بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
{وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ}.
تحدّثنا هذه الآية عما يتحدث به أهل النار، عندما يحاولون أن يناقشوا واقعهم، ويتحدثوا عن الأسباب التي انتهت بهم إلى هذا الواقع؛ لماذا هم في أصحاب السّعير، مع أن جيرانهم في الجنة، وأقرباءهم في الجنة، لماذا هم في أصحاب السّعير؟
إنهم يحاولون أن يناقشوا القضيّة في دراسة لكلّ تاريخهم، لكلّ أسلوبهم في العلاقات، لكل طريقتهم في المعاملات، لكلّ أوضاعهم.
تعطيل العقل والسّمع
{وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ}.
مشكلتنا – كما يقولون - أن الله كان يدعونا من خلال رسله ومن خلال أوليائه ومن خلال المبلّغين لرسله، كان يدعونا إلى التقوى والخير والطّاعة، ولكننا كنا نغلق أسماعنا عن كلّ دعوة للخير، كنّا لا نتوقّف أمام الدّعاة إلى الله لنسمعهم، وكنّا لا نستجيب للنّاصحين لنا لنتقبّل نصيحتهم أو لنناقش فيها.
ما كنا نسمع، ولأننا لم نكن نسمع، فإن كلمات الخير لم تكن لتدخل إلى قلوبنا، لأن طريقة أن تملأ قلبك بالخير، هي أن تسمع كلمات الخير، وأن تترك لأذنك أن تنقل لك كلمات الخير، لتستقرّ في قلبك، وليتحرّك قلبك في هذا الاتجاه. أمّا إذا أغلقت أذنيك عن كلّ ذلك، فإنّ أذنيك سوف لا تقومان بمهمّتهما، وعند ذلك، يقوم الشيطان بمهمّته كاملة غير منقوصة.
ثم كانت هناك مشكلة ثانية عند هؤلاء الناس، وهي أنهم كانوا لا يعقلون. لقد أعطاهم الله عقلاً، ولكنّهم لم يستعملوه ولم يشّغلوه ولم يجعلوه الأساس فيما يحقّقون لأنفسهم من قناعات ومن مواقف.
كانوا يملكون عقلاً، ولكنّهم عطّلوه عن العمل، ويملكون سمعاً، ولكنّهم عطّلوه عن العمل، والله يساوي بين تعطيل الطاقة وبين فقدانها... {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ}، أي أنّ عندهم سمعاً، وليسوا صمّاً، وعندهم عقل وليسوا مجانين، لكن لأنهم لم يستعملوا سمعهم فيما أراده الله لهم أن يستعملوه، نزّلهم الله منزلة من لا سمع له، ولأنهم لم يستعملوا عقولهم فيما يريد الله لهم أن يستعملوها، نزّلهم الله منزلة من لا عقل لهم.
ما الفرق بين أن تكون عندك طاقة ولا تنتفع بها، وبين أن لا تكون عندك طاقة؟ افرض أنّ لديك مالاً، ولكنك لا تستعمله، ما الفرق بينك وبين الّذي لا يملك مالاً؟ كذلك الأمر إذا كان عندك عقل، ولكنّك تعطيه إجازة، عندك سمع ولكن تقفل أذنيك.
ولأنّ الله يعتبر أن قيمة الطاقة التي عندك، سواء كانت طاقة بصر أو سمع أو فكر، أنّ قيمة الطاقة التي عندك بمقدار ما تنتفع بها، وبمقدار ما تشغلها، فإذا لم تستعمل طاقتك في حال حاجتك إليها، فكأنك بدون طاقة.
ولهذا قال الله تعالى: {لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} من البهائم. لماذا؟ لأن البهائم ليس عندها طاقة عقليّة ووعي، بل غريزة، والله نظّم للبهائم غريزتها في كل شؤون حياتها، بينما ترك للإنسان أن ينظّم غرائزه ولكنّ الإنسان لم يستعمل هذا التّنظيم، ولم يحاول أن ينظّم نفسه، لأنه لم يستخدم الطاقات، فهو أضلّ من البهائم.
