محطات للتأسي

 محطات للتأسي

ذكرى وفاة العسكريّ (ع) وتولِّي المهديّ (عج) الإمامةَ وولادةِ الرَّسولِ (ص)

نلتقي في هذه الأيّام بعدَّة مناسبات إسلاميَّة، منها الحزين، ومنها المفرح. ففي هذا اليوم، على حسب بعض التَّقاويم، وهو اليوم الثَّامن من ربيع الأوَّل، نلتقي بذكرى وفاة الإمام الحادي عشر من أئمَّة أهل البيت (ع)، وهو الإمام الحسن العسكريّ (ع).
ذكرى وفاةِ العسكريّ (ع)
هذا الإمام الَّذي عندما تقرأ سيرته، تجد أنَّه كان الإمام الَّذي اتَّفق أهل عصره على تعظيمه، بالرّغم من اختلاف آرائهم، حتَّى إنَّ الَّذين كانوا يحيطون بالخلافة الَّتي كان موقفها مضادّاً للأئمَّة من أهل البيت (ع)، كانوا يعظِّمونه ويحترمونه من خلال الصِّفات الَّتي تمثَّلت في شخصه، من علمٍ وزهدٍ وتقوى وروحانيَّةٍ منفتحةٍ على الله بكلِّ عمقها وامتدادها، ومنفتحةٍ على النَّاس بكلِّ ألوانهم وأشكالهم، حتى إنَّ بعضَ هؤلاء الَّذين كانوا يعيشون العقدة من أهل البيت (ع)، ممن كان له علاقة بمركز الخلافة، قال يوماً لشخصٍ كان يحترم الإمام (ع): والله إذا خرج من هذا المكان، فإنِّي لن أقوم له كما يقوم النَّاس للشَّخص المحترم تعظيماً، ولكنَّ الإمام عندما خرج، لم يملك هذا الإنسان نفسه إلَّا أن قام تعظيماً له، وعندما سئل عن ذلك قال، لقد أخذتني هيبته، فلم أملك نفسي إلَّا أن أقف.
ونقرأ الكثير في حياة هذا الإمام الَّذي اضطُهِد من قبل الخلافة، والَّذي عندما تدرس نشاطه وسيرته، تجد فيها سيرة الأئمَّة من آبائه الَّتي تتمثَّل بسيرة النَّبيّ (ص)، لأنَّ خطَّهم واحد، ومسيرهم واحد، ولأنَّ موقعهم هو موقع الحماية والحراسة للإسلام وأهله.
إمامةُ المهديِّ (عج)
وفي ضوء هذا اليوم الَّذي توفِّي فيه الإمام العسكريّ (ع)، نلتقي باليوم الَّذي توِّج فيه الإمام الحجَّة (عج) بالإمامة بعد أبيه (ع)، وكانت إمامته من خلال صغر سنِّه معجزةً، تماماً كما هو يحيى {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا}[مريم: 12]، وكما هو عيسى (ع).
ولذلك، فنحن في الوقت الَّذي نعيش ذكرى وفاة الإمام العسكريّ (ع)، ننفتح على ذكرى بداية إمامة الحجَّة (عج) الَّتي امتدَّت في هذه المئات من السِّنين، ولا ندري إلى أيِّ مدى تمتدُّ بعد، لأنَّ المسألة من غيب الله في غيبتِهِ (عج)، ومن غيبه في ظهوره، باعتبار أنَّ ذلك مما استأثر الله بعلمه من جهة، وبحكمته من جهة أخرى. ولذلك، فإنَّنا نعتقد أنَّ انفتاحنا على إمامته (عج)، هو انفتاحٌ على ما جاءنا من الصَّادقِ المصدَّقِ رسولِ الله (ص) الَّذي حدَّثنا عنه، وأنَّه "يَمْلَأُ الأَرْضَ قِسْطاً وَعَدْلاً، كَمَا مُلِئَتْ ظُلْماً وَجوْراً".
وإذا كانَ الإمام (عج) قد غاب عنَّا، فإنَّ كلَّ هذا التّراث الَّذي نقله العلماء عنه، والَّذي نقلوه عن آبائه وأجداده، يبقى ماثلاً بيننا يمثِّل حضوره، بأنَّنا وإن افتقدنا حضوره بالحسّ، فإنَّنا نعيش هذا الحضور بالعقل والرّوح من خلال كلِّ هذا التراث. وإذا كان الإمام (عج) يخرج ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً، فإنَّ علينا أن نكون أمَّة العدل، بحيث نعيش العدلَ مع ربِّنا، فنعطي ربَّنا حقَّه في توحيده ونفي الشّركاء عنه، وفي طاعته، والالتزام بأوامره ونواهيه، وأن نعدل مع أنفسنا، فلا نظلم أنفسنا بأن نورِّطها بالسَّير في خطِّ نار جهنَّم، وأن نعدلَ مع النَّاسِ كلِّهم، فنعطي كلَّ ذي حقٍّ حقَّه، ولا نغمط أحداً حقَّه، ونعدل مع الحياة، في كلِّ ما للحياةِ علينا من حقّ.
ذكرى مولدِ الحبيبِ
ونلتقي أيضاً في هذه الأيَّام بذكرى مولد رسول الله (ص)، سيِّد ولد آدم، حبيب الله، الَّذي أرسله الله سبحانه وتعالى إلى النَّاسِ كافّةً بشيراً ونذيراً، كما أنزلَ اللهُ سبحانَهُ وتعالى في كتابِهِ {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا}[سبأ: 28]، وأرسله الله ليكونَ رحمةً للعالمين؛ رحمةً في روحِهِ، ورحمةً في منطقِهِ، ورحمةً في رسالتِهِ، ورحمةً في أخلاقِهِ، ورحمةً في منهجِهِ، ورحمةً في حربِهِ، ورحمةً في سلمِهِ، ورحمةً في بيتِهِ وفي النَّاسِ كلّهم {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}[الأنبياء: 107].
وقال الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا - تشهد على النَّاس بما قاموا به من الإيمان بالرِّسالة، والالتزام بالخطِّ - وَمُبَشِّرًا - للنَّاس بالجنَّة في الآخرة، إذا ساروا في خطِّ الرِّسالة، وبالسَّعادة في الدّنيا إذا أخذوا بكلِّ ما شرَّعْتَه لهم من أخلاق - وَنَذِيرًا *- تنذرهم عذابَ جهنَّم إذا كفروا وعصوا وتمرَّدوا، وشقاء الدّنيا إذا انحرفوا عن الخطِّ المستقيم.
- وَدَاعِيًا إِلَى اللهِ - لأنَّ النَّبيّ (ص) كالأنبياء الَّذين سبقوه، دعا إلى الله سبحانه وتعالى، في الوقت الَّذي كان النَّاس يدعون إلى الأصنام.
وهذا هو الخطّ الَّذي لا بدَّ لنا، أيُّها الأحبَّة، أن نعيشه، باعتبار أنَّ المسلم لا بدَّ أن تكون دعوته إلى الله، وأن لا يدعو إلى العباد الَّذين يؤلّههم النّاس ويتَّبعونهم من دون الله، فلتكن الدَّعوة إلى الله سبحانه وتعالى، وإذا أردتم أن تدعوا إلى أيِّ إنسان، في أيِّ موقع من مواقع الحياة، فعليكم أن تفتِّشوا هل هذا الإنسان يؤدِّي عن الله سبحانه وتعالى ويسير في طريقه، أو أنَّه لا يؤدّي عن الله ويسير في طريق الشَّيطان... دقِّقوا فيمن تدعون إليه من النَّاس، لا تنطلقوا من غريزة تدفعكم إلى ذلك، ولا تنطلقوا من طمع يدعوكم إلى ذلك، وهكذا في كلِّ المجالات العمليَّة.
- بِإِذْنِهِ - لأنَّ الله هو الَّذي أرسله رسولاً وأذن له بذلك - وَسِرَاجًا مُّنِيرًا}[الأحزاب: 45- 46]، لأنَّه أعطى النَّاس الضَّوء من عقله وقلبه وأخلاقه وسيرته، فكان رسولُ الله (ص) نوراً كلّه، وكان حقّاً كلّه، ليس للظَّلمة أيّ دور في عقله وقلبه، فهو المعصوم في فكره، والمعصوم في تبليغه، والمعصوم في سيرته، والمعصوم في كلِّ حياته، لأنَّه جاء ليكون سراجاً منيراً، ولا يمكن لمن كان دوره أن ينيرَ للنَّاس طريقهم، أن يعيش ظلمةً في عقله أو قلبه أو حياته.
دورُ رسولِ الله (ص)
وهكذا أرادَ الله للرَّسول (ص) أن يُخرجَ النَّاسَ من الظّلماتِ إلى النّور، ولا بدَّ لمن يفعل ذلك أن يكون نوراً كلّه. إنَّ الله سبحانه وتعالى خلق للكون شمساً ليس فيها شيء من الظّلمة، وهي هذه الشَّمس الَّتي تعطينا الإشراق والدّفء والحرارة، وأرسل شمساً إنسانيَّة هي رسول الله (ص) والمعصومون معه، لا أثر للظَّلمة في شخصيّاتهم وحياتهم.
