حديثُ القرآنِ عنْ سوءِ الظَّنّ وتَبعاتِهِ في الدّنيا والآخرة

حديثُ القرآنِ عنْ سوءِ الظَّنّ وتَبعاتِهِ في الدّنيا والآخرة

يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ}[الأنعام: 116].
ويقول سبحانه وتعالى: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا ۚ إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ}[يونس: 36].
ويقول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ}[الحجرات: 12].
معنى الظَّنّ
في هذه الآيات، وفي غيرها من الآيات، يتحدَّث الله عن الظَّنّ كموضوعٍ للاقتناع، أو للحكم، أو للانتماء، أو لتحقيق الانطباع.
والمراد من كلمة (الظَّنّ)، الطَّريقة الَّتي لا تمثّل الحجَّة على ما يتَّصل بها. فنحن أمامنا في تحصيل الاقتناعات، وفي الحكم على الأشياء، وفي تحقيق الانطباع عن الأشياء أو الأوضاع، أو في الانتماء إلى الشَّيء، أمامنا طريقتان:
الطَّريقة الأولى: طريقة اليقين، وطريقة الحجَّة الَّتي ثبت لدى العقلاء أو لدى الشَّرع أنَّها يمكن أن تثبت موضوعها ومتعلّقها، بحيث إنَّ الإنسان لو فرضنا حكم بحكم، أو خرج بانطباع معيَّن، أو انتمى إلى جهة معيَّنة، وقيل له على أيّ أساس بنيت حكمك أو اقتناعك أو انطباعك؟ فإذا قال بنيته على علم أو على وثوق معيَّن واطمئنان معيَّن، أو على شهادة أشخاص موثوقين، عند ذلك، يتقبَّل النَّاس منه ذلك ويعذرونه في ذلك.
أمَّا الطَّريقة الثانيَّة، فهي أن يبني الإنسان أحكامه واقتناعاته أو انتماءه بناءً على احتمالات لا ترتكز على أساس، أو اعتماداً على أقوال أشخاص لا يملكون الوثاقة ولا العلم ولا الخبرة، وهذا ممَّا لا يعذره النَّاس فيه، ويقولون له إنَّك اعتمدْتَ على ما لا يُعتمَد عليه، وارتكزْتَ على غير حجَّة، لأنَّ فلاناً ليس ممَّن يسمع له أحد، أو لأنَّ الجهة الفلانيَّة ليست محلّ ثقة.
فالمسألة هي أنَّ الله سبحانه وتعالى يرفض للإنسان أن يرتكز، في كلّ مواقع مسؤوليَّته، على غير الحجَّة الَّتي ينطلق بها العقلاء ويرضاها الشَّرع، وهذا ما نستوحيه من قوله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ - لا تتَّبع ما لا تملك علمه، ولا تملك البرهان والحجَّة عليه، ممَّا يعذر فيه الإنسان - إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا}[الإسراء: 36].
وهذا معناه أنَّك عندما تقف بين يدي الله غداً {يَوْمَ تَأْتِى كُلُّ نَفْسٍۢ تُجَٰدِلُ عَن نَّفْسِهَا}[النّحل: 111]، فيقال لك على أيّ أساس اتَّبعت هذا الطَّريق أو هذا الشَّخص، أو على أيّ أساس حكمت؟! فإذا قلْتَ رأيت، فيُسأَل بصرُك؛ هل رأيت، وكيف رأيت؟ وإذا قلْتَ سمعت، فيُسأَل سمعُك؛ هل سمعت، وعلى أيّ أساس سمعت، وممن سمعت، وهل إنَّ ما سمعت منه يملك الوثاقة أو لا؟! وإذا قلت فكَّرت، فيُسأَل عقلك هل فكَّرت، وعلى أيّ أساس بنيت فكرك؟!
الاستنادُ إلى الحجَّة واليقين
لذلك، لا بدَّ لنا، أيُّها الأحبَّة، أن نخضع حياتنا، في كلّ مسؤوليَّاتنا، لهذا البرنامج الإلهيّ، فلا نتحرَّك إلَّا عن حجّة. والله يحدّثنا عن الأكثريَّة في العالم، هؤلاء النَّاس الَّذين يبتعدون عن الحقّ، ويبتعدون عن الهدى، والَّذين يقفون في مواقع الرَّفض للإيمان والإسلام، يقول تعالى إنَّ مشكلة هؤلاء عندما يرفضون الإيمان، ويرفضون الإسلام، ويرفضون الحقّ، أنَّهم لا يرتكزون على حجَّة، وإنما يرتكزون على الظّنّ والأوهام {وإنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئاً}[يونس: 36]، {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ}[الأنعام: 116]. والخرص هو التَّخمين الَّذي لا ينطلق من حساب دقيق، ومن محاكمة للمفردات وللأشياء.
فالله يركِّز على أنَّ النَّاس عندما تنكر ما تنكر وتبتعد عن خطّ الاستقامة، فإنَّها تبتعد عنه على أساس التَّخمين والاحتمالات، لا على أساس الحجَّة، ولذلك يقول الله سبحانه لك، إنَّ عليك أن لا تتّبع أكثر من في الأرض: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِى ٱلْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا ٱلظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ}[الأنعام: 116]، {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا}[يونس: 36].
إشكاليّةُ اتّباعِ الأكثريَّة
ونحن نرى أنَّ الفكرة الموجودة عند النَّاس، هي أنَّ على الإنسان أن يتبع الأكثريَّة. ولكنَّ هذه الفكرة من خلال علاقتها بالحقّ، هي محلّ تأمّل، والسَّبب أنَّ الأكثريَّة في المدى التأريخي كانت ضدّ الحقّ؛ فكم من النَّاس على مدى التَّاريخ كانوا مع الأنبياء، وكم عدد النَّاس الّذين كانوا مع خصومهم؟! وكم عدد النَّاس الّذين كانوا مع المصلحين، وعدد الَّذين كانوا يفسدون في الأرض أو يتنكَّرون للإصلاح؟! حتَّى في واقعنا الحاضر، نلاحظ، غالباً، أنَّ الأكثريَّة لا تنطلق من موقع فكر، ولا من موقع حسابات دقيقة للأشياء، بل تنطلق، غالباً، من السَّطح، أي من رغباتها وأهوائها وما إلى ذلك، بينما الأقليَّة غالباً هي الَّتي تفكّر وتناقش وتدخل في حوار حول الأمور.
ولذلك، الفكرة الموجودة عند كثير من النَّاس، أنّه عندما يسألون أحداً عن رأيه في موضوع معيَّن، يقول أنا مع النَّاس، أو مع أهل البلد، أو أنا مع العائلة، فما يقولونه أقوله. يقول الإمام الكاظم (ع) في بعض كلماته المرويَّة عنه: "أبلِغْ خَيْراً، وقُلْ خَيْراً، ولا تَكُن إمَّعَةً. قلتُ: وما الإمَّعَةُ؟ قالَ: لا تَقُلْ: أنا مَعَ النَّاسِ، وأنا كَواحِدٍ مِن النَّاسِ، إنَّ رسولَ اللهِ (ص) قالَ: يَا أيُّها النَّاسُ، إنّما هُما نَجدانِ: نَجدُ خَيرٍ ونَجدُ شَرٍّ، فلا يَكُنْ نَجدُ الشَّرِّ أحَبَّ إلَيكُمْ مِنْ نَجدِ الخَيرِ".
يعني أنَّ هناك طريقين؛ طريق حقّ وطريق شرّ، والنَّاس ليس هم من يحدّدون لك طريق الحقّ أو طريق الشَّرّ، بل عليك أنت أن تدرس الأمور وتختار، فما يقوله النَّاس فكّر فيه جيّداً. وهذا لا يعني أن نهمل النَّاس، أو أن نهمل المجتمع عندما يتبنَّى فكرةً أو قضيَّة، لكن علينا عندما يتبنّى المجتمعُ فكرةً أو قضيَّة، أن لا نسقط تحت تأثير الكثرة. كما عندما يقول بعض النَّاس، مثلاً، إنَّ فلاناً ليس معه إلَّا 10 أو 15 في المائة، بينما فلان معه 80 في المائة، ويبني على أساس ذلك، ولكنَّ هذا ليس دليلاً على الحقّ، النَّبيّ (ص) عندما انطلق، لم يكن معه إلَّا عليّ بن أبي طالب (ع) والسيّدة خديجة (ع).
أساسُ الحكمِ على النَّاس
فالمسألة هي أن تدرس أنت الأمور، لأنَّك أنت مَنْ سيُسأَل يوم الحساب على أيّ أساس حكمْت، فلو فرضْنا أنَّك حكمت على فلان بأنَّه خيّر أو شرّير، أو حكمت على القضيَّة الفلانيَّة بأنّها الحقّ أو الباطل، فعلى أيّ أساس كان ذلك؟ تقول على أساس ما قاله النَّاس؛ ولكن، هل النَّاس أنبياء؟ هل هم أولياء؟ فالنَّاس عندها فكر وأنت لديك فكر، ويقول لك الله سبحانه أنا لم أجعل فكر النَّاس حجَّةً عليك، بل الحجَّة عليك هي عقلك، أو النَّبيّ أو الإمام، وإذا كانت المسألة شرعيَّة، فالحجَّة عليك هي الفقيه العادل. نعم، شاور النَّاس، ولكن لا على أساس أن تقول لهم سمعاً وطاعةً، بل أن تسمع رأيهم وتحرّك رأيك، "مَنَ شَاوَرَ الرّجَالَ شَارَكَهَا فِي عُقُولِهَا"، فعمليَّة المشاورة، أن تسمع وجهة نظر وتفكّر فيها؛ هل تقتنع بها أم لا. فلا بدَّ لك أن تبني حكمك أو اقتناعك أو انطباعك عن النَّاس على أساس حجَّة تقدّمها بين يدي الله، بحيث يتقبّلها الله سبحانه وتعالى.
