وجّه سماحة العلامة المرجع، السيد محمد حسين فضل الله، نداءً خصّ فيه علماء المسلمين من السنّة والشيعة، جاء فيه: في غمرة الأحداث التي تعصف بالعالم الإسلامي، وفي ظلّ تصاعد الأزمات وتشكّل المحاور السياسية والطائفية والمذهبية داخل الأمة، وصولاً إلى الاشتباك الأمني والسياسي والثقافي، والصراع على الأوهام تحت عناوين حماية هذه الجماعة أو تلك، أحببت أن أتوجه إلى علماء المسلمين من السنة والشيعة لأطلب منهم أن يتحملوا مسؤوليتهم التاريخية أمام الأمة ومصيرها.
إنني ألمح عالماً إسلامياً يتداعى تحت ضربات الهجمة الأمريكية الإسرائيلية الساعية لإحراقه بالفتن الداخلية المتوالية، ولا أجد تركيزاً إسلامياً كبيراً على مخاطر هذه الهجمة في أهدافها التفتيتية البعيدة المدى، بل أرى استغراقاً في الجانب المذهبي على حساب الأفق الإسلامي العام، كما ألمح عبوراً من المذهبية إلى الشخصانية والفردية وصولاً إلى تكريس زعامات قد لا تحمل قيم الإسلام في وعيها، ولا تتطلع إلى مصير الأمة في حركتها.
إنني لأستغرب حقاً كيف أن جيوش الاحتلال تحاصر الأمة داخل أوطانها في فلسطين والعراق وأفغانستان وتقيم المعسكرات الضخمة في مواقع أخرى، بينما تنطلق الدراسات في بعض بلداننا عن حجم الشيعة والسنة وتعداد المسلحين والمقاتلين هنا وهناك، وكأن السنة والشيعة يمثلان عشيرتين متنازعتين، وأن المطلوب هو توقع ما سيحدث بعد حصول التصادم الكبير.
وأمام هذا الواقع الصعب والخطير والذي يزداد صعوبةً وخطورة يوماً بعد يوم، أتوجه إلى علماء الأمة من السنّة والشيعة، مناشداً إياهم التدخل لحسم الخيار لمصلحة الأمة من خلال إدراكهم للأمور وتوجيههم للمسائل الآتية:
أولاً: لقد دخل الوضع المذهبي في خطوط المحرمات الكبرى، وبدأنا نفقد أدب النقد لندخل في الإساءة للآخرين في كلمات الإساءة لصحابة الرسول(ص) وأهل بيته الكرام(ع)، وأصبحنا نشهد واقعاً من التخلف تحرسه زعامات لا تحمل الإخلاص للأمة ولا التزام الإسلام، ولا تتطلع إلى مصلحته العليا، بل إلى مصالحها وارتباطاتها، وعلى العلماء من السنة والشيعة أن يشرعوا في التصدي لهذا الواقع ليس على مستوى تحريمه بالكلمة فحسب، بل على مستوى الحركة التي تحاصره في خطوطه الميدانية.
ثانياً: إننا نجد من علماء المسلمين، من فريق هنا أو فريق هناك، من يحاول أن يركب الموجة المذهبية التي يطلق عنانها المستكبر الأمريكي ويوفر لها كل الظروف، في العراق وما حوله، لينطلق هؤلاء بدعواتهم لحماية فريق مذهبي من المسلمين، وينطلق أولئك بالحديث عن الفظاعات التي يتعرض لها الفريق الآخر، ولنشهد ـ كما شهدنا قبل أيام ـ مؤتمراً في موقع يديره علماء معروفون، وكلمات من مواقع أخرى لعلماء آخرين، ولنستمع إلى الفتاوى التي تصب الزيت على النار على مستوى الأمة كلها، لتختلط المسألة على الناس وليشوّه المشهد العام على مستوى الأمة، إلى الحد الذي بتنا نخاف عليها، ليس من المستكبر فحسب، بل من أبنائها وممن يفترض أن يكونوا الطليعة الواعية في حماية وحدتها وصون عزتها، وهو الأمر الذي يدفعنا للتوجه إلى هؤلاء العلماء لنقول لهم: اتقوا الله فإنكم توشكون أن تضيعوا الأمة وتدخلوها في متاهات الغرائزية المذهبية التي تحرق الأخضر واليابس في كل مكان، بينما المطلوب منكم أن تعملوا على تطويقها في مهد المواقع التي تتحرك فيها.
ثالثاً: إن على علماء المسلمين ألا يكونوا ضحية أو مطية للمشروع الأمريكي الذي يحاول تقسيم الأمة إلى محورين؛ أحدهما "معتدل" وآخر "متطرف"، لأن هذا التقسيم لا يتحرك لحساب فريق من المسلمين، بل ينطلق ليكون المدخل لعودة الحياة إلى الحركة الأمريكية في المنطقة، بعدما غرقت في الوحل العراق والأفغاني، وبعد الانتكاسات التي أصيبت بها في لبنان من خلال فشل الحرب الإسرائيلية الأخيرة.