البهائم لا تملك ما تدير به نفسها من التعقّل ومن الإرادة الاختياريّة، بينما يملك الإنسان عقلاً يوضح له الصّورة، ويملك إرادة تنظّم له السير على الطريق.
سبب الكفر!
وعلى هذا الأساس، نفهم أنَّ الله عندما يتحدث عن مشكلة الكفر وعن مشكلة الضّلال، فإنّه يعتبر أنّ مشكلة الكفر هي مشكلة أنّ الإنسان لا يشغل سمعه ولا بصره ولا عقله، لا يحاول أن يتعلّم، وإذا تعلّم لا يفكّر، وكذلك مشكلة الضّلال أيضاً هكذا، فالإنسان غير مستعدّ لأن يسمع، ولا أن يفكّر.
نلاحظ الكثير من الشباب يقول إنّ عنده قناعة معيّنة، ولكن إذا طلب منه أن يناقش يردّد إنّه غير مستعد أن يناقش أو يفكّر. هذا معناه أنّه ليس مستعدّاً لأن يناقش مصيره، وليس مستعدّاً لأن يناقش فكره. والله سبحانه وتعالى جعل العقل حجّةً على الإنسان، فيوم القيامة يحتجّ عليك بالعقل، فبمقدار ما تملك من عقل، وبمقدار ما تملك من سمع وبصر، تكون الحجَّة عليك.. كلّ حاسّة من الحواسّ، وكلّ طاقة من الطاقات، هي حجة من الله عليك. فالذي يحتاج إلى البصر، يقول لك الله أليس عندك عينان، والّذي يحتاج إلى سمع أعطيتك أذنين، وكذلك إلى اللّمس أعطيتك حاسّة اللّمس، والذي يحتاج إلى تفكير يقول لك الله أعطيتك عقلاً...
طاقاتنا حجّة علين
بعض الآيات تحتاج إلى أن نفكِّر فيها كي نستخلص قاعدة فكريّة، {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ – لا تستمع إلى الشَّيء الّذي ليس له أساس علميّ وفكريّ عندك – إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَاد - والمراد بالفؤاد العقل - كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُول}.
في الحديث: "السَّمع وما وعى، والبصر وما رأى، والفؤاد وما عقد عليه".
فالله سبحانه وتعالى يحتجّ علينا بكلّ طاقة من الطاقات التي أعطانا إيَّاها. فعلى هذا الأساس مثلاً، هناك أناس عندهم سمع، وهناك أماكن يُلقى فيها ما يسمعه الإنسان، ولا يذهب، فليس معذوراً. الله سبحانه وتعالى عندما أنزل رسالته، لم يكلّف النبيّ بأن يطرق كلّ باب، ومن لا يفتح له يكسر بابه ويدخل ويلاحقهم كي يسمعهم، الله أرسل رسوله بالرّسالة على نحو يهيِّئ للنّاس إمكانيّة أن يسمعوا، أي أن يطرح الرِّسالة بطريقة من يريد أن يسمع يسمع، ومن يقدر أن يتعلّم يتعلّم.
ليس واجباً على الأنبياء والعلماء أن يطرقوا الأبواب على النّاس، هناك مساجد، نواد، أماكن للمحاضرات، والذي لا يحضر ليس معذوراً عند الله.
"يؤتى بالعبد يوم القيامة، فيقال له: لمَ لم تعمل؟ فيقول: لم أعلم. فيقال له: هلّا تعلمت؟!". هل كنت قادراً على تحصيل العلم أم لا؟ فإذا كنت قادراً أن تعرف، فالله الحجّة عليك. وهذا تفسير قوله تعالى: {قُلْ فلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ}، أي أنّ الله يحتجّ على الناس حجّةً لا يستطيعون الجواب عليها، لأنهم قادرون على التعلّم. نعم، والذي لا يكون قادراً على التعلّم، يعيش في غابات أفريقيا مثلاً، ويعيش في أماكن لم يصلها أحد، لا يعذّبه الله.. فالله يحتجّ عليك بالشّيء الذي يصل إليك.