الحملُ على الأحسن
هذا في الخطّ العامّ. أمَّا في الخطّ الاجتماعيّ، في علاقات النَّاس بعضها مع بعض؛ علاقتك مع بيتك، مع زوجتك وأولادك، مع جيرانك، مع من تخالط وتعاشر، ومن تعمل عنده أو يعمل عندك، مع كلّ الأوضاع الموجودة. ما هو الخطّ؟
الحديث المرويّ عن أمير المؤمنين (ع)، يقول: "ضَعْ أَمْرَ أَخِيكَ عَلَى أَحْسَنِهِ حَتَّى يَأْتِيكَ مَا يَغْلِبُكَ مِنْهُ، ولا تظنَّنَّ بِكَلِمَةٍ خَرَجَتْ مِنْ أَخِيكَ سُوءًا وَأَنْتَ تَجِدُ لَهَا في الخَيْرِ مَحْمَلاً". فأمير المؤمنين (ع) يقول إنّه عندما تصدر عن أخيك كلمة، ويكون لها عدَّة احتمالات، بحيث يمكن أن يقصد بها الخير، ويمكن أن يقصد بها الشّرّ، فلا تحمل كلمته على احتمال الشَّرّ، وإن افترضْتَ ذلك، إذا كان هناك احتمالٌ للخير في كلامه. فعندما تسمع من أخيك شيئاً، أو تقرأ له شيئاً، أو ينقل لك عنه شيء، وهذا الشَّيء يحتمل أن يكون مقصوده خيراً، ولكن لم يعرف أن يعبّر جيّداً، ويحتمل أن يكون مقصوده شرّاً، هنا عليك أن لا تغلّب احتمال الشّرّ على احتمال الخير، ما دام احتمالُ الخير ممكناً، وهذا يشمل كلّ الواقع؛ الواقع السّياسيّ، والواقع الاجتماعيّ، والواقع الثَّقافيّ؛ أن لا تبادر إلى الحكم بالشَّرّ ما دام هناك مجالٌ لاحتمال الخير.
وهذا ينطلق في الخطّ الإنسانيّ لمبدأ العدالة، وهو أنَّ المتَّهم بريء حتَّى تثبت إدانته. فعندما تقدَّم إليك أيّ مسألة عن شخص معيَّن، وفيها مجال لبراءته من خلال احتمال، فعليك أن تكفّ عن الحكم عليه بالسّوء.
وقد ورد أيضاً في حديث الإمام عليّ (ع) في "نهج البلاغة": "أَيُّهَا النَّاسُ، مَنْ عَرَفَ مِنْ أَخِيهِ وَثِيقَةَ دِينٍ، وسَدَادَ طَرِيقٍ، فَلَا يَسْمَعَنَّ فِيهِ أَقَاوِيلَ الرِّجَالِ، أَمَا إِنَّهُ قَدْ يَرْمِي الرَّامِي، وتُخْطِئُ السِّهَامُ".
فالإمام (ع) يقول إذا كنت تعرف أنَّ الشَّخص موثوق، من خلال علاقتك معه، ومن خلال تاريخه معك، وجاء من يخبرك عنه شيئاً سيّئاً، فلا تقبل، فأنت عندك تجربة طويلة معه، وعليك أن لا تقبل الكلام عنه إلَّا إذا ثبت ذلك بشكلٍ قطعيّ، لأنَّ النَّاس قد تخطئ، فقد يرمي الرّامي وتخطئ السّهام، وربما يتكلَّم النَّاس بما لا يكون صحيحاً.
وهكذا يقول الإمام (ع): "اطْلُبْ لِأَخِيكَ عُذْراً، فَإِنْ لَمْ تَجِدْ لَهُ عُذْراً، فَالْتَمِسْ لَهُ عُذْراً".
الخطُّ الَّذي يحمي المجتمع
وهذا كلّه يستند إلى خطّ العدالة. وهذا الخطُّ، أيُّها الأحبَّة، هو الَّذي يحمي بعضنا من بعض، لأنَّ علاقة المجتمع بعضه مع بعض، سواء كانت علاقة الإنسان بالآخرين، أو علاقة الأصدقاء بالأصدقاء، لا بدَّ أن تحكمها ضوابط، وإلَّا تحوَّلت الحياة إلى فوضى، فعندما يحكم كلّ واحد على النَّاس بحسب أهوائه ورغباته، أو عندما يحكم على موضوع يحتمل أمرين انطلاقاً من رغباته وأهوائه، وعلى حسب الحبّ والبغض، فإنَّ ذلك ينافي العدالة. بعض النَّاس إذا أحبَّ شخصاً يرتفع به إلى السَّماء حتَّى لو كان هو على الأرض، وإذا أبغض شخصاً ينزل به إلى الحضيض:
                     وَعَينُ الرّضا عَن كُلِّ عَيبٍ كَليلَةٌ          وَلَكِنَّ عَينَ السُّخْطِ تُبدي المَساوِيا
هذا واقع موجود عندنا. الآن، جرّب أن يتغلَّظ قلبك على إنسان، فتكون غير مستعدّ لأن تسمع حتَّى اسمه، ولا حتَّى أن تسمع أحداً يدافع عنه. ألا يحدث، مثلاً، أثناء الانتخابات والعصبيَّات والعائليَّات، أنَّه قد يتكلَّم أحدٌ عن شخص، ويحاول أحدهم أن يدافع عنه، فيستنكرون دفاعه عنه؟! والإنسان لا بدَّ أن يدفع غيبة المؤمن، إذا كان هناك مجال للدّفاع.
صرنا حتّى ونحن مؤمنون، نستنكر، إذا صار عندنا أيّ نوع من أنواع المشاكل أو الخلاف أو العقدة مع شخص ما، أن نسمع أيَّ كلمة خير عنه، والعكس أيضاً، فإذا فرضنا أحببنا شخصاً، نكون غير مستعدّين لأن نقبل كلمة نقد عنه حتَّى لو كان هو مداناً.
في حديثٍ عن الإمام الباقر (ع)، يحدِّد فيه مَن هو المؤمن. يقول (ع): "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُ الَّذِي إِذَا رَضِيَ، لَمْ يُدْخِلْه رِضَاه فِي إِثْمٍ ولَا بَاطِلٍ، وإِذَا سَخِطَ، لَمْ يُخْرِجْه سَخَطُه مِنْ قَوْلِ الْحَقِّ"، يبقى على الخطّ، ففي حال الرّضا هو مؤمن، وفي حال الغضب هو مؤمن.
فالعلاقات الاجتماعيَّة الَّتي تخضع للرَّغبات الإيجابيَّة أو السَّلبيَّة، وتخضع للأهواء وللمزاج وللمصالح، هي علاقات تسقط المجتمع، لأنَّه ليس لها ضابط. افرض الآن أنَّ هناك من حكم عليك بشيء، فكيف تردّ، إذا لم يكن هناك قاعدة لتحاسبه على حكمه عليك؟! فإذا لم يكن هناك قاعدة أو أساس، فمعنى ذلك أنَّ المجتمع تحكمه الفوضى. كما نلاحظ غالباً في مجتمعاتنا أنّها مجتمعات فوضى، بالرّغم من أنّها مجتمعات إسلاميّة، لأنَّه ليس هناك ضوابط تضبط علاقات النَّاس بعضها مع بعض.
وهذا ما أحذّركم منه دائماً، بأنَّ هذا المنفذ هو الّذي تدخل من خلاله المخابرات؛ المخابرات الدَّوليَّة والإقليميَّة والمحليَّة، لأنَّ المجتمع الَّذي تحكمه ضوابط، لن يستطيع أحد أن يخترقه، ولكن إذا لم يكن هناك ضوابط في المجتمع، فستعمّ الفوضى، على طريقة قول الشَّاعر: إذا الرّيح مالت مال حيث تميل، وعلى طريقة "وَهَمَجٌ رَعَاعٌ أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِقٍ، يَمِيلُونَ مَعَ كُلِّ رِيحٍ، لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِنُورِ الْعِلْمِ، وَلَمْ يَلْجَأوا إِلَى رُكْنٍ وَثِيقٍ".
اجتنابُ الظَّنّ والتَّخمين
لذلك، علينا أن نتعلَّم أن نجتنب كثيراً من الظَّنّ، بمعنى أن ندرس الأمور، ولا نعمل على أساس الاحتمال واللَّا حجَّة والخرص والتَّخمين، بل نعمل على أساس القطع واليقين، يعني أن نضع نصب أعيننا هذا الأمر: لو جاءني الموت وأنا على هذه الحالة، فهل أستطيع أن أقدّم حسابي إلى الله أو لا؟! قد تقول لي فيما بيننا لم أقصد ولم أقل، أو أقول لك لم أقصد ولم أقل، ولكن ماذا نقول عند الله الَّذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصّدور؟!
