موضوعنا في هذا اليوم هو النَّصيحة؛ نصيحة الإنسان لربِّه ولنفسه وللنَّاس من حوله.
النّصحُ في القرآن
وقد كان الأنبياء، كما حدَّثنا الله سبحانه وتعالى في كتابه، في مقدَّم النَّاصحين لشعوبهم وأممهم، فقد ورد في قوله تعالى: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}[الأعراف: 62]، {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ}[الأعراف: 68]، وقال: {وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَٰكِن لَّا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ}[الأعراف: 79].
ويقول الله سبحانه وتعالى عن الَّذين منعتهم ظروفهم الماليَّة من اللّحاق بالنَّبيّ (ص) في معركته مع الكافرين: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}[التَّوبة: 91].
وهكذا كان هود (ع)، عندما استنفد كلَّ وسائله مع قومه في الهداية، قال لهم: {وَلَا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ}[هود: 34].
وهكذا كان إخوة يوسف يتحدَّثون مع أبيهم بطريقة الغشّ، أنَّهم ناصحون لأخيهم {يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَىٰ يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ}[يوسف: 11].
وتتتالى الآيات القرآنيَّة في ذلك، لتدلِّل لنا أنَّ على الإنسان أن يتحرَّك في حياته مع الإنسان الآخر، أيَّاً كان، سواء كان قريباً أو بعيداً، أن يتحرَّك معه بالنّصح، أن يعطيه النّصح من قلبه، فلا يكون في قلبه أيّ غشّ له، وأن يعطيه النُّصح في رأيه، فيقدِّم إليه الرَّأي المدروس النَّاضج الَّذي يمثِّل مصلحته في الحياة كلِّها، وأن يكونَ ناصحاً له، بحيث يخلص له عندما يسعى في حوائجِه لقضائها أو لتحقيقها، وأن ينصحَ الإنسان لربِّه، بحيث يخلص قلبه وكلامه وعمله لربِّه، وأن ينصحَ لرسوله، بحيث يكون مفتوح القلب للرَّسول في كلِّ رسالته.
وهذه هي الصِّفة الَّتي تمثِّل معنى إحساس الإنسان بإنسانيَّته في علاقته بالإنسان الآخر؛ أن تكون إنسانيَّتك منفتحةً على الإنسان الآخر انفتاحاً يجعلك تريد له الخير في كلِّ علاقتك معه، أن لا تكون العلاقات بين الإنسان والإنسان علاقة إضرارٍ، وعلاقة غشّ، وعلاقة إيذاءٍ، وعلاقة لفٍّ ودورانٍ، وعلاقة احتيالٍ، وما إلى ذلك... أن تشعر بأنَّك مفتوحَ القلب للإنسان الآخر، ليكون الإنسانُ الآخرُ مفتوحَ القلب لك، لأنَّ مشكلة النَّاس بعضهم مع بعض، هي أنَّ كلَّ إنسان يملك منطقة خفيَّة تعمل على أن تخطِّط ضدَّ الإنسان الآخر، بحيث يعطيه كلمة حلوةً في محضره، ولكنَّه يطلق سهام الكلمات القاسية في غيبته، فهذا من خيانة الأخ لأخيه في الإسلام، والله {لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ}[الأنفال: 58].
تعالوا نقرأ كلمات رسول الله (ص)، والأئمَّة الطيّبين من أهل بيته (ع)، بعد أن قرأنا كلمات الله في ذلك.
أنسكُ النَّاسِ وأعظمُهم منزلةً
عن أبي عبد الله، الإمام جعفر الصَّادق (ع): "أَنْسَكُ النَّاسِ نُسُكاً – والنُّسك يعني العبادة الَّتي ينفتح بها الإنسان على الله - أَنْصَحُهُمْ جَيْباً – والجيب هو الصَّدر. بمعنى أنَّ أكثر النَّاس نسكاً وعبادةً، ليس هو فقط الَّذي يقيم الصَّلاة والصِّيام، ولكن مَنْ كان قلبه أكثر نصحاً للمسلمين، بحيث إنَّك عندما تقارن بينه وبين النَّاس الآخرين، تراه أكثر النَّاس نصحاً للمسلمين - وأَسْلَمُهُمْ قَلْباً لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ".
ولاحظوا كلمة "لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ"، أن تنفتح على المسلمين كلِّهم، حتَّى لو اختلفت معهم في بعض الخطوط الفقهيَّة أو الكلاميَّة في الاختلافات المذهبيَّة، لأنَّ رسولَ الله (ص) يريد لكلِّ مسلم أن يكون قلبُه قلبَ الخير، وقلبَ النَّصيحة، وقلبَ السَّلامة للمسلمين جميعاً، بحيث ينفتح عليهم من خلال إسلامهم الَّذي يجمع بينهم، وإن اختلفوا في الخطوط التفصيليَّة لهذا الرأي وذاك الرّأي.
وهكذا قال رسول الله (ص)، والرّواية عن الإمام الصَّادق (ع): "إِنَّ أَعْظَمَ النَّاسِ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللَّه يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَمْشَاهُمْ فِي أَرْضِه بِالنَّصِيحَةِ لِخَلْقِه". إنَّ الَّذي ينال الدَّرجة العليا عند الله سبحانه وتعالى في يوم القيامة، هو أكثر النَّاس سعياً ومشياً وجهداً بالنَّصيحة لخلق الله.
ولاحظوا أنَّه إذا كان رسول الله (ص) قد تحدَّث، فيما يروى في الرّواية الأولى، عن النُّصح لجميع المسلمين، فإنَّ هذا الحديث يتحدَّث عن النُّصح لخلق الله، ما يعني أنَّ على المسلم أن لا يحمل الغشَّ في قلبه لأيِّ إنسان، لأنَّ المسلمَ ينطلق من أجل أن يكون العدل كلّه للنَّاس، ومن أجلِ أن يكون الخير كلّه للنَّاس.. قد تختلف مع إنسانٍ في رأي أو في دين، ولكن عليك أن لا تفكِّر في النَّاس أو في علاقتك بهم إلَّا بالنَّصيحة، لأنَّ المسلم لا يحمل في قلبه الغشَّ لأحد، حتَّى للكافر، فالكافر تنصحه في قلبك، وتسعى لهدايته، لأنَّ النُّصح ليس معناه أن تقبلَ الآخر بكلِّه، بل بأن تقدِّم إليه ما فيه الخير له، فأنت إذا التقيت مع الضَّالّ أو مع الكافر أو مع الفاسق، كن النَّاصح له ولا تكن الغاشَّ له، ومظهر نصيحتك له هو بأن تهديه إلى الصِّراط المستقيم، وأن تبعده عن خطِّ الانحراف وعن خطِّ الضَّلال.
"إِنَّ أَعْظَمَ النَّاسِ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللَّه يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَمْشَاهُمْ فِي أَرْضِه - يعني أكثرهم مشياً وسعياً - بِالنَّصِيحَةِ لِخَلْقِه".
عملٌ يضمنُ الجنَّة
وفي الحديث، قال رسول الله (ص): "مَنْ يَضْمَنْ لِي خَمْساً أَضْمَنْ لَهُ الجَنَّةَ - وهذه الجائزة مهمَّة جداً، وعلينا أن ننتبه إليها - قيلَ: وَمَا هِيَ يَاْ رَسُولَ الله؟ قَالَ: النَّصِيحَةُ للهِ عزَّ وجلَّ - وذلك بأن تخلص لله في عبادتك وعبوديّتك، بأن تطيعه فيما أمرك، وفيما نهاك.
- والنَّصِيحَةُ لِرَسُولِهِ - بأن تلتزم رسالته وسنَّته وخطَّه ودينه، لتدعو إليها وتقوّيها، ولتعمل بكلِّ جهدك في سبيل أن تكون لها القوَّة في الواقع.
- والنَّصِيحَةُ لِكِتَابِ اللهِ - وذلك بأن تقرأ القرآنَ وتتدبَّره، وأن تثقِّف كلَّ عقلك به، وأن تعمل به، وتقود النَّاس إلى قراءته والالتزام به وتنفيذ أحكامه.
- والنَّصيحةُ لدينِ الله - بأن تكونَ الإنسان الَّذي يلتزم دين الله في نفسه وأهله وفي كلِّ مَنْ حولَه، والَّذي يدافع عن دين الله، ويعمل على هداية النَّاس إليه.
- والنَّصيحةُ لجماعة المسلمين"، بأن يخلص لهم في مشاعره وفي رأيه وجهده، وأن يعمل على الابتعاد عن أيِّ عمل يفيد العدوَّ ليدمِّر واقع المسلمين. ولذلك، فإنَّ مظهر هذه النَّصيحة، أن تكون عيناً لجماعة المسلمين في مواجهة كلِّ تحركات أعدائهم، وأن لا تكون عيناً لأعداء المسلمين، لتتجسَّس لهم ضدَّ المسلمين، ولتحارب معهم ضدَّ المسلمين، وما إلى ذلك مما يفعله بعض المسلمين الَّذين يبيعون أنفسهم للشَّيطان، فيغشّون المسلمين في كلِّ جهدهم، وينصحون أعداء المسلمين بكلِّ جهدهم.
وهكذا جاء في حديث رسول الله (ص): "الدِّينُ النَّصيحة"، فالنَّبيّ (ص) يريد أن يجمع كلَّ الدّين، في كلِّ عقائده وشرائعه ومناهجه، بكلمة واحدة "الدِّينُ النَّصيحة"، قيل: يا رسول الله، لمن؟ قال: "للهِ، ولكتابِهِ، ولرسولِهِ، وللأئمَّة في الدِّين، وعامَّتهم"، أن لا يكون في قلبك أيُّ غشٍّ لله ولرسوله ولكتابه وللأئمَّة ولجماعة المسلمين، فمَنْ كان في قلبه غشٌّ في هذا الاتّجاه، فإنَّه يفقدُ دينَه وإسلامَه على هذا الأساس.
حقُّ المؤمنِ على المؤمن
ومن كلام الإمام الرِّضا (ع)، قال: "حَقُّ المُؤْمنِ على المُؤْمنِ، أنْ يَمْحَضَهُ النَّصِيحَةَ في المَشْهَدِ والمَغِيبِ كنَصِيحَتِهِ لنَفْسِهِ"، فكما تفكِّر لنفسك في الخير، في الرِّبح، في القوَّة، في الحماية من الأعداء، عليك أن تنصح أخاك المؤمن كنصيحتك لنفسك.
وجاء في كلام أمير المؤمنين (ع): "امْحَضْ أَخَاكَ النَّصِيحَةَ، حَسَنَةً كَانَتْ أَوْ قَبيحَةً - يعني سواء كانت النَّصيحة في أمر يرتاح له، أو في أمر لا يرتاح له - وَسَاعِدْهُ عَلى كُلِّ حَالٍ، وَزُلْ معَهُ حَيْثُمَا زَالَ، ولا تَطْلُبَنَّ منْهُ المُجَازاةَ – بمعنى أنَّك عندما تنصحه، فليس على أساس أن تفكِّر أن يجزيك على النَّصيحة، بل أن تفعل ذلك قربةً إلى الله تعالى - فإنَّها مِنْ شِيَمِ الدُّنَاةِ"، يعني من يعمل خيراً ويبغي الجزاء عليه، فإنَّه من شيم الدَّناءة.
أفضلُ الأعمالِ عندَ الله
وهكذا، أيُّها الأحبَّة، تتحدَّث الروايات الواردة عن النَّبيّ (ص) وأهل البيت (ع) في هذا المجال، فقد ورد عن بعض أصحاب الإمام الصَّادق (ع)، قال: "سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّه (ع) يَقُولُ: عَلَيْكُمْ بِالنُّصْحِ لِلَّه فِي خَلْقِه - بأن يكون سلوكك، وكلّ عملك وكلامك، كلام النّصح لله في خلقه، فأنت عندما تنصح خلقه، فإنَّ هذه النَّصيحة تقدَّم إلى الله سبحانه وتعالى، لأنَّ "الخَلْق عِيَالُ اللهِ، وأَحَبُّهُم إِلَى اللهِ أَنْفَعُهُمْ لِعِيَاْلِهِ" - فَلَنْ تَلْقَاه بِعَمَلٍ أَفْضَلَ مِنْه"، فمن أفضل الأعمال، أن يكون الإنسان ناصحاً لله، بأن يقدِّم كلَّ الخير من قلبه وكلامه وعمله إلى كلِّ خلق الله.
ويقول عليّ (ع) فيما يروى عنه: "خَيْرُ الإِخْوانِ أَنْصَحُهُم، وَشَرُّهُمْ أَغَشُّهُمْ"، بمعنى أنَّ الإنسان الَّذي هو أكثر غشّاً للنَّاس، هو شرُّ النَّاس، والأكثرُ نصيحةً للنَّاس، يعتبرُ أفضلَ النَّاسِ وأحسنَهم في ذلك كلِّه. ويقول (ع): "النَّصِيحَةُ مِنْ أَخْلَاقِ الكِرَامِ".
الخائنُ للهِ ورسولِه
وهكذا نجد أنَّ الأئمَّة (ع) يؤكِّدون المسألة عن رسول الله (ص). فمثلاً، إذا كلَّفك إنسان بعمل معيّن، وشعرت بالإحراج بأن تسعى في حاجته لسببٍ ما، فسعيت، لكنَّك قصَّرت في سعيك، أو قمْتَ ببعضِ الأعمالِ الَّتي تكون ضدَّ النَّصيحة، فماذا يقول النَّبيُّ (ص) في ذلك؟
قال الإمام الصَّادق (ع): "قَالَ رَسُولُ اللهِ (ص): مَنْ سَعَى فِي حَاجَةٍ لأَخِيه، فَلَمْ يَنْصَحْه، فَقَدْ خَانَ اللَّه ورَسُولَه"، فأنت عندما تقوم بالعمل بما يتعارض مع النَّصيحة، فإنَّكَ لا تكون خائناً للشَّخص فقط، لأنَّ هذا الشَّخص إذا كان مؤمناً، فمعنى ذلك أنَّه مرتبط بالله وبرسوله، فأنت إذا لم تنصحه في جهدك وعملك وسعيك، فالخيانة لا تكون فقط لأخيك المؤمن، ولكنَّها تكون أيضاً خيانةً لله ولرسوله. هذا في الجانب السَّلبيّ.
أمَّا في الجانب الإيجابيّ، فقد ورد عن أبي عبد الله الصَّادق (ع) قال: "مَنْ مَشَى لامْرِئٍ مُسْلِمٍ فِي حَاجَتِهِ فَنَصَحَهُ فيها، كَتَبَ اللهُ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ حَسَنَةً، وَمَحَا عَنْهُ سَيِّئةً، قُضِيَتِ الحَاجَةُ أوْ لَمْ تُقْضَ – بمعنى أنَّك في سعيك لحاجة أخيك المؤمن، في كلِّ خطوة تخطوها في هذا السَّبيل، تكسب حسنة، وتزول عنك سيِّئة، المهمُّ أنَّك بذلَت جهدك، قُضِيتُ الحاجة أو لم تقض - فَإِنْ لَمْ يَنْصَحْهُ، فَقَدْ خَانَ اللهَ وَرَسُولَهُ، وَكَان َرَسُولُ اللهِ (ص) خَصْمَهُ".
وفي روايةٍ أخرى أيضاً: "مَنْ مَشَى في حَاجَةِ أَخِيهِ المُسْلِمِ وَلَمْ يُنَاصِحْهُ فيها، كَانَ كَمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ".
بينَ النَّصيحةِ والغشّ
هذه من الأحاديث الكثيرة الواردة عن النَّبيِّ (ص) وعن أئمَّة أهل البيت (ع) حول موضوع النَّصيحة، وهي تعطينا الفكرة بأنَّ الواقع العامّ للإنسان المسلم، وللمسلمين في كلِّ مجتمعاتهم وأوضاعهم، ينبغي أن يكون واقع النَّصيحة الَّتي تعني أن يكون قلبكَ مفتوحاً لإخوانك، وأن يكون لسانك يتحدَّث بالخير لإخوانك، وأن يكون جهدك يتحرَّك في سبيل تحقيق الخير لإخوانك، سواء كان ذلك خيراً فرديّاً أو كان خيراً اجتماعيّاً.
وفي ضوء هذا، أيُّها الأحبَّة، فإنَّ الإنسان الَّذي يعمل على جمع الشَّمل بين المسلمين، وعلى تحقيق الوحدة بينهم، وإبعاد الفتنة عن واقعهم، وطرد عناصر الحقد والضَّغينة والعداوة فيما بينهم، هو النَّاصح للمسلمين. أمَّا الإنسان الَّذي يتحرَّك بفعل أيِّ عصبيَّة، سواء كانت عصبيَّة شخصيَّة، أو عصبيَّةً عائليَّة، أو عصبيَّة حزبيَّة، أو عصبيَّة فئويَّة، أو في أيِّ جانب من الجوانب، من أجل أن يثير الفرقة بين المسلمين، ومن أجل أن يؤسِّس الحقد والعداوة والبغضاء بينهم، وأن يثير فيهم عناصر التمزّق والفرقة، أمَّا هذا الإنسان، فهو إنسان يعيش الغشّ للمسلمين في قلبه، وفي جهده، وبذلك يكون خائناً لله ولرسوله.
لذلك، أيُّها الأحبَّة، علينا عندما نعيش في كلِّ مجتمعاتنا، أن نفحص قلوبنا، هل هي قلوب غشّ؟ وقد ورد عن النَّبيّ (ص): "مَنْ غَشَّنا فَلَيْسَ منَّا"، من غشَّ المسلمين فليس بمسلم، لأنَّ معنى أن تكون مسلماً، أن تكون جزءاً من الجسد الإسلاميِّ الكبير، بحيث تفكِّر في بقيَّة أجزاء الجسد كما تفكِّر في نفسك.
هذا ما ينبغي لنا أن نعيشه، لأنَّ القضيَّة في الإسلام، أيُّها الأحبَّة، ليست هي فقط قضيَّة ما يتحرَّك به جسدك، بل القضيَّة هي ما ينبض به قلبك، وما يتحرَّك به عقلك. قيمة العمل في الخارج، هي قيمة العمل في الدَّاخل "إِنَّمَاْ الْأَعْمَاْلُ بِالنِيَّاْتِ، وَلِكُلِّ امْرِئِ مَاْ نَوَىْ"، "إنَّ اللهَ يَحْشُرَ النَّاسَ عَلَى نِيَّاتِهِم يَوْمَ القِيَامَةِ"، "إنَّ اللهَ لا يَنْظرُ إلى وجوهِكِمْ، ولكنْ ينظرُ إلى قلوبِكِم".
لذلك، علينا أيُّها الأحبَّة، أن نربي قلوبنا على المحبَّة، وأن نربّيها على الخير، وأن يقدِّم الإنسان النَّصيحة إلى أخيه، حتَّى لو كانت هذه النَّصيحة على خلاف مصلحته.
يعني، مثلاً، لنفترض أنَّ أحداً أراد أن ينشئ شركةً مع أحد أقربائك، وقد يكون القريب ابنك أو أخاك أو أيّ أحد آخر، وأنت تعرف أنَّ ابنك أو أخاك أو قريبك سينتفع من هذه الشَّراكة، ولكنَّك تعرف أيضاً أنَّ هذا الإنسان الَّذي جاء يستنصحك في هذه المسألة، لن تكون الشَّراكة لصالحه. هنا، في هذه الحال، يجب عليك أن تنصحه بأنَّ عليه أن لا يقدم على هذه الشَّركة، فإذا نصحته بالشَّركة، وأنت تعرف أنَّها ليست لمصلحته، وإن كانت مصلحةَ قريبك أو أخيك، فإنَّك تكون غاشّاً له، فلا تكون بهذا العمل مسلماً كما هو الإسلام.
وهكذا في بعض الحالات، افرض أنَّك تريد أن توظِّف قريباً من أقربائك، أو صديقاً من أصدقائك، في مؤسَّسة، أو في أيّ موقع يتَّصل بالجانب العامّ للنَّاس، أو يتَّصل بالجانب الخاصّ، أو أن توظِّفه عند تاجر، مثلاً، وأنت تعرف أنَّ هذا الشَّخص ليس أميناً، أو ليس عنده خبرة أو كفاءة في الموضوع، وأنت تقدِّمه إلى هذه المؤسَّسة أو الجمعيَّة، أو إلى هذا التَّاجر، أو إلى هذه الدَّولة كوظيفة دولة، وأنت عندك صلاحيَّة أن توظِّف، هنا، في هذه الحالة، تكون إنساناً غاشّاً، وعندما تكون المسألة متَّصلة بالأمر العامّ، فأنت بذلك لا تغشّ فقط هذه المؤسَّسة، بل تغشُّ النَّاس كلَّهم، لأنَّ قضايا النَّاس كلّها تكون تحت رحمته.
وفي قضايا الزواج، مثلاً، قد يأتي أحد ليستنصحك في الزّواج بفتاةٍ معيَّنةٍ من أقربائك، وقد يكون الزواج لمصلحة الفتاة، ولكن لا يكون من مصلحته، فعليك أن تنصحه بعدم الإقدام على ذلك، حتَّى لو كان ذلك على خلاف مصلحتك العاطفيَّة.
المصلحةُ العامَّةُ أوّلاً
هذا هو الخطُّ الإسلاميّ في هذا المجال، أنَّك عندما تتحرَّك في خطِّ النَّصيحة، فإنَّ عليك أن لا تعالج المسألة من خلال مصالحك، وإنّما أن تعالجها من خلال مصلحةِ المستنصِح في هذا الأمر أو ذاك، ولا سيَّما، كما ذكرنا، إذا كانت المسألةُ تتَّصل بالجانب العامّ... يعني، مثلاً، قد يتوسَّط أحدٌ لشخصٍ فاشل، ليحصلَ له على شهادة طبيَّة، لينجح من دون أساس، أو ليتوسَّط لشخصٍ ليصبحَ معلِّماً أو مربّياً أو موظّفاً في قضيَّة عامَّة، ليحصل له على درجات أفضل، وأنت عندما تفعل ذلك، وتحاول أن لا تنظر إلى المصلحة العامَّة، فمعناه أنَّك سوف تتحمَّل كلَّ النَّتائج السَّلبيَّة من خلال توظيف هذا الإنسان في مكانٍ لا يملك كفاءته.