طاقاتنا هي حجّة من الله علينا، ولا سيّما العقل، هذا العقل لا يتركك، عقلك هو أمانة الله عندك. أيضاً هذا العقل بحاجة إلى أن تنمّيه كما تنمّي جسدك، إذا كان جسدك ضعيفاً، هل تتركه هكذا، أم تفتّش عن مقوّيات طبيعية واصطناعية لتقوّي جسدك ويتماسك؟! عقلك يحتاج إلى تقوية أيضاً، وتقويته أن تنمّيه بالتّفكير.
لا تؤجّروا عقولكم
في هذه الأيّام، هناك عمليّة بيع عقول وتأجير عقول وإعارة عقول، علينا أن نتعوَّد دائماً على طريقة تقوية العقل، كلّ مشكلة تحدث عندك، سواء كانت مشكلة في البيت، أو في الضّيعة، أو في الوطن كلّه أو الأمَّة كلّها، أيّ مشكلة تعرض على فكرك، حاول أن تفكر فيها بحجم فكرك، لا تقل ليس لي شغل ولا أفكّر، عوّد فكرك على أن يواجه المشاكل، وحاول أن تفهم أسبابها وظروفها وإمكانية الحلول لها.
حاول أن تشغل عقلك بنفسك، وحاول أن تشغل عقلك مع عقل غيرك. لا تقل لغيرك فكّر عني وأعطني الحلّ، أعطني القرار، فكِّر وشاور غيرك، حتى إذا انضمّ تفكيرك إلى تفكير غيرك، أمكن للثّاني أن يصحِّح الخطأ، أو أن تصحِّح له الخطأ، ويمكن أن ترجعوا إلى ثالث يصحّح لكم، ولكن فكّر مع غيرك، لا تدع غيرك يفكّر لك، فكّر أنت بنفسك، وشارك غيرك بعقلك، بهذه الطّريقة يتمرَّن عقلك.
العقل مثل اليد، فيدك إن لم تحمل بها شيئاً في اليوم الأوّل، في اليوم الثّاني، الثّالث العاشر... آخر الأمر لن تستطيع أن تحمل بها شيئاً.
كلّما أبعدت يدك عن العمل ضعفت، حتى إنّ بعض الناس يقولون إنّك إذا تركت اليد وما استعملتها تصغر اليد. هناك بعض النظريّات العلميّة تقول هكذا، بمقدار ما تستعمل يدك، تعطيك طاقة.
لماذا نتحدّث نظريات؟ أنتم الآن شباب، وجميعكم يلعب رياضة. بالنّسبة إلى حمل الأثقال، كيف يستطيع الواحد منكم حمل مئة كيلو؟ هل كان من الأساس قادراً على ذلك، أم حصل ذلك له عبر التّدريب؟ وهكذا، كلّما مرنت عضلاتك على حمل الأثقال أكثر، صار عندها طاقة أكثر.
مثلٌ آخر عن الشَّباب والرّكض؛ في اليوم الأوَّل الّذي تبدأ فيه الرَّكض، قد لا يمكنك أن تركض أكثر من مئة متر، لأنَّك غير ممرَّن، ولكن إذا صرت تركض كلَّ يوم لمئة متر إضافيَّة، فستزيد قدرتك وطاقتك. وهكذا كلّ طاقة تملكها، فكلّما استخدمت عضواً من أعضائك، أعطاك قوّة جديدة.
والعقل مثل الأعضاء، فهو جهاز من الأجهزة، فإذا لم تمرّنه دائماً، سيتعطّل آخر الأمر، وبمقدار ما تشغل عقلك بالقضايا، يقوى عقلك.
اليوم حدثت عندك مشكلة في البيت بين إخوتك الصّغار، تقاتلوا مع بعضهم البعض، حاول في هذا المجال أن تحلّ المشكلة فيما بينهم. فكّر في الموضوع. بعد يومين، إذا اختلف إخوتك الكبار أيضاً، ستستطيع أن تفكّر أكثر في المشكلة، وستجد أنّك تستطيع أن تصالحهم. ثم بعد ذلك، إذا تنازع أمّك وأبوك، تستطيع أن تصالحهما. لكن إذا لم تعمل أيّ شيء، سيكون عقلك مشلولاً ومعطّلاً.