وفي ضوء هذا، أيُّها الأحبَّة، قال الله عنه عندما تحدَّث عن دوره فينا: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا - لتستمعوا إلى آيات الله لتعملوا بها – وَيُزَكِّيكُمْ - يطهِّر أنفسكم وينقِّيها من الشِّرك والخبث، ومن الحقد والعداوة والبغضاء، ومن كلِّ ما يشوِّه النَّفس الإنسانيَّة - وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ – الَّتي هي أن يضع الإنسان الشَّيءَ في موضعه - وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ}[البقرة: 151]، لأنَّه ينفتح بكم على كلِّ مواقع العلم مما يرتفع بمستواكم وكلِّ حياتكم. وهكذا قال الله مخاطباً نبيَّه: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا}[النساء: 113].
وهكذا كانت دعوة النَّبيِّ (ص) من أجل أن يفضح اليهود الَّذين كانوا يستغلّون علمهم بالتَّوراة وبالكتاب، ليخفوا عن النَّاس ما لا يفيدهم هُم، وليعطوهم ما يستفيدون هم منه، وهكذا قال الله: {يَٰا أَهْلَ ٱلْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ ٱلْكِتَابِ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ}[المائدة: 15].
وقال الله سبحانه وتعالى عنه: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}[الصفّ: 9].
وقال الله عنه، وهو يحدِّثنا عن إنسانيَّته في علاقته بالنَّاس من حوله: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ}[التَّوبة: 128].
الأمينُ على الرِّسالة
وكان (ص) أميناً على كتاب الله ورسالته، وكان المشركون يريدون منه أن يأتي بغير هذا القرآن وأن يبدِّله، وعلَّمه الله أن يقول لهم: {وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَٰذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}[يونس: 15].
وانتبهوا إلى هذه الفقرة من الآية، فرسول الله (ص) يقف أمام ربِّه وقفة العبد أمام سيِّده، وهو سيِّدُ ولد آدم، إنَّه يقول لهم إنَّكم تكلِّفونني أن أتقوَّل على الله ما لم يقلْه لي، وأن أبدِّل كتاب الله، وهذه معصية لله {إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}[الزّمر: 13]، فكيف بنا، أيُّها الأحبَّة، وبعضنا يقول لا مشكلة لي مع الله لأني مسلم، ولا مشكلة لي معه لأني أنتسب إلى رسول الله، ولا مشكلة لي معه إذا عصيت لأنَّ أبي كان حاجّاً، ولأني من أسرة علميَّة، وما إلى ذلك، ولكنَّ الله سبحانه وتعالى يرفض ذلك ويقول: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ - كن سيِّداً من بني هاشم، كن عالماً، كن ابن العلماء، كن ما شئت - مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا}[النِّساء: 123]، لأنَّه لا قرابة بين الله وبين أحد إلَّا بالعمل، وإنّما ارتفع رسول الله إلى الدَّرجات العليا عند الله بالعمل، وارتفع عليٌّ والأئمَّة (ع) وكلّ الأولياء والصّلحاء إلى الله بالعمل، ولذلك قال الله: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}[التّوبة: 105]، فلا بدَّ من العمل في ذلك، وإذا عملتم: {أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ}[آل عمران: 195].
معجزةُ الرَّسول (ص)
وهكذا، أيُّها الأحبَّة، نعيش مع رسول الله الَّذي لم يتحدَّث القرآن عن كثير من خصوصيَّاته، ولكنَّه تحدَّث عن بعض النقاط الَّتي تؤكِّد رسالته، وتؤكِّد المعجزة في شخصيَّته، عندما قال الله: {وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ - لم تكن تقرأ قبل أن ينزَّل القرآن عليك - وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ - ولم تكن تكتب - إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ}[العنكبوت: 48]، لو كنت قارئاً، لقال النَّاس إنَّه جاء بهذا القرآن من خلال ما قرأه من الكتب السَّماويَّة الَّتي تقدَّمته، ولو كنت تكتب، لقالوا إنَّك نقلْت هذا من الكتب، ولكنَّهم عرفوك في مدى الأربعين سنة، وقد عشت معهم في اللَّيل والنَّهار، في سرِّك وعلانيتك، في حياتك الفرديَّة والاجتماعيَّة، ولم يروك قارئاً ولا كاتباً، ولذلك عندما أتيت بما أعجز الَّذين قرأوا، وبما أعجز الَّذين كتبوا، فإنَّ ذلك مثَّل معجزة في شخصك تثبت نبوَّتك، تماماً كما هو القرآن يثبت نبوَّتك بإعجازه.
وفي آيةٍ أخرى، يقول الله سبحانه وتعالى: {وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ - لأنَّه لم يسبق لك أن تثقَّفت بأيِّ كتاب من كتب الله، من إنجيل أو قرآن - وَلَا الْإِيمَانُ - في تفاصيله وشرائعه وتفريعاته - وَلَٰكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}[الشورى: 52].
اليتيمُ الَّذي رعاه الله
وهكذا حدَّثنا الله سبحانه وتعالى بعض الحديث عن بعض ما كان يعيشه (ص)، عندما كان الله يحدِّثه عن النِّعم: {وَالضُّحَىٰ * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ - عندما تأخَّر الوحي عنه، وقالت قريش إنَّ ربَّ محمَّد قد ودَّعه وقلاه - وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَىٰ * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ * أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَىٰ – كان يتيم الأب، فقد مات أبوه وهو في بطن أمِّه، وكان يتيم الأمّ، إذ ماتت أمُّه بعد ولادته بقليل، وآواه الله، وكفله عمُّه أبو طالب، ولذلك كان يسمَّى يتيم أبي طالب - وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَىٰ – وليس الضَّلال الَّذي هو ضدّ الهدى، ولكن بمعنى وجدك غير عارف بالشَّرائع وما إلى ذلك فهداك، وعرَّفك ما لم تكن تعرفه، باعتبار أنَّك لم تتعلَّم شيئاً من إنسان - وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى – وإذا كنت اليتيم، وعرفت معنى أن يكون الإنسان يتيماً، وعرفت كيف يشعر اليتيم بالقهر أمام المجتمع، وكيف يشعر بالحزن والألم، وكيف ينظر المجتمع إلى اليتيم بإشفاقٍ قد يكون فيه الكثير من الإذلال، فعلِّم، يا محمَّد، أمَّتَكَ أن لا تقهر اليتيم، لأنَّ من طبع النَّاس أنّهم يقهرون الَّذي لا حول له ولا قوَّة، وأنّهم يقهرون الَّذي لا كافل له ولا أب ولا عشيرة، لذلك علِّم أمَّتك أن لا يقهروا اليتيم - فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ – الَّذي جاءك يسأل حاجة، وهو في حالة تعرف فيها فقره - فَلَا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ}[سورة الضّحى].
وقد انطلقت بعض المؤتمرات الإسلاميَّة – ونعم ما فعلت - لتجعل يوم مولد النَّبيِّ (ص) يوم اليتيم العالميّ الَّذي يحتفل النَّاس فيه باليتيم في كلِّ مكان، لأنَّه أيُّ يتيم أعظم من محمَّد (ص)؟! أيّ يتيم استطاع بعون الله وبلطفه أن يتمرَّد على كلِّ ظروف اليتم، ليكون أوَّل إنسان في البشريَّة فكراً وروحاً وخلقاً وسيرةً وما إلى ذلك. ولهذا، لا بدَّ لنا، أيُّها الأحبَّة، ونحن أمَّته، أن نتأسَّى به، وقد قال الله لنا: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}[الأحزاب: 21].
فضلُ كفالةِ الأيتام
علينا، أيُّها الأحبَّة، أن ننطلق مع رسول الله الَّذي روى الرّواةُ عنه أنَّه قال، وهي البشارة لنا: "أنا وكافلُ اليتيمِ كهاتيْنِ في الجنَّة"، وأشار إلى السبّابة والوسطى، فكما هو الإصبع مع الإصبع، فرسول الله (ص) يقول إنَّ كلَّ من يكفل يتيماً، سيكون معه في الجنَّة جنباً إلى جنب، وتلك بشارة كبيرة لمن يكفل الأيتام ليعيشوا أعزَّاء.. ولتعتبر أنَّ الله رزقك ولداً، ألا تنفق عليه؟ ألا تعلِّمه إذا صار في سنِّ المدرسة؟ فلتحاولْ أن يكون لك ولدٌ بالرّوح، وإذا كان التبنِّي في الإسلام كإلحاقٍ بالنَّسب محرَّماً، لأنَّ الله لا يريد للإنسان أن ينتسب إلى غير أبيه: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ}[الأحزاب: 5]، ولكنَّ الله أفسح المجال لنا من أجل أن يكون لنا أولاد بالرّوح، أن نتبنَّاهم من أجل أن نجعل منهم مواطنين مؤمنين طيِّبين صالحين، وقد قال عليٌّ (ع)، وكانت آخر وصيَّة له: "اللهَ اللهَ فِي الأَيْتَامِ، فَلَا تَغبُّوا أَفْوَاهَهُمْ، وَلَا يَضِيعُوا بِحَضْرتِكُمْ"، والمجتمع كلّه مسؤول عن ذلك.
وعلينا ونحن نستقبل مولد رسول الله (ص)، أن نستقبل يوم اليتيم العالميّ، من أجل أن نجعل منه يوماً نكفل فيه الأيتام، ونساعد فيه الأيتام، ونعلِّم فيه الأيتام، ونشجِّع كلَّ مبرَّات الأيتام ومواقع الأيتام، سواء كان آباؤهم من الشّهداء الَّذين بذلوا أنفسهم من أجلنا جميعاً، أو كانوا من غير الشّهداء، أن نعتبر أنفسنا مسؤولين عن ذلك، حتَّى نعيش معنى يتم رسول الله، ومعنى ما يريده القرآن الكريم، وما دعا رسول الله (ص) إليه {وَفِيْ ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُون}[المطفّفين: 26].