لذلك، القصَّة هي أن نجعل الله في عقولنا نوراً للحقّ، وفي قلوبنا نوراً للخير والعدل، وفي حياتنا نوراً للخطّ المستقيم. من كان قلبه فارغاً من الله، معنى ذلك أنَّه سيصبح محلّاً للرياح العاصفة، لكن عندما يكون اللهُ في قلب الإنسان، ينظّم له نبضاته وخفقاته، ويجعله عندما يحبّ يحبّ على أساس، وعندما يبغض يبغض على أساس، وعندما يحبّ لا يخرج عن العدالة في حبّه، بحيث يعطي من يحبّ أكثر مما يستحقّ، وعندما يبغض لا يخرج عن العدالة في بغضه، فيأخذ ممن يغضب عليه أكثر ما يستحقّ، والله يقول: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا}[المائدة: 8]، حتَّى مع أعدائكم.
والإمام زين العابدين (ع) يصوّر الخطَّ المستقيم في بعض الأدعية: "حتَّى يَأْمَنَ عَدُوّي مِنْ ظُلْمِي وَجَوْري - اجعلني، يا ربّ، في مستوى من العدالة، بحيث لو عاش عدوّي معي، يقول عنّي إنّه مؤمن لا يمكن أن يظلمني، صحيح أنَّ بيني وبينه عداوة، لكن لا يمكن أن يتحدَّث عني بدون أساس، ولا أن يأخذ حقّاً منّي من دون أساس - وَيَيْأَسَ وَلِيّي – صديقي - مِنْ مَيْلِي وانْحِطَاطِ هَوَايَ"، بحيث يقول هذا الشَّخص، صحيح أنَّ فلاناً صاحبي وأنا قريبه، ولكنّه لا يبيع ضميره، وهو غير مستعدّ لأن يخضع للقرابة والصّداقة، بل يخضع للحقّ.
هذا هو المجتمع الَّذي يمكن أن نحمي فيه النَّاس من أنفسنا، كما نحمي أنفسنا من النَّاس: "اللَّهُمَّ فَكَمَا كَرَّهْتَ إِلَيَّ أَنْ أُظْلَمَ، فَقِنِي مِنْ أَنْ أَظْلِمَ".
لذلك، أيُّها الأحبَّة، {اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْم}[الحجرات: 12]، فلا بدَّ لكم أن تدقّقوا فيما ظننتموه، لأنَّه ربما يكون ظنّكم بعيداً من الحقيقة. وهذا خطٌّ إسلاميٌّ لتركيز الثّقة الاجتماعيَّة، ولتركيز التَّوازن الاجتماعيّ، ولإطلاق العدل الاجتماعيّ بين النَّاس.
اسمع جيّداً، ولكن ليكن سمعك طريقاً إلى عقلك، فعندما تسمع، أطلق الكلمة إلى عقلك، وقل لعقلك أن يتحمَّل مسؤوليَّة الكلمة، ودقّق في الكلمة. قد يقول لك أحدهم فلان قال كذا، وقد يكون فعلاً قالها، ولكنَّه فهم منها شيئاً غير صحيح، فبعض النَّاس يقرأ بعض الأشياء دون أن يفهمها جيّداً، وهناك من لا يقرأ بفكره، بل بعقدته وغريزته، فقد يقول لك فلان قال، صحيح، ولكن كيف قال؟! البعض يعتبر أنَّه هو من يملك الحقيقة، وما يفكّر فيه هو الحقّ، وما يلتزم به هو الحقّ، وكلّ النَّاس على باطل. نعم، أنت لك الحقّ في أن تفكّر، ولكنَّ النَّاس أيضاً لها الحقّ في أن تفكّر بطريقة أخرى، وليس من الطَّبيعيّ عندما يكون عندك فكرة، أن تقول كلّ النَّاس ضالّون لأنهم لا يأخذون بفكرتي، فقد تكون مخطئاً بفكرتك، كما قد يكون الآخرون مخطئين في فكرتهم، فلا أحد يملك الحقيقة مائة في المئة.. أغلب النَّاس، حتى العلماء والمفكّرون والمثقّفون، يملكون وجهة نظر في فهم الحقيقة، وربما يخطئون في فهم الكلام أو في فهم الموقف أو في فهم العلم.
لذلك، على الإنسان أن يكون متوازناً فيما يسمع، ومتوازناً فيما يقرأ، ومتوازناً فيما ينقل، حتَّى إذا وقف بينَ يدي الله {يَوْمَ تَأْتِى كُلُّ نَفْسٍۢ تُجَٰدِلُ عَن نَّفْسِهَا}[النّحل: 111]، يملك الدّفاع عن نفسه بالحقّ، وذلك اليوم هو يوم العدل {الْيَوْمَ تُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ}[غافر: 17]، {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى}[البقرة: 197]، ومن التَّقوى التثبّت، والتَّأمّل، والاجتناب عن الظَّنّ وعن القول بغير علم، والسَّير مع العلم واليقين.     
 الخطبة الثّانيَّة
 
عباد الله، اتَّقوا الله في كلّ أموركم، فلا تحكموا إلَّا بالحقّ، ولا تأخذوا الحقّ إلَّا عن حجَّة وبرهان، ذلك هو الَّذي يقرّبكم إلى الله، ويخفّف من طول وقوفكم عنده، وذلك هو الَّذي يؤكّد توازنكم في حياتكم الاجتماعيَّة والسياسيَّة والاقتصاديَّة والأمنيَّة، لأنَّ ذلك هو الَّذي يؤكّد ميزان العدل في الحياة.
ولعلَّنا عندما نلتزم الثقة في أقوالنا وأفعالنا وأحكامنا وانطباعاتنا وانتماءاتنا، نستطيع أن نواجه حركةَ الأعداء المستكبرين الَّذي يستغلّون نقاط ضعفنا وعصبيَّاتنا وانحرافاتنا، من أجل أن يكيدوا لنا، ليثيروا الفتنة بيننا، وليسقطوا الثّقة بين النَّاس في المجتمع.
مسؤوليَّةُ حمايةِ السَّاحةِ
لذلك، أيُّها الأحبَّة، إذا أردنا أن نأخذ بأسباب الحريَّة أمام ضغط المستكبرين، فليست المسألةُ في حركة الحريَّة مسألةَ سلاحٍ يطلق رصاصةً فقط، ولا مسألة خطاب حماسيّ، بل هي أن تعمل على حماية السَّاحة الاجتماعيَّة والسياسيَّة في مجتمعك، وفي مواقع سياساتك، من نقاط الضَّعف الَّتي يمكن أن تهزمك حتَّى لو كنت مدجَّجاً بالسّلاح، وذلك عندما ينتشر الكذب بين النَّاس، وعندما تنتشر الغيبة والنَّميمة والحقد والعداوة والبغضاء بينهم.. وهكذا، عندما ينتشر التجسّس بفعل العداوة والبغضاء وضعف النَّفس، فإنَّ العدوَّ سوف ينفذ إلى داخل المجتمع، لأنَّ نقاط الضّعف هي الَّتي تفتح له الأبواب، وهي الَّتي تؤكّد له نفوذه في الدَّاخل.
أيُّها الأحبَّة، إنَّنا لم نهزَم من خلال نقصٍ في السّلاح أو في عدد الرّجال، ولكنَّنا هُزِمنا من خلال نقصٍ في القيم الرّوحيَّة والأخلاقيَّة، ومن خلال نقصٍ في العدالة فيما بيننا.
تلك هي المسألة، عندما نفقدُ المحبَّة فيما بيننا، وعندما نفقد العدالة فيما بيننا، وعندما يسيطر على مجتمعاتنا وثقافاتنا وسياساتنا مَنْ يحملون الحقد للنّاس، والعداوة للمخلصين، ومَنْ يتحركون من أجل أن يثيروا الإرباك الاجتماعيَّ والثَّقافيَّ والسّياسيَّ في النَّاس.. هؤلاء هم الجنود المجهولون للمستكبرين، جنودٌ لا يقبضون راتباً منهم، ولكنَّهم ينفّذون مخطَّطاتهم من دون إحساس أو شعور أو التفات، إنَّهم الطَّابور الخامس الاحتياطيّ، الَّذي يتلوَّن في أشكاله، ويتنوَّع في مواقعه، ولكنَّه يتَّحد في أنَّه يتحرَّك في خطّ إرباك المجتمع وإيجاد الاهتزاز فيه.
ونحن، أيُّها الأحبَّة، لا نزال نواجه حركات الاستكبار الَّذي يعمل على إضعافنا ومصادرتنا، فلا بدَّ أن نكون في حذرٍ منه، بأن نعمل على حماية السَّاحة الدَّاخليَّة أوَّلاً، ثمَّ مواجهة العدوّ في السَّاحة الخارجيَّة.
تعالوا لنعرف ماذا هناك مما يخطّط له العدوّ، ومما تتخبَّط به أوضاعنا الإسلاميَّة في هذه المرحلة من الزَّمن.
