مواجهة تحدّيات الواقع بروحيّة التّقوى

مواجهة تحدّيات الواقع بروحيّة التّقوى

ألقى سماحة العلامة السيّد محمد حسين فضل الله خطبة الجمعة من على منبر مسجد الإمام الرضا(ع) في بئر العبد، بتاريخ: 14 صفر 1437هـ/ الموافق: 7 نيسان 1989م، بحضور حشدٍ من المؤمنين، وقد جاء فيها:

قال الله تعالى في كتابه المجيد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[1]، وقال: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ}[2].

التَّقوى في الصَّوم

في هذا اليوم الَّذي نبدأ فيه الشَّهر المبارك، نقوم بفريضةٍ من الفرائض الّتي أوجبها الله على عباده ممن يطيق الصَّوم ولا يمنعه من ذلك مرض ولا سفر.. ليؤكِّد الإنسان من خلال ذلك الانفتاح بإرادته على الله، وصلابة موقفه أمام الأمور الّتي تفرضها عليه شهوته أو حاجته أو طريقته اليوميَّة فيما يعيشه الإنسان من عاداتٍ يوميَّة..

كتب الله عليكم الصِّيام لتعيشوا التَّقوى، والتّقوى حالة داخليَّة، بأن تخاف الله فتقف عند حدوده، وتصوم لتكون التَّقيّ، فإذا صمت ولم تكن التقيّ، فلا قيمة لصيامك.

لهذا، لا بدَّ من أن تصوموا صوماً واعياً ينفتح على كلِّ الإسلام الَّذي أراد الله لكم أن تطبّقوه في كلِّ حياتكم الفرديّة والاجتماعيّة، وأن تعملوا ليكون الإسلام كلّ همّكم وفكركم وتطلّعاتكم في هذه الحياة. وعلى هذا الأساس، نفهم أنَّ هناك صوماً عباديّاً وصوماً سياسيّاً، فلكلّ شيءٍ في حياتنا صومه الَّذي ينبغي للإنسان أن يلتزمه، لأنَّ لكلِّ شيء في حياتنا خطّين: خطّاً يلزمنا ببعض الأشياء، وخطّاً يحرّم علينا بعض الأشياء..

الصّوم الاجتماعيّ

والصّوم على المستوى الاجتماعيّ، هو أن تصوموا عن كلِّ الأوضاع الاجتماعيَّة الَّتي أخذها المجتمع من التَّاريخ أو من الواقع المعاصر مما لا يرضاه الله، فمعنى أن تكون جزءاً من المجتمع، ليس أن تندمج فيه، وتسير حيث يسير، وتقف حيث يقف، بل إنَّ كونك جزءاً من المجتمع، يعني أن تمارس عمليَّة التَّغيير فيه بما يريد الله.

فلو كان مجتمعك يرفض حكماً شرعيّاً، لأنَّ الأجواء العصرية التي أتى بها الكفر والاستعمار لا يريدها، وإذا أنكر عليك مجتمعك حكماً أراد الله لك أن تلتزمه، فعليك أن ترفض المجتمع، وأن لا تقول أنا جزء من العائلة، وعليَّ أن أمشي كما تمشي بقيَّة العائلة، أو أنا جزء من أهل هذه الطّائفة، وعليَّ أن أسير كما تسير الطائفة: "إنّما هما نجدان؛ نجد خير ونجد شرّ، فلا يكن نجد الشّرّ أحبَّ إليكم من نجد الخير"[3]، فإذا ذهب المجتمع إلى الشَّيطان، قف وحدك مع المجتمع.

الصَّوم السياسيّ

وهكذا نحتاج إلى أن نصوم صوماً سياسيّاً. وقد يستغرب البعض أن تكون هناك علاقة بين الصّوم والسياسة! ولكن ما هي السياسة؟ إنها إدارة شؤون النّاس، وهي تمثل حركة المحكوم مع الحاكم والعكس، وحركة المستكبرين مع المستضعفين والعكس، وحركة المستضعفين مع بعضهم البعض، كيف يكون هناك صوم سياسيّ؟ عندما يقول لك الله لا تؤيِّد الحاكم الجائر، يعني صم عن تأييد الحاكم السياسي الجائر، وقل: يا نفس، لقد صمت عن الطّعام والشّراب لأنّ الله يريد ذلك، وعليك أن تصومي عن تأييد الظّالمين لأنّ الله يريد ذلك، وهكذا الأمر أيضاً عندما يدعوك إنسان من المخابرات المركزيَّة الأميركيَّة أو الرسميَّة اللّبنانيَّة أو الحزبيَّة أو الإقليميَّة أو غير ذلك.