فمِنْ خلال ما قرأناه من أحاديث عن النَّصيحة، لا بدَّ للإنسان أن يكون قلبه كبيراً، بحيث لا يحشر قلبه في زاوية مصالحه الشَّخصيَّة أو العائليَّة، بل يفتح قلبه للنَّاس كافَّة، على طريقة "عَاْمِلِ النَّاسَ بِمَا تُحِبُّ أَنْ يُعَامِلُوكَ بِهِ"، فهل تقبل أنت إذا استنصحت إنساناً في زواج، أو في توظيف، أو في طبيب، أو ما إلى ذلك، هل تقبل أن يغشَّك؟ لن تقبل، فلماذا تغشُّ أنت النَّاس؟!
هناك بعض النَّاس، كما في بعض الحالات، يكون عنده صديق تخرَّج حديثاً كطبيب، ولا يملك الخبرة في هذا المجال، ومع ذلك، يقوم ببثِّ الدّعاية له، وينصح النَّاس بالذَّهاب إليه، وهو لا يملك الخبرة ولا التَّدريب بعد، فهذا لا يجوز، وهو حرام، فإذا ذهب أحد إليه وأساء فحصه وإعطاء الدَّواء له، فهذا يدخل في سجلِّ أعمالك، لأنَّك أنت من دللته عليه.
وهكذا في المسائل السياسيَّة، ونحن مجتمعنا مجتمع العصبيَّات، وهذه الأيَّام أيَّام انتخابات، قد يكون أحد أقربائك أو أصدقائك، أو واحد من حزبك أو طائفتك مترشِّحاً، وأنت تعلم أنَّه لا يملك الكفاءة، أو غير أمين على أموال النَّاس وأعراضهم وبلدانهم، أو ليس عنده كفاءة أو خبرة، ويريد المنصب فقط للوجاهة، فإذا استنصحك إنسان، وطلب رأيك هل ينتخبه أو لا، وعملت على أساس عاطفتك، ولم تعمل على أساس المصلحة، فأنت من الغشَّاشين، وممن خان الله ورسوله، وتتحمَّل كلَّ المسؤوليَّات السَّلبيَّة الَّتي تترتَّب على هذا الموضوع. وليس هناك أيّ فرق بين الانتخابات البلديَّة أو الاختياريَّة أو النيابيَّة، أو انتخابات في جمعيَّة من الجمعيَّات، أو حزب من الأحزاب. فعندما تكون القضيَّة قضيَّة الآخرين، فإنَّ عليك أن تجرِّد من نفسك إنساناً يفكِّر في الآخرين أكثر مما يفكِّر في مصالحه الشَّخصيَّة.
ونحن ما هي مشكلتنا في العالم العربيّ والإسلاميّ؟ مشكلتنا أنَّ كلَّ واحد منَّا يفكِّر في مصالحه الشَّخصيَّة، ولو كان ذلك على حساب المصلحة العامَّة، وإذا نحن وعينا وعياً كاملاً، نجد أنَّ المصالح العامَّة تتحوَّل إلى مصالح خاصَّة، لأنَّ هذا الشَّخص الَّذي يريد أن يصبح نائباً، أو رئيس بلديَّة، أو مختاراً، عندما يتحمَّل المسؤوليَّة، فسيسيء إليك كما يسيء إلى الآخرين في هذا المقام، لأنَّ مصلحتك مرتبطة بالمصلحة العامَّة.
الغيبةُ في مقامِ النَّصيحة
ولذلك، نلاحظ أنَّ الغيبة في الإسلام حرام: {وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ}[الحجرات: 12]، لكن إذا كانت الغيبة في النَّصيحة، فإنّها تصبح جائزة. يعني، كما بيَّنَّا، إذا جاءَكَ شخصٌ وطلبَ منك النَّصيحة، هل أوظِّف فلاناً عندي أو لا؟ وأنت تعرف أنَّ توظيفه ليس فيه مصلحة لمن يستنصحك، فتقول له لا، لأنَّ فيه عيباً كذا وكذا. وهذه غيبة، ولكنَّها جائزة في هذا المجال، لأنَّ أهميَّة تقديم النّصيحة إلى النَّاس أهمُّ من مسألة الغيبة.
أو لنفترض أنَّ شخصاً أراد أن يتزوَّج امرأة قريبةً منك، وسألك عن رأيك: هل تنصحني بأن أتزوَّج فلانة أم لا؟ وإذا عرفت أنّها ليست من مصلحته، فمن واجبك أن تخبره بعيوبها، وهي غيبة، ولكن يجوز لك في مقام النَّصيحة، وذلك من جهة أهميَّة النَّصيحة في الواقع الاجتماعيّ العام.
لذلك، أيُّها الأحبَّة، علينا أن نفكِّر دائماً في الله قبل أن نفكِّر في النَّاس، وعلينا أن نفكِّر أنَّ الله سبحانه وتعالى هو القادر على أن ينزل بنا البلاء بكلِّ وسائله الَّتي لا تقف عند حدّ، إذا ابتعدنا عن خطِّه في النَّصيحة للمسلمين.
لذلك، لا تفكِّر كما يفكِّر بعض النّاس، بأنَّه (شاطر) ذكيٌّ ومخادع، يستطيع أن يأخذ النَّاس إلى البحر ويردّهم عطاشى.. بعض النَّاس يتفاخر بأنَّه يستطيع اللَّعب على ألف حبل، وأن يحوِّل المنطقة إلى نار، وهذا يشبه قارون، عندما قالوا له: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا}[القصص: 77]، فماذا قال؟ {قالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي}[القصص: 78]، أنا جمعت المال باجتهادي و"شطارتي". ولكن هذه ليست "شطارة"، لأنَّ "الشَّطارة" الحقيقيَّة هي عندما تصل إلى نهر الكوثر وتقدر أن تشرب منه، وعندما تطرق باب الجنَّة ويُفتَح لك، "الشّطارة" أن يرضى الله عنك، أمَّا لو رضي النَّاس عنك، وحملوك على أكتافهم، وقالوا عنك "شاطر" وداهية، فكيف بك إذا وُضعْتَ في قبرك، وكيفَ بك وقد وقفت بين يدي ربِّك، وحاسبك الله عن كلِّ جرائمك، أين ستكون شطارتك ودهاؤك؟!
معاهدةُ الله بعدمِ الغشّ
أيُّها الأحبَّة، ونحن بين يدي الله الآن، وفي يوم الجمعة، وأمام صلاة الجمعة، فلنجرِّب أن نفتح قلوبنا لله، لتشرق قلوبنا بنور الله وبمحبّة الله، لنقول له: يا ربَّنا، إنَّنا هنا بين يديك، نتوب إليك من كلِّ غشّ عملناه في كلِّ ماضينا، ونعاهدك أن لا نغشَّ أحداً، لا غشّاً تجاريّاً، ولا غشّاً اجتماعيّاً ولا سياسيّاً، وأن لا نغشَّ أحداً في المستقبل. هل تستطيعون أن تؤكِّدوا ذلك؟! قصَّة التَّوبة ليست كلمةً، لكنَّها ندمٌ يحرق قلبك عن الماضي، وعزمٌ يركِّز إرادتك على المستقبل {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ}[الشّورى: 25].
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الخطبة الثَّانية
عبادَ الله، اتَّقوا الله في كلِّ ما تعيشونه في قضاياكم الاجتماعيَّة والسياسيَّة والتربويَّة والأمنيَّة، اتَّقوا الله في ذلك، وافتحوا قلوبكم للخير كلِّه، وللحقّ كلِّه، وللعدل كلِّه، وامحضوا المسلمين النَّصيحة في دينهم ودنياهم، ولا تحملوا في قلوبكم أو في نشاطكم غشّاً لأيِّ مسلم، ولا تتعاونوا مع أعداء الله ورسوله وأعداء الإنسانيَّة، في أيِّ أمر يكونُ فيه غشٌّ للمسلمين في الواقع السياسيّ وفي الواقع الأمنيّ.
دعوةُ العملاءِ إلى التَّوبة
وفي ضوء هذا، فإنَّنا نأمل من كلِّ هؤلاء النَّاس الَّذين باعوا أنفسهم للشّيطان، سواء كان الشيطان شيطاناً إسرائيلياً، كالَّذين يحاربون مع إسرائيل أهلَهم وإخوانَهم، أو يتجسَّسون لها على إخوانهم وأهلهم وعلى المجاهدين منهم، أو الَّذين باعوا أنفسهم للشَّيطان الأمريكيّ أو لأيّ شيطان من المستكبرين، أو لأيّ شيطان محلّي أو إقليميّ يريد للنَّاس السوء في حريَّاتهم، وفي عدالتهم، وفي كلِّ ما ينطلق بالشّرّ في حياتهم.
إنَّنا ندعوهم إلى أن يتوبوا إلى الله من ذلك كلِّه، وأن يغيِّروا نمط تفكيرهم الَّذي يوحي إليهم بالمصلحة في الارتباط بأعداء الله، وأن يغيِّروا نمط سلوكهم وحياتهم. إنَّنا نقول لهم، إنَّ العدوَّ الَّذي تساعدونه يحتقركم في نفسه، لأنَّه يعمل من أجل خدمة وطنه، ويرى أنَّكم تعملون من أجل تدمير وطنكم، وهو يعمل من أجل رفعة مستوى شعبه، وأنتم تعملون على إسقاط مستوى شعبكم. إنَّهم يحتقرونكم، لأنَّهم يرون أنَّكم تخونون أرضكم وأهلكم، وتخونون الحاضر والمستقبل في ذلك كلِّه. لذلك نقول لكم توبوا إلى الله توبةً نصوحاً، توبوا إلى الله، وانفتحوا على أهلكم، حتَّى يحتضنكم أهلكم كما يحتضون كلَّ التّائبين الرّاجعين عن غيِّهم، توبوا إلى الله، حتَّى يتقبَّلكم الله سبحانه وتعالى فيغفر لكم ذنوبكم، فإنَّ الدنيا لا تغني عن الآخرة، وإنّ ما تحصلون عليه من مال، سوف يبتليكم الله بألف بلاء وبلاء لتصرفوه على ما تصابون به من الأمراض والمشاكل وما إلى ذلك.
لذلك، نحن نقول، لا بدَّ لنا، أيُّها الأحبَّة، ولا سيَّما ونحن نعيش هذا الواقع الصَّعب الَّذي يحاربنا فيه العالم المستكبر، والَّذي يعطي كلَّ تأييده وعونه وسياسته وأمنه للعدوِّ الصّهيوني ولغيره ممن يكيدون للمسلمين بكلِّ خططهم، إنَّ علينا في هذه المرحلة الصعبة أن نكون أمّةً واحدة تعمل من أجل تحقيق أهدافها الكبرى، لأنَّه ليست هناك حقارة أكثر من حقارة أن تعين عدوَّك على أهلك، وأن تعين المستكبرين - وأنت المستضعف - على المستضعفين، أيّ حقارة أكثر من هذا؟! إنَّني أتصوَّر أنَّ هؤلاء يعيشون احتقار أنفسهم قبل احتقار الآخرين لهم، لأنَّ أبشع الاحتقار هو احتقار الإنسان لنفسه.
لذلك، لا بدَّ أن نقدِّم النَّصيحة إلى المسلمين في كلِّ قضاياهم، ولا بدَّ أن نتفهَّم ماذا هناك، لنعرف كيف ننصح المسلمين برأينا ومشاعرنا وأحاسيسنا وجهدنا، حتَّى نستطيع أن نخرج عن المشكلة الَّتي تحيط بنا من كلِّ جانب، سواء كانت مشكلة سياسيَّة أو اقتصاديَّة أو أمنيَّة.