حلفٌ لتطويقِ المنطقة
إنَّ المرحلة الَّتي تمرّ بها المنطقة العربيَّة والإسلاميَّة، هي من أكثر المراحل خطورةً، من خلال الخطَّة الأمريكيَّة في تطويق المنطقة بالحلف التركيّ الإسرائيليّ الموجَّه ضدَّ العرب وإيران، للمزيد من الحصار، ولإضعاف الموقف العربيّ في الصّراع العربيّ الإسرائيليّ الَّذي يزداد ضعفاً يوماً بعد آخر، بفعل التمزّق بين الدّول العربيَّة، والضّغط الأمريكيّ المانع لعقد أيّ قمَّة عربيَّة للتَّخطيط لسبل حماية الواقع العربيّ من الانهيار السياسيّ بفعل أخطار المستقبل. وهناك الحركة الأمريكيَّة الجديدة، من خلال المبعوث الأمريكيّ الَّذي يعمل على تطويع الفلسطينيّين لتقديم التَّنازلات الجديدة لإسرائيل، لأنَّ الموقف الأمريكيَّ لا يمكن أن يضغط على إسرائيل، بفعل الخطَّة الأمريكيَّة الإسرائيليَّة، في تهيئة كلّ الظروف لإنجاح البرنامج اليهوديّ في الوصول إلى نهاياته، وإبعاد الفلسطينيّين عن أيَّة فرصة للحصول على حقّ تقرير المصير في السّيادة على الضفَّة الغربيَّة وغزَّة على الأقلّ. ولعلَّ من المضحك المبكي، أنَّ الأمريكيّين ليسوا متحمّسين لمبادرتهم هم في الانسحاب الإسرائيليّ، لأنَّ الإسرائيليّين لا يوافقون على ذلك في مرحلة الضّعف الدَّاخليّ للرَّئيس الأمريكي بفعل مشاكله الدَّاخليَّة.
مخطّطٌ لتفرقةِ المسلمين
وفي جانب آخر، تحاول أمريكا بتخطيطٍ مخابراتيّ، إثارة التفرقة بين السنَّة والشيعة، من خلال إثارة الحساسيات والعصبيات المذهبيَّة في هذا الموقع الإسلاميّ أو ذاك، حتى يستنزف المسلمون كلَّ قوَّتهم في هذا الجدل التأريخي الَّذي يتحوَّل بين وقت وآخر إلى صراع دام يقتل فيه المسلمون بعضهم بعضاً على أساس مذهبيَّاتهم، كما حدث أخيراً في أفغانستان، من خلال المجازر الرهيبة ضدّ المسلمين الشيعة في مزار شريف، ولا سيَّما قتل الدبلوماسيّين الإيرانيّين، الَّتي أعلن عنها أخيراً.
وإنَّنا في هذه المناسبة، نقدّم التعازي إلى سماحة آية الله الخامنئي والقيادة الإيرانيَّة والشَّعب الإيراني المسلم الَّذي يعرف جيّداً كيف يواجه الأخطار، وكيف يتعامل مع التحديات والظروف الضَّاغطة.
دورُ منظَّمةِ المؤتمر الإسلاميّ
إنَّنا نجد في هذه الحروب الدَّائرة في العالم الإسلاميّ، والَّتي تدمّر قوَّة المسلمين، وتكمل الخطَّة الاستكباريَّة للسَّيطرة على مقدَّراتهم الاقتصاديَّة، وخطوطهم السياسيَّة، ومواقعهم الاستراتيجيَّة، إنَّنا نجد فيها خطراً على الحاضر والمستقبل، ما يفرض على الجميع، ولا سيَّما منظَّمة المؤتمر الإسلاميّ، السَّعي لإيجاد الحلول الواقعيَّة للمشاكل الدَّائرة بين الدول الإسلاميَّة، لأنَّ ذلك هو الَّذي يعطي لهذه المنظَّمة معناها في رعاية أمور المسلمين، وإبعاد واقع الحروب المتحركة عن مواقعهم.
إنَّ من الضّروريّ أن تتحرَّك هذه المنظَّمة من خلال خطَّتها الإسلاميَّة للتَّدخّل مع تركيا، باعتبارها دولة إسلاميَّة عضواً في المؤتمر الإسلاميّ ولو في الشّكل، للابتعاد عن المخطَّط العدواني مع إسرائيل الَّذي يستهدف العالمين الإسلامي والعربي، لخلق أكثر من مشكلة سياسيَّة وأمنيَّة هنا وهناك.
ولكن السؤال الكبير هو: هل بقي للجامعة العربيَّة في القضايا العربيَّة، وفي منظمة المؤتمر الإسلاميّ في القضايا الإسلاميّة، بقيَّة من الجديَّة والمسؤوليَّة في مواجهة التحدّيات الكبرى الموجَّهة إليهما من قبل الاستكبار العالميّ والصهيونيّ، أو أنَّ دورهما هو لجم أيّ مبادرة للوقوف بقوّة في وجه الاستكبار الأمريكي، ولا سيَّما أنَّ بعض العرب والمسلمين يساهمون في تمكين أمريكا من السيطرة على مقدّرات العالم العربي والإسلاميّ، وتهيئة الفرص لإسرائيل لتحقيق كلّ أطماعها في المنطقة؟!
الاعتداءُ الصّهيونيُّ المستمرّ
وليس بعيداً من ذلك، نسمع في كلّ يوم قيام الجيش الصّهيونيّ بقتل أكثر من فلسطينيّ، كما حدث بالأمس في الخليل، في الوقت الَّذي تطالب أمريكا وإسرائيل سلطة الحكم الذاتي بالمزيد من أمن اليهود في فلسطين، وخصوصاً أمن المستوطنين والمستوطنات، وكأنّ حقّ الحياة والأمن في فلسطين مقصور على اليهود دون غيرهم، وهذا ما توافق عليه أمريكا.
وفي الجانب الآخر، يتابع العدوّ عدوانه على المناطق المدنيَّة الآمنة في جبل عامل والبقاع الغربيّ، من أجل إخضاع لبنان لمخطَّطاته، والضَّغط على حركة المقاومة الَّتي تسجّل في كلّ يوم انتصاراً جديداً عليه. وإنَّنا في الوقت الَّذي ندعو المسؤولين اللّبنانيّين وكلّ المعنيّين إلى تحمّل مسؤوليَّاتهم، والخروج من دائرة السّجال الشَّخصيّ، إلى فضاء المواجهة الواسعة مع هذا العدوان الَّذي تتَّسع دائرته يوماً بعد يوم، وخصوصاً بعد الإجراءات الأخيرة للعدوّ وعملائه بحقّ جزّين وأهلها، وهي إجراءاتٌ تكشف عن عجزه وخوفه أمام المقاومة من جهة، كما أنَّها تستهدف الضَّغط على أهل جزّين، لإحداث مشكلةٍ بينهم وبين المجاهدين من جهةٍ ثانية.
إنَّنا في الوقت الَّذي لا نملك إلَّا أن نقف مع أهلنا في جزّين ضدَّ إجراءات التّضييق والضَّغط عليهم، نؤكّد على الدَّولة أن تتحمَّل مسؤوليَّتها تجاههم، وعلى المسؤولين فيها أن يقفوا في مواقع التصدّي لمخطَّطات العدوّ الَّتي لا تستهدف جزّين فحسب، بل تتَّسع دائرتها لتشمل لبنان كلّه، وثباتِ الموقف اللّبنانيّ في مواجهة المحتلّ وشروطه. ونؤكّد للعدوّ أنَّ المقاومة الأمينة على قضيَّة التَّحرير، والقادرة على النَّيل منه ومن عملائه، لن تسمح باستهداف أهلها، وهو يعلم جيّداً أنَّ المقاومة تملك أكثر من وسيلة للرّدّ عليه في العمق.
لبنانُ في دوَّامةِ المشاكل
أمَّا في الواقع اللّبنانيّ الدَّاخليّ، فإنَّ النَّاس مشغولون بالاستحقاق الرّئاسيّ الَّذي يتحرَّك في أجواء ضبابيَّة، لأنَّ المسألة لا علاقة لها بهم في عمليَّة الاختيار. ومهما كان الأمر في هذا الجانب، فإنَّ المرحلة القادمة مما نراه من معطياتها السياسيَّة، لن تكون بأفضل من هذه المرحلة الَّتي يبدو فيها أنَّ الجميع في الواقع السياسيّ، قد استسلموا للمخطَّط المرسوم في إبقاء لبنان في مرحلة الوقت الضَّائع، وفي إبقاء اللّبنانيّين في دوَّامة الاهتراء السياسي والمشاكل الاقتصاديَّة والانهيار المعيشيّ، ولا سيَّما في هذا الوقت الَّذي يستقبل النَّاس الموسم الدّراسيَّ الَّذي لا يملكون أيَّة فرصة حقيقيَّة لمواجهة استحقاقاته الماديَّة، الأمر الَّذي قد يبقي الكثير من الطلَّاب خارج المدارس.
إنَّنا ندرك جيّداً أنَّ مشكلة الجمود السياسيّ والاقتصاديّ في لبنان هي جزء من مشكلة الجمود في المنطقة، ولكن لا بدَّ من التحرّك بتخطيط دقيق للأولويَّات الشَّعبيَّة، للتَّخفيف من خطورة المشكلة الحادَّة، إذا لم نستطع إزالتها من الواقع الشَّعبيّ من الأساس.