وإذا أراد الناس منك أن تكون جاسوساً، وقيل لك هذه الأموال بين يديك، أعطنا خبراً عن الجهة الفلانيَّة وعندك ما تشتهيه مما تريده، قل إني صائم؛ صائم عن التجسّس، ومن الخيانة الكبيرة أن أتجسَّس على المؤمنين، لأنَّ الله قال: {وَلَا تَجَسَّسُوا...}[4].

وهكذا إذا أراد منك إنسانٌ أن تخون دينك أو أهلك أو الله والرّسول، وحاول أن يغريك بإغراءات المال والشَّهوات، فقل: يا قوم، إنّي صائم لأنَّ الله قال: {إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً}[5].

وهكذا إذا أريد منك أن تؤيِّد كافراً يدعو إلى الكفر، وضالاًّ يتحرَّك في خطِّ الضَّلال، ممن يعملون بعنوان أنَّهم مسلمون، ولكنَّهم يعملون على أن يمكّنوا غير المسلمين من السيطرة على المسلمين، فقل إني صائم، لأنَّ الله يقول: {وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ}[6].

هكذا نفهم الصّوم السّياسيّ؛ أن تصوم عن كلِّ الأمور السيِّئة فيما هي عزّة المسلمين والأمان للناس كلِّهم، وعليك أن تصوم عمّا يبعدك عن الله. وهكذا، إنّ الَّذين يصومون عن الطّعام والشَّراب في شهر رمضان، ولكنَّهم يخدمون المستكبرين، ويمكّنونهم من المستضعفين، إنّ هؤلاء لا قيمة لصيامهم.

بعض النّاس كانوا يتحدَّثون عن الزعماء في الماضي، وأنَّ هذا الزّعيم يصلّي وذاك يصوم... ولكنَّه يقتل النّاس بغير حقّ، ويخون الله ورسوله في علاقاته السياسية، وقد قالها أحد أئمَّة أهل البيت(ع)، إذا أردتم أن تعرفوا الرَّجل، فلا تنظروا إلى طول ركوعه وسجوده، فلعلَّها عادة اعتداها، ولكن اختبروه بصدق الحديث وأداء الأمانة.

التحرّك في خطِّ الإسلام

لهذا إذا أردتم أن يتقبَّل الله صيامكم، فليكن صيامكم حركةً في اتّجاه التّقوى. في هذا الخطِّ، يجب أن نفهم الصَّوم على أساس أنَّه طريقٌ للتّقوى.. علينا أن نقول لكلِّ النّاس، إنّا لا نحلّ إلا ما أحلّ الله، ولا نلتزم إلا بالقرآن فكراً ومنهجاً، ولو أرادت كلّ القوانين غير ذلك.. ومن خلال ذلك، إذا عشنا الصَّوم وعياً لحركة الإسلام، عند ذلك تستقيم لنا الحياة على خطِّ الإسلام، وتستقيم لنا الحركة على شريعة الله، وعند ذلك نعرف كيف نتحاور إذا اختلفنا، وكيف نتوافق إذا التقينا، حتّى تكون وحدتنا من خلال القرآن، وإذا أراد القرآن منّا أن نتعايش مع الذين يختلفون معنا في الفكر والدّين، فليكن من خلاله.

وبالقرآن نكتشف كيف نواجه الحياة والواقع، وكيف نثبت في مواقع الزّلزال، وكيف ندرس الواقع كلَّه من خلال ما نستطيع أن نتعرَّف إليه من آفاق الواقع، لنفهم أنَّ الإسلام يرفض الاستكبار كلَّه والمستكبرين كلَّهم والكفر كلَّه والكافرين كلَّهم، وأنَّ الإسلام يعمل على أساس أن لا يكون هناك ظلم في العالم، ولهذا علينا أن نجعل عواطفنا في خدمة عقولنا.