إن علينا أن نعرف بأن بديل الإدارة الأمريكية عن فشلها في المنطقة هو إشعال نار الفتنة المذهبية من جهة، وإذكاء روح التقاتل والتنازع الداخلي، وهو ما يحصل في العراق وفلسطين ولبنان، وعلينا ألا ننخدع بأوهام التسوية التي يتحدثون عنها بالنسبة إلى المسألة الفلسطينية، لأن أمريكا تتحرك لدفع الفلسطينيين نحو التقاتل الداخلي، كما تريد للبنانيين أن يستغرقوا في مشاكلهم الداخلية أكثر، ولذلك فهي تمنع التوصل إلى حل ليخدم الاستقرار في لبنان، بل هو يخدم إسرائيل التي تعيد تجميع قوتها وتعيد تشكيل جيشها ومخابراتها.
ويراد للعراق أن يبقى مشغولاً بالحصص المذهبية والعرقية في فوضى أمنية تهدد بحرب أهلية ليساهم ذلك في بقاء الاحتلال وتحقيق مصالحه الاستراتيجية على حساب مصالح الأمة.
رابعاً: إن المحور الغربي المدعوم من أمريكا والذي تتحرك فيه دول الاتحاد الأوروبي لا يزال يصرّ على إنعاش أمريكا وعدم الاعتراف بهزيمتها في العراق، لأنه لا يريد أن يتحرك ذلك إلى منعطف سياسي حقيقي يصب في مصلحة القوى الإسلامية وقوى التحرر. ولذلك فإن مساعي هذا المحور تتركز على حماية المشروع الغربي بالتصويب مجدداً على الإسلام وبإذكاء نار المذهبية والطائفية.
خامساً: إنّ قضايا المسلمين في معظم بلدانهم وفي مسائلهم الاستراتيجية باتت خاضعة للبرامج التي يضعها الآخرون لحلّ مشاكلهم الخاصة في تلك البلدان بعنوان خادع، وهو حلّ مشاكل المسلمين من أهل هذا البلد أو ذاك، وهو الأمر الذي يسيء إلى الواقع الإسلامي، لأن الآخرين من دول الاستكبار يحركون الأمور لمصالحهم لا لمصالحنا، وهو ما يفرض على أولي الأمر، ولاسيما العلماء الواعين، التحرك لحلّ مشاكل المسلمين من خلال المخلصين للواقع من القيادات المسؤولة.
إننا نريد لكل المرجعيات من السنّة والشيعة، أن تتحرك ميدانياً لدراسة مشاكل العالم الإسلامي في اجتماعات عملية بعيداً عن كل تقاليد البروتوكول في عزلة البعض عن المشاركة الفعلية، لأن خطورة الواقع تتجاوز كل التقاليد الخاصة والعامة للمرجعيات.
سادساً: إن الله أراد للمسلمين أن يأخذوا بأسباب القوة التي تجعلهم أمة قوية قادرة فاعلة في القرار الشامل في العالم، ومنفتحة على عناصر التقدم في الجانب الاقتصادي لتنمية ثرواتهم، وفي الجانب السياسي لوضع القاعدة لقضايا الحرية والاستقلال، وفي الجانب الاجتماعي من أجل قضية الوحدة الإسلامية القائمة على اللقاء فيما اتفقنا عليه والحوار الموضوعي العقلاني فيما اختلفنا فيه.
سابعاً: إن الواقع الإسلامي يحتاج إلى الموقف الحاسم من العلماء في مواجهة الفئات التكفيرية على مستوى التثقيف العام، بعيداً عن العناوين الفردية أو الشخصية أو المذهبية، ومن جهة أخرى لا بد أن نتحرك على مستوى الفتوى والموقف والحركة في مواجهة الاحتلال كله باعتباره خطراً استراتيجياً يهدد مصير الأمة كلها.
إن هذا الواقع بكل تداعياته يضع علماء المسلمين من السنة والشيعة أمام مسؤولياتهم الكبرى، كما يضع مراجعهم في النجف، وقم وفي الأزهر والحجاز، وفي بقية المواقع أمام التحدي الكبير لتنطلق بردّ فعل واعٍ وبحركة تنظم إليها جهود اتحاد علماء المسلمين، ومجامع التقريب، ومنظمة المؤتمر الإسلامي، ورابطة العالم الإسلامي، وكل الهيئات والمؤسسات الإسلامية لصياغة وحدة الأمة ضمن ميثاق إسلامي جامع وشامل وللضغط على كل العلماء العاملين في السلك الديني والحوزوي لتكثيف حركتهم بما يحفظ وحدة المسلمين وبما يحمي الأمة...
إنني أناشد كل المرجعيات أن تتدخل مباشرة لصون هذه الوحدة، وأن تتابع حركة ممثليها ميدانياً بما لا يسيء إلى هذه الوحدة، وبما يحفظ حركة الإسلام في المنطقة والعالم، وخصوصاً أننا في مرحلة مفصلية يمكن أن تمهّد الطريق لمشروع إسلامي وحدوي عالمي بعد إخفاق المشاريع المضادة، أو أن نسقط في الوحول والهوامش وحروب المذهبيات والزعامات والعشائر، فتسقط معها هيبة الإسلام ويتداعى تأثيره ويضعف كيانه وحضوره.