فلهذا، بمقدار ما نستعمل عقلنا أكثر، ينمو العقل أكثر، ينمو العقل بمواجهة المشاكل، بالقراءة، بالسّمع، بالحوار، بمحاولة استحداث قضايا نفكّر فيها... وبهذا يكبر العقل وينمو.
نعطيكم مثلاً من الأمثلة الشعبيّة: "اسأل مجرّباً ولا تسأل حكيماً"، لأنّ المجرّب دائماً عقله يشتغل، والحكيم يأخذ أفكار الآخرين، أمّا المجرب، فهو ينتج الأفكار. ولهذا ورد في الحديث: "التّجارب علم مستحدث"، التجربة تعطيك عقلاً جديداً . التجربة هي عمليَّة حركة العقل.
لهذا، في كلّ القضايا العائلية، الاجتماعية، الاقتصادية، التجارية، السياسية، في أي مكان تعمل، حاول أن تفكّر في كل ما حولك، لا تعتمد دائماً على التعليمات، بل خذها وفكر فيها ولاحظ الذي يعطيك التّعليمات كيف يتصرّف.
الأجر على قدر العقل
فليكن عندك دائماً دقّة الملاحظة، دع عقلك يعمل، حاول، التجربة تعطيك عقلاً جديداً، تعطيك طاقة جديدة. وقضايا الدنيا والآخرة مرتبطة ببعضها البعض. إنّ الإنسان العاقل الذي عنده وعي، إذا صلّى ركعتين، يثيبه الله على هاتين الرّكعتين أعظم من الّذي يصلّي مئة ركعة وعقله خفيف ووعيه خفيف.
حتى أعمالك، خدماتك، يعطيك الله عليها ثواباً بقدر وعيك للعمل، وبقدر فهمك للعمل، وبمقدار ما عندك من عقل.
كما أنّ الله أيضاً يعاقبك على مستوى عقلك في هذا المجال، لأنَّ الله قدّر الأشياء بمقاديرها، ولهذا عندنا "ركعتان يصلّيهما العالم خير من ألف ركعة يصلّيها العابد"، و"تفكّر ساعة خير من عبادة سنة"، لأنّ عبادة من دون ذكر، ليس فيها نفع. العبادة يراد بها أن تنفتح على الله والحياة من خلال الله، لكن إذا فكّرت ساعة، فهذا التفكير ربما يرتب كلّ حياتك.
مما ورد في الأحاديث حديثان؛ الأوَّل عن أهميّة العقل عند الله سبحانه وتعالى بأنّه الأساس، وهذا يحمّلنا المسؤوليّة، والحديث الثاني عن قصّة ضعف العقل وقوَّة العقل بالثّواب.
الحديث الأوّل وارد وصحيح عن رسول الله (ص): "إنّ الله عندما خلق العقل قال له اقبل فأقبل، ثم قال له أدبر فأدبر – العقل ليس مخلوقاً ماديّاً، ولكن هذه طريقة في التعبير - ثم قال: بعزتي وجلالي، ما خلقت خلقاً أعزّ عليّ منك، إيّاك آمر وإيّاك أنهى، وبك أثيب وبك أعاقب".
الله عندما يوجّه أمراً إلى الإنسان، يوجهه إلى عقله، وعندما يوجّه نهياً يوجّهه إلى عقله.
عندما يثيب الله الإنسان يكون من خلال عقله، ولذا "رفع القلم عن المجنون حتى يفيق"، لأن ليس عنده عقل، فعلى أيّ أساس يحاسبه الله؟!
وفي حديث فيه طرافة مرويّ عن أئمة أهل البيت (ع) في الزمن السابق أيّام الأنبياء السابقين، ذهب عابد إلى جزيرة خالية، وفيها بساتين وفواكه وأشجار وأثمار وغيرها، وصار يعبد الله سبحانه وتعالى، وكانت التقارير تصعد كلّ يوم تصعد إلى الله وتسجّل ثواب العابد في ملفّ أعماله. وهناك ملك من الملائكة مسؤول عن صحيفة أعمال هذا الإنسان. هذا الإنسان من الصباح حتى المساء يركع، يدعو، يصلّي، يتخشّع لله في مستوى كبير، لكن يعطى في المئة خمسة من الثّواب، مع أن طبيعة حجم العمل يقتضي أن يعطى مئة في المئة. فسأل الملاك الله سبحانه وتعالى: لماذا ينال هذا الإنسان هذا القدر البسيط من الأجر، مع أنّه يعبدك هذه العبادة بكلّ شروطها؟
طلب الله منه أن يعيش معه ليعرف الحقيقة، وصار هذا يصلّي وذاك يصلّي، ونشأت بينهما صداقة ومعرفة وعلاقة وحديث فيما بينهما. التفت هذا الملك إلى صاحبنا العابد وقال له: هل أنت مرتاح في هذه الجزيرة الخضراء الحلوة؟ ردَّ عليه: حقيقة إنّهت ممتازة، لكنّ هناك شيئاً واحداً معيباً فيها. قال الملك له: ما هو؟ قال: لو كان لربنا حمار في هذه الجزيرة ليرعى هذا العشب...لم يفكّر في الناس كيف تأتي إلى الجزيرة، فكر فقط في الحمار كيف يرعى العشب، فعرف أنّ عقله ضعيف، فأوحى الله إليه إنّي أثيب الناس على قدر عقولهم، فصحيح أنّه يعبد الله كثيراً، ولكن وعيه للعمل قليل. الله لا يعطي فقط على حجم العمل، ولكنّه يعطي على نوعيّة العمل. إنّ الله لا ينظر إلى وجوهكم، ولكنه ينظر إلى قلوبكم.
ما هو طريق الجنّة؟
من خلال هذا، ما هي النّتيجة التي نستخلصها؟ {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ}.
إذا أردنا أن نكون من أهل الجنّة، فطريق الجنّة هو أن نشغل آذاننا، فنسمع بها ما يرضي الله، وما يغني لنا قناعاتنا على أساس الهدى، وأن نشغل عقولنا حتى تفكر وتنتهي إلى النّتيجة الصحيحة {فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ}، ثم بعد ذلك {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ} أولو العقول.
فإذاً، النتيجة التي نأخذها الآن، أن لا نعير آذاننا إلى كلّ أحد، بحيث تعتبر أنّ أذنك ملك فلان، بل ملكك. وهكذا إذا كان البيت بيتك، فإنّك تستطيع أن تتصرّف كما تشاء فيه، ولكن إذا كنت قد أعرت بيتك لأحد، فالوضع سيختلف. وكذلك عندما لا تعير أذنك لأحد، تبقى أذنك لك. إذا ألزمت ببعض الكلام ولم تقتنع به، ارفضه، وبعض الكلام اقبله. حرية الاختيار لك، ولكن إذا أعرت أذنك إلى أحد، فمعنى ذلك أنّك سلّمته حياتك.
ذكرت لكم حديثاً من قبل: "من أصغى إلى ناطق فقد عبده"، الاصغاء هو عمليّة خضوع - فَإِنْ كَانَ النّاطِقُ عَنِ اللهِ فَقَدْ عَبَدَ اللهَ، وَإِنْ كَانَ النَّاطِقُ يَنْطِقُ عَنْ لِسَانِ إِبْلِيسَ فَقَدْ عَبَدَ إِبْلِيس".
آذاننا لا نعيرها لأحد، تبقى لنا، نأخذ ما يفيدنا ونترك ما لا يفيد. اطرح خارجاً كلام الفتنة. وكذلك عقلك، لا تعره لأحد، سواء في مجال العقيدة، أو السياسة، أو الحياة الاجتماعية...
لا أقول لكم أن لا تثقوا بأحد، لأنّ هناك أهل فكر، لكن حاولوا أن تفكّروا وتأخذوا من فكرهم كي تصلوا إلى نتيج، أن لا نتعوّد دائماً أن نرفع أصابعنا، بل نتعوّد أن نفكّر، وإذا اقتنعنا نرفع أصابعنا على هذا الأساس، وبذلك لا أحد يستطيع أن يغشّنا ولا يتلاعب بعواطفنا، لأنّنا إذا كنا نملك عقلنا، فإننا نملك قرارنا وقناعاتنا، وإذا كنا لا نملك عقلنا، فإننا لا نملك قرارنا.
وبهذه الحالة، تبقى الطاقات دائماً تنمو وتنطلق، وتظلّ تراقب وتنتقد. هناك الكثير من الزّعماء والحكّام في العالم لا يفتحون مدارس لشعوبهم، لأنهم لا يريدون للنّاس أن يتعلّموا، لأنّهم إذا تعلّموا، اكتشفوا أخطاءهم وواقعهم، أما إذا ظلّوا لا يفهمون شيئاً، فيجعلونهم حميراً يركبونهم.
هناك شيء بتعابير الثّورة الإسلامية اسمه استعمار واستحمار. بعض الناس تستحمر النّاس، بعضهم يستعمرونهم وبعضهم يستحمرونهم.
متى يستحمرون النّاس؟ عندما يكفّ الناس عن أن يفكّروا {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَار}. ضع على ظهر الحمار كتاباً من أروع الكتب، هل يصبح دكتوراً؟ ضع على ظهر الحمار ألف كتاب يبقى حماراً.
هذا المثل للإنسان الذي لا ينتفع بما عنده {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً - الأسفار جمع سفر أي كتاب - بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}.
بين العقل والعاطفة
الّذي نحتاجه دائماً، هو أن لا نعير عقولنا لأحد، ولا نؤجّر عقولنا لأحد، ولا نبيع عقولنا لأحد، لأن عقولنا ملك الله، فلا يجوز أن نملّكها لغير الله. وعلى هذا الأساس، نستطيع عندما نشغّل عقولنا، أن نبعد عنها العواطف والأمراض، لأن من أمراض العقل الشهوات. الشهوات إذا أتت على العقل تغطّيه، العواطف إذا أتت على العقل تغطّيه. دائماً شغّل عاطفتك بنسبة 20%، وشغّل عقلك بنسبة 100%.
العاطفة تحتاج إلى ضوابط، وإن لم يكن لها ضوابط، تجمح مثل الفرس، كما يقول الشاعر:
النّفس كالفرس الجموح وعقلها مثل اللّجام
عواطفك وشهواتك وطموحاتك ومطامعك تجعلك تقفز من جبل إلى جبل دون أن تنظر إلى الوادي من تحتك، لكن إذا شغَّلت عقلك، فإنّه يرشدك إلى أن تصل إلى قمّة الجبل الثاني بغير هذه الطّريقة المهلكة.
الحماس وحده لا يكفي
الجوّ العاطفي عوَّدنا على الحماس والعاطفة والانفعال وأن نصدّق كلّ شيء. فكّروا في هذه الأسباب، نعم، صحيح أنّ الشّباب عندهم طموحات وأفكار في الحياة وغايات كبيرة وأحلام، ولكنّ الأحلام بحاجة إلى عقل، لأنّ الإنسان في كثير من الحالات يحاول أن يقفز من موقع إلى موقع دون أن يعرف أنّه بحاجة إلى مراحل طويلة حتى يصله.
افهموا سياسة المراحل في الحياة، الدّراسة تحتاج إلى مراحل، لا يصح أن تأخذ شهادة متوسّطة وأنت لم تحصّل الابتدائية، لا يصحّ أن توسّط فلاناً ليعطيك شهادة، لأنّك عندما تصل لن تستطيع أن تكمل.