لا بدَّ من أن نرصد المسألة كلَّها، فإذا وقفت أمام مستكبرٍ يريد أن يفرض استكباره على المستضعفين، فلا تتجاوب معه بعاطفتك وعقلك. وعلى هذا الأساس، نريد أن نحدِّد مواقفنا دائماً من خلال ما يتحرّك في العالم في الخطِّ السّياسيّ الّذي ينعكس سلباً وإيجاباً على واقعنا كمسلمين ومستضعفين.

ضوابط العلاقة مع أميركا

ففي الدّائرة الدّوليَّة، علينا أن نرصد خطَّ الدّول المستكبرة السياسيّ، لنعرف كيف نحدِّد مواقفنا السياسيّة في قضايانا، وعندما نواجه المسألة الأميركيَّة في العالم، فإنّنا نلاحظ أنَّ الخطّ العريض للسّياسة الأميركيّة في العالم، هو السّيطرة على العالم كلّه، بحيث إنَّ أميركا تفكِّر في كلِّ إداراتها، في أن يكون العالم ساحةً لمصالحها، فالمصلحة الأميركيّة أوّلاً، ثم بعد ذلك تنظر في مصالح العالم بقدر قربها أو بعدها من السياسة الأميركيَّة..

لهذا، نحن لا نستطيع من خلال دراستنا للسياسة الأميركيَّة أن نتعاطف مع هذه السياسة، وربما تفرض علينا مصالحنا أن نتعامل معها أو ننشئ علاقات معها، لكن أن ننشئها بضوابط أساسيَّة لا تسيء إلى حريتنا. وقديماً قلنا بأنَّنا لسنا ضدّ الشَّعب الأميركيّ، ولكنَّنا ضدّ الإدارة الأميركيّة التي تعمل للسيطرة على مقدِّرات الشَّعب.

ولهذا، نحن نرفض أن تكون علاقتنا علاقةً جيّدة بالدّولة الّتي تمثّل هذه السياسة، وعلى هذا، نحن ضد كلّ الطّروحات السّياسيّة على مستوى لبنان والمنطقة والعالم، والّتي تقول إنَّ علينا أن نعمل على أن نثير اهتمامات أميركا بنا لتحلَّ لنا المشكلة، لأنّنا نعرف أنَّ أميركا لا تحلّ المسألة اللّبنانية لحساب اللّبنانيين، ولا تحلّ المشكلة العربيّة لحساب العرب، ولكنها تعمل على حلّ المشكلة من خلال مصلحتها ومصلحة المستكبرين.

وبذلك، فإنها تحلّ المشكلة من هنا، وتثير أمامنا مشاكل كثيرة هناك. وعلى هذا الأساس، كنّا ضدّ أن تقدَّم التنازلات لأميركا من قبل كلّ العرب ومنظَّمة التحرير الفلسطينيّة، لأننا نعرف أنّ أميركا هي الراعية لإسرائيل بكلّ أوضاعها.

المراهنة على سياسة التعب!

وفي بعض الحالات، تقدِّم أميركا مصلحة إسرائيل على بعض مصالحها، لأنها تلتزم أمن إسرائيل التزاماً مطلقاً، وعندما تبيع كلَّ دول الخليج سلاحاً، فإنَّ الشرط الأساس أن لا تستخدم ضدّ إسرائيل.. وهكذا نرى الآن المشكلة الّتي تدور بين بريطانيا وأميركا والاتحاد السوفياتي، لأنَّ الاتحاد السوفياتي باع ليبيا عدّة طائرات يمكن أن تصل خطورتها إلى إسرائيل، أمّا أن يكون عند إسرائيل قنبلة ذرية وأسلحة تهدّد بها كلّ المنطقة، فلا مشكلة..