*خطبة الجمعة لسماحته، بتاريح: 11/09/1998م.
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ}[الأنعام: 116].
ويقول سبحانه وتعالى: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا ۚ إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ}[يونس: 36].
ويقول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ}[الحجرات: 12].
معنى الظَّنّ
في هذه الآيات، وفي غيرها من الآيات، يتحدَّث الله عن الظَّنّ كموضوعٍ للاقتناع، أو للحكم، أو للانتماء، أو لتحقيق الانطباع.
والمراد من كلمة (الظَّنّ)، الطَّريقة الَّتي لا تمثّل الحجَّة على ما يتَّصل بها. فنحن أمامنا في تحصيل الاقتناعات، وفي الحكم على الأشياء، وفي تحقيق الانطباع عن الأشياء أو الأوضاع، أو في الانتماء إلى الشَّيء، أمامنا طريقتان:
الطَّريقة الأولى: طريقة اليقين، وطريقة الحجَّة الَّتي ثبت لدى العقلاء أو لدى الشَّرع أنَّها يمكن أن تثبت موضوعها ومتعلّقها، بحيث إنَّ الإنسان لو فرضنا حكم بحكم، أو خرج بانطباع معيَّن، أو انتمى إلى جهة معيَّنة، وقيل له على أيّ أساس بنيت حكمك أو اقتناعك أو انطباعك؟ فإذا قال بنيته على علم أو على وثوق معيَّن واطمئنان معيَّن، أو على شهادة أشخاص موثوقين، عند ذلك، يتقبَّل النَّاس منه ذلك ويعذرونه في ذلك.
أمَّا الطَّريقة الثانيَّة، فهي أن يبني الإنسان أحكامه واقتناعاته أو انتماءه بناءً على احتمالات لا ترتكز على أساس، أو اعتماداً على أقوال أشخاص لا يملكون الوثاقة ولا العلم ولا الخبرة، وهذا ممَّا لا يعذره النَّاس فيه، ويقولون له إنَّك اعتمدْتَ على ما لا يُعتمَد عليه، وارتكزْتَ على غير حجَّة، لأنَّ فلاناً ليس ممَّن يسمع له أحد، أو لأنَّ الجهة الفلانيَّة ليست محلّ ثقة.
فالمسألة هي أنَّ الله سبحانه وتعالى يرفض للإنسان أن يرتكز، في كلّ مواقع مسؤوليَّته، على غير الحجَّة الَّتي ينطلق بها العقلاء ويرضاها الشَّرع، وهذا ما نستوحيه من قوله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ - لا تتَّبع ما لا تملك علمه، ولا تملك البرهان والحجَّة عليه، ممَّا يعذر فيه الإنسان - إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا}[الإسراء: 36].
وهذا معناه أنَّك عندما تقف بين يدي الله غداً {يَوْمَ تَأْتِى كُلُّ نَفْسٍۢ تُجَٰدِلُ عَن نَّفْسِهَا}[النّحل: 111]، فيقال لك على أيّ أساس اتَّبعت هذا الطَّريق أو هذا الشَّخص، أو على أيّ أساس حكمت؟! فإذا قلْتَ رأيت، فيُسأَل بصرُك؛ هل رأيت، وكيف رأيت؟ وإذا قلْتَ سمعت، فيُسأَل سمعُك؛ هل سمعت، وعلى أيّ أساس سمعت، وممن سمعت، وهل إنَّ ما سمعت منه يملك الوثاقة أو لا؟! وإذا قلت فكَّرت، فيُسأَل عقلك هل فكَّرت، وعلى أيّ أساس بنيت فكرك؟!
الاستنادُ إلى الحجَّة واليقين
لذلك، لا بدَّ لنا، أيُّها الأحبَّة، أن نخضع حياتنا، في كلّ مسؤوليَّاتنا، لهذا البرنامج الإلهيّ، فلا نتحرَّك إلَّا عن حجّة. والله يحدّثنا عن الأكثريَّة في العالم، هؤلاء النَّاس الَّذين يبتعدون عن الحقّ، ويبتعدون عن الهدى، والَّذين يقفون في مواقع الرَّفض للإيمان والإسلام، يقول تعالى إنَّ مشكلة هؤلاء عندما يرفضون الإيمان، ويرفضون الإسلام، ويرفضون الحقّ، أنَّهم لا يرتكزون على حجَّة، وإنما يرتكزون على الظّنّ والأوهام {وإنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئاً}[يونس: 36]، {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ}[الأنعام: 116]. والخرص هو التَّخمين الَّذي لا ينطلق من حساب دقيق، ومن محاكمة للمفردات وللأشياء.
فالله يركِّز على أنَّ النَّاس عندما تنكر ما تنكر وتبتعد عن خطّ الاستقامة، فإنَّها تبتعد عنه على أساس التَّخمين والاحتمالات، لا على أساس الحجَّة، ولذلك يقول الله سبحانه لك، إنَّ عليك أن لا تتّبع أكثر من في الأرض: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِى ٱلْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا ٱلظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ}[الأنعام: 116]، {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا}[يونس: 36].
إشكاليّةُ اتّباعِ الأكثريَّة
ونحن نرى أنَّ الفكرة الموجودة عند النَّاس، هي أنَّ على الإنسان أن يتبع الأكثريَّة. ولكنَّ هذه الفكرة من خلال علاقتها بالحقّ، هي محلّ تأمّل، والسَّبب أنَّ الأكثريَّة في المدى التأريخي كانت ضدّ الحقّ؛ فكم من النَّاس على مدى التَّاريخ كانوا مع الأنبياء، وكم عدد النَّاس الّذين كانوا مع خصومهم؟! وكم عدد النَّاس الّذين كانوا مع المصلحين، وعدد الَّذين كانوا يفسدون في الأرض أو يتنكَّرون للإصلاح؟! حتَّى في واقعنا الحاضر، نلاحظ، غالباً، أنَّ الأكثريَّة لا تنطلق من موقع فكر، ولا من موقع حسابات دقيقة للأشياء، بل تنطلق، غالباً، من السَّطح، أي من رغباتها وأهوائها وما إلى ذلك، بينما الأقليَّة غالباً هي الَّتي تفكّر وتناقش وتدخل في حوار حول الأمور.
ولذلك، الفكرة الموجودة عند كثير من النَّاس، أنّه عندما يسألون أحداً عن رأيه في موضوع معيَّن، يقول أنا مع النَّاس، أو مع أهل البلد، أو أنا مع العائلة، فما يقولونه أقوله. يقول الإمام الكاظم (ع) في بعض كلماته المرويَّة عنه: "أبلِغْ خَيْراً، وقُلْ خَيْراً، ولا تَكُن إمَّعَةً. قلتُ: وما الإمَّعَةُ؟ قالَ: لا تَقُلْ: أنا مَعَ النَّاسِ، وأنا كَواحِدٍ مِن النَّاسِ، إنَّ رسولَ اللهِ (ص) قالَ: يَا أيُّها النَّاسُ، إنّما هُما نَجدانِ: نَجدُ خَيرٍ ونَجدُ شَرٍّ، فلا يَكُنْ نَجدُ الشَّرِّ أحَبَّ إلَيكُمْ مِنْ نَجدِ الخَيرِ".
يعني أنَّ هناك طريقين؛ طريق حقّ وطريق شرّ، والنَّاس ليس هم من يحدّدون لك طريق الحقّ أو طريق الشَّرّ، بل عليك أنت أن تدرس الأمور وتختار، فما يقوله النَّاس فكّر فيه جيّداً. وهذا لا يعني أن نهمل النَّاس، أو أن نهمل المجتمع عندما يتبنَّى فكرةً أو قضيَّة، لكن علينا عندما يتبنّى المجتمعُ فكرةً أو قضيَّة، أن لا نسقط تحت تأثير الكثرة. كما عندما يقول بعض النَّاس، مثلاً، إنَّ فلاناً ليس معه إلَّا 10 أو 15 في المائة، بينما فلان معه 80 في المائة، ويبني على أساس ذلك، ولكنَّ هذا ليس دليلاً على الحقّ، النَّبيّ (ص) عندما انطلق، لم يكن معه إلَّا عليّ بن أبي طالب (ع) والسيّدة خديجة (ع).
أساسُ الحكمِ على النَّاس
فالمسألة هي أن تدرس أنت الأمور، لأنَّك أنت مَنْ سيُسأَل يوم الحساب على أيّ أساس حكمْت، فلو فرضْنا أنَّك حكمت على فلان بأنَّه خيّر أو شرّير، أو حكمت على القضيَّة الفلانيَّة بأنّها الحقّ أو الباطل، فعلى أيّ أساس كان ذلك؟ تقول على أساس ما قاله النَّاس؛ ولكن، هل النَّاس أنبياء؟ هل هم أولياء؟ فالنَّاس عندها فكر وأنت لديك فكر، ويقول لك الله سبحانه أنا لم أجعل فكر النَّاس حجَّةً عليك، بل الحجَّة عليك هي عقلك، أو النَّبيّ أو الإمام، وإذا كانت المسألة شرعيَّة، فالحجَّة عليك هي الفقيه العادل. نعم، شاور النَّاس، ولكن لا على أساس أن تقول لهم سمعاً وطاعةً، بل أن تسمع رأيهم وتحرّك رأيك، "مَنَ شَاوَرَ الرّجَالَ شَارَكَهَا فِي عُقُولِهَا"، فعمليَّة المشاورة، أن تسمع وجهة نظر وتفكّر فيها؛ هل تقتنع بها أم لا. فلا بدَّ لك أن تبني حكمك أو اقتناعك أو انطباعك عن النَّاس على أساس حجَّة تقدّمها بين يدي الله، بحيث يتقبّلها الله سبحانه وتعالى.