كذلك في الحياة الاجتماعيّة، بعض الناس يفكّر كيف يكون غنيّاً رأساً. تستطيع أن تصبح غنياً كما وصل الكثير من الناس، بدأوا من نقطة الصّفر ووصلوا. بعض الناس يفكّر بأنّه شابّ يريد أن يتزوّج، وليس عنده بيت، يحسبها، إذا توظّفت وعملت، أنا بحاجة إلى خمس سنوات، يحاول أن يأخذ الثّروة من أقصر الطريق، فيسرق مثلاً. بعض الناس يعمل، وبكلّ يوميّته يشتري ورقة يانصيب، وكلّ مليون ورقة يانصيب يربح واحد، وتبقى أنت كلّ يوم تقطع ورقة يانصيب، وآخر الأمر، لو جمعت كلّ هذه المصاريف التي صرفتها على ورقة اليانصيب، كنت فتحت عملاً لك، كذلك الأمر بالنّسبة إلى القمار، الشيطان يدخل ويوسوس لك بأنّك بالطّفرة تصبح غنيّاً بدفعة واحدة.
بعض النّاس يؤلّفون الكتب "كيف تصبح مليونيراً" وهو غير قادر أن يطبع الكتاب، ولكن يعطي نظريات، بعض الناس يعيشون مع القضايا بهذا الشكل.
التّخطيط أوّل
كذلك القضايا الاقتصاديّة بحاجة إلى عقل وتخطيط ومرحليَّة، ربما تصبح غنيّاً دفعة واحدة، ولكن لن تبقى هكذا، لأنّ الإنسان الذي لا يعيش على أساس التّخطيط، يفقد ما يحصل عليه. وكذلك الأمر في العمل السياسيّ والواقع السياسيّ، لأنّ هناك الكثير من الناس يفكّرون أنّ التظاهرة ستغيّر الدنيا كلّها، وأنّه بالهتافات سيتغيّر كلّ شيء، وأنه عندما يحمل البندقيّة سوف تسقط كلّ الطائرات في السماء.
فكّر في القضايا وبعقل واع، واحسب حساب الظروف والساحة والمتغيرات وكلّ القوى الموجودة في الساحة، واتحسب حسابك وما تملك من قوّة، وما هي أهدافك وإلى أين تصل، وإذا تحرّكت من هذه النقطة إلى أين يصل هذا التحرّك؟
اللّعبة السياسية من أعقد الأشياء. لا تأخذ السياسة على أنّها هراء وعواطف وهتافات وانفعالات وحماس. الإنسان الثّوري ليس الذي يستطيع تشغيل حنجرته أكثر، وكيف يطلق الرّصاص أكثر، بل الذي يريد أن يغيّر الواقع على أساس خطّة متكاملة مركّزة تصل إلى التّغيير ولو بعد عشرين سنة.
الإنسان الثّوريّ ليس الّذي يعمل على تخريب العالم كلّه في ساعة واحدة، الثوريّ يغيّره بعد عشرين سنة، لأنّ الثّوري ينطلق من عمليّة التّغيير بمقدار ما تكون فرص التّغيير مركّزة عنده، بمقدار ما هو ثوري.
الثوري لا يأتي بالحنجرة القوية، ربما يكون ثوريّاً ولا يهتف هتافاً واحد.
علينا أن ندرس الواقع دائماً عن طريق العقل، وليس معنى ذلك أن نجعل العقل يساوي التجميد والشّلل والجلوس في البيت، معنى ذلك أنّك عندما تجلس في البيت تخطّط، وفي الشّارع تخطّط، وعندما تحاول الإصلاح بخطّة، كلّ شيء يكون في محلّه.
على هذا الأساس، نستطيع أن ننجح في الدّنيا وفي الآخرة.
كلّ شيء له حكم شرعيّ، لذلك عندما نطيع الله في الدّنيا، نطيعه على أساس العقل، وعند ذلك، نستطيع أن نواجه الله سبحانه وتعالى على أساس نتائج العقل، حيث يستقبلنا الله سبحانه وتعالى بمغفرته ورضوانه ورحمته.
والحمد لله ربّ العالمين.
***
ع: طاقات الإنسان حجَّة عليه يوم القيامة.
التَّاريخ: 10 رمضان 1440هـ/ الموافق: 15 أيّار 2019م.
ت: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ}. تحدَّثنا هذه الآية عما يتحدَّث به أهل النَّار، عندما يحاولون أن يناقشوا واقعهم، ويتحدّثوا عن الأسباب التي انتهت بهم إلى هذا الواقع؛ لماذا هم في أصحاب السّعير...