استمرارُ العدوانِ على لبنان
لا يزال العدوّ الإسرائيليّ يتحرَّك في عدوانه الأمنيّ والسياسيّ والعسكريّ على أكثر من صعيد، فهو في منطقة الاحتلال، يواصل الغارات الجويَّة، من البقاع إلى إقليم الخروب ثمَّ إلى الجنوب، ويتواصل العدوان بالقصف المدفعيّ الَّذي يطال القرى والبلدات في الجنوب والبقاع الغربيّ بشكل متزايد، حاصداً المزيدَ من الإصابات في صفوف المدنيّين، إضافةً إلى العبوَّات النَّاسفة.
وفي مجالِ الحربِ الإعلاميَّة، يبرز التَّهديد من قبل بعض قادة العدوِّ بردٍّ قاس على لبنان، بعدَ سقوط قذائف المقاومة على مقربةٍ من الحدود اللّبنانيَّة الفلسطينيَّة المحتلَّة، ولا بدَّ من الإشارة إلى أنَّ قصف المقاومة كان ردّاً تحذيريّاً للعدوّ على قصفه للمدنيّين، لأنَّه إذا كان يفكِّر في الاستمرار باستهداف المدنيّين، فإنَّ عليه أن لا يحلم بأيَّام هادئة في المستوطنات الصهيونيَّة في الشّمال، على طريقة مواجهة الاعتداء بموقفٍ مماثل، لأنَّ المقاومة لا يمكن أن تقف مكتوفة الأيدي أمام ما يتعرَّض له شعبها من عدوانٍ وحشيٍّ مستمرّ.
حربُ العدوِّ السياسيَّة
وفي مجال الحرب السياسيَّة، لا يزال العدوُّ يتحرَّك بالطَّريقة الدّبلوماسيَّة في السَّاحات الأمريكيَّة والأوروبيَّة وغيرها، حيث يقف مهدِّداً متوعِّداً بأنَّ أيَّ ضغطٍ سياسيٍّ أو اقتصاديٍّ عليه، سوف يواجهه بضغطٍ آخر، وقد ذهب إلى الصّين لتقوية العلاقات معها، تحت مظلَّة المساعي الأمريكيَّة الضَّاغطة حتَّى على الصّين، حيث حصل على تعهّدٍ منها، كما تقول صحف العدوّ، بعدم بيع إيران تكنولوجيا لها علاقة بالسِّلاح النّوويّ والصَّواريخ، وأعلن الجانب الصّينيّ أنَّه لا يبيع في الحاضر والمستقبل أسلحةً أو تكنولوجيا نوويّة إلى إيران أو إلى أيِّ دولة يمكن أن تنقلها إلى إيران، هذا إضافةً إلى نموّ العلاقات التركيَّة الإسرائيليَّة أمنيّاً وعسكريّاً واستراتيجيّاً، بما يهدِّد المنطقة الإسلاميَّة بكاملها، ويتمثَّل ذلك بالزيارات المتكرّرة للجنرالات الأتراك إلى الكيان الصّهيوني، في الوقت الَّذي يستعرض الجيش التركي عضلات القوّة في شمال العراق. إنَّ الصهيونيَّة تمدّ أذرعها الأمنيَّة والسياسيَّة والاقتصاديّة إلى العالم، في الوقت الَّذي يوحي العرب إلى أنفسهم بأنَّ عزلة الكيان الصهيوني تزداد.
خطرُ تهويدِ القدس
وليسَ بعيداً من ذلك، تسيرُ عمليَّاتُ تهويدِ القدسِ بسرعةٍ كبيرة، قبل وصول عرفات وسلطته إلى موعد الحكم النِّهائيّ بعد سنة، فقد يأتي الموعد، والقدس قد أصبحت في القبضة الصّهيونيَّة، حيث يتحوَّل الوجود العربيّ إلى أقليَّة بفعل تعاظم التَّواجد اليهوديّ فيها، والتّخطيط لطرد العرب منها بأكثر من وسيلة. ومن اللَّافت أنَّ العدوَّ احتفل بذكرى ضمّ الجزء الشّرقيّ من القدس بعد حرب الـ 67، والَّذي تحوَّل إلى عيدٍ سمِّي بيوم القدس، كردٍّ على دعوة الإمام الخميني (قده) بإعلان آخر جمعة في شهر رمضان يوماً للقدس، وقد حضر رئيس مجلس النوَّاب الأمريكي هذا الاحتفال مع أربعين نائباً أمريكيّاً، وكرَّر اعتراف الكونغرس الأمريكيّ بالقدس الموحَّدة عاصمةً أبديّةً لإسرائيل، كما قال.
إنَّ هذه التطوّرات في الحركة الصهيونيَّة، تمثِّل المستوى التصعيدي الكبير في حجم الخطورة السياسيَّة والأمنيَّة على فلسطين كلِّها، وعلى الواقع العربي كلِّه، ولا بدَّ لنا أن نواجهه بموقف عربيّ إسلاميّ حاسم، تخرج فيه الأنظمة من حالة ضغطها على شعوبها، إلى الضَّغط على العدوّ الحقيقيّ في خطِّ المواجهة الشَّاملة، لأنَّ ذلك هو الَّذي يحقِّق التَّوازن الضَّاغط في الموقف السياسيّ، ولا سيَّما بما يتَّصل بالمصالح الأمريكيَّة في المنطقة، لأنَّ أمريكا لا تفهم إلَّا بلغة الضَّغط على مصالحها، وينبغي الاستمرار في دراسة الوسائل الكفيلة بالمقاطعة الشَّعبيَّة للبضاعة الأمريكيَّة، في دراسةٍ دقيقةٍ للحاجات الضَّروريَّة للشّعوب، مقارنةً بما لدى الدّول الأخرى في ما تملكه من الصَّناعات المتنوّعة.
ولا بدَّ من دعم الجميع للمقاومة، ولا سيَّما المقاومة الإسلاميَّة الَّتي تقف وحدها في خطِّ المواجهة الضَّاغط على العدوِّ، من أجل تحويل احتلاله إلى مأزق أمنيّ وسياسيّ، ولا بدَّ للشعوب العربيَّة والإسلاميَّة من أن تفكِّر في مقاومة متنوّعة الأبعاد، بحسب ظروفها وإمكاناتها، فإنَّ ذلك هو الَّذي يرتفع بالمرحلة إلى مستوى التحدّي وردِّ التحدّي.
العلاقاتُ السعوديَّةُ الإيرانيَّة
أمَّا على مستوى العلاقات العربيَّة الإيرانيَّة، فإنَّنا نرحِّب بالتقدّم المستمرّ للعلاقات السعودية الإيرانيَّة، حيث يمكن لهذه العلاقات الَّتي تتطوَّر باستمرار، أن تكون الجسر الَّذي تعبر عليه أكثر من دولة عربيَّة وإسلاميَّة للتَّعاون والوحدة بين هذه الدّول، وللوقوف في وجه الهيمنة الأمريكيَّة على ثروات المسلمين والعرب، وخصوصاً في الخليج، وللتصدّي للأخطار المحدقة الَّتي تتضاعف من خلال الاحتلال اليهودي لفلسطين وما حولها، والأطماع الصهيونية على مختلف الأصعدة الاقتصاديَّة والسياسيَّة.
التَّجربة النَّوويَّة الباكستانيَّة
وفي الدائرة الإسلاميَّة، فإنَّنا نتفهَّم التَّجربة النوويَّة الباكستانيَّة لما يسمَّى بالقنبلة الإسلاميَّة من أجل إيجاد التَّوازن مع الهند، لإبعاد الخطر الَّذي قد يتهدَّدها بالتجربة الهنديَّة النَّوويَّة، في الوقت الَّذي نعتقد أنَّ من الضَّروريّ العمل على مستوى دوليّ لحظر السِّلاح النَّوويّ المدمِّر للبشريَّة، ولا نجد في الاستنكار الأمريكيّ لذلك موقفاً صادقاً، لأنَّ أمريكا لا تحرِّك ساكناً ضدَّ إسرائيل الَّتي تملك ترسانةً كبيرةً من السِّلاح النَّوويّ، ولا تسمح أمريكا لأحدٍ بالحديث عنها. إنَّ من حقِّ الشّعوب الإسلاميَّة أن تملك كلَّ الأسلحة الَّتي تدافع بها عن استقلالها ومصالحها، فلا يجوز أن يكون حظر السِّلاح النَّوويّ مقتصراً عليها وحدها.
إبعادُ الانتخاباتِ عن الفتنة
أمَّا على المستوى اللّبنانيّ الدَّاخليّ، فإنَّنا نجدِّد دعوتنا الجميع إلى الارتفاع إلى مستوى المرحلة، في إبعاد السَّاحات السياسيَّة الشَّعبيَّة الانتخابيَّة عن أيّة فتنة، لأنَّ الفتنة في أيِّ موقع تحرق الجميع {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً}[الأنفال: 25].
إنَّنا نريد للّبنانيِّين أن ينطلقوا مع خطِّ الوعي السياسيّ والاجتماعيّ الَّذي يجعل خيارهم خاضعاً للمصالح العامَّة للنَّاس كافَّة، لا لألاعيب الكواليس السياسيَّة الَّتي قد لا تحسب حساب المرحلة الصَّعبة الَّتي يعيشها البلد والمنطقة في خطِّ التَّحدّيات الكبيرة.
لقد جرَّب الجميع الفتنة العمياء المدمِّرة على مستوى البلد كلِّه، أو على مستوى هذه المنطقة وتلك المنطقة، والَّتي لا نزال آثارها السَّلبيَّة في الأمن والاقتصاد والسياسة والاجتماع، والمؤمن لا يلدغ من جحر مرَّتين، وعلى المسؤولين أن لا يستغلّوا مرحلة الاستحقاق الانتخابي في إهمال المطالب الشَّعبيَّة على الصَّعيدين الاقتصاديّ والاجتماعيّ، وإجراء التسويات المتبادلة بين المواقع الرّسميَّة المسؤولة على حساب القضايا الشَّعبيّة العامَّة في تحالفاتٍ تستهدف المصالح الشَّخصيَّة لا الوطنيَّة.
الرِّهانُ على المُقاومة
وأخيراً، إنَّنا نرى في العمليَّات المستمرَّة للمقاومة الإسلاميَّة داخل المنطقة المحتلَّة، ولا سيَّما العمليَّة الأخيرة الَّتي انطلقت المواجهة فيها على بعد أمتار من الشَّريط الشَّائك على الحدود اللّبنانيَّة الفلسطينيَّة المحتلَّة، والَّتي أصابت من العدوِّ مقتلاً، دليلاً إضافيّاً على قدرة المقاومة على اختراق كلِّ الأساليب الجديدة الَّتي حاول العدوّ من خلالها أن يمنع المجاهدين من الوصول إلى داخل المنطقة المحتلَّة للنَّيل من جنوده وعملائه.
إنَّ ذلك يؤكِّد مرَّةً أخرى أنَّ الرّهان على المقاومة هو رهان حيّ واقعيّ، ويضع الجميع أمام مسؤوليَّاتهم في ضرورة دعمها بكلِّ الإمكانات الماديَّة والمعنويّة المتاحة.
والحمد له ربِّ العالمين.
*خطبة الجمعة لسماحته، بتاريخ: 29/05/1998م.