الآن مثلاً، قدّمت منظّمة التَّحرير لأميركا تنازلاً، لتحاورها من خلال اعترافها بإسرائيل، ولكنَّ أميركا من خلال اجتماع رئيسها برئيس الكيان الصّهيونيّ، تبنَّت التفكير الإسرائيليّ، ورفضت الدّولة المستقلّة، وتبنّت مسألة الانتخابات..

إنَّ أميركا تتبنّى التّفكير الإسرائيلي بعد أن قدَّم لها العرب دمهم في كلِّ التّنازلات، وهي تعمل على أن تحلَّ مشكلة إسرائيل، ولا تعمل على أن تحلَّ للفلسطينيّين والعرب مشكلتهم. ولهذا علينا أن نفكّر بوعيٍ ولا نفكّر في سياسة التعب، لأنّنا لن نرتاح من المشاكل، وإذا حُلّت مشكلة هنا، خلقت لنا مشاكل هناك.. وسياسة التَّعب هي الّتي يراهن عليها كلّ المستكبرين.

ونلاحظ الآن الوضع في أفغانستان بعد الانسحاب السوفياتي، حيث تعمل أميركا بواسطة بعض الدّول الّتي تسير في الفلك الأميركي، لأن تنقل أفغانستان من أن تكون دولةً تابعةً للسياسة السوفياتيّة، إلى أن تكون تابعةً للسياسة الأميركيّة، وقد عملت لإيجاد وضعٍ مذهبيٍّ بين المجاهدين، بحيث أصبح وضعهم أصعب من الأوّل، وهكذا نجد أنها حاولت أن تحلّ المشكلة الأفغانيّة، ولكن لحساب المصالح الأميركيّة.

التَّعاطي الفرنسيّ مع لبنان

ونحن الآن في لبنان، في وضع الدَّولة التي لا تتحرَّك بشكلٍ فاعل، ففرنسا مشغولة عنه بمسألة الشَّرق الأوسط، وهي تعتبر المسألة اللّبنانيَّة في الدَّرجة الثَّانية، ولكنَّها تحركها وتؤخِّرها على طريقة تقطيع الوقت بالمبادرات، ريثما تفرغ أميركا من شحن المسألة اللّبنانيَّة على طريقتها.

ولهذا، فإنَّ الواقع في لبنان لا يزال يراوح مكانه، ويعيش في دائرة المشاكل الّتي أثيرت فيه، وحتى مسألة هذه الحرائق التي أثيرت في المرحلة الأخيرة، ومحاولة هذا الرجل (عون)، الذي عمل على أن يتاجر بحياة الشعب اللّبناني تحت عناوين لا واقعيَّة لها؛ هذه الحرائق كانت حرائق مضبوطة حتى في فوضاها. ولذلك عندما بدأت تتقدّم لتتجاوز الخطوط الحمر، ضبطت بقدرة قادر، وإذا حصلت بعض الخروقات، فهي خروقات مدروسة للوصول إلى بعض النّتائج وبعض الحلول، ويراد منها إيجاد بعض الأجواء الّتي تتدخَّل في حلِّ المشكلة الأمنيّة لا السّياسيّة، ونلاحظ في هذا الجوّ ظاهرةً جديدةً، هي الظّاهرة الفرنسيَّة في تعاملها مع هذه الأزمة اللّبنانيّة منذ البداية وحتى الآن.

لم تقف فرنسا بشكلٍ قويٍّ أو فاعلٍ على مستوى مسؤوليها أو مثقَّفيها الّذين يتحدَّثون باللّغة الإنسانيَّة، الوقفة الصَّلبة عندما اجتاحت إسرائيل لبنان، وعندما قصفت الضَّاحية قصفاً مدمّراً، أو عندما كان الناس يقصفون في المناطق الإسلاميّة. قد تكون هناك تصريحات توحي بالأسف، لكن لم نشعر بأنّ الفرنسيّين، شعباً ومسؤولين، يقفون ليستنكروا الأعمال اللاإنسانيَّة التي كانت تمارس من قبل إسرائيل والمارونيّة السّياسيّة.

تعرف فرنسا أنَّ هناك وضعاً يعاني فيه المسلَّحون في لبنان وبعض المسيحيّين المستضعفين منذ أن انطلقت الدّولة اللّبنانيّة، بحيث إنَّ المسألة على مستوى الحكم ليست مسألة إنسانيَّة، وإنَّ هناك عملاً دائماً في إبقاء هذه الامتيازات بعنوان تأمين المسيحيين من الخوف. ولم تستنكر فرنسا هذا التمييز الَّذي يشبه التمييز العنصريّ، ولكن عندما حدثت مشكلة في زحلة، انطلقت فرنسا ـ ديستان، وأرسلوا طائرات لنقل الجرحى، واستنكروا الوضع كلَّه.

عنصريّة فرنسيّة

إنّ آلان متيران رئيس حزب اشتراكيّ علماني، وفرنسا دولة علمانيّة، وهو يتحدث عن حماية المسيحيّين والأقلّيات، وعن الدّمار الذي حدث هناك، وأنّ بلاده لا ترضى عن كلّ هذا الدّمار، ولكنّهم لا يتحدّثون عن الدّمار هنا أو عن قصف المستشفيات، فهناك قصف للمستشفيات بشكل متعمَّد، وهناك قصف للمدنيّين بشكل متعمّد، فمستشفى الرسول الأعظم قصف بحوالى 60 قذيفة، وكذلك مستشفى الجامعة الأميركيّة وغيرهما.

هل عادت فرنسا لحماية الأقلّيات؟ وهل المسألة كذلك؟ وهل معنى ذلك أنَّ فرنسا تتدخَّل لتكون لطائفة ضدّ طائفة؟ ماذا عن المسلمين الّذين يدمِّرون؟ نحن لا نتحدَّث بلغة طائفيّة، ولكنَّ فرنسا لا تزال تحنّ إلى مواقع الدَّولة الكبرى، وهي لا تستطيع دخول لبنان من خلال العناوين الحضاريَّة، بل من خلال العقليّة العنصريّة.

وهذا ما انطلق في حرب الخليج، حيث نشرت بعض التَّقارير أثناءها أنَّ حرب الخليج قد تصنع جوّاً إسلاميّاً كبيراً، وانطلق أحد المسؤولين الفرنسيّين إلى العراق، وانطلقت فرنسا منذ ذلك الوقت لدعم العراق ضدّ الإسلام.

إنَّهم يحملون عصبيَّة ضدّ الإسلام، بالرغم من أنَّ الإسلام يمثِّل الدين الثّاني في فرنسا، وهناك 4 ملايين مسلم في فرنسا. إنّنا الآن أمام هذه اللّعبة التي نعرف أنَّ المغامرين في لبنان لا يستفيدون منها، لأنَّ فرنسا تشتغل كأداة من أدوات اللّعبة الأميركيَّة التي لا تسمح لها بأن يكون لها دور كبير في لبنان، مهما اشتدّ الصّراخ وعلت الكلمات.

إنَّ أميركا ـ أو حتى فرنسا ـ تعمل على أن تنظّم اللجنة العربية لإخراج المارونيّة السياسيّة من المأزق، وذلك بمحاولة وقف إطلاق النّار بالطّريقة التي تحفظ فيها المارونيّة السياسيّة ماء وجهها. أمّا التحرك السياسي نحو مجلس الأمن، فهذه الأمور كلّها مؤجّلة، والقصة لا تزال قصة اللّعب بالنار وقصّة المغامرين الذين أحرقوا الشّعب اللّبناني من مسيحيّين ومسلمين بمغامراتهم وطموحاتهم التي لا تملك أيّة واقعيّة.

لرصد اللّعبة السياسيّة

إنّ علينا أن نبقى مع قضايانا وأن لا نتعب، لأنَّ هناك عملاً يراد من خلاله إحراق كلّ المراحل التي بلغها المسلمون في لبنان، ولا بدَّ لنا من وقفة واحدة ترصد خفايا حركة اللّعبة السياسيّة الدوليّة والإقليميّة، وترصد العامل الإسرائيليّ الّذي يتحرَّك بكلّ قوَّة في المسألة. وهناك كلام يقال بأنَّ قائد ما يسمّى بجيش لبنان الجنوبي، لا يزال يجول في المنطقة الشرقيّة ليجتمع بقائد ما يسمّى بالحكومة العسكريّة، لينسّق معه ضدّ كلّ هذا الخطّ الّذي يرفض المارونيّة السياسيّة والصهيونيّة.

إنَّ هناك تنسيقاً دقيقاً بينه وبين هذا الجيش الّذي أثبت أنه جيش الطائفة لا جيش لبنان؛ إنّ الجيش الّذي قصف الضّاحية سابقاً، والغربيّة مؤخَّراً، ليس جديراً بأن يكون جيش لبنان، ونحن كنّا نقول دائماً إنّ مسألة الحوار تنطلق عندما تكفّ الحالة الإسرائيليّة عن أن تفرض نفسها على المارونيّة السياسيّة، وإذا كانت المارونيّة السياسيّة قد تغطَّت بين المحاور العربيّة، فلا بدّ من كشفها.

إنّنا نحاور كلّ الناس، والمسيحيّون خصوصاً، ونحن محكومون بالحوار، ولكنّ الّذين يطلقون الحوار ليسوا جادّين، لأنَّ لعبة التزامن بين الإصلاحات والانتخابات أو التقدّم إليها، لا تطرح في السّاحة الواقعيَّة، لأنّنا إذا كنّا مقتنعين بالإصلاحات فيها، فلا معنى لأن تقدّم أو لا تقدّم على الانتخابات.

إنَّها لعبة مستمرّة للحفاظ على امتيازات المارونيَّة السياسيَّة، وهناك عمل للتّنسيق بين المارونيَّة السياسيّة هنا، والمارونيّة السياسيّة في الشّريط الحدودي، ونحن نرفض هذا التّنسيق، ونحن مع كلّ الّذين يرفضون هذا الخطّ، ونقول لهم إنَّ اللّعب بالنَّار لا يحرق الّذين توجّه إليهم النّار دائماً، بل قد يحرق الّذين يثيرون الحرب ثم يهربون منها.


[1]  [البقرة: 183].

[2]  [البقرة: 185].

[3]  تحف العقول، ابن شعبة الحراني، ص 413.

[4]  [الحجرات: 12].

[5]  [النّساء: 107].

[6]  [هود: 113].

ألقى سماحة العلامة السيّد محمد حسين فضل الله خطبة الجمعة من على منبر مسجد الإمام الرضا(ع) في بئر العبد، بتاريخ: 14 صفر 1437هـ/ الموافق: 7 نيسان 1989م، بحضور حشدٍ من المؤمنين، وقد جاء فيها:

قال الله تعالى في كتابه المجيد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[1]، وقال: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ}[2].

التَّقوى في الصَّوم

في هذا اليوم الَّذي نبدأ فيه الشَّهر المبارك، نقوم بفريضةٍ من الفرائض الّتي أوجبها الله على عباده ممن يطيق الصَّوم ولا يمنعه من ذلك مرض ولا سفر.. ليؤكِّد الإنسان من خلال ذلك الانفتاح بإرادته على الله، وصلابة موقفه أمام الأمور الّتي تفرضها عليه شهوته أو حاجته أو طريقته اليوميَّة فيما يعيشه الإنسان من عاداتٍ يوميَّة..

كتب الله عليكم الصِّيام لتعيشوا التَّقوى، والتّقوى حالة داخليَّة، بأن تخاف الله فتقف عند حدوده، وتصوم لتكون التَّقيّ، فإذا صمت ولم تكن التقيّ، فلا قيمة لصيامك.

لهذا، لا بدَّ من أن تصوموا صوماً واعياً ينفتح على كلِّ الإسلام الَّذي أراد الله لكم أن تطبّقوه في كلِّ حياتكم الفرديّة والاجتماعيّة، وأن تعملوا ليكون الإسلام كلّ همّكم وفكركم وتطلّعاتكم في هذه الحياة. وعلى هذا الأساس، نفهم أنَّ هناك صوماً عباديّاً وصوماً سياسيّاً، فلكلّ شيءٍ في حياتنا صومه الَّذي ينبغي للإنسان أن يلتزمه، لأنَّ لكلِّ شيء في حياتنا خطّين: خطّاً يلزمنا ببعض الأشياء، وخطّاً يحرّم علينا بعض الأشياء..

الصّوم الاجتماعيّ

والصّوم على المستوى الاجتماعيّ، هو أن تصوموا عن كلِّ الأوضاع الاجتماعيَّة الَّتي أخذها المجتمع من التَّاريخ أو من الواقع المعاصر مما لا يرضاه الله، فمعنى أن تكون جزءاً من المجتمع، ليس أن تندمج فيه، وتسير حيث يسير، وتقف حيث يقف، بل إنَّ كونك جزءاً من المجتمع، يعني أن تمارس عمليَّة التَّغيير فيه بما يريد الله.

فلو كان مجتمعك يرفض حكماً شرعيّاً، لأنَّ الأجواء العصرية التي أتى بها الكفر والاستعمار لا يريدها، وإذا أنكر عليك مجتمعك حكماً أراد الله لك أن تلتزمه، فعليك أن ترفض المجتمع، وأن لا تقول أنا جزء من العائلة، وعليَّ أن أمشي كما تمشي بقيَّة العائلة، أو أنا جزء من أهل هذه الطّائفة، وعليَّ أن أسير كما تسير الطائفة: "إنّما هما نجدان؛ نجد خير ونجد شرّ، فلا يكن نجد الشّرّ أحبَّ إليكم من نجد الخير"[3]، فإذا ذهب المجتمع إلى الشَّيطان، قف وحدك مع المجتمع.

الصَّوم السياسيّ

وهكذا نحتاج إلى أن نصوم صوماً سياسيّاً. وقد يستغرب البعض أن تكون هناك علاقة بين الصّوم والسياسة! ولكن ما هي السياسة؟ إنها إدارة شؤون النّاس، وهي تمثل حركة المحكوم مع الحاكم والعكس، وحركة المستكبرين مع المستضعفين والعكس، وحركة المستضعفين مع بعضهم البعض، كيف يكون هناك صوم سياسيّ؟ عندما يقول لك الله لا تؤيِّد الحاكم الجائر، يعني صم عن تأييد الحاكم السياسي الجائر، وقل: يا نفس، لقد صمت عن الطّعام والشّراب لأنّ الله يريد ذلك، وعليك أن تصومي عن تأييد الظّالمين لأنّ الله يريد ذلك، وهكذا الأمر أيضاً عندما يدعوك إنسان من المخابرات المركزيَّة الأميركيَّة أو الرسميَّة اللّبنانيَّة أو الحزبيَّة أو الإقليميَّة أو غير ذلك.

وإذا أراد الناس منك أن تكون جاسوساً، وقيل لك هذه الأموال بين يديك، أعطنا خبراً عن الجهة الفلانيَّة وعندك ما تشتهيه مما تريده، قل إني صائم؛ صائم عن التجسّس، ومن الخيانة الكبيرة أن أتجسَّس على المؤمنين، لأنَّ الله قال: {وَلَا تَجَسَّسُوا...}[4].

وهكذا إذا أراد منك إنسانٌ أن تخون دينك أو أهلك أو الله والرّسول، وحاول أن يغريك بإغراءات المال والشَّهوات، فقل: يا قوم، إنّي صائم لأنَّ الله قال: {إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً}[5].

وهكذا إذا أريد منك أن تؤيِّد كافراً يدعو إلى الكفر، وضالاًّ يتحرَّك في خطِّ الضَّلال، ممن يعملون بعنوان أنَّهم مسلمون، ولكنَّهم يعملون على أن يمكّنوا غير المسلمين من السيطرة على المسلمين، فقل إني صائم، لأنَّ الله يقول: {وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ}[6].

هكذا نفهم الصّوم السّياسيّ؛ أن تصوم عن كلِّ الأمور السيِّئة فيما هي عزّة المسلمين والأمان للناس كلِّهم، وعليك أن تصوم عمّا يبعدك عن الله. وهكذا، إنّ الَّذين يصومون عن الطّعام والشَّراب في شهر رمضان، ولكنَّهم يخدمون المستكبرين، ويمكّنونهم من المستضعفين، إنّ هؤلاء لا قيمة لصيامهم.

بعض النّاس كانوا يتحدَّثون عن الزعماء في الماضي، وأنَّ هذا الزّعيم يصلّي وذاك يصوم... ولكنَّه يقتل النّاس بغير حقّ، ويخون الله ورسوله في علاقاته السياسية، وقد قالها أحد أئمَّة أهل البيت(ع)، إذا أردتم أن تعرفوا الرَّجل، فلا تنظروا إلى طول ركوعه وسجوده، فلعلَّها عادة اعتداها، ولكن اختبروه بصدق الحديث وأداء الأمانة.

التحرّك في خطِّ الإسلام

لهذا إذا أردتم أن يتقبَّل الله صيامكم، فليكن صيامكم حركةً في اتّجاه التّقوى. في هذا الخطِّ، يجب أن نفهم الصَّوم على أساس أنَّه طريقٌ للتّقوى.. علينا أن نقول لكلِّ النّاس، إنّا لا نحلّ إلا ما أحلّ الله، ولا نلتزم إلا بالقرآن فكراً ومنهجاً، ولو أرادت كلّ القوانين غير ذلك.. ومن خلال ذلك، إذا عشنا الصَّوم وعياً لحركة الإسلام، عند ذلك تستقيم لنا الحياة على خطِّ الإسلام، وتستقيم لنا الحركة على شريعة الله، وعند ذلك نعرف كيف نتحاور إذا اختلفنا، وكيف نتوافق إذا التقينا، حتّى تكون وحدتنا من خلال القرآن، وإذا أراد القرآن منّا أن نتعايش مع الذين يختلفون معنا في الفكر والدّين، فليكن من خلاله.

وبالقرآن نكتشف كيف نواجه الحياة والواقع، وكيف نثبت في مواقع الزّلزال، وكيف ندرس الواقع كلَّه من خلال ما نستطيع أن نتعرَّف إليه من آفاق الواقع، لنفهم أنَّ الإسلام يرفض الاستكبار كلَّه والمستكبرين كلَّهم والكفر كلَّه والكافرين كلَّهم، وأنَّ الإسلام يعمل على أساس أن لا يكون هناك ظلم في العالم، ولهذا علينا أن نجعل عواطفنا في خدمة عقولنا.

لا بدَّ من أن نرصد المسألة كلَّها، فإذا وقفت أمام مستكبرٍ يريد أن يفرض استكباره على المستضعفين، فلا تتجاوب معه بعاطفتك وعقلك. وعلى هذا الأساس، نريد أن نحدِّد مواقفنا دائماً من خلال ما يتحرّك في العالم في الخطِّ السّياسيّ الّذي ينعكس سلباً وإيجاباً على واقعنا كمسلمين ومستضعفين.

ضوابط العلاقة مع أميركا

ففي الدّائرة الدّوليَّة، علينا أن نرصد خطَّ الدّول المستكبرة السياسيّ، لنعرف كيف نحدِّد مواقفنا السياسيّة في قضايانا، وعندما نواجه المسألة الأميركيَّة في العالم، فإنّنا نلاحظ أنَّ الخطّ العريض للسّياسة الأميركيّة في العالم، هو السّيطرة على العالم كلّه، بحيث إنَّ أميركا تفكِّر في كلِّ إداراتها، في أن يكون العالم ساحةً لمصالحها، فالمصلحة الأميركيّة أوّلاً، ثم بعد ذلك تنظر في مصالح العالم بقدر قربها أو بعدها من السياسة الأميركيَّة..

لهذا، نحن لا نستطيع من خلال دراستنا للسياسة الأميركيَّة أن نتعاطف مع هذه السياسة، وربما تفرض علينا مصالحنا أن نتعامل معها أو ننشئ علاقات معها، لكن أن ننشئها بضوابط أساسيَّة لا تسيء إلى حريتنا. وقديماً قلنا بأنَّنا لسنا ضدّ الشَّعب الأميركيّ، ولكