بعث سماحة العلامة المرجع، السيد محمد حسين فضل الله، برسالة عبادية سياسية إلى حجاج بيت الله الحرام جاء فيها:
إنّ موسم الحجّ هو الموقف الزمانيّ والمكانيّ الذي أراد فيه أن تذوب الفوارق الإنسانيّة، من اللغة واللون والعرق والمذهب؛ ليكون الجامع بينهم هو الله الأحد الذي لا شريك له، ورسولُ الله الذي يتمّ إسلامهم بالشهادة له بالرسالة، والجامع بينهم هو شريعة الله التي تحكم كلّ شعائر حجّهم ونسكه.
إنّه الموقف الذي يتركُ فيه المُسلم كلّ التزاماته التي تتنافى مع إرادة الله، ليجعل ـ في موسم الحجّ ـ من إرادته صدىً لإرادة الله عزّ وجلّ، في عمليّة تربويّة تؤكّد خطّ التقوى في ما يستقبل من حياته، لتكون مسيرة الحجّ في هذا الموسم اختصاراً للحجّ الكبير في الحياة؛ فلا يطوف في حياته إلا بالبيوت التي يرضاها الله، ولا يسعى إلا في الخير والمعروف، ولا يقف إلا على الصعيد الذي يحبّه الله، ويرجُم بإرادته وحركته وفكره وعاطفته كلّ الشياطين الصغار والكبار، وتكون كلّ حياته ذكراً لله عند كلّ حرامٍ فيجتنبه، وعند كلّ طاعةٍ فيؤكّدها.
إنّه الفُرصة التي ينبغي لكم ـ أيّها الملبّون نداء الرحمن ـ أن تستثمروها. فلا مجال هناك للهو العابث، ولا للجدال ولا للفراغ؛ فإنّ كلّ وقتٍ يمرّ هو نفحةٌ من روح الله، ونعمةٌ من ألطافه، وسبيل من سُبُل رضاه في الدنيا والآخرة.
أضاف: إنّ المستكبرين يسعونَ جاهدين للعمل على أن ينغلق كلّ بلدٍ، وكلّ قطرٍ إسلاميّ على نفسه، ليشعُر المُسلم أنّ الحُدود الجغرافيّة تحجزُ في إطارها تفاعله مع قضايا المسلمين في سائر البلاد والأقطار، فيقتُل فينا منطقُ الفرد منطق الجماعة، وتحجزُ خصوصيّة الجغرافيا والتقاليد خاصّية الأمّة.
وتابع: إنّ أمّتنا الإسلاميّة ـ بالإضافة إلى ذلك ـ تواجه اليوم هجوماً عنيفاً من عدّة جبهات:
الجبهة الأولى ، هي جبهة الثروات والمقدّرات التي منّ الله علينا بها، حيث يعمل المستكبرون على السيطرة على منابعها، والتحكّم بحركة استثمارها، حتى لا تأخذ الأمّة منها إلا النزر اليسير الذي لا يليق بصاحب المال ومالك الثروة.
إنّ الخطط الاستكباريّة التي تعمل على مصادرة ثرواتنا تهدُف إلى إفقار الأمّة من كلّ عناصر القوّة لديها، والتي تجعل منها مورد حاجةِ الآخرين، فلا يبقى تكافؤ في المواجهة والحركة أمام إرادة المستكبرين وحركتهم، فيسقط المُستقبل أمام ضعفِ الحاضر وتخاذله.
إنّ ثروات الأمّة هي أمانة الله في أعناق الجميع، وهي مصدر منعة هذه الأمّة وقوّتها، وعلينا أن نصونها عن أن تعبث بها أيدي العابثين، أو يتسلّط عليها المستكبرون، أو يسرقها السارقون.
الجبهة الثانية ، هي جبهة إثارة النعرات المذهبيّة التي تسعى لإذكاء نار الفتنة بين المُسلمين، فيُغيَّبُ الإسلامُ ديناً جامعاً بين كلّ المذاهب، ليكونَ لكلّ مذهبٍ إسلامُه الخاص، فيُصبحُ الإسلام أداةً للتفرقة بدلاً من أن يكون أساساً للوحدة.
ولذلك علينا أن نكون واعين لكلّ خطوات الشياطين الكبار والصغار التي تسعى بين المسلمين، لتثير عصبيّة هذا المذهب أو ذاك، بإثارة أمور وأحداث تاريخيّة غاب عنها أهلُها، وقد أداروا فيها خلافاتهم على أساس الإسلام وحفظه، وفق القاعدة التي أكّدها الإمام عليّ(ع) منطقاً وسلوكاً: «لأسلمنّ ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن فيها جورٌ إلا عليّ خاصّة».
إنّ المذهبيّة السنّية هي خطّ ثقافيّ فكريّ في فهمِ الإسلام، وإنّ المذهبيّة الشيعيّة هي خطّ ثقافيّ فكريّ في فهمِ الإسلام، وكذلك حالُ سائر المذاهب. وهذا يفرض أن لا تُقحم الصبغة «السنّية» أو «الشيعيّة» في أيّ حركةٍ سياسيّة أو اجتماعيّة أو اقتصاديّة، بل أن يكون الاختلاف على الأمور الحيويّة، من قبل المسلمين السنّة أو المسلمين الشيعة اختلافاً في تشخيص مصلحة الإسلام هنا أو هناك، لكي يُدار ذلك على أساس قوله تعالى: {فإن تنازعتم في شيءٍ فردّوه إلى الله والرسول}؛ فإنّ الإسلام إذا ضاع في خطوط المذهبيّة انحرف المذهب عن الخطّ المستقيم.
إنّ المطلوب أن تشكّل كلّ الاتجاهات الثقافيّة في فهم الإسلام مصدر غنىً للفكر الإسلامي بعامّة، وهذا يتطلّب من الجميع الانفتاح على الفكر الآخر، فتكون الفكرة هي التي تصارع الفكرة، والمنطق هو الذي يغلب المنطق، في حركةٍ ثقافيّة تنسجم مع طبيعة الاختلاف بين المذاهبَ والفرق والطوائف والاتّجاهات.
إنّ علينا جميعاً أن نرفض منهج التكفير الذي لا ينطلق من المرتكزات الإسلاميّة ـ التي لا ترى التكفير إلا فيما يرجع إلى إنكار التوحيد أو النبوّة ـ؛ وإنّ الأخذ بالتكفير على أساس الاختلاف في فهم آيةٍ أو رواية يعني أنّه لن يكون هناك مُسلمٌ إلا من يوافق الآخر في كلّ شيء، وأين هذا من الإسلام ومن منهج رسول الله(ص)!
الجبهة الثالثة ، هي جبهة الاستلاب الثقافي، حيث تعمل كثير من الجهات على تشويه صورة الإسلام ورموزه المقدّسة ـ والتي كان أبرزها الإساءة لشخصيّة النبيّ الأكرم محمّد(ص) ـ وتعمل على إشاعة أفكار غير موضوعيّة عن الإسلام باسم الحوار العلميّ، وهي في الحقيقة مغالطات أو اجتزاءات للأحداث من سياقها، كلّ ذلك حتّى يبرز الإسلام عاجزاً عن مواكبة العصر وقيادة الحياة.
ولعلّ ممّا يُساهم في إعانة الأعداء علينا في هذه الجبهة أنّنا لم نأخذ ـ في كثير من المجالات ـ بأسباب العلم في تمثُّل تُراثنا الإسلاميّ، فلم ننقد تجارب الماضين، لنعرف أين أصابوا وأين أخطأوا، وأين أصلحوا وأين أفسدوا، فأفسدنا من حيث أردنا الإصلاح، وأخطأنا ونحن ننشد الصواب، باسم الإخلاص للسلف الذين كانوا أكثر إخلاصاً للعلم في أخذهم بتُراث من سبقهم من أسلافهم.
وأضاف: في هذا الموسم العباديّ الثقافي الاجتماعيّ، نؤكّد على ضرورة أن نتذكّر جميعاً عناصر الوحدة الأساسيّة بين المسلمين، فالربّ واحد، والنبيّ واحد، والكتاب واحد، والقبلة واحدة، والموقف واحد، والمطاف والمسعى واحد؛ فإنّ هذا هو أساس تحقيق القوّة في أنفسنا، كيفَ والأُمم قد تحرّكت ضدّنا من كلّ أقطار الأرض، تصديقاً لقول نبيّنا محمّد(ص)، حيث قال: «يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل: ومن قلّة نحن يومئذٍ؟ قال: بل أنتم يومئذٍ كثير، ولكنّكم غُثاءٌ كغُثاء السيل، ولينزعنّ الله من صدورِ عدوّكم المهابة منكم، وليقذفنّ الله في قلوبكم الوهن، فقال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال: حبّ الدنيا وكراهية الموت».
وعلينا أن ننفتح على كلّ الشعوب المستضعفة التي نلتقي معها في مواجهة الاستكبار العالمي، وأن نتعاونَ معها في القضايا المشتركة التي ترفع إنسانيّة الإنسان إلى أن لا يكون عبداً للإنسان، على قاعدة ما بيّنه تعالى بقوله: {ولا يتّخذ بعضُنا بعضاً أرباباً من دون الله}.
ويجدر بنا أن نؤكّد في هذا المقام أنّ على الحجّاج أن يكونوا ضيوفاً طيّبين في هذا الموسم المبارك، وأن يحافظوا على سلامة الأمن، الذي هو أمن المسلمين جميعاً، حتى يكون الموسم موسم الخير والبركة والوحدة، الذي يتقبّل الله في الطاعات والقُرُبات من جميع المسلمين، وقد قال تعالى: {جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس}.
وأخيراً، أسأل الله العليّ القدير أن يتقبّل أعمالكم، ويُنجح طلباتكم، ويوفّقكم لما فيه رضاه في الدنيا والآخرة، وأن ينفع بكم الإسلام والمُسلمين، ويجعلكم من المدافعين عن الإسلام وحُرُماته أمام حركة المستكبرين، وأطماع الطامعين، إنّه سميع مجيب.