موضوعنا في هذا اليوم هو النَّصيحة؛ نصيحة الإنسان لربِّه ولنفسه وللنَّاس من حوله.
النّصحُ في القرآن
وقد كان الأنبياء، كما حدَّثنا الله سبحانه وتعالى في كتابه، في مقدَّم النَّاصحين لشعوبهم وأممهم، فقد ورد في قوله تعالى: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}[الأعراف: 62]، {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ}[الأعراف: 68]، وقال: {وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَٰكِن لَّا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ}[الأعراف: 79].
ويقول الله سبحانه وتعالى عن الَّذين منعتهم ظروفهم الماليَّة من اللّحاق بالنَّبيّ (ص) في معركته مع الكافرين: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}[التَّوبة: 91].
وهكذا كان هود (ع)، عندما استنفد كلَّ وسائله مع قومه في الهداية، قال لهم: {وَلَا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ}[هود: 34].
وهكذا كان إخوة يوسف يتحدَّثون مع أبيهم بطريقة الغشّ، أنَّهم ناصحون لأخيهم {يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَىٰ يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ}[يوسف: 11].
وتتتالى الآيات القرآنيَّة في ذلك، لتدلِّل لنا أنَّ على الإنسان أن يتحرَّك في حياته مع الإنسان الآخر، أيَّاً كان، سواء كان قريباً أو بعيداً، أن يتحرَّك معه بالنّصح، أن يعطيه النّصح من قلبه، فلا يكون في قلبه أيّ غشّ له، وأن يعطيه النُّصح في رأيه، فيقدِّم إليه الرَّأي المدروس النَّاضج الَّذي يمثِّل مصلحته في الحياة كلِّها، وأن يكونَ ناصحاً له، بحيث يخلص له عندما يسعى في حوائجِه لقضائها أو لتحقيقها، وأن ينصحَ الإنسان لربِّه، بحيث يخلص قلبه وكلامه وعمله لربِّه، وأن ينصحَ لرسوله، بحيث يكون مفتوح القلب للرَّسول في كلِّ رسالته.
وهذه هي الصِّفة الَّتي تمثِّل معنى إحساس الإنسان بإنسانيَّته في علاقته بالإنسان الآخر؛ أن تكون إنسانيَّتك منفتحةً على الإنسان الآخر انفتاحاً يجعلك تريد له الخير في كلِّ علاقتك معه، أن لا تكون العلاقات بين الإنسان والإنسان علاقة إضرارٍ، وعلاقة غشّ، وعلاقة إيذاءٍ، وعلاقة لفٍّ ودورانٍ، وعلاقة احتيالٍ، وما إلى ذلك... أن تشعر بأنَّك مفتوحَ القلب للإنسان الآخر، ليكون الإنسانُ الآخرُ مفتوحَ القلب لك، لأنَّ مشكلة النَّاس بعضهم مع بعض، هي أنَّ كلَّ إنسان يملك منطقة خفيَّة تعمل على أن تخطِّط ضدَّ الإنسان الآخر، بحيث يعطيه كلمة حلوةً في محضره، ولكنَّه يطلق سهام الكلمات القاسية في غيبته، فهذا من خيانة الأخ لأخيه في الإسلام، والله {لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ}[الأنفال: 58].
تعالوا نقرأ كلمات رسول الله (ص)، والأئمَّة الطيّبين من أهل بيته (ع)، بعد أن قرأنا كلمات الله في ذلك.
أنسكُ النَّاسِ وأعظمُهم منزلةً
عن أبي عبد الله، الإمام جعفر الصَّادق (ع): "أَنْسَكُ النَّاسِ نُسُكاً – والنُّسك يعني العبادة الَّتي ينفتح بها الإنسان على الله - أَنْصَحُهُمْ جَيْباً – والجيب هو الصَّدر. بمعنى أنَّ أكثر النَّاس نسكاً وعبادةً، ليس هو فقط الَّذي يقيم الصَّلاة والصِّيام، ولكن مَنْ كان قلبه أكثر نصحاً للمسلمين، بحيث إنَّك عندما تقارن بينه وبين النَّاس الآخرين، تراه أكثر النَّاس نصحاً للمسلمين - وأَسْلَمُهُمْ قَلْباً لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ".
ولاحظوا كلمة "لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ"، أن تنفتح على المسلمين كلِّهم، حتَّى لو اختلفت معهم في بعض الخطوط الفقهيَّة أو الكلاميَّة في الاختلافات المذهبيَّة، لأنَّ رسولَ الله (ص) يريد لكلِّ مسلم أن يكون قلبُه قلبَ الخير، وقلبَ النَّصيحة، وقلبَ السَّلامة للمسلمين جميعاً، بحيث ينفتح عليهم من خلال إسلامهم الَّذي يجمع بينهم، وإن اختلفوا في الخطوط التفصيليَّة لهذا الرأي وذاك الرّأي.
وهكذا قال رسول الله (ص)، والرّواية عن الإمام الصَّادق (ع): "إِنَّ أَعْظَمَ النَّاسِ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللَّه يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَمْشَاهُمْ فِي أَرْضِه بِالنَّصِيحَةِ لِخَلْقِه". إنَّ الَّذي ينال الدَّرجة العليا عند الله سبحانه وتعالى في يوم القيامة، هو أكثر النَّاس سعياً ومشياً وجهداً بالنَّصيحة لخلق الله.
ولاحظوا أنَّه إذا كان رسول الله (ص) قد تحدَّث، فيما يروى في الرّواية الأولى، عن النُّصح لجميع المسلمين، فإنَّ هذا الحديث يتحدَّث عن النُّصح لخلق الله، ما يعني أنَّ على المسلم أن لا يحمل الغشَّ في قلبه لأيِّ إنسان، لأنَّ المسلمَ ينطلق من أجل أن يكون العدل كلّه للنَّاس، ومن أجلِ أن يكون الخير كلّه للنَّاس.. قد تختلف مع إنسانٍ في رأي أو في دين، ولكن عليك أن لا تفكِّر في النَّاس أو في علاقتك بهم إلَّا بالنَّصيحة، لأنَّ المسلم لا يحمل في قلبه الغشَّ لأحد، حتَّى للكافر، فالكافر تنصحه في قلبك، وتسعى لهدايته، لأنَّ النُّصح ليس معناه أن تقبلَ الآخر بكلِّه، بل بأن تقدِّم إليه ما فيه الخير له، فأنت إذا التقيت مع الضَّالّ أو مع الكافر أو مع الفاسق، كن النَّاصح له ولا تكن الغاشَّ له، ومظهر نصيحتك له هو بأن تهديه إلى الصِّراط المستقيم، وأن تبعده عن خطِّ الانحراف وعن خطِّ الضَّلال.
"إِنَّ أَعْظَمَ النَّاسِ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللَّه يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَمْشَاهُمْ فِي أَرْضِه - يعني أكثرهم مشياً وسعياً - بِالنَّصِيحَةِ لِخَلْقِه".
عملٌ يضمنُ الجنَّة
وفي الحديث، قال رسول الله (ص): "مَنْ يَضْمَنْ لِي خَمْساً أَضْمَنْ لَهُ الجَنَّةَ - وهذه الجائزة مهمَّة جداً، وعلينا أن ننتبه إليها - قيلَ: وَمَا هِيَ يَاْ رَسُولَ الله؟ قَالَ: النَّصِيحَةُ للهِ عزَّ وجلَّ - وذلك بأن تخلص لله في عبادتك وعبوديّتك، بأن تطيعه فيما أمرك، وفيما نهاك.
- والنَّصِيحَةُ لِرَسُولِهِ - بأن تلتزم رسالته وسنَّته وخطَّه ودينه، لتدعو إليها وتقوّيها، ولتعمل بكلِّ جهدك في سبيل أن تكون لها القوَّة في الواقع.
- والنَّصِيحَةُ لِكِتَابِ اللهِ - وذلك بأن تقرأ القرآنَ وتتدبَّره، وأن تثقِّف كلَّ عقلك به، وأن تعمل به، وتقود النَّاس إلى قراءته والالتزام به وتنفيذ أحكامه.
- والنَّصيحةُ لدينِ الله - بأن تكونَ الإنسان الَّذي يلتزم دين الله في نفسه وأهله وفي كلِّ مَنْ حولَه، والَّذي يدافع عن دين الله، ويعمل على هداية النَّاس إليه.
- والنَّصيحةُ لجماعة المسلمين"، بأن يخلص لهم في مشاعره وفي رأيه وجهده، وأن يعمل على الابتعاد عن أيِّ عمل يفيد العدوَّ ليدمِّر واقع المسلمين. ولذلك، فإنَّ مظهر هذه النَّصيحة، أن تكون عيناً لجماعة المسلمين في مواجهة كلِّ تحركات أعدائهم، وأن لا تكون عيناً لأعداء المسلمين، لتتجسَّس لهم ضدَّ المسلمين، ولتحارب معهم ضدَّ المسلمين، وما إلى ذلك مما يفعله بعض المسلمين الَّذين يبيعون أنفسهم للشَّيطان، فيغشّون المسلمين في كلِّ جهدهم، وينصحون أعداء المسلمين بكلِّ جهدهم.
وهكذا جاء في حديث رسول الله (ص): "الدِّينُ النَّصيحة"، فالنَّبيّ (ص) يريد أن يجمع كلَّ الدّين، في كلِّ عقائده وشرائعه ومناهجه، بكلمة واحدة "الدِّينُ النَّصيحة"، قيل: يا رسول الله، لمن؟ قال: "للهِ، ولكتابِهِ، ولرسولِهِ، وللأئمَّة في الدِّين، وعامَّتهم"، أن لا يكون في قلبك أيُّ غشٍّ لله ولرسوله ولكتابه وللأئمَّة ولجماعة المسلمين، فمَنْ كان في قلبه غشٌّ في هذا الاتّجاه، فإنَّه يفقدُ دينَه وإسلامَه على هذا الأساس.
حقُّ المؤمنِ على المؤمن
ومن كلام الإمام الرِّضا (ع)، قال: "حَقُّ المُؤْمنِ على المُؤْمنِ، أنْ يَمْحَضَهُ النَّصِيحَةَ في المَشْهَدِ والمَغِيبِ كنَصِيحَتِهِ لنَفْسِهِ"، فكما تفكِّر لنفسك في الخير، في الرِّبح، في القوَّة، في الحماية من الأعداء، عليك أن تنصح أخاك المؤمن كنصيحتك لنفسك.
وجاء في كلام أمير المؤمنين (ع): "امْحَضْ أَخَاكَ النَّصِيحَةَ، حَسَنَةً كَانَتْ أَوْ قَبيحَةً - يعني سواء كانت النَّصيحة في أمر يرتاح له، أو في أمر لا يرتاح له - وَسَاعِدْهُ عَلى كُلِّ حَالٍ، وَزُلْ معَهُ حَيْثُمَا زَالَ، ولا تَطْلُبَنَّ منْهُ المُجَازاةَ – بمعنى أنَّك عندما تنصحه، فليس على أساس أن تفكِّر أن يجزيك على النَّصيحة، بل أن تفعل ذلك قربةً إلى الله تعالى - فإنَّها مِنْ شِيَمِ الدُّنَاةِ"، يعني من يعمل خيراً ويبغي الجزاء عليه، فإنَّه من شيم الدَّناءة.
أفضلُ الأعمالِ عندَ الله
وهكذا، أيُّها الأحبَّة، تتحدَّث الروايات الواردة عن النَّبيّ (ص) وأهل البيت (ع) في هذا المجال، فقد ورد عن بعض أصحاب الإمام الصَّادق (ع)، قال: "سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّه (ع) يَقُولُ: عَلَيْكُمْ بِالنُّصْحِ لِلَّه فِي خَلْقِه - بأن يكون سلوكك، وكلّ عملك وكلامك، كلام النّصح لله في خلقه، فأنت عندما تنصح خلقه، فإنَّ هذه النَّصيحة تقدَّم إلى الله سبحانه وتعالى، لأنَّ "الخَلْق عِيَالُ اللهِ، وأَحَبُّهُم إِلَى اللهِ أَنْفَعُهُمْ لِعِيَاْلِهِ" - فَلَنْ تَلْقَاه بِعَمَلٍ أَفْضَلَ مِنْه"، فمن أفضل الأعمال، أن يكون الإنسان ناصحاً لله، بأن يقدِّم كلَّ الخير من قلبه وكلامه وعمله إلى كلِّ خلق الله.
ويقول عليّ (ع) فيما يروى عنه: "خَيْرُ الإِخْوانِ أَنْصَحُهُم، وَشَرُّهُمْ أَغَشُّهُمْ"، بمعنى أنَّ الإنسان الَّذي هو أكثر غشّاً للنَّاس، هو شرُّ النَّاس، والأكثرُ نصيحةً للنَّاس، يعتبرُ أفضلَ النَّاسِ وأحسنَهم في ذلك كلِّه. ويقول (ع): "النَّصِيحَةُ مِنْ أَخْلَاقِ الكِرَامِ".
الخائنُ للهِ ورسولِه
وهكذا نجد أنَّ الأئمَّة (ع) يؤكِّدون المسألة عن رسول الله (ص). فمثلاً، إذا كلَّفك إنسان بعمل معيّن، وشعرت بالإحراج بأن تسعى في حاجته لسببٍ ما، فسعيت، لكنَّك قصَّرت في سعيك، أو قمْتَ ببعضِ الأعمالِ الَّتي تكون ضدَّ النَّصيحة، فماذا يقول النَّبيُّ (ص) في ذلك؟
قال الإمام الصَّادق (ع): "قَالَ رَسُولُ اللهِ (ص): مَنْ سَعَى فِي حَاجَةٍ لأَخِيه، فَلَمْ يَنْصَحْه، فَقَدْ خَانَ اللَّه ورَسُولَه"، فأنت عندما تقوم بالعمل بما يتعارض مع النَّصيحة، فإنَّكَ لا تكون خائناً للشَّخص فقط، لأنَّ هذا الشَّخص إذا كان مؤمناً، فمعنى ذلك أنَّه مرتبط بالله وبرسوله، فأنت إذا لم تنصحه في جهدك وعملك وسعيك، فالخيانة لا تكون فقط لأخيك المؤمن، ولكنَّها تكون أيضاً خيانةً لله ولرسوله. هذا في الجانب السَّلبيّ.
أمَّا في الجانب الإيجابيّ، فقد ورد عن أبي عبد الله الصَّادق (ع) قال: "مَنْ مَشَى لامْرِئٍ مُسْلِمٍ فِي حَاجَتِهِ فَنَصَحَهُ فيها، كَتَبَ اللهُ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ حَسَنَةً، وَمَحَا عَنْهُ سَيِّئةً، قُضِيَتِ الحَاجَةُ أوْ لَمْ تُقْضَ – بمعنى أنَّك في سعيك لحاجة أخيك المؤمن، في كلِّ خطوة تخطوها في هذا السَّبيل، تكسب حسنة، وتزول عنك سيِّئة، المهمُّ أنَّك بذلَت جهدك، قُضِيتُ الحاجة أو لم تقض - فَإِنْ لَمْ يَنْصَحْهُ، فَقَدْ خَانَ اللهَ وَرَسُولَهُ، وَكَان َرَسُولُ اللهِ (ص) خَصْمَهُ".
وفي روايةٍ أخرى أيضاً: "مَنْ مَشَى في حَاجَةِ أَخِيهِ المُسْلِمِ وَلَمْ يُنَاصِحْهُ فيها، كَانَ كَمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ".
بينَ النَّصيحةِ والغشّ
هذه من الأحاديث الكثيرة الواردة عن النَّبيِّ (ص) وعن أئمَّة أهل البيت (ع) حول موضوع النَّصيحة، وهي تعطينا الفكرة بأنَّ الواقع العامّ للإنسان المسلم، وللمسلمين في كلِّ مجتمعاتهم وأوضاعهم، ينبغي أن يكون واقع النَّصيحة الَّتي تعني أن يكون قلبكَ مفتوحاً لإخوانك، وأن يكون لسانك يتحدَّث بالخير لإخوانك، وأن يكون جهدك يتحرَّك في سبيل تحقيق الخير لإخوانك، سواء كان ذلك خيراً فرديّاً أو كان خيراً اجتماعيّاً.
وفي ضوء هذا، أيُّها الأحبَّة، فإنَّ الإنسان الَّذي يعمل على جمع الشَّمل بين المسلمين، وعلى تحقيق الوحدة بينهم، وإبعاد الفتنة عن واقعهم، وطرد عناصر الحقد والضَّغينة والعداوة فيما بينهم، هو النَّاصح للمسلمين. أمَّا الإنسان الَّذي يتحرَّك بفعل أيِّ عصبيَّة، سواء كانت عصبيَّة شخصيَّة، أو عصبيَّةً عائليَّة، أو عصبيَّة حزبيَّة، أو عصبيَّة فئويَّة، أو في أيِّ جانب من الجوانب، من أجل أن يثير الفرقة بين المسلمين، ومن أجل أن يؤسِّس الحقد والعداوة والبغضاء بينهم، وأن يثير فيهم عناصر التمزّق والفرقة، أمَّا هذا الإنسان، فهو إنسان يعيش الغشّ للمسلمين في قلبه، وفي جهده، وبذلك يكون خائناً لله ولرسوله.
لذلك، أيُّها الأحبَّة، علينا عندما نعيش في كلِّ مجتمعاتنا، أن نفحص قلوبنا، هل هي قلوب غشّ؟ وقد ورد عن النَّبيّ (ص): "مَنْ غَشَّنا فَلَيْسَ منَّا"، من غشَّ المسلمين فليس بمسلم، لأنَّ معنى أن تكون مسلماً، أن تكون جزءاً من الجسد الإسلاميِّ الكبير، بحيث تفكِّر في بقيَّة أجزاء الجسد كما تفكِّر في نفسك.
هذا ما ينبغي لنا أن نعيشه، لأنَّ القضيَّة في الإسلام، أيُّها الأحبَّة، ليست هي فقط قضيَّة ما يتحرَّك به جسدك، بل القضيَّة هي ما ينبض به قلبك، وما يتحرَّك به عقلك. قيمة العمل في الخارج، هي قيمة العمل في الدَّاخل "إِنَّمَاْ الْأَعْمَاْلُ بِالنِيَّاْتِ، وَلِكُلِّ امْرِئِ مَاْ نَوَىْ"، "إنَّ اللهَ يَحْشُرَ النَّاسَ عَلَى نِيَّاتِهِم يَوْمَ القِيَامَةِ"، "إنَّ اللهَ لا يَنْظرُ إلى وجوهِكِمْ، ولكنْ ينظرُ إلى قلوبِكِم".
لذلك، علينا أيُّها الأحبَّة، أن نربي قلوبنا على المحبَّة، وأن نربّيها على الخير، وأن يقدِّم الإنسان النَّصيحة إلى أخيه، حتَّى لو كانت هذه النَّصيحة على خلاف مصلحته.
يعني، مثلاً، لنفترض أنَّ أحداً أراد أن ينشئ شركةً مع أحد أقربائك، وقد يكون القريب ابنك أو أخاك أو أيّ أحد آخر، وأنت تعرف أنَّ ابنك أو أخاك أو قريبك سينتفع من هذه الشَّراكة، ولكنَّك تعرف أيضاً أنَّ هذا الإنسان الَّذي جاء يستنصحك في هذه المسألة، لن تكون الشَّراكة لصالحه. هنا، في هذه الحال، يجب عليك أن تنصحه بأنَّ عليه أن لا يقدم على هذه الشَّركة، فإذا نصحته بالشَّركة، وأنت تعرف أنَّها ليست لمصلحته، وإن كانت مصلحةَ قريبك أو أخيك، فإنَّك تكون غاشّاً له، فلا تكون بهذا العمل مسلماً كما هو الإسلام.
وهكذا في بعض الحالات، افرض أنَّك تريد أن توظِّف قريباً من أقربائك، أو صديقاً من أصدقائك، في مؤسَّسة، أو في أيّ موقع يتَّصل بالجانب العامّ للنَّاس، أو يتَّصل بالجانب الخاصّ، أو أن توظِّفه عند تاجر، مثلاً، وأنت تعرف أنَّ هذا الشَّخص ليس أميناً، أو ليس عنده خبرة أو كفاءة في الموضوع، وأنت تقدِّمه إلى هذه المؤسَّسة أو الجمعيَّة، أو إلى هذا التَّاجر، أو إلى هذه الدَّولة كوظيفة دولة، وأنت عندك صلاحيَّة أن توظِّف، هنا، في هذه الحالة، تكون إنساناً غاشّاً، وعندما تكون المسألة متَّصلة بالأمر العامّ، فأنت بذلك لا تغشّ فقط هذه المؤسَّسة، بل تغشُّ النَّاس كلَّهم، لأنَّ قضايا النَّاس كلّها تكون تحت رحمته.
وفي قضايا الزواج، مثلاً، قد يأتي أحد ليستنصحك في الزّواج بفتاةٍ معيَّنةٍ من أقربائك، وقد يكون الزواج لمصلحة الفتاة، ولكن لا يكون من مصلحته، فعليك أن تنصحه بعدم الإقدام على ذلك، حتَّى لو كان ذلك على خلاف مصلحتك العاطفيَّة.
المصلحةُ العامَّةُ أوّلاً
هذا هو الخطُّ الإسلاميّ في هذا المجال، أنَّك عندما تتحرَّك في خطِّ النَّصيحة، فإنَّ عليك أن لا تعالج المسألة من خلال مصالحك، وإنّما أن تعالجها من خلال مصلحةِ المستنصِح في هذا الأمر أو ذاك، ولا سيَّما، كما ذكرنا، إذا كانت المسألةُ تتَّصل بالجانب العامّ... يعني، مثلاً، قد يتوسَّط أحدٌ لشخصٍ فاشل، ليحصلَ له على شهادة طبيَّة، لينجح من دون أساس، أو ليتوسَّط لشخصٍ ليصبحَ معلِّماً أو مربّياً أو موظّفاً في قضيَّة عامَّة، ليحصل له على درجات أفضل، وأنت عندما تفعل ذلك، وتحاول أن لا تنظر إلى المصلحة العامَّة، فمعناه أنَّك سوف تتحمَّل كلَّ النَّتائج السَّلبيَّة من خلال توظيف هذا الإنسان في مكانٍ لا يملك كفاءته.
فمِنْ خلال ما قرأناه من أحاديث عن النَّصيحة، لا بدَّ للإنسان أن يكون قلبه كبيراً، بحيث لا يحشر قلبه في زاوية مصالحه الشَّخصيَّة أو العائليَّة، بل يفتح قلبه للنَّاس كافَّة، على طريقة "عَاْمِلِ النَّاسَ بِمَا تُحِبُّ أَنْ يُعَامِلُوكَ بِهِ"، فهل تقبل أنت إذا استنصحت إنساناً في زواج، أو في توظيف، أو في طبيب، أو ما إلى ذلك، هل تقبل أن يغشَّك؟ لن تقبل، فلماذا تغشُّ أنت النَّاس؟!
هناك بعض النَّاس، كما في بعض الحالات، يكون عنده صديق تخرَّج حديثاً كطبيب، ولا يملك الخبرة في هذا المجال، ومع ذلك، يقوم ببثِّ الدّعاية له، وينصح النَّاس بالذَّهاب إليه، وهو لا يملك الخبرة ولا التَّدريب بعد، فهذا لا يجوز، وهو حرام، فإذا ذهب أحد إليه وأساء فحصه وإعطاء الدَّواء له، فهذا يدخل في سجلِّ أعمالك، لأنَّك أنت من دللته عليه.
وهكذا في المسائل السياسيَّة، ونحن مجتمعنا مجتمع العصبيَّات، وهذه الأيَّام أيَّام انتخابات، قد يكون أحد أقربائك أو أصدقائك، أو واحد من حزبك أو طائفتك مترشِّحاً، وأنت تعلم أنَّه لا يملك الكفاءة، أو غير أمين على أموال النَّاس وأعراضهم وبلدانهم، أو ليس عنده كفاءة أو خبرة، ويريد المنصب فقط للوجاهة، فإذا استنصحك إنسان، وطلب رأيك هل ينتخبه أو لا، وعملت على أساس عاطفتك، ولم تعمل على أساس المصلحة، فأنت من الغشَّاشين، وممن خان الله ورسوله، وتتحمَّل كلَّ المسؤوليَّات السَّلبيَّة الَّتي تترتَّب على هذا الموضوع. وليس هناك أيّ فرق بين الانتخابات البلديَّة أو الاختياريَّة أو النيابيَّة، أو انتخابات في جمعيَّة من الجمعيَّات، أو حزب من الأحزاب. فعندما تكون القضيَّة قضيَّة الآخرين، فإنَّ عليك أن تجرِّد من نفسك إنساناً يفكِّر في الآخرين أكثر مما يفكِّر في مصالحه الشَّخصيَّة.
ونحن ما هي مشكلتنا في العالم العربيّ والإسلاميّ؟ مشكلتنا أنَّ كلَّ واحد منَّا يفكِّر في مصالحه الشَّخصيَّة، ولو كان ذلك على حساب المصلحة العامَّة، وإذا نحن وعينا وعياً كاملاً، نجد أنَّ المصالح العامَّة تتحوَّل إلى مصالح خاصَّة، لأنَّ هذا الشَّخص الَّذي يريد أن يصبح نائباً، أو رئيس بلديَّة، أو مختاراً، عندما يتحمَّل المسؤوليَّة، فسيسيء إليك كما يسيء إلى الآخرين في هذا المقام، لأنَّ مصلحتك مرتبطة بالمصلحة العامَّة.
الغيبةُ في مقامِ النَّصيحة
ولذلك، نلاحظ أنَّ الغيبة في الإسلام حرام: {وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ}[الحجرات: 12]، لكن إذا كانت الغيبة في النَّصيحة، فإنّها تصبح جائزة. يعني، كما بيَّنَّا، إذا جاءَكَ شخصٌ وطلبَ منك النَّصيحة، هل أوظِّف فلاناً عندي أو لا؟ وأنت تعرف أنَّ توظيفه ليس فيه مصلحة لمن يستنصحك، فتقول له لا، لأنَّ فيه عيباً كذا وكذا. وهذه غيبة، ولكنَّها جائزة في هذا المجال، لأنَّ أهميَّة تقديم النّصيحة إلى النَّاس أهمُّ من مسألة الغيبة.
أو لنفترض أنَّ شخصاً أراد أن يتزوَّج امرأة قريبةً منك، وسألك عن رأيك: هل تنصحني بأن أتزوَّج فلانة أم لا؟ وإذا عرفت أنّها ليست من مصلحته، فمن واجبك أن تخبره بعيوبها، وهي غيبة، ولكن يجوز لك في مقام النَّصيحة، وذلك من جهة أهميَّة النَّصيحة في الواقع الاجتماعيّ العام.
لذلك، أيُّها الأحبَّة، علينا أن نفكِّر دائماً في الله قبل أن نفكِّر في النَّاس، وعلينا أن نفكِّر أنَّ الله سبحانه وتعالى هو القادر على أن ينزل بنا البلاء بكلِّ وسائله الَّتي لا تقف عند حدّ، إذا ابتعدنا عن خطِّه في النَّصيحة للمسلمين.
لذلك، لا تفكِّر كما يفكِّر بعض النّاس، بأنَّه (شاطر) ذكيٌّ ومخادع، يستطيع أن يأخذ النَّاس إلى البحر ويردّهم عطاشى.. بعض النَّاس يتفاخر بأنَّه يستطيع اللَّعب على ألف حبل، وأن يحوِّل المنطقة إلى نار، وهذا يشبه قارون، عندما قالوا له: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا}[القصص: 77]، فماذا قال؟ {قالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي}[القصص: 78]، أنا جمعت المال باجتهادي و"شطارتي". ولكن هذه ليست "شطارة"، لأنَّ "الشَّطارة" الحقيقيَّة هي عندما تصل إلى نهر الكوثر وتقدر أن تشرب منه، وعندما تطرق باب الجنَّة ويُفتَح لك، "الشّطارة" أن يرضى الله عنك، أمَّا لو رضي النَّاس عنك، وحملوك على أكتافهم، وقالوا عنك "شاطر" وداهية، فكيف بك إذا وُضعْتَ في قبرك، وكيفَ بك وقد وقفت بين يدي ربِّك، وحاسبك الله عن كلِّ جرائمك، أين ستكون شطارتك ودهاؤك؟!
معاهدةُ الله بعدمِ الغشّ
أيُّها الأحبَّة، ونحن بين يدي الله الآن، وفي يوم الجمعة، وأمام صلاة الجمعة، فلنجرِّب أن نفتح قلوبنا لله، لتشرق قلوبنا بنور الله وبمحبّة الله، لنقول له: يا ربَّنا، إنَّنا هنا بين يديك، نتوب إليك من كلِّ غشّ عملناه في كلِّ ماضينا، ونعاهدك أن لا نغشَّ أحداً، لا غشّاً تجاريّاً، ولا غشّاً اجتماعيّاً ولا سياسيّاً، وأن لا نغشَّ أحداً في المستقبل. هل تستطيعون أن تؤكِّدوا ذلك؟! قصَّة التَّوبة ليست كلمةً، لكنَّها ندمٌ يحرق قلبك عن الماضي، وعزمٌ يركِّز إرادتك على المستقبل {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ}[الشّورى: 25].
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الخطبة الثَّانية
عبادَ الله، اتَّقوا الله في كلِّ ما تعيشونه في قضاياكم الاجتماعيَّة والسياسيَّة والتربويَّة والأمنيَّة، اتَّقوا الله في ذلك، وافتحوا قلوبكم للخير كلِّه، وللحقّ كلِّه، وللعدل كلِّه، وامحضوا المسلمين النَّصيحة في دينهم ودنياهم، ولا تحملوا في قلوبكم أو في نشاطكم غشّاً لأيِّ مسلم، ولا تتعاونوا مع أعداء الله ورسوله وأعداء الإنسانيَّة، في أيِّ أمر يكونُ فيه غشٌّ للمسلمين في الواقع السياسيّ وفي الواقع الأمنيّ.
دعوةُ العملاءِ إلى التَّوبة
وفي ضوء هذا، فإنَّنا نأمل من كلِّ هؤلاء النَّاس الَّذين باعوا أنفسهم للشّيطان، سواء كان الشيطان شيطاناً إسرائيلياً، كالَّذين يحاربون مع إسرائيل أهلَهم وإخوانَهم، أو يتجسَّسون لها على إخوانهم وأهلهم وعلى المجاهدين منهم، أو الَّذين باعوا أنفسهم للشَّيطان الأمريكيّ أو لأيّ شيطان من المستكبرين، أو لأيّ شيطان محلّي أو إقليميّ يريد للنَّاس السوء في حريَّاتهم، وفي عدالتهم، وفي كلِّ ما ينطلق بالشّرّ في حياتهم.
إنَّنا ندعوهم إلى أن يتوبوا إلى الله من ذلك كلِّه، وأن يغيِّروا نمط تفكيرهم الَّذي يوحي إليهم بالمصلحة في الارتباط بأعداء الله، وأن يغيِّروا نمط سلوكهم وحياتهم. إنَّنا نقول لهم، إنَّ العدوَّ الَّذي تساعدونه يحتقركم في نفسه، لأنَّه يعمل من أجل خدمة وطنه، ويرى أنَّكم تعملون من أجل تدمير وطنكم، وهو يعمل من أجل رفعة مستوى شعبه، وأنتم تعملون على إسقاط مستوى شعبكم. إنَّهم يحتقرونكم، لأنَّهم يرون أنَّكم تخونون أرضكم وأهلكم، وتخونون الحاضر والمستقبل في ذلك كلِّه. لذلك نقول لكم توبوا إلى الله توبةً نصوحاً، توبوا إلى الله، وانفتحوا على أهلكم، حتَّى يحتضنكم أهلكم كما يحتضون كلَّ التّائبين الرّاجعين عن غيِّهم، توبوا إلى الله، حتَّى يتقبَّلكم الله سبحانه وتعالى فيغفر لكم ذنوبكم، فإنَّ الدنيا لا تغني عن الآخرة، وإنّ ما تحصلون عليه من مال، سوف يبتليكم الله بألف بلاء وبلاء لتصرفوه على ما تصابون به من الأمراض والمشاكل وما إلى ذلك.
لذلك، نحن نقول، لا بدَّ لنا، أيُّها الأحبَّة، ولا سيَّما ونحن نعيش هذا الواقع الصَّعب الَّذي يحاربنا فيه العالم المستكبر، والَّذي يعطي كلَّ تأييده وعونه وسياسته وأمنه للعدوِّ الصّهيوني ولغيره ممن يكيدون للمسلمين بكلِّ خططهم، إنَّ علينا في هذه المرحلة الصعبة أن نكون أمّةً واحدة تعمل من أجل تحقيق أهدافها الكبرى، لأنَّه ليست هناك حقارة أكثر من حقارة أن تعين عدوَّك على أهلك، وأن تعين المستكبرين - وأنت المستضعف - على المستضعفين، أيّ حقارة أكثر من هذا؟! إنَّني أتصوَّر أنَّ هؤلاء يعيشون احتقار أنفسهم قبل احتقار الآخرين لهم، لأنَّ أبشع الاحتقار هو احتقار الإنسان لنفسه.
لذلك، لا بدَّ أن نقدِّم النَّصيحة إلى المسلمين في كلِّ قضاياهم، ولا بدَّ أن نتفهَّم ماذا هناك، لنعرف كيف ننصح المسلمين برأينا ومشاعرنا وأحاسيسنا وجهدنا، حتَّى نستطيع أن نخرج عن المشكلة الَّتي تحيط بنا من كلِّ جانب، سواء كانت مشكلة سياسيَّة أو اقتصاديَّة أو أمنيَّة.
استمرارُ العدوانِ على لبنان
لا يزال العدوّ الإسرائيليّ يتحرَّك في عدوانه الأمنيّ والسياسيّ والعسكريّ على أكثر من صعيد، فهو في منطقة الاحتلال، يواصل الغارات الجويَّة، من البقاع إلى إقليم الخروب ثمَّ إلى الجنوب، ويتواصل العدوان بالقصف المدفعيّ الَّذي يطال القرى والبلدات في الجنوب والبقاع الغربيّ بشكل متزايد، حاصداً المزيدَ من الإصابات في صفوف المدنيّين، إضافةً إلى العبوَّات النَّاسفة.
وفي مجالِ الحربِ الإعلاميَّة، يبرز التَّهديد من قبل بعض قادة العدوِّ بردٍّ قاس على لبنان، بعدَ سقوط قذائف المقاومة على مقربةٍ من الحدود اللّبنانيَّة الفلسطينيَّة المحتلَّة، ولا بدَّ من الإشارة إلى أنَّ قصف المقاومة كان ردّاً تحذيريّاً للعدوّ على قصفه للمدنيّين، لأنَّه إذا كان يفكِّر في الاستمرار باستهداف المدنيّين، فإنَّ عليه أن لا يحلم بأيَّام هادئة في المستوطنات الصهيونيَّة في الشّمال، على طريقة مواجهة الاعتداء بموقفٍ مماثل، لأنَّ المقاومة لا يمكن أن تقف مكتوفة الأيدي أمام ما يتعرَّض له شعبها من عدوانٍ وحشيٍّ مستمرّ.
حربُ العدوِّ السياسيَّة
وفي مجال الحرب السياسيَّة، لا يزال العدوُّ يتحرَّك بالطَّريقة الدّبلوماسيَّة في السَّاحات الأمريكيَّة والأوروبيَّة وغيرها، حيث يقف مهدِّداً متوعِّداً بأنَّ أيَّ ضغطٍ سياسيٍّ أو اقتصاديٍّ عليه، سوف يواجهه بضغطٍ آخر، وقد ذهب إلى الصّين لتقوية العلاقات معها، تحت مظلَّة المساعي الأمريكيَّة الضَّاغطة حتَّى على الصّين، حيث حصل على تعهّدٍ منها، كما تقول صحف العدوّ، بعدم بيع إيران تكنولوجيا لها علاقة بالسِّلاح النّوويّ والصَّواريخ، وأعلن الجانب الصّينيّ أنَّه لا يبيع في الحاضر والمستقبل أسلحةً أو تكنولوجيا نوويّة إلى إيران أو إلى أيِّ دولة يمكن أن تنقلها إلى إيران، هذا إضافةً إلى نموّ العلاقات التركيَّة الإسرائيليَّة أمنيّاً وعسكريّاً واستراتيجيّاً، بما يهدِّد المنطقة الإسلاميَّة بكاملها، ويتمثَّل ذلك بالزيارات المتكرّرة للجنرالات الأتراك إلى الكيان الصّهيوني، في الوقت الَّذي يستعرض الجيش التركي عضلات القوّة في شمال العراق. إنَّ الصهيونيَّة تمدّ أذرعها الأمنيَّة والسياسيَّة والاقتصاديّة إلى العالم، في الوقت الَّذي يوحي العرب إلى أنفسهم بأنَّ عزلة الكيان الصهيوني تزداد.
خطرُ تهويدِ القدس
وليسَ بعيداً من ذلك، تسيرُ عمليَّاتُ تهويدِ القدسِ بسرعةٍ كبيرة، قبل وصول عرفات وسلطته إلى موعد الحكم النِّهائيّ بعد سنة، فقد يأتي الموعد، والقدس قد أصبحت في القبضة الصّهيونيَّة، حيث يتحوَّل الوجود العربيّ إلى أقليَّة بفعل تعاظم التَّواجد اليهوديّ فيها، والتّخطيط لطرد العرب منها بأكثر من وسيلة. ومن اللَّافت أنَّ العدوَّ احتفل بذكرى ضمّ الجزء الشّرقيّ من القدس بعد حرب الـ 67، والَّذي تحوَّل إلى عيدٍ سمِّي بيوم القدس، كردٍّ على دعوة الإمام الخميني (قده) بإعلان آخر جمعة في شهر رمضان يوماً للقدس، وقد حضر رئيس مجلس النوَّاب الأمريكي هذا الاحتفال مع أربعين نائباً أمريكيّاً، وكرَّر اعتراف الكونغرس الأمريكيّ بالقدس الموحَّدة عاصمةً أبديّةً لإسرائيل، كما قال.
إنَّ هذه التطوّرات في الحركة الصهيونيَّة، تمثِّل المستوى التصعيدي الكبير في حجم الخطورة السياسيَّة والأمنيَّة على فلسطين كلِّها، وعلى الواقع العربي كلِّه، ولا بدَّ لنا أن نواجهه بموقف عربيّ إسلاميّ حاسم، تخرج فيه الأنظمة من حالة ضغطها على شعوبها، إلى الضَّغط على العدوّ الحقيقيّ في خطِّ المواجهة الشَّاملة، لأنَّ ذلك هو الَّذي يحقِّق التَّوازن الضَّاغط في الموقف السياسيّ، ولا سيَّما بما يتَّصل بالمصالح الأمريكيَّة في المنطقة، لأنَّ أمريكا لا تفهم إلَّا بلغة الضَّغط على مصالحها، وينبغي الاستمرار في دراسة الوسائل الكفيلة بالمقاطعة الشَّعبيَّة للبضاعة الأمريكيَّة، في دراسةٍ دقيقةٍ للحاجات الضَّروريَّة للشّعوب، مقارنةً بما لدى الدّول الأخرى في ما تملكه من الصَّناعات المتنوّعة.
ولا بدَّ من دعم الجميع للمقاومة، ولا سيَّما المقاومة الإسلاميَّة الَّتي تقف وحدها في خطِّ المواجهة الضَّاغط على العدوِّ، من أجل تحويل احتلاله إلى مأزق أمنيّ وسياسيّ، ولا بدَّ للشعوب العربيَّة والإسلاميَّة من أن تفكِّر في مقاومة متنوّعة الأبعاد، بحسب ظروفها وإمكاناتها، فإنَّ ذلك هو الَّذي يرتفع بالمرحلة إلى مستوى التحدّي وردِّ التحدّي.
العلاقاتُ السعوديَّةُ الإيرانيَّة
أمَّا على مستوى العلاقات العربيَّة الإيرانيَّة، فإنَّنا نرحِّب بالتقدّم المستمرّ للعلاقات السعودية الإيرانيَّة، حيث يمكن لهذه العلاقات الَّتي تتطوَّر باستمرار، أن تكون الجسر الَّذي تعبر عليه أكثر من دولة عربيَّة وإسلاميَّة للتَّعاون والوحدة بين هذه الدّول، وللوقوف في وجه الهيمنة الأمريكيَّة على ثروات المسلمين والعرب، وخصوصاً في الخليج، وللتصدّي للأخطار المحدقة الَّتي تتضاعف من خلال الاحتلال اليهودي لفلسطين وما حولها، والأطماع الصهيونية على مختلف الأصعدة الاقتصاديَّة والسياسيَّة.
التَّجربة النَّوويَّة الباكستانيَّة
وفي الدائرة الإسلاميَّة، فإنَّنا نتفهَّم التَّجربة النوويَّة الباكستانيَّة لما يسمَّى بالقنبلة الإسلاميَّة من أجل إيجاد التَّوازن مع الهند، لإبعاد الخطر الَّذي قد يتهدَّدها بالتجربة الهنديَّة النَّوويَّة، في الوقت الَّذي نعتقد أنَّ من الضَّروريّ العمل على مستوى دوليّ لحظر السِّلاح النَّوويّ المدمِّر للبشريَّة، ولا نجد في الاستنكار الأمريكيّ لذلك موقفاً صادقاً، لأنَّ أمريكا لا تحرِّك ساكناً ضدَّ إسرائيل الَّتي تملك ترسانةً كبيرةً من السِّلاح النَّوويّ، ولا تسمح أمريكا لأحدٍ بالحديث عنها. إنَّ من حقِّ الشّعوب الإسلاميَّة أن تملك كلَّ الأسلحة الَّتي تدافع بها عن استقلالها ومصالحها، فلا يجوز أن يكون حظر السِّلاح النَّوويّ مقتصراً عليها وحدها.
إبعادُ الانتخاباتِ عن الفتنة
أمَّا على المستوى اللّبنانيّ الدَّاخليّ، فإنَّنا نجدِّد دعوتنا الجميع إلى الارتفاع إلى مستوى المرحلة، في إبعاد السَّاحات السياسيَّة الشَّعبيَّة الانتخابيَّة عن أيّة فتنة، لأنَّ الفتنة في أيِّ موقع تحرق الجميع {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً}[الأنفال: 25].
إنَّنا نريد للّبنانيِّين أن ينطلقوا مع خطِّ الوعي السياسيّ والاجتماعيّ الَّذي يجعل خيارهم خاضعاً للمصالح العامَّة للنَّاس كافَّة، لا لألاعيب الكواليس السياسيَّة الَّتي قد لا تحسب حساب المرحلة الصَّعبة الَّتي يعيشها البلد والمنطقة في خطِّ التَّحدّيات الكبيرة.
لقد جرَّب الجميع الفتنة العمياء المدمِّرة على مستوى البلد كلِّه، أو على مستوى هذه المنطقة وتلك المنطقة، والَّتي لا نزال آثارها السَّلبيَّة في الأمن والاقتصاد والسياسة والاجتماع، والمؤمن لا يلدغ من جحر مرَّتين، وعلى المسؤولين أن لا يستغلّوا مرحلة الاستحقاق الانتخابي في إهمال المطالب الشَّعبيَّة على الصَّعيدين الاقتصاديّ والاجتماعيّ، وإجراء التسويات المتبادلة بين المواقع الرّسميَّة المسؤولة على حساب القضايا الشَّعبيّة العامَّة في تحالفاتٍ تستهدف المصالح الشَّخصيَّة لا الوطنيَّة.
الرِّهانُ على المُقاومة
وأخيراً، إنَّنا نرى في العمليَّات المستمرَّة للمقاومة الإسلاميَّة داخل المنطقة المحتلَّة، ولا سيَّما العمليَّة الأخيرة الَّتي انطلقت المواجهة فيها على بعد أمتار من الشَّريط الشَّائك على الحدود اللّبنانيَّة الفلسطينيَّة المحتلَّة، والَّتي أصابت من العدوِّ مقتلاً، دليلاً إضافيّاً على قدرة المقاومة على اختراق كلِّ الأساليب الجديدة الَّتي حاول العدوّ من خلالها أن يمنع المجاهدين من الوصول إلى داخل المنطقة المحتلَّة للنَّيل من جنوده وعملائه.
إنَّ ذلك يؤكِّد مرَّةً أخرى أنَّ الرّهان على المقاومة هو رهان حيّ واقعيّ، ويضع الجميع أمام مسؤوليَّاتهم في ضرورة دعمها بكلِّ الإمكانات الماديَّة والمعنويّة المتاحة.
والحمد له ربِّ العالمين.
*خطبة الجمعة لسماحته، بتاريخ: 29/05/1998م.