 الخطبة الثّانية
 
عباد الله، اتَّقوا الله تقوى الإسلام، فإنَّ الله أراد لكم عندما تلتزمون الإسلام له {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}[البقرة: 131]، إنَّه أراد لكم أن تلتزموا الإسلام بكلّكم، أن لا يكون لغير الإسلام شيء فيكم، أن لا يكون لغير الإسلام شيء في عقلكم مما تلتزمونه فكريّاً، وأن لا يكون لغير الإسلام شيءٌ في قلبكم مما تنفتحون عليه عاطفيّاً، وأن لا يكون لغير الإسلام شيء في حياتكم مما تتحركون به، فيما تفعلون وتتركون، أن تكون كلُّ مواقفكم إسلاميَّة، لتقفوا مع من يتحرَّك في خطِّ الإسلام في كلِّ قيمه وأهدافه، ولتبتعدوا عن كلِّ من يتحرَّك في خطِّ الكفر والاستكبار في كلِّ قيمه وأهدافه، استجابةً لقول الله سبحانه وتعالى، وهو يحدِّثنا، كما جاء في حديثه مع بعض رسله: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي – عندما أصلِّي - وَنُسُكِي – في كلِّ عباداتي – وَمَحْيَايَ - في كلِّ حياتي الفرديّة، مع عيالي، مع جيراني، مع كلِّ النَّاس من حولي - وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * - لله لا لغيره، فلا تكون حياتي لأيِّ شخص، ولا مماتي في سبيل أيِّ شخص، أحيا لله في كلِّ ما يريده الله لي من حركةٍ للحياة، وأموت لله في كلِّ ما يريده الله لي أن أموت في سبيله.
- لَا شَرِيكَ لَهُ - من كلِّ قريب أو بعيد، من كلِّ غنيّ أو فقير، من كلِّ أمير أو حقير، من كلِّ النَّاس - وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}[الأنعام: 162-163] الَّذين يركِّزون إسلامهم على قاعدةٍ ثابتةٍ من محبَّة الله وخوفه.
وهكذا يقول الله سبحانه على لسان كلّ نبيّ من الأنبياء: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}[يوسف: 101]، أن تتحرَّك حياتنا كلّها في خطّ الإسلام، بحيث يشهد الإنسان بأن لا إله إلَّا الله بعقله وقلبه، وأنَّ محمَّداً رسول الله بعقله وقلبه، حتَّى يموت مسلماً يُشهِد الله على إسلامه. هكذا لا بدَّ لنا أن نعيش.
وفي ضوء هذا، لا بدَّ لنا أن نراقب كلماتنا عندما نتكلَّم، وحركاتنا عندما نتحرَّك، فلا نقدِّم رجلاً، ولا نؤخِّر أخرى، حتَّى نعلم أنَّ في ذلك لله رضا.
ليكن هذا القلق في كلِّ شيء: هل الله راض عن هذه الكلمة أو لا، هل الله راض عن هذا العمل أو لا، هل الله راض عن هذا الموقف أو لا؟! راقبوا الله في ذلك كلِّه، فإنَّ من راقب الله استقامَ في عمله، ومن استقامَ في عمله، فلا خوف عليه يوم القيامة ولا حزن، وتلك هي السَّعادة.
اتَّقوا الله في كلِّ ما تتحمَّلون من مسؤوليَّتكم. ونحن الآن، أيُّها الأحبَّة، في أيَّام مولد رسول الله (ص) الَّذي حمل الرِّسالة، وأوذي فيها حتَّى قال: "ما أُوْذِيَ نّبِيٌّ مِثْلَ مَاْ أُوْذِيْتُ"، وعلينا أيضاً أن نحمل الرِّسالة من بعده {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ}[آل عمران: 144].
وفي ضوء هذا، لا بدَّ لنا أن نقف مع كلِّ قضيَّة إسلاميَّة، سياسيَّة أو اقتصاديَّة أو ثقافيَّة أو اجتماعيَّة، ولا بدَّ لنا أن نقف مع المسلمين في كلِّ قضاياهم، وفي كلِّ مشاكلهم وأوضاعهم، أن يقدِّم كلُّ واحد منَّا جهده بحسب ما يستطيع.
ولذلك، علينا أن نلاحق قضايا المسلمين في كلِّ تفاصيلها، في كلِّ يوم، وفي كلِّ أسبوع، ولقد شرَّع الله سبحانه وتعالى للمسلمين صلاة الجمعة، لتكون صلاةً عباديَّةً في خطبتها الأولى وفي طبيعة الصَّلاة، وتكون عبادة سياسيَّةً في خطبتها الثَّانية، حتَّى يعرف المسلمون في مجتمع الجمعة، كيف يديرون قضاياهم، وكيف يستعرضونها، وكيف يتحركون، ولذلك شدَّد الله على حضور صلاة الجمعة الَّتي يستهين بها الكثير من النَّاس، لأنَّ الله يريد للنَّاس أن يعيشوا صلاةً جماعيَّةً منفتحة، كما يريد لهم أن يعيشوا صلاةً فرديّةً، بحسب ظروفهم، ولذلك حرَّم الله على النَّاس البيعَ في وقت النِّداء يوم الجمعة {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ - اسمعوا الخطبة، واسعوا إلى الصَّلاة - وَذَرُوا الْبَيْعَ - لا تقل يمكن أن يأتيني زبون في هذه السَّاعة الَّتي أحضر فيها إلى صلاة الجمعة - ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ - الَّتي تمتدُّ من ساعة إلى ساعة ونصف من الوقت - فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * - ثمَّ يحدّثنا الله عن بعض الجماعة الّذين كانوا في زمن النّبيّ (ص) والَّذين هم موجودون أيضاً الآن - وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}[الجمعة: 9-11]، فالله هو الَّذي يرزقك ويحوِّل القلوب إليك.
لذلك، نحتاج دائماً أن نعيش، أيُّها الأحبَّة، أجواء الجمعة في أجواء مسؤوليَّاتنا الرّوحيَّة والاجتماعيَّة والسياسيَّة، فلنر ماذا هناك.
خطَّةٌ لتهويدِ القدس
في التطوّرات الأخيرة، لا بدَّ أنَّكم سمعتم أنَّ رئيس وزراء العدوّ قرَّر القيام بعمليَّة احتواء القدس، لتكون يهوديَّة بأكثريَّتها، أو بمجموعها، إذا استطاع أن يشرِّد كلّ غير اليهود منها، حتّى لا يصبح العرب أكثريَّة، باعتبار أنّهم يتناسلون أكثر من اليهود، وهذه مشكلة لليهود الَّذين يريدون أن تبقى فلسطين أكثريَّة يهوديّة، ولا سيَّما القدس، لذلك حاولوا أن يضيفوا إلى القدس بعض المستوطنات، وبعض مناطق الضفَّة الغربيَّة الَّتي تحتوي الكثير من اليهود، حتَّى يصبح المسلمون أو العرب أقليَّة لا يستطيعون أن يقوموا بأيِّ عمل كبير بالنِّسبة إلى القدس، وحتَّى لا تملك سلطة الحكم الذَّاتي أيَّ نوع من المفاوضات الجدّيّة في هذا الجانب، باعتبار التَّغيير الواقعيّ.
أمَّا أمريكا، فعلَّقت في البداية بأنَّه لا مصلحة في ذلك، فكأنّها تقول لليهود إنَّ الوقت الآن غير مناسب، فافعلوا ذلك، ولكن خفِّفوا من الأمر، وعندما عارض العرب، وشربوا حليب السِّباع - مع أنّهم يخلطون بين حليب السِّباع وحليب الأرانب في بعض الحالات - قدَّموا إلى مجلس الأمن طلب إدانة لإسرائيل في هذا الضّمّ وهذه التّوسعة، ولكنَّ أمريكا وقفت بالمرصاد، واعترضت بأنَّ المرحلة هي مرحلة تسوية، فليس من المصلحة عرضها على مجلس الأمن لأنَّه سيربك الموضوع، والمقصود عند أمريكا أنّه سيربك الخطَّة الأمريكيَّة المتحالفة مع الخطَّة الإسرائيليَّة الَّتي يراد بها تضييع كلّ شيء للعرب.
وهكذا رأينا كيف أنَّ مجلس الأمن بدأ يضيع في هذا المجال، وجمَّد المناقشات، وانطلقت وراء الكواليس بعض النّشاطات البريطانيَّة والأمريكيَّة والروسيَّة، حتى تميِّع القرار، وحتَّى يصدر قرارٌ لا لونَ له ولا طعمَ ولا رائحة، من دون أيِّ شيء يمسّ إسرائيل. هذا واقعٌ أصبحنا نعيشه الآن.
الواقعُ العربيُّ: نكسةٌ.. وغيبوبة
وهكذا بدأت التَّدخُّلات الدوليَّة في داخل مجلس الأمن لتمييع الموضوع، لإفساح المجال لإسرائيل لاستكمال مشروعها التَّهويديّ. أمَّا الواقع العربيّ، فإنَّه يمرّ بغيبوبة سياسيَّة وأمنيَّة من جهة، ونكسة واقعيَّة من جهة أخرى، لأنَّ الرهان العربي على ضغط أمريكيّ على إسرائيل هو رهان على سراب، ولا سيَّما بعد إعلان الرئيس الأمريكي للمؤتمر اليهوديّ بأنَّه لا يمكن له الضّغط على إسرائيل في مبادراتها الأمنيَّة.
وفي هذا السِّياق أيضاً، تحتفل إسرائيل بمرور خمسين سنة على سلاحها الجوّيّ، فكيف احتفلت؟ حاولت أن تدعو عدَّة دول لكي تشاركها في عرضها الجوّيّ، فكانت الطَّائرات الفرنسيَّة والبريطانيَّة والإيطاليَّة والسويسريَّة والتشيكيَّة والتشيليَّة والإسبانيَّة والتركيَّة والأمريكيَّة، تشارك في عرض جوّيّ دوليّ في فلسطين، تحيَّةً للسّلاح الجوّيّ الإسرائيلي في الذّكرى الخمسين لقيام إسرائيل!
إنَّ هذه المظاهرة الجويَّة الدّوليَّة تحمل أكثر من مدلول سياسيّ على التَّأييد الدّولي لإسرائيل، ولسياسة رئيس حكومتها، في رسالة تشجيعيَّة لكلِّ المشاريع المتحركة باتجاه إسرائيل الكبرى على حساب الفلسطينيِّين، وتخدير سلطة الحكم الذَّاتيّ بزيارات رسميَّة دوليَّة لا تحمل في مضمونها أيَّ معنى من معاني الدَّعم السياسيّ والاقتصاديّ.
دعمٌ لإسرائيل لضربِ إيران
وفي هذا الاتجاه، تتحدَّث وسائل الإعلام الأمريكيَّة، أنَّ إسرائيل تمتلك صواريخ نوويَّة متوسّطة المدى، سوف تزوّد بها غوَّاصات جديدة ستحصل عليها من ألمانيا. إنَّ هذه الصّواريخ، كما تقول وسائل الإعلام، قادرة على ضرب إيران، في الوقت الَّذي يستمرّ التهويل الأمريكي على روسيا والصّين وأوكرانيا وغيرها من الدّول، لمنعها من الدخول في صفقات ومشاريع تسليحيّة من شأنها أن تعطي إيران بعض الخبرات، بحجَّة أنَّ ذلك يعدل في الميزان الاستراتيجي في الشَّرق الأوسط.
دلالةُ الغارةِ على العراق
وليس بعيداً من ذلك، تأتي الغارة الأمريكيَّة الجديدة على العراق، لتحمل أكثر من دلالة على استمرار الحصار ضدّ الشَّعب العراقيّ، من أجل أن تستكمل أمريكا خطَّتها الرَّامية إلى احتواء العراق لمصلحة سياستها الاقتصاديَّة في السَّيطرة على الثَّروة والاستثمارات العراقيَّة من جهة، وترتيب أوضاع المنطقة الَّتي تتماشى مع التَّسوية من جهة أخرى.
الاحتلالُ يواصلُ عدوانَه
ويبقى الجنوب اللّبناني، ومعه البقاع الغربيّ، الساحة الحارَّة الَّتي تمارس فيها إسرائيل كلَّ عدوانها المستمرّ ضدّ المدنيّين، لتأكيد سيطرتها واحتلالها، ورفع معنويَّات جنودها وعملائها، في غياب أيِّ احتجاجٍ دوليّ، انطلاقاً من أنَّ العدوان على لبنان أصبحَ تقليداً صهيونيّاً يوميّاً، لا يثير أيَّ مشاعر إنسانيَّة أو سياسيَّة لدى الواقع الدّوليّ، تحت تأثير الضّغط السياسيّ الأمريكيّ في هذا الاتجاه.
إنَّنا نعتقد أمام هذه الصّورة القاتمة للواقع السياسي العربي والفلسطيني، أنَّ على العرب أن يرتفعوا إلى مستوى المرحلة الَّتي تهدِّد عمق دورهم في بلادهم، وتحوِّلهم إلى مزق متناثرة لا يجمع بينها شيء، مما يبتعد بهم عن أيِّ موقع للقوَّة على مستوى المستقبل.
إنَّ التحدي الصهيوني الأمريكي ليس موجَّهاً ضدّ الفلسطينيّين والعرب فحسب، بل هو موجَّه ضدّ العالم الإسلاميّ، لأنَّ القدس تمثِّل القضيَّة الكبرى المقدَّسة لدى المسلمين جميعاً، كما أنَّه موجَّه ضدّ العالم المسيحيّ، لأنَّها كذلك لدى المسيحيّين جميعاً، الأمر الذي يفرض على الجميع القيام بحركة سياسيَّة واسعة النطاق، من أجل ممارسة الضَّغط لإفشال كلِّ المشاريع التهويديَّة للقدس، وللوقوف مع حركة المقاومة في لبنان وفلسطين، من أجل المزيد من الضغط على العدوّ، وتحويل احتلاله إلى مأزق سياسيّ وأمنيّ، وإفهامه بأنَّه لن يستطيع الوصول إلى أيِّ ترتيبات أمنيَّة، أو أيّ استقرار أمنيّ أو سياسيّ من خلال عدوانه.
إنَّ المرحلة الحاضرة هي من أخطر المراحل الَّتي تمرّ بها المنطقة، ما يفرض على الجميع، على الصَّعيد الوطني الرَّسميّ والشَّعبيّ، الاستعداد الكبير لمواجهة تحدّياتها الصَّعبة، بفعل النَّتائج الخطيرة التي تترتَّب عليها سلباً أو إيجاباً، حسب الموقف العربيّ والإسلاميّ في ساحة المواجهة.
وتبقى المقاومة في عمليَّاتها الشّجاعة النَّوعيَّة هي التحدّي الكبير ضدّ العدوّ في ساحة المواجهة الاحتلال، وإنَّنا نقدِّر الاقتحامات الأخيرة لحصون العدوّ، وتحطيم دفاعاته من قبل المقاومة الإسلاميَّة، ما أنزل به هزيمة معنويّة نفسيّة، إضافةً إلى الهزيمة العسكريَّة، ويثبت أنَّ المقاومة لا تزال تملك زمام المبادرة في المواجهة مع العدوّ.
تحرّك صهيونيّ في آسيا
وفي خطٍّ مواز على المستوى الإسلاميّ الدوليّ، نراقب بقلقِ بالغ التحرّك الإسرائيليّ في منطقة آسيا الوسطى، الَّذي يستهدف توثيق علاقات إسرائيل بدول تلك المنطقة، وآخرها طاجكستان الَّتي أوفد إليها عدداً من مسؤوليه، لتطبيع الروابط السياسيَّة والاقتصاديَّة معها، وإثارة هذه الدول الإسلاميَّة ضدّ الجمهوريَّة الإسلاميَّة في إيران، في الوقت الَّذي يشجب الإسلاميّون في طاجكستان هذه العلاقة، كما يشجبون نقض الحكومة الطاجيكيَّة تعهّداتها معهم من خلال اتّفاق أشرفت عليه روسيا وإيران.
إنَّنا ندين هذه العلاقة جملةً وتفصيلاً، ونضعها في خانة التحالفات المحوريَّة الَّتي يحاول العدوّ إقامتها مع أكثر من دولة مجاورة لإيران، في إطار محاولاته اليائسة والسَّاعية إلى إضعاف النظام الإسلامي في إيران.
ضغطٌ على كاهلِ المواطنين
ونصل إلى الواقع اللّبناني الدَّاخليّ، في الجدل السياسيّ في القضايا الصَّغيرة الشخصيَّة الَّتي تشغل الجميع عن القضايا الكبرى الحيويَّة والمصيريَّة، ولا سيَّما الأمور المتعلّقة بحاجات النَّاس الملحَّة، وخصوصاً موضوع الكهرباء في هذه الأيَّام، الَّذي بدأ يضغط على كاهل المواطنين بما يتجاوز طاقتهم على التحمّل، بعد سنوات من الأحلام والوعود بأنَّهم سيحصلون على الكهرباء 24 ساعة في اليوم، مع العلم أنَّ هذه الأمور الحياتيَّة تواجه إهمالاً مستمراً، تنتقل فيه الوعود من سنة إلى أخرى، تحت تأثير العجز في الميزانيَّة، والهدر في الصَّرف، والفساد في الإدارة، والسرقات الصغيرة والكبيرة في البلد، والاعتبارات الشخصيَّة في الابتعاد عن الكفاءة في الوظائف.
ويبقى الحرمان في مسيرته التَّاريخيَّة في المناطق المحرومة، كالبقاع وعكَّار والضاحية الجنوبيّة، وتبقى مشكلة المهجَّرين تراوح مكانها في أكثر من جدل سياسيّ لا ينتج إلَّا الكلام الَّذي لا يؤدِّي إلى أيّ نتيجة واقعيَّة.
ويبقى لبنان في الوقت الضَّائع في هذه الدوَّامة الَّتي تفتح في كلِّ يوم أكثر من جرح، وتخلق أكثر من حالة اهتزاز سياسيّ أو أمنيّ تمنعه من الاستقرار، ومن التَّحديق بالمستقبل بأمل كبير.
إنَّني أخشى أنَّ اللّبنانيّين يتحركون في الوقت الحاضر لتخريب لبنان بالسياسة، بعد أن خرَّبوه في الماضي القريب بالحرب، لأنَّهم لا يعرفون ما يريدون أمام البحث الطّويل عمَّا يريد الآخرون.
والحمد لله ربِّ العالمين.
*خطبة الجمعة لسماحته، بتاريخ: 03/07/1998م.
نلتقي في هذه الأيّام بعدَّة مناسبات إسلاميَّة، منها الحزين، ومنها المفرح. ففي هذا اليوم، على حسب بعض التَّقاويم، وهو اليوم الثَّامن من ربيع الأوَّل، نلتقي بذكرى وفاة الإمام الحادي عشر من أئمَّة أهل البيت (ع)، وهو الإمام الحسن العسكريّ (ع).
ذكرى وفاةِ العسكريّ (ع)
هذا الإمام الَّذي عندما تقرأ سيرته، تجد أنَّه كان الإمام الَّذي اتَّفق أهل عصره على تعظيمه، بالرّغم من اختلاف آرائهم، حتَّى إنَّ الَّذين كانوا يحيطون بالخلافة الَّتي كان موقفها مضادّاً للأئمَّة من أهل البيت (ع)، كانوا يعظِّمونه ويحترمونه من خلال الصِّفات الَّتي تمثَّلت في شخصه، من علمٍ وزهدٍ وتقوى وروحانيَّةٍ منفتحةٍ على الله بكلِّ عمقها وامتدادها، ومنفتحةٍ على النَّاس بكلِّ ألوانهم وأشكالهم، حتى إنَّ بعضَ هؤلاء الَّذين كانوا يعيشون العقدة من أهل البيت (ع)، ممن كان له علاقة بمركز الخلافة، قال يوماً لشخصٍ كان يحترم الإمام (ع): والله إذا خرج من هذا المكان، فإنِّي لن أقوم له كما يقوم النَّاس للشَّخص المحترم تعظيماً، ولكنَّ الإمام عندما خرج، لم يملك هذا الإنسان نفسه إلَّا أن قام تعظيماً له، وعندما سئل عن ذلك قال، لقد أخذتني هيبته، فلم أملك نفسي إلَّا أن أقف.
ونقرأ الكثير في حياة هذا الإمام الَّذي اضطُهِد من قبل الخلافة، والَّذي عندما تدرس نشاطه وسيرته، تجد فيها سيرة الأئمَّة من آبائه الَّتي تتمثَّل بسيرة النَّبيّ (ص)، لأنَّ خطَّهم واحد، ومسيرهم واحد، ولأنَّ موقعهم هو موقع الحماية والحراسة للإسلام وأهله.
إمامةُ المهديِّ (عج)
وفي ضوء هذا اليوم الَّذي توفِّي فيه الإمام العسكريّ (ع)، نلتقي باليوم الَّذي توِّج فيه الإمام الحجَّة (عج) بالإمامة بعد أبيه (ع)، وكانت إمامته من خلال صغر سنِّه معجزةً، تماماً كما هو يحيى {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا}[مريم: 12]، وكما هو عيسى (ع).
ولذلك، فنحن في الوقت الَّذي نعيش ذكرى وفاة الإمام العسكريّ (ع)، ننفتح على ذكرى بداية إمامة الحجَّة (عج) الَّتي امتدَّت في هذه المئات من السِّنين، ولا ندري إلى أيِّ مدى تمتدُّ بعد، لأنَّ المسألة من غيب الله في غيبتِهِ (عج)، ومن غيبه في ظهوره، باعتبار أنَّ ذلك مما استأثر الله بعلمه من جهة، وبحكمته من جهة أخرى. ولذلك، فإنَّنا نعتقد أنَّ انفتاحنا على إمامته (عج)، هو انفتاحٌ على ما جاءنا من الصَّادقِ المصدَّقِ رسولِ الله (ص) الَّذي حدَّثنا عنه، وأنَّه "يَمْلَأُ الأَرْضَ قِسْطاً وَعَدْلاً، كَمَا مُلِئَتْ ظُلْماً وَجوْراً".
وإذا كانَ الإمام (عج) قد غاب عنَّا، فإنَّ كلَّ هذا التّراث الَّذي نقله العلماء عنه، والَّذي نقلوه عن آبائه وأجداده، يبقى ماثلاً بيننا يمثِّل حضوره، بأنَّنا وإن افتقدنا حضوره بالحسّ، فإنَّنا نعيش هذا الحضور بالعقل والرّوح من خلال كلِّ هذا التراث. وإذا كان الإمام (عج) يخرج ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً، فإنَّ علينا أن نكون أمَّة العدل، بحيث نعيش العدلَ مع ربِّنا، فنعطي ربَّنا حقَّه في توحيده ونفي الشّركاء عنه، وفي طاعته، والالتزام بأوامره ونواهيه، وأن نعدل مع أنفسنا، فلا نظلم أنفسنا بأن نورِّطها بالسَّير في خطِّ نار جهنَّم، وأن نعدلَ مع النَّاسِ كلِّهم، فنعطي كلَّ ذي حقٍّ حقَّه، ولا نغمط أحداً حقَّه، ونعدل مع الحياة، في كلِّ ما للحياةِ علينا من حقّ.
ذكرى مولدِ الحبيبِ
ونلتقي أيضاً في هذه الأيَّام بذكرى مولد رسول الله (ص)، سيِّد ولد آدم، حبيب الله، الَّذي أرسله الله سبحانه وتعالى إلى النَّاسِ كافّةً بشيراً ونذيراً، كما أنزلَ اللهُ سبحانَهُ وتعالى في كتابِهِ {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا}[سبأ: 28]، وأرسله الله ليكونَ رحمةً للعالمين؛ رحمةً في روحِهِ، ورحمةً في منطقِهِ، ورحمةً في رسالتِهِ، ورحمةً في أخلاقِهِ، ورحمةً في منهجِهِ، ورحمةً في حربِهِ، ورحمةً في سلمِهِ، ورحمةً في بيتِهِ وفي النَّاسِ كلّهم {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}[الأنبياء: 107].
وقال الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا - تشهد على النَّاس بما قاموا به من الإيمان بالرِّسالة، والالتزام بالخطِّ - وَمُبَشِّرًا - للنَّاس بالجنَّة في الآخرة، إذا ساروا في خطِّ الرِّسالة، وبالسَّعادة في الدّنيا إذا أخذوا بكلِّ ما شرَّعْتَه لهم من أخلاق - وَنَذِيرًا *- تنذرهم عذابَ جهنَّم إذا كفروا وعصوا وتمرَّدوا، وشقاء الدّنيا إذا انحرفوا عن الخطِّ المستقيم.
- وَدَاعِيًا إِلَى اللهِ - لأنَّ النَّبيّ (ص) كالأنبياء الَّذين سبقوه، دعا إلى الله سبحانه وتعالى، في الوقت الَّذي كان النَّاس يدعون إلى الأصنام.
وهذا هو الخطّ الَّذي لا بدَّ لنا، أيُّها الأحبَّة، أن نعيشه، باعتبار أنَّ المسلم لا بدَّ أن تكون دعوته إلى الله، وأن لا يدعو إلى العباد الَّذين يؤلّههم النّاس ويتَّبعونهم من دون الله، فلتكن الدَّعوة إلى الله سبحانه وتعالى، وإذا أردتم أن تدعوا إلى أيِّ إنسان، في أيِّ موقع من مواقع الحياة، فعليكم أن تفتِّشوا هل هذا الإنسان يؤدِّي عن الله سبحانه وتعالى ويسير في طريقه، أو أنَّه لا يؤدّي عن الله ويسير في طريق الشَّيطان... دقِّقوا فيمن تدعون إليه من النَّاس، لا تنطلقوا من غريزة تدفعكم إلى ذلك، ولا تنطلقوا من طمع يدعوكم إلى ذلك، وهكذا في كلِّ المجالات العمليَّة.
- بِإِذْنِهِ - لأنَّ الله هو الَّذي أرسله رسولاً وأذن له بذلك - وَسِرَاجًا مُّنِيرًا}[الأحزاب: 45- 46]، لأنَّه أعطى النَّاس الضَّوء من عقله وقلبه وأخلاقه وسيرته، فكان رسولُ الله (ص) نوراً كلّه، وكان حقّاً كلّه، ليس للظَّلمة أيّ دور في عقله وقلبه، فهو المعصوم في فكره، والمعصوم في تبليغه، والمعصوم في سيرته، والمعصوم في كلِّ حياته، لأنَّه جاء ليكون سراجاً منيراً، ولا يمكن لمن كان دوره أن ينيرَ للنَّاس طريقهم، أن يعيش ظلمةً في عقله أو قلبه أو حياته.
دورُ رسولِ الله (ص)
وهكذا أرادَ الله للرَّسول (ص) أن يُخرجَ النَّاسَ من الظّلماتِ إلى النّور، ولا بدَّ لمن يفعل ذلك أن يكون نوراً كلّه. إنَّ الله سبحانه وتعالى خلق للكون شمساً ليس فيها شيء من الظّلمة، وهي هذه الشَّمس الَّتي تعطينا الإشراق والدّفء والحرارة، وأرسل شمساً إنسانيَّة هي رسول الله (ص) والمعصومون معه، لا أثر للظَّلمة في شخصيّاتهم وحياتهم.
وفي ضوء هذا، أيُّها الأحبَّة، قال الله عنه عندما تحدَّث عن دوره فينا: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا - لتستمعوا إلى آيات الله لتعملوا بها – وَيُزَكِّيكُمْ - يطهِّر أنفسكم وينقِّيها من الشِّرك والخبث، ومن الحقد والعداوة والبغضاء، ومن كلِّ ما يشوِّه النَّفس الإنسانيَّة - وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ – الَّتي هي أن يضع الإنسان الشَّيءَ في موضعه - وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ}[البقرة: 151]، لأنَّه ينفتح بكم على كلِّ مواقع العلم مما يرتفع بمستواكم وكلِّ حياتكم. وهكذا قال الله مخاطباً نبيَّه: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا}[النساء: 113].
وهكذا كانت دعوة النَّبيِّ (ص) من أجل أن يفضح اليهود الَّذين كانوا يستغلّون علمهم بالتَّوراة وبالكتاب، ليخفوا عن النَّاس ما لا يفيدهم هُم، وليعطوهم ما يستفيدون هم منه، وهكذا قال الله: {يَٰا أَهْلَ ٱلْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ ٱلْكِتَابِ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ}[المائدة: 15].
وقال الله سبحانه وتعالى عنه: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}[الصفّ: 9].
وقال الله عنه، وهو يحدِّثنا عن إنسانيَّته في علاقته بالنَّاس من حوله: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ}[التَّوبة: 128].
الأمينُ على الرِّسالة
وكان (ص) أميناً على كتاب الله ورسالته، وكان المشركون يريدون منه أن يأتي بغير هذا القرآن وأن يبدِّله، وعلَّمه الله أن يقول لهم: {وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَٰذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}[يونس: 15].
وانتبهوا إلى هذه الفقرة من الآية، فرسول الله (ص) يقف أمام ربِّه وقفة العبد أمام سيِّده، وهو سيِّدُ ولد آدم، إنَّه يقول لهم إنَّكم تكلِّفونني أن أتقوَّل على الله ما لم يقلْه لي، وأن أبدِّل كتاب الله، وهذه معصية لله {إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}[الزّمر: 13]، فكيف بنا، أيُّها الأحبَّة، وبعضنا يقول لا مشكلة لي مع الله لأني مسلم، ولا مشكلة لي معه لأني أنتسب إلى رسول الله، ولا مشكلة لي معه إذا عصيت لأنَّ أبي كان حاجّاً، ولأني من أسرة علميَّة، وما إلى ذلك، ولكنَّ الله سبحانه وتعالى يرفض ذلك ويقول: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ - كن سيِّداً من بني هاشم، كن عالماً، كن ابن العلماء، كن ما شئت - مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا}[النِّساء: 123]، لأنَّه لا قرابة بين الله وبين أحد إلَّا بالعمل، وإنّما ارتفع رسول الله إلى الدَّرجات العليا عند الله بالعمل، وارتفع عليٌّ والأئمَّة (ع) وكلّ الأولياء والصّلحاء إلى الله بالعمل، ولذلك قال الله: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}[التّوبة: 105]، فلا بدَّ من العمل في ذلك، وإذا عملتم: {أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ}[آل عمران: 195].
معجزةُ الرَّسول (ص)
وهكذا، أيُّها الأحبَّة، نعيش مع رسول الله الَّذي لم يتحدَّث القرآن عن كثير من خصوصيَّاته، ولكنَّه تحدَّث عن بعض النقاط الَّتي تؤكِّد رسالته، وتؤكِّد المعجزة في شخصيَّته، عندما قال الله: {وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ - لم تكن تقرأ قبل أن ينزَّل القرآن عليك - وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ - ولم تكن تكتب - إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ}[العنكبوت: 48]، لو كنت قارئاً، لقال النَّاس إنَّه جاء بهذا القرآن من خلال ما قرأه من الكتب السَّماويَّة الَّتي تقدَّمته، ولو كنت تكتب، لقالوا إنَّك نقلْت هذا من الكتب، ولكنَّهم عرفوك في مدى الأربعين سنة، وقد عشت معهم في اللَّيل والنَّهار، في سرِّك وعلانيتك، في حياتك الفرديَّة والاجتماعيَّة، ولم يروك قارئاً ولا كاتباً، ولذلك عندما أتيت بما أعجز الَّذين قرأوا، وبما أعجز الَّذين كتبوا، فإنَّ ذلك مثَّل معجزة في شخصك تثبت نبوَّتك، تماماً كما هو القرآن يثبت نبوَّتك بإعجازه.
وفي آيةٍ أخرى، يقول الله سبحانه وتعالى: {وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ - لأنَّه لم يسبق لك أن تثقَّفت بأيِّ كتاب من كتب الله، من إنجيل أو قرآن - وَلَا الْإِيمَانُ - في تفاصيله وشرائعه وتفريعاته - وَلَٰكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}[الشورى: 52].
اليتيمُ الَّذي رعاه الله
وهكذا حدَّثنا الله سبحانه وتعالى بعض الحديث عن بعض ما كان يعيشه (ص)، عندما كان الله يحدِّثه عن النِّعم: {وَالضُّحَىٰ * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ - عندما تأخَّر الوحي عنه، وقالت قريش إنَّ ربَّ محمَّد قد ودَّعه وقلاه - وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَىٰ * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ * أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَىٰ – كان يتيم الأب، فقد مات أبوه وهو في بطن أمِّه، وكان يتيم الأمّ، إذ ماتت أمُّه بعد ولادته بقليل، وآواه الله، وكفله عمُّه أبو طالب، ولذلك كان يسمَّى يتيم أبي طالب - وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَىٰ – وليس الضَّلال الَّذي هو ضدّ الهدى، ولكن بمعنى وجدك غير عارف بالشَّرائع وما إلى ذلك فهداك، وعرَّفك ما لم تكن تعرفه، باعتبار أنَّك لم تتعلَّم شيئاً من إنسان - وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى – وإذا كنت اليتيم، وعرفت معنى أن يكون الإنسان يتيماً، وعرفت كيف يشعر اليتيم بالقهر أمام المجتمع، وكيف يشعر بالحزن والألم، وكيف ينظر المجتمع إلى اليتيم بإشفاقٍ قد يكون فيه الكثير من الإذلال، فعلِّم، يا محمَّد، أمَّتَكَ أن لا تقهر اليتيم، لأنَّ من طبع النَّاس أنّهم يقهرون الَّذي لا حول له ولا قوَّة، وأنّهم يقهرون الَّذي لا كافل له ولا أب ولا عشيرة، لذلك علِّم أمَّتك أن لا يقهروا اليتيم - فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ – الَّذي جاءك يسأل حاجة، وهو في حالة تعرف فيها فقره - فَلَا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ}[سورة الضّحى].
وقد انطلقت بعض المؤتمرات الإسلاميَّة – ونعم ما فعلت - لتجعل يوم مولد النَّبيِّ (ص) يوم اليتيم العالميّ الَّذي يحتفل النَّاس فيه باليتيم في كلِّ مكان، لأنَّه أيُّ يتيم أعظم من محمَّد (ص)؟! أيّ يتيم استطاع بعون الله وبلطفه أن يتمرَّد على كلِّ ظروف اليتم، ليكون أوَّل إنسان في البشريَّة فكراً وروحاً وخلقاً وسيرةً وما إلى ذلك. ولهذا، لا بدَّ لنا، أيُّها الأحبَّة، ونحن أمَّته، أن نتأسَّى به، وقد قال الله لنا: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}[الأحزاب: 21].
فضلُ كفالةِ الأيتام
علينا، أيُّها الأحبَّة، أن ننطلق مع رسول الله الَّذي روى الرّواةُ عنه أنَّه قال، وهي البشارة لنا: "أنا وكافلُ اليتيمِ كهاتيْنِ في الجنَّة"، وأشار إلى السبّابة والوسطى، فكما هو الإصبع مع الإصبع، فرسول الله (ص) يقول إنَّ كلَّ من يكفل يتيماً، سيكون معه في الجنَّة جنباً إلى جنب، وتلك بشارة كبيرة لمن يكفل الأيتام ليعيشوا أعزَّاء.. ولتعتبر أنَّ الله رزقك ولداً، ألا تنفق عليه؟ ألا تعلِّمه إذا صار في سنِّ المدرسة؟ فلتحاولْ أن يكون لك ولدٌ بالرّوح، وإذا كان التبنِّي في الإسلام كإلحاقٍ بالنَّسب محرَّماً، لأنَّ الله لا يريد للإنسان أن ينتسب إلى غير أبيه: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ}[الأحزاب: 5]، ولكنَّ الله أفسح المجال لنا من أجل أن يكون لنا أولاد بالرّوح، أن نتبنَّاهم من أجل أن نجعل منهم مواطنين مؤمنين طيِّبين صالحين، وقد قال عليٌّ (ع)، وكانت آخر وصيَّة له: "اللهَ اللهَ فِي الأَيْتَامِ، فَلَا تَغبُّوا أَفْوَاهَهُمْ، وَلَا يَضِيعُوا بِحَضْرتِكُمْ"، والمجتمع كلّه مسؤول عن ذلك.
وعلينا ونحن نستقبل مولد رسول الله (ص)، أن نستقبل يوم اليتيم العالميّ، من أجل أن نجعل منه يوماً نكفل فيه الأيتام، ونساعد فيه الأيتام، ونعلِّم فيه الأيتام، ونشجِّع كلَّ مبرَّات الأيتام ومواقع الأيتام، سواء كان آباؤهم من الشّهداء الَّذين بذلوا أنفسهم من أجلنا جميعاً، أو كانوا من غير الشّهداء، أن نعتبر أنفسنا مسؤولين عن ذلك، حتَّى نعيش معنى يتم رسول الله، ومعنى ما يريده القرآن الكريم، وما دعا رسول الله (ص) إليه {وَفِيْ ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُون}[المطفّفين: 26].
 الخطبة الثّانية
 
عباد الله، اتَّقوا الله تقوى الإسلام، فإنَّ الله أراد لكم عندما تلتزمون الإسلام له {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}[البقرة: 131]، إنَّه أراد لكم أن تلتزموا الإسلام بكلّكم، أن لا يكون لغير الإسلام شيء فيكم، أن لا يكون لغير الإسلام شيء في عقلكم مما تلتزمونه فكريّاً، وأن لا يكون لغير الإسلام شيءٌ في قلبكم مما تنفتحون عليه عاطفيّاً، وأن لا يكون لغير الإسلام شيء في حياتكم مما تتحركون به، فيما تفعلون وتتركون، أن تكون كلُّ مواقفكم إسلاميَّة، لتقفوا مع من يتحرَّك في خطِّ الإسلام في كلِّ قيمه وأهدافه، ولتبتعدوا عن كلِّ من يتحرَّك في خطِّ الكفر والاستكبار في كلِّ قيمه وأهدافه، استجابةً لقول الله سبحانه وتعالى، وهو يحدِّثنا، كما جاء في حديثه مع بعض رسله: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي – عندما أصلِّي - وَنُسُكِي – في كلِّ عباداتي – وَمَحْيَايَ - في كلِّ حياتي الفرديّة، مع عيالي، مع جيراني، مع كلِّ النَّاس من حولي - وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * - لله لا لغيره، فلا تكون حياتي لأيِّ شخص، ولا مماتي في سبيل أيِّ شخص، أحيا لله في كلِّ ما يريده الله لي من حركةٍ للحياة، وأموت لله في كلِّ ما يريده الله لي أن أموت في سبيله.
- لَا شَرِيكَ لَهُ - من كلِّ قريب أو بعيد، من كلِّ غنيّ أو فقير، من كلِّ أمير أو حقير، من كلِّ النَّاس - وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}[الأنعام: 162-163] الَّذين يركِّزون إسلامهم على قاعدةٍ ثابتةٍ من محبَّة الله وخوفه.
وهكذا يقول الله سبحانه على لسان كلّ نبيّ من الأنبياء: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}[يوسف: 101]، أن تتحرَّك حياتنا كلّها في خطّ الإسلام، بحيث يشهد الإنسان بأن لا إله إلَّا الله بعقله وقلبه، وأنَّ محمَّداً رسول الله بعقله وقلبه، حتَّى يموت مسلماً يُشهِد الله على إسلامه. هكذا لا بدَّ لنا أن نعيش.
وفي ضوء هذا، لا بدَّ لنا أن نراقب كلماتنا عندما نتكلَّم، وحركاتنا عندما نتحرَّك، فلا نقدِّم رجلاً، ولا نؤخِّر أخرى، حتَّى نعلم أنَّ في ذلك لله رضا.
ليكن هذا القلق في كلِّ شيء: هل الله راض عن هذه الكلمة أو لا، هل الله راض عن هذا العمل أو لا، هل الله راض عن هذا الموقف أو لا؟! راقبوا الله في ذلك كلِّه، فإنَّ من راقب الله استقامَ في عمله، ومن استقامَ في عمله، فلا خوف عليه يوم القيامة ولا حزن، وتلك هي السَّعادة.
اتَّقوا الله في كلِّ ما تتحمَّلون من مسؤوليَّتكم. ونحن الآن، أيُّها الأحبَّة، في أيَّام مولد رسول الله (ص) الَّذي حمل الرِّسالة، وأوذي فيها حتَّى قال: "ما أُوْذِيَ نّبِيٌّ مِثْلَ مَاْ أُوْذِيْتُ"، وعلينا أيضاً أن نحمل الرِّسالة من بعده {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ}[آل عمران: 144].
وفي ضوء هذا، لا بدَّ لنا أن نقف مع كلِّ قضيَّة إسلاميَّة، سياسيَّة أو اقتصاديَّة أو ثقافيَّة أو اجتماعيَّة، ولا بدَّ لنا أن نقف مع المسلمين في كلِّ قضاياهم، وفي كلِّ مشاكلهم وأوضاعهم، أن يقدِّم كلُّ واحد منَّا جهده بحسب ما يستطيع.
ولذلك، علينا أن نلاحق قضايا المسلمين في كلِّ تفاصيلها، في كلِّ يوم، وفي كلِّ أسبوع، ولقد شرَّع الله سبحانه وتعالى للمسلمين صلاة الجمعة، لتكون صلاةً عباديَّةً في خطبتها الأولى وفي طبيعة الصَّلاة، وتكون عبادة سياسيَّةً في خطبتها الثَّانية، حتَّى يعرف المسلمون في مجتمع الجمعة، كيف يديرون قضاياهم، وكيف يستعرضونها، وكيف يتحركون، ولذلك شدَّد الله على حضور صلاة الجمعة الَّتي يستهين بها الكثير من النَّاس، لأنَّ الله يريد للنَّاس أن يعيشوا صلاةً جماعيَّةً منفتحة، كما يريد لهم أن يعيشوا صلاةً فرديّةً، بحسب ظروفهم، ولذلك حرَّم الله على النَّاس البيعَ في وقت النِّداء يوم الجمعة {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ - اسمعوا الخطبة، واسعوا إلى الصَّلاة - وَذَرُوا الْبَيْعَ - لا تقل يمكن أن يأتيني زبون في هذه السَّاعة الَّتي أحضر فيها إلى صلاة الجمعة - ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ - الَّتي تمتدُّ من ساعة إلى ساعة ونصف من الوقت - فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * - ثمَّ يحدّثنا الله عن بعض الجماعة الّذين كانوا في زمن النّبيّ (ص) والَّذين هم موجودون أيضاً الآن - وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}[الجمعة: 9-11]، فالله هو الَّذي يرزقك ويحوِّل القلوب إليك.
لذلك، نحتاج دائماً أن نعيش، أيُّها الأحبَّة، أجواء الجمعة في أجواء مسؤوليَّاتنا الرّوحيَّة والاجتماعيَّة والسياسيَّة، فلنر ماذا هناك.
خطَّةٌ لتهويدِ القدس
في التطوّرات الأخيرة، لا بدَّ أنَّكم سمعتم أنَّ رئيس وزراء العدوّ قرَّر القيام بعمليَّة احتواء القدس، لتكون يهوديَّة بأكثريَّتها، أو بمجموعها، إذا استطاع أن يشرِّد كلّ غير اليهود منها، حتّى لا يصبح العرب أكثريَّة، باعتبار أنّهم يتناسلون أكثر من اليهود، وهذه مشكلة لليهود الَّذين يريدون أن تبقى فلسطين أكثريَّة يهوديّة، ولا سيَّما القدس، لذلك حاولوا أن يضيفوا إلى القدس بعض المستوطنات، وبعض مناطق الضفَّة الغربيَّة الَّتي تحتوي الكثير من اليهود، حتَّى يصبح المسلمون أو العرب أقليَّة لا يستطيعون أن يقوموا بأيِّ عمل كبير بالنِّسبة إلى القدس، وحتَّى لا تملك سلطة الحكم الذَّاتي أيَّ نوع من المفاوضات الجدّيّة في هذا الجانب، باعتبار التَّغيير الواقعيّ.
أمَّا أمريكا، فعلَّقت في البداية بأنَّه لا مصلحة في ذلك، فكأنّها تقول لليهود إنَّ الوقت الآن غير مناسب، فافعلوا ذلك، ولكن خفِّفوا من الأمر، وعندما عارض العرب، وشربوا حليب السِّباع - مع أنّهم يخلطون بين حليب السِّباع وحليب الأرانب في بعض الحالات - قدَّموا إلى مجلس الأمن طلب إدانة لإسرائيل في هذا الضّمّ وهذه التّوسعة، ولكنَّ أمريكا وقفت بالمرصاد، واعترضت بأنَّ المرحلة هي مرحلة تسوية، فليس من المصلحة عرضها على مجلس الأمن لأنَّه سيربك الموضوع، والمقصود عند أمريكا أنّه سيربك الخطَّة الأمريكيَّة المتحالفة مع الخطَّة الإسرائيليَّة الَّتي يراد بها تضييع كلّ شيء للعرب.
وهكذا رأينا كيف أنَّ مجلس الأمن بدأ يضيع في هذا المجال، وجمَّد المناقشات، وانطلقت وراء الكواليس بعض النّشاطات البريطانيَّة والأمريكيَّة والروسيَّة، حتى تميِّع القرار، وحتَّى يصدر قرارٌ لا لونَ له ولا طعمَ ولا رائحة، من دون أيِّ شيء يمسّ إسرائيل. هذا واقعٌ أصبحنا نعيشه الآن.
الواقعُ العربيُّ: نكسةٌ.. وغيبوبة
وهكذا بدأت التَّدخُّلات الدوليَّة في داخل مجلس الأمن لتمييع الموضوع، لإفساح المجال لإسرائيل لاستكمال مشروعها التَّهويديّ. أمَّا الواقع العربيّ، فإنَّه يمرّ بغيبوبة سياسيَّة وأمنيَّة من جهة، ونكسة واقعيَّة من جهة أخرى، لأنَّ الرهان العربي على ضغط أمريكيّ على إسرائيل هو رهان على سراب، ولا سيَّما بعد إعلان الرئيس الأمريكي للمؤتمر اليهوديّ بأنَّه لا يمكن له الضّغط على إسرائيل في مبادراتها الأمنيَّة.
وفي هذا السِّياق أيضاً، تحتفل إسرائيل بمرور خمسين سنة على سلاحها الجوّيّ، فكيف احتفلت؟ حاولت أن تدعو عدَّة دول لكي تشاركها في عرضها الجوّيّ، فكانت الطَّائرات الفرنسيَّة والبريطانيَّة والإيطاليَّة والسويسريَّة والتشيكيَّة والتشيليَّة والإسبانيَّة والتركيَّة والأمريكيَّة، تشارك في عرض جوّيّ دوليّ في فلسطين، تحيَّةً للسّلاح الجوّيّ الإسرائيلي في الذّكرى الخمسين لقيام إسرائيل!
إنَّ هذه المظاهرة الجويَّة الدّوليَّة تحمل أكثر من مدلول سياسيّ على التَّأييد الدّولي لإسرائيل، ولسياسة رئيس حكومتها، في رسالة تشجيعيَّة لكلِّ المشاريع المتحركة باتجاه إسرائيل الكبرى على حساب الفلسطينيِّين، وتخدير سلطة الحكم الذَّاتيّ بزيارات رسميَّة دوليَّة لا تحمل في مضمونها أيَّ معنى من معاني الدَّعم السياسيّ والاقتصاديّ.
دعمٌ لإسرائيل لضربِ إيران
وفي هذا الاتجاه، تتحدَّث وسائل الإعلام الأمريكيَّة، أنَّ إسرائيل تمتلك صواريخ نوويَّة متوسّطة المدى، سوف تزوّد بها غوَّاصات جديدة ستحصل عليها من ألمانيا. إنَّ هذه الصّواريخ، كما تقول وسائل الإعلام، قادرة على ضرب إيران، في الوقت الَّذي يستمرّ التهويل الأمريكي على روسيا والصّين وأوكرانيا وغيرها من الدّول، لمنعها من الدخول في صفقات ومشاريع تسليحيّة من شأنها أن تعطي إيران بعض الخبرات، بحجَّة أنَّ ذلك يعدل في الميزان الاستراتيجي في الشَّرق الأوسط.
دلالةُ الغارةِ على العراق
وليس بعيداً من ذلك، تأتي الغارة الأمريكيَّة الجديدة على العراق، لتحمل أكثر من دلالة على استمرار الحصار ضدّ الشَّعب العراقيّ، من أجل أن تستكمل أمريكا خطَّتها الرَّامية إلى احتواء العراق لمصلحة سياستها الاقتصاديَّة في السَّيطرة على الثَّروة والاستثمارات العراقيَّة من جهة، وترتيب أوضاع المنطقة الَّتي تتماشى مع التَّسوية من جهة أخرى.
الاحتلالُ يواصلُ عدوانَه
ويبقى الجنوب اللّبناني، ومعه البقاع الغربيّ، الساحة الحارَّة الَّتي تمارس فيها إسرائيل كلَّ عدوانها المستمرّ ضدّ المدنيّين، لتأكيد سيطرتها واحتلالها، ورفع معنويَّات جنودها وعملائها، في غياب أيِّ احتجاجٍ دوليّ، انطلاقاً من أنَّ العدوان على لبنان أصبحَ تقليداً صهيونيّاً يوميّاً، لا يثير أيَّ مشاعر إنسانيَّة أو سياسيَّة لدى الواقع الدّوليّ، تحت تأثير الضّغط السياسيّ الأمريكيّ في هذا الاتجاه.
إنَّنا نعتقد أمام هذه الصّورة القاتمة للواقع السياسي العربي والفلسطيني، أنَّ على العرب أن يرتفعوا إلى مستوى المرحلة الَّتي تهدِّد عمق دورهم في بلادهم، وتحوِّلهم إلى مزق متناثرة لا يجمع بينها شيء، مما يبتعد بهم عن أيِّ موقع للقوَّة على مستوى المستقبل.
إنَّ التحدي الصهيوني الأمريكي ليس موجَّهاً ضدّ الفلسطينيّين والعرب فحسب، بل هو موجَّه ضدّ العالم الإسلاميّ، لأنَّ القدس تمثِّل القضيَّة الكبرى المقدَّسة لدى المسلمين جميعاً، كما أنَّه موجَّه ضدّ العالم المسيحيّ، لأنَّها كذلك لدى المسيحيّين جميعاً، الأمر الذي يفرض على الجميع القيام بحركة سياسيَّة واسعة النطاق، من أجل ممارسة الضَّغط لإفشال كلِّ المشاريع التهويديَّة للقدس، وللوقوف مع حركة المقاومة في لبنان وفلسطين، من أجل المزيد من الضغط على العدوّ، وتحويل احتلاله إلى مأزق سياسيّ وأمنيّ، وإفهامه بأنَّه لن يستطيع الوصول إلى أيِّ ترتيبات أمنيَّة، أو أيّ استقرار أمنيّ أو سياسيّ من خلال عدوانه.
إنَّ المرحلة الحاضرة هي من أخطر المراحل الَّتي تمرّ بها المنطقة، ما يفرض على الجميع، على الصَّعيد الوطني الرَّسميّ والشَّعبيّ، الاستعداد الكبير لمواجهة تحدّياتها الصَّعبة، بفعل النَّتائج الخطيرة التي تترتَّب عليها سلباً أو إيجاباً، حسب الموقف العربيّ والإسلاميّ في ساحة المواجهة.
وتبقى المقاومة في عمليَّاتها الشّجاعة النَّوعيَّة هي التحدّي الكبير ضدّ العدوّ في ساحة المواجهة الاحتلال، وإنَّنا نقدِّر الاقتحامات الأخيرة لحصون العدوّ، وتحطيم دفاعاته من قبل المقاومة الإسلاميَّة، ما أنزل به هزيمة معنويّة نفسيّة، إضافةً إلى الهزيمة العسكريَّة، ويثبت أنَّ المقاومة لا تزال تملك زمام المبادرة في المواجهة مع العدوّ.
تحرّك صهيونيّ في آسيا
وفي خطٍّ مواز على المستوى الإسلاميّ الدوليّ، نراقب بقلقِ بالغ التحرّك الإسرائيليّ في منطقة آسيا الوسطى، الَّذي يستهدف توثيق علاقات إسرائيل بدول تلك المنطقة، وآخرها طاجكستان الَّتي أوفد إليها عدداً من مسؤوليه، لتطبيع الروابط السياسيَّة والاقتصاديَّة معها، وإثارة هذه الدول الإسلاميَّة ضدّ الجمهوريَّة الإسلاميَّة في إيران، في الوقت الَّذي يشجب الإسلاميّون في طاجكستان هذه العلاقة، كما يشجبون نقض الحكومة الطاجيكيَّة تعهّداتها معهم من خلال اتّفاق أشرفت عليه روسيا وإيران.
إنَّنا ندين هذه العلاقة جملةً وتفصيلاً، ونضعها في خانة التحالفات المحوريَّة الَّتي يحاول العدوّ إقامتها مع أكثر من دولة مجاورة لإيران، في إطار محاولاته اليائسة والسَّاعية إلى إضعاف النظام الإسلامي في إيران.
ضغطٌ على كاهلِ المواطنين
ونصل إلى الواقع اللّبناني الدَّاخليّ، في الجدل السياسيّ في القضايا الصَّغيرة الشخصيَّة الَّتي تشغل الجميع عن القضايا الكبرى الحيويَّة والمصيريَّة، ولا سيَّما الأمور المتعلّقة بحاجات النَّاس الملحَّة، وخصوصاً موضوع الكهرباء في هذه الأيَّام، الَّذي بدأ يضغط على كاهل المواطنين بما يتجاوز طاقتهم على التحمّل، بعد سنوات من الأحلام والوعود بأنَّهم سيحصلون على الكهرباء 24 ساعة في اليوم، مع العلم أنَّ هذه الأمور الحياتيَّة تواجه إهمالاً مستمراً، تنتقل فيه الوعود من سنة إلى أخرى، تحت تأثير العجز في الميزانيَّة، والهدر في الصَّرف، والفساد في الإدارة، والسرقات الصغيرة والكبيرة في البلد، والاعتبارات الشخصيَّة في الابتعاد عن الكفاءة في الوظائف.
ويبقى الحرمان في مسيرته التَّاريخيَّة في المناطق المحرومة، كالبقاع وعكَّار والضاحية الجنوبيّة، وتبقى مشكلة المهجَّرين تراوح مكانها في أكثر من جدل سياسيّ لا ينتج إلَّا الكلام الَّذي لا يؤدِّي إلى أيّ نتيجة واقعيَّة.
ويبقى لبنان في الوقت الضَّائع في هذه الدوَّامة الَّتي تفتح في كلِّ يوم أكثر من جرح، وتخلق أكثر من حالة اهتزاز سياسيّ أو أمنيّ تمنعه من الاستقرار، ومن التَّحديق بالمستقبل بأمل كبير.
إنَّني أخشى أنَّ اللّبنانيّين يتحركون في الوقت الحاضر لتخريب لبنان بالسياسة، بعد أن خرَّبوه في الماضي القريب بالحرب، لأنَّهم لا يعرفون ما يريدون أمام البحث الطّويل عمَّا يريد الآخرون.
والحمد لله ربِّ العالمين.
*خطبة الجمعة لسماحته، بتاريخ: 03/07/1998م.
اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية