ثم خرج إلى بلاده، قال: لا بأس.
وإن حجّ من عامه ذلك وأفرد الحجّ، فليس عليه دم، وأن الحسين بن علي (ع) خرج يوم التروية إلى العراق وكان معتمراً.
٢ ـ رواها معاوية بن عمار قال: قلت لأبي عبد الله: من أين افترق المتمتع والمعتمر؟ فقال (ع): إنّ المتمتّع مرتبط بالحجّ، والمعتمر إذا فرغ منها ذهب حيث شاء، وقد اعتمر الحسين (ع) في ذي الحجّة، ثم راح يوم التروية إلى العراق، والناس يروحون إلى منى، ولا بأس بالعمرة في ذي الحجّة لمن لا يريد الحجّ، وهذه الرواية نصّ فيما ذكرناه.
الخروج قبل الحجّ:
والشّيء الذي يدعو إلى التساؤل هو أن الإمام (ع) قد غادر مكّة في اليوم الثامن من ذي الحجّة، وهو اليوم الذي يتأهب فيه الحجاج للخروج إلى عرفة، فلماذا لم يتمّ حجّه؟ وفيما أحسب، أن هناك عدة عوامل دعته إلى الخروج من مكّة بهذه السرعة، وهي:
١ ـ أن السلطة قد ضايقته مضايقة شديدة، حتى اطمأن أنها ستفتح معه باب الحرب أو تغتاله وهو مشغول في أداء مناسك الحج، وتستحلّ بذلك حرمة الحجّ، كما تضيع أهدافه المقدَّسة التي منها تحرير الأمّة تحريراً كاملاً من الذلّ والعبوديّة.
٢ ـ أنّه إذا لم تناجزه السّلطة أيام مناسك الحجّ، فإنها حتماً ستناجزه الحرب بعدها، فيصبح في مكّة إما مقاتلاً أو مقتولاً، وفي كلا الأمرين سفك للدّماء في البيت الحرام وفي الشهر الحرام، فغادر مكّة حفاظاً على المقدّسات الإسلامية.
٣ ـ أن خروجه في ذلك الوقت الحسّاس كان من أهم الوسائل الإعلامية ضدّ السلطة في ذلك العصر، فإنّ حجاج بيت الله الحرام قد حملوا إلى أقطارهم نبأ خروج الإمام في هذا الوقت من مكّة وهو غضبان على الحكم الأموي، وأنه قد أعلن الثّورة على يزيد، ولم يبق في مكّة صيانة للبيت الحرام من أن ينتهك على أيدي الأمويين. هذه بعض الأسباب التي حفزت الإمام على الخروج قبل إتمام حجّه.
*من كتاب "حياة الإمام الحسين (ع)، دراسة وتحليل"، ج 3.