الحملُ على الأحسن
هذا في الخطّ العامّ. أمَّا في الخطّ الاجتماعيّ، في علاقات النَّاس بعضها مع بعض؛ علاقتك مع بيتك، مع زوجتك وأولادك، مع جيرانك، مع من تخالط وتعاشر، ومن تعمل عنده أو يعمل عندك، مع كلّ الأوضاع الموجودة. ما هو الخطّ؟
الحديث المرويّ عن أمير المؤمنين (ع)، يقول: "ضَعْ أَمْرَ أَخِيكَ عَلَى أَحْسَنِهِ حَتَّى يَأْتِيكَ مَا يَغْلِبُكَ مِنْهُ، ولا تظنَّنَّ بِكَلِمَةٍ خَرَجَتْ مِنْ أَخِيكَ سُوءًا وَأَنْتَ تَجِدُ لَهَا في الخَيْرِ مَحْمَلاً". فأمير المؤمنين (ع) يقول إنّه عندما تصدر عن أخيك كلمة، ويكون لها عدَّة احتمالات، بحيث يمكن أن يقصد بها الخير، ويمكن أن يقصد بها الشّرّ، فلا تحمل كلمته على احتمال الشَّرّ، وإن افترضْتَ ذلك، إذا كان هناك احتمالٌ للخير في كلامه. فعندما تسمع من أخيك شيئاً، أو تقرأ له شيئاً، أو ينقل لك عنه شيء، وهذا الشَّيء يحتمل أن يكون مقصوده خيراً، ولكن لم يعرف أن يعبّر جيّداً، ويحتمل أن يكون مقصوده شرّاً، هنا عليك أن لا تغلّب احتمال الشّرّ على احتمال الخير، ما دام احتمالُ الخير ممكناً، وهذا يشمل كلّ الواقع؛ الواقع السّياسيّ، والواقع الاجتماعيّ، والواقع الثَّقافيّ؛ أن لا تبادر إلى الحكم بالشَّرّ ما دام هناك مجالٌ لاحتمال الخير.
وهذا ينطلق في الخطّ الإنسانيّ لمبدأ العدالة، وهو أنَّ المتَّهم بريء حتَّى تثبت إدانته. فعندما تقدَّم إليك أيّ مسألة عن شخص معيَّن، وفيها مجال لبراءته من خلال احتمال، فعليك أن تكفّ عن الحكم عليه بالسّوء.
وقد ورد أيضاً في حديث الإمام عليّ (ع) في "نهج البلاغة": "أَيُّهَا النَّاسُ، مَنْ عَرَفَ مِنْ أَخِيهِ وَثِيقَةَ دِينٍ، وسَدَادَ طَرِيقٍ، فَلَا يَسْمَعَنَّ فِيهِ أَقَاوِيلَ الرِّجَالِ، أَمَا إِنَّهُ قَدْ يَرْمِي الرَّامِي، وتُخْطِئُ السِّهَامُ".
فالإمام (ع) يقول إذا كنت تعرف أنَّ الشَّخص موثوق، من خلال علاقتك معه، ومن خلال تاريخه معك، وجاء من يخبرك عنه شيئاً سيّئاً، فلا تقبل، فأنت عندك تجربة طويلة معه، وعليك أن لا تقبل الكلام عنه إلَّا إذا ثبت ذلك بشكلٍ قطعيّ، لأنَّ النَّاس قد تخطئ، فقد يرمي الرّامي وتخطئ السّهام، وربما يتكلَّم النَّاس بما لا يكون صحيحاً.
وهكذا يقول الإمام (ع): "اطْلُبْ لِأَخِيكَ عُذْراً، فَإِنْ لَمْ تَجِدْ لَهُ عُذْراً، فَالْتَمِسْ لَهُ عُذْراً".
الخطُّ الَّذي يحمي المجتمع
وهذا كلّه يستند إلى خطّ العدالة. وهذا الخطُّ، أيُّها الأحبَّة، هو الَّذي يحمي بعضنا من بعض، لأنَّ علاقة المجتمع بعضه مع بعض، سواء كانت علاقة الإنسان بالآخرين، أو علاقة الأصدقاء بالأصدقاء، لا بدَّ أن تحكمها ضوابط، وإلَّا تحوَّلت الحياة إلى فوضى، فعندما يحكم كلّ واحد على النَّاس بحسب أهوائه ورغباته، أو عندما يحكم على موضوع يحتمل أمرين انطلاقاً من رغباته وأهوائه، وعلى حسب الحبّ والبغض، فإنَّ ذلك ينافي العدالة. بعض النَّاس إذا أحبَّ شخصاً يرتفع به إلى السَّماء حتَّى لو كان هو على الأرض، وإذا أبغض شخصاً ينزل به إلى الحضيض:
                     وَعَينُ الرّضا عَن كُلِّ عَيبٍ كَليلَةٌ          وَلَكِنَّ عَينَ السُّخْطِ تُبدي المَساوِيا
هذا واقع موجود عندنا. الآن، جرّب أن يتغلَّظ قلبك على إنسان، فتكون غير مستعدّ لأن تسمع حتَّى اسمه، ولا حتَّى أن تسمع أحداً يدافع عنه. ألا يحدث، مثلاً، أثناء الانتخابات والعصبيَّات والعائليَّات، أنَّه قد يتكلَّم أحدٌ عن شخص، ويحاول أحدهم أن يدافع عنه، فيستنكرون دفاعه عنه؟! والإنسان لا بدَّ أن يدفع غيبة المؤمن، إذا كان هناك مجال للدّفاع.
صرنا حتّى ونحن مؤمنون، نستنكر، إذا صار عندنا أيّ نوع من أنواع المشاكل أو الخلاف أو العقدة مع شخص ما، أن نسمع أيَّ كلمة خير عنه، والعكس أيضاً، فإذا فرضنا أحببنا شخصاً، نكون غير مستعدّين لأن نقبل كلمة نقد عنه حتَّى لو كان هو مداناً.
في حديثٍ عن الإمام الباقر (ع)، يحدِّد فيه مَن هو المؤمن. يقول (ع): "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُ الَّذِي إِذَا رَضِيَ، لَمْ يُدْخِلْه رِضَاه فِي إِثْمٍ ولَا بَاطِلٍ، وإِذَا سَخِطَ، لَمْ يُخْرِجْه سَخَطُه مِنْ قَوْلِ الْحَقِّ"، يبقى على الخطّ، ففي حال الرّضا هو مؤمن، وفي حال الغضب هو مؤمن.
فالعلاقات الاجتماعيَّة الَّتي تخضع للرَّغبات الإيجابيَّة أو السَّلبيَّة، وتخضع للأهواء وللمزاج وللمصالح، هي علاقات تسقط المجتمع، لأنَّه ليس لها ضابط. افرض الآن أنَّ هناك من حكم عليك بشيء، فكيف تردّ، إذا لم يكن هناك قاعدة لتحاسبه على حكمه عليك؟! فإذا لم يكن هناك قاعدة أو أساس، فمعنى ذلك أنَّ المجتمع تحكمه الفوضى. كما نلاحظ غالباً في مجتمعاتنا أنّها مجتمعات فوضى، بالرّغم من أنّها مجتمعات إسلاميّة، لأنَّه ليس هناك ضوابط تضبط علاقات النَّاس بعضها مع بعض.
وهذا ما أحذّركم منه دائماً، بأنَّ هذا المنفذ هو الّذي تدخل من خلاله المخابرات؛ المخابرات الدَّوليَّة والإقليميَّة والمحليَّة، لأنَّ المجتمع الَّذي تحكمه ضوابط، لن يستطيع أحد أن يخترقه، ولكن إذا لم يكن هناك ضوابط في المجتمع، فستعمّ الفوضى، على طريقة قول الشَّاعر: إذا الرّيح مالت مال حيث تميل، وعلى طريقة "وَهَمَجٌ رَعَاعٌ أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِقٍ، يَمِيلُونَ مَعَ كُلِّ رِيحٍ، لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِنُورِ الْعِلْمِ، وَلَمْ يَلْجَأوا إِلَى رُكْنٍ وَثِيقٍ".
اجتنابُ الظَّنّ والتَّخمين
لذلك، علينا أن نتعلَّم أن نجتنب كثيراً من الظَّنّ، بمعنى أن ندرس الأمور، ولا نعمل على أساس الاحتمال واللَّا حجَّة والخرص والتَّخمين، بل نعمل على أساس القطع واليقين، يعني أن نضع نصب أعيننا هذا الأمر: لو جاءني الموت وأنا على هذه الحالة، فهل أستطيع أن أقدّم حسابي إلى الله أو لا؟! قد تقول لي فيما بيننا لم أقصد ولم أقل، أو أقول لك لم أقصد ولم أقل، ولكن ماذا نقول عند الله الَّذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصّدور؟!
لذلك، القصَّة هي أن نجعل الله في عقولنا نوراً للحقّ، وفي قلوبنا نوراً للخير والعدل، وفي حياتنا نوراً للخطّ المستقيم. من كان قلبه فارغاً من الله، معنى ذلك أنَّه سيصبح محلّاً للرياح العاصفة، لكن عندما يكون اللهُ في قلب الإنسان، ينظّم له نبضاته وخفقاته، ويجعله عندما يحبّ يحبّ على أساس، وعندما يبغض يبغض على أساس، وعندما يحبّ لا يخرج عن العدالة في حبّه، بحيث يعطي من يحبّ أكثر مما يستحقّ، وعندما يبغض لا يخرج عن العدالة في بغضه، فيأخذ ممن يغضب عليه أكثر ما يستحقّ، والله يقول: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا}[المائدة: 8]، حتَّى مع أعدائكم.
والإمام زين العابدين (ع) يصوّر الخطَّ المستقيم في بعض الأدعية: "حتَّى يَأْمَنَ عَدُوّي مِنْ ظُلْمِي وَجَوْري - اجعلني، يا ربّ، في مستوى من العدالة، بحيث لو عاش عدوّي معي، يقول عنّي إنّه مؤمن لا يمكن أن يظلمني، صحيح أنَّ بيني وبينه عداوة، لكن لا يمكن أن يتحدَّث عني بدون أساس، ولا أن يأخذ حقّاً منّي من دون أساس - وَيَيْأَسَ وَلِيّي – صديقي - مِنْ مَيْلِي وانْحِطَاطِ هَوَايَ"، بحيث يقول هذا الشَّخص، صحيح أنَّ فلاناً صاحبي وأنا قريبه، ولكنّه لا يبيع ضميره، وهو غير مستعدّ لأن يخضع للقرابة والصّداقة، بل يخضع للحقّ.
هذا هو المجتمع الَّذي يمكن أن نحمي فيه النَّاس من أنفسنا، كما نحمي أنفسنا من النَّاس: "اللَّهُمَّ فَكَمَا كَرَّهْتَ إِلَيَّ أَنْ أُظْلَمَ، فَقِنِي مِنْ أَنْ أَظْلِمَ".
لذلك، أيُّها الأحبَّة، {اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْم}[الحجرات: 12]، فلا بدَّ لكم أن تدقّقوا فيما ظننتموه، لأنَّه ربما يكون ظنّكم بعيداً من الحقيقة. وهذا خطٌّ إسلاميٌّ لتركيز الثّقة الاجتماعيَّة، ولتركيز التَّوازن الاجتماعيّ، ولإطلاق العدل الاجتماعيّ بين النَّاس.
اسمع جيّداً، ولكن ليكن سمعك طريقاً إلى عقلك، فعندما تسمع، أطلق الكلمة إلى عقلك، وقل لعقلك أن يتحمَّل مسؤوليَّة الكلمة، ودقّق في الكلمة. قد يقول لك أحدهم فلان قال كذا، وقد يكون فعلاً قالها، ولكنَّه فهم منها شيئاً غير صحيح، فبعض النَّاس يقرأ بعض الأشياء دون أن يفهمها جيّداً، وهناك من لا يقرأ بفكره، بل بعقدته وغريزته، فقد يقول لك فلان قال، صحيح، ولكن كيف قال؟! البعض يعتبر أنَّه هو من يملك الحقيقة، وما يفكّر فيه هو الحقّ، وما يلتزم به هو الحقّ، وكلّ النَّاس على باطل. نعم، أنت لك الحقّ في أن تفكّر، ولكنَّ النَّاس أيضاً لها الحقّ في أن تفكّر بطريقة أخرى، وليس من الطَّبيعيّ عندما يكون عندك فكرة، أن تقول كلّ النَّاس ضالّون لأنهم لا يأخذون بفكرتي، فقد تكون مخطئاً بفكرتك، كما قد يكون الآخرون مخطئين في فكرتهم، فلا أحد يملك الحقيقة مائة في المئة.. أغلب النَّاس، حتى العلماء والمفكّرون والمثقّفون، يملكون وجهة نظر في فهم الحقيقة، وربما يخطئون في فهم الكلام أو في فهم الموقف أو في فهم العلم.
لذلك، على الإنسان أن يكون متوازناً فيما يسمع، ومتوازناً فيما يقرأ، ومتوازناً فيما ينقل، حتَّى إذا وقف بينَ يدي الله {يَوْمَ تَأْتِى كُلُّ نَفْسٍۢ تُجَٰدِلُ عَن نَّفْسِهَا}[النّحل: 111]، يملك الدّفاع عن نفسه بالحقّ، وذلك اليوم هو يوم العدل {الْيَوْمَ تُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ}[غافر: 17]، {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى}[البقرة: 197]، ومن التَّقوى التثبّت، والتَّأمّل، والاجتناب عن الظَّنّ وعن القول بغير علم، والسَّير مع العلم واليقين.     
 الخطبة الثّانيَّة
 
عباد الله، اتَّقوا الله في كلّ أموركم، فلا تحكموا إلَّا بالحقّ، ولا تأخذوا الحقّ إلَّا عن حجَّة وبرهان، ذلك هو الَّذي يقرّبكم إلى الله، ويخفّف من طول وقوفكم عنده، وذلك هو الَّذي يؤكّد توازنكم في حياتكم الاجتماعيَّة والسياسيَّة والاقتصاديَّة والأمنيَّة، لأنَّ ذلك هو الَّذي يؤكّد ميزان العدل في الحياة.
ولعلَّنا عندما نلتزم الثقة في أقوالنا وأفعالنا وأحكامنا وانطباعاتنا وانتماءاتنا، نستطيع أن نواجه حركةَ الأعداء المستكبرين الَّذي يستغلّون نقاط ضعفنا وعصبيَّاتنا وانحرافاتنا، من أجل أن يكيدوا لنا، ليثيروا الفتنة بيننا، وليسقطوا الثّقة بين النَّاس في المجتمع.
مسؤوليَّةُ حمايةِ السَّاحةِ
لذلك، أيُّها الأحبَّة، إذا أردنا أن نأخذ بأسباب الحريَّة أمام ضغط المستكبرين، فليست المسألةُ في حركة الحريَّة مسألةَ سلاحٍ يطلق رصاصةً فقط، ولا مسألة خطاب حماسيّ، بل هي أن تعمل على حماية السَّاحة الاجتماعيَّة والسياسيَّة في مجتمعك، وفي مواقع سياساتك، من نقاط الضَّعف الَّتي يمكن أن تهزمك حتَّى لو كنت مدجَّجاً بالسّلاح، وذلك عندما ينتشر الكذب بين النَّاس، وعندما تنتشر الغيبة والنَّميمة والحقد والعداوة والبغضاء بينهم.. وهكذا، عندما ينتشر التجسّس بفعل العداوة والبغضاء وضعف النَّفس، فإنَّ العدوَّ سوف ينفذ إلى داخل المجتمع، لأنَّ نقاط الضّعف هي الَّتي تفتح له الأبواب، وهي الَّتي تؤكّد له نفوذه في الدَّاخل.
أيُّها الأحبَّة، إنَّنا لم نهزَم من خلال نقصٍ في السّلاح أو في عدد الرّجال، ولكنَّنا هُزِمنا من خلال نقصٍ في القيم الرّوحيَّة والأخلاقيَّة، ومن خلال نقصٍ في العدالة فيما بيننا.
تلك هي المسألة، عندما نفقدُ المحبَّة فيما بيننا، وعندما نفقد العدالة فيما بيننا، وعندما يسيطر على مجتمعاتنا وثقافاتنا وسياساتنا مَنْ يحملون الحقد للنّاس، والعداوة للمخلصين، ومَنْ يتحركون من أجل أن يثيروا الإرباك الاجتماعيَّ والثَّقافيَّ والسّياسيَّ في النَّاس.. هؤلاء هم الجنود المجهولون للمستكبرين، جنودٌ لا يقبضون راتباً منهم، ولكنَّهم ينفّذون مخطَّطاتهم من دون إحساس أو شعور أو التفات، إنَّهم الطَّابور الخامس الاحتياطيّ، الَّذي يتلوَّن في أشكاله، ويتنوَّع في مواقعه، ولكنَّه يتَّحد في أنَّه يتحرَّك في خطّ إرباك المجتمع وإيجاد الاهتزاز فيه.
ونحن، أيُّها الأحبَّة، لا نزال نواجه حركات الاستكبار الَّذي يعمل على إضعافنا ومصادرتنا، فلا بدَّ أن نكون في حذرٍ منه، بأن نعمل على حماية السَّاحة الدَّاخليَّة أوَّلاً، ثمَّ مواجهة العدوّ في السَّاحة الخارجيَّة.
تعالوا لنعرف ماذا هناك مما يخطّط له العدوّ، ومما تتخبَّط به أوضاعنا الإسلاميَّة في هذه المرحلة من الزَّمن.
حلفٌ لتطويقِ المنطقة
إنَّ المرحلة الَّتي تمرّ بها المنطقة العربيَّة والإسلاميَّة، هي من أكثر المراحل خطورةً، من خلال الخطَّة الأمريكيَّة في تطويق المنطقة بالحلف التركيّ الإسرائيليّ الموجَّه ضدَّ العرب وإيران، للمزيد من الحصار، ولإضعاف الموقف العربيّ في الصّراع العربيّ الإسرائيليّ الَّذي يزداد ضعفاً يوماً بعد آخر، بفعل التمزّق بين الدّول العربيَّة، والضّغط الأمريكيّ المانع لعقد أيّ قمَّة عربيَّة للتَّخطيط لسبل حماية الواقع العربيّ من الانهيار السياسيّ بفعل أخطار المستقبل. وهناك الحركة الأمريكيَّة الجديدة، من خلال المبعوث الأمريكيّ الَّذي يعمل على تطويع الفلسطينيّين لتقديم التَّنازلات الجديدة لإسرائيل، لأنَّ الموقف الأمريكيَّ لا يمكن أن يضغط على إسرائيل، بفعل الخطَّة الأمريكيَّة الإسرائيليَّة، في تهيئة كلّ الظروف لإنجاح البرنامج اليهوديّ في الوصول إلى نهاياته، وإبعاد الفلسطينيّين عن أيَّة فرصة للحصول على حقّ تقرير المصير في السّيادة على الضفَّة الغربيَّة وغزَّة على الأقلّ. ولعلَّ من المضحك المبكي، أنَّ الأمريكيّين ليسوا متحمّسين لمبادرتهم هم في الانسحاب الإسرائيليّ، لأنَّ الإسرائيليّين لا يوافقون على ذلك في مرحلة الضّعف الدَّاخليّ للرَّئيس الأمريكي بفعل مشاكله الدَّاخليَّة.
مخطّطٌ لتفرقةِ المسلمين
وفي جانب آخر، تحاول أمريكا بتخطيطٍ مخابراتيّ، إثارة التفرقة بين السنَّة والشيعة، من خلال إثارة الحساسيات والعصبيات المذهبيَّة في هذا الموقع الإسلاميّ أو ذاك، حتى يستنزف المسلمون كلَّ قوَّتهم في هذا الجدل التأريخي الَّذي يتحوَّل بين وقت وآخر إلى صراع دام يقتل فيه المسلمون بعضهم بعضاً على أساس مذهبيَّاتهم، كما حدث أخيراً في أفغانستان، من خلال المجازر الرهيبة ضدّ المسلمين الشيعة في مزار شريف، ولا سيَّما قتل الدبلوماسيّين الإيرانيّين، الَّتي أعلن عنها أخيراً.
وإنَّنا في هذه المناسبة، نقدّم التعازي إلى سماحة آية الله الخامنئي والقيادة الإيرانيَّة والشَّعب الإيراني المسلم الَّذي يعرف جيّداً كيف يواجه الأخطار، وكيف يتعامل مع التحديات والظروف الضَّاغطة.
دورُ منظَّمةِ المؤتمر الإسلاميّ
إنَّنا نجد في هذه الحروب الدَّائرة في العالم الإسلاميّ، والَّتي تدمّر قوَّة المسلمين، وتكمل الخطَّة الاستكباريَّة للسَّيطرة على مقدَّراتهم الاقتصاديَّة، وخطوطهم السياسيَّة، ومواقعهم الاستراتيجيَّة، إنَّنا نجد فيها خطراً على الحاضر والمستقبل، ما يفرض على الجميع، ولا سيَّما منظَّمة المؤتمر الإسلاميّ، السَّعي لإيجاد الحلول الواقعيَّة للمشاكل الدَّائرة بين الدول الإسلاميَّة، لأنَّ ذلك هو الَّذي يعطي لهذه المنظَّمة معناها في رعاية أمور المسلمين، وإبعاد واقع الحروب المتحركة عن مواقعهم.
إنَّ من الضّروريّ أن تتحرَّك هذه المنظَّمة من خلال خطَّتها الإسلاميَّة للتَّدخّل مع تركيا، باعتبارها دولة إسلاميَّة عضواً في المؤتمر الإسلاميّ ولو في الشّكل، للابتعاد عن المخطَّط العدواني مع إسرائيل الَّذي يستهدف العالمين الإسلامي والعربي، لخلق أكثر من مشكلة سياسيَّة وأمنيَّة هنا وهناك.
ولكن السؤال الكبير هو: هل بقي للجامعة العربيَّة في القضايا العربيَّة، وفي منظمة المؤتمر الإسلاميّ في القضايا الإسلاميّة، بقيَّة من الجديَّة والمسؤوليَّة في مواجهة التحدّيات الكبرى الموجَّهة إليهما من قبل الاستكبار العالميّ والصهيونيّ، أو أنَّ دورهما هو لجم أيّ مبادرة للوقوف بقوّة في وجه الاستكبار الأمريكي، ولا سيَّما أنَّ بعض العرب والمسلمين يساهمون في تمكين أمريكا من السيطرة على مقدّرات العالم العربي والإسلاميّ، وتهيئة الفرص لإسرائيل لتحقيق كلّ أطماعها في المنطقة؟!
الاعتداءُ الصّهيونيُّ المستمرّ
وليس بعيداً من ذلك، نسمع في كلّ يوم قيام الجيش الصّهيونيّ بقتل أكثر من فلسطينيّ، كما حدث بالأمس في الخليل، في الوقت الَّذي تطالب أمريكا وإسرائيل سلطة الحكم الذاتي بالمزيد من أمن اليهود في فلسطين، وخصوصاً أمن المستوطنين والمستوطنات، وكأنّ حقّ الحياة والأمن في فلسطين مقصور على اليهود دون غيرهم، وهذا ما توافق عليه أمريكا.
وفي الجانب الآخر، يتابع العدوّ عدوانه على المناطق المدنيَّة الآمنة في جبل عامل والبقاع الغربيّ، من أجل إخضاع لبنان لمخطَّطاته، والضَّغط على حركة المقاومة الَّتي تسجّل في كلّ يوم انتصاراً جديداً عليه. وإنَّنا في الوقت الَّذي ندعو المسؤولين اللّبنانيّين وكلّ المعنيّين إلى تحمّل مسؤوليَّاتهم، والخروج من دائرة السّجال الشَّخصيّ، إلى فضاء المواجهة الواسعة مع هذا العدوان الَّذي تتَّسع دائرته يوماً بعد يوم، وخصوصاً بعد الإجراءات الأخيرة للعدوّ وعملائه بحقّ جزّين وأهلها، وهي إجراءاتٌ تكشف عن عجزه وخوفه أمام المقاومة من جهة، كما أنَّها تستهدف الضَّغط على أهل جزّين، لإحداث مشكلةٍ بينهم وبين المجاهدين من جهةٍ ثانية.
إنَّنا في الوقت الَّذي لا نملك إلَّا أن نقف مع أهلنا في جزّين ضدَّ إجراءات التّضييق والضَّغط عليهم، نؤكّد على الدَّولة أن تتحمَّل مسؤوليَّتها تجاههم، وعلى المسؤولين فيها أن يقفوا في مواقع التصدّي لمخطَّطات العدوّ الَّتي لا تستهدف جزّين فحسب، بل تتَّسع دائرتها لتشمل لبنان كلّه، وثباتِ الموقف اللّبنانيّ في مواجهة المحتلّ وشروطه. ونؤكّد للعدوّ أنَّ المقاومة الأمينة على قضيَّة التَّحرير، والقادرة على النَّيل منه ومن عملائه، لن تسمح باستهداف أهلها، وهو يعلم جيّداً أنَّ المقاومة تملك أكثر من وسيلة للرّدّ عليه في العمق.
لبنانُ في دوَّامةِ المشاكل
أمَّا في الواقع اللّبنانيّ الدَّاخليّ، فإنَّ النَّاس مشغولون بالاستحقاق الرّئاسيّ الَّذي يتحرَّك في أجواء ضبابيَّة، لأنَّ المسألة لا علاقة لها بهم في عمليَّة الاختيار. ومهما كان الأمر في هذا الجانب، فإنَّ المرحلة القادمة مما نراه من معطياتها السياسيَّة، لن تكون بأفضل من هذه المرحلة الَّتي يبدو فيها أنَّ الجميع في الواقع السياسيّ، قد استسلموا للمخطَّط المرسوم في إبقاء لبنان في مرحلة الوقت الضَّائع، وفي إبقاء اللّبنانيّين في دوَّامة الاهتراء السياسي والمشاكل الاقتصاديَّة والانهيار المعيشيّ، ولا سيَّما في هذا الوقت الَّذي يستقبل النَّاس الموسم الدّراسيَّ الَّذي لا يملكون أيَّة فرصة حقيقيَّة لمواجهة استحقاقاته الماديَّة، الأمر الَّذي قد يبقي الكثير من الطلَّاب خارج المدارس.
إنَّنا ندرك جيّداً أنَّ مشكلة الجمود السياسيّ والاقتصاديّ في لبنان هي جزء من مشكلة الجمود في المنطقة، ولكن لا بدَّ من التحرّك بتخطيط دقيق للأولويَّات الشَّعبيَّة، للتَّخفيف من خطورة المشكلة الحادَّة، إذا لم نستطع إزالتها من الواقع الشَّعبيّ من الأساس.
*خطبة الجمعة لسماحته، بتاريح: 11/09/1998م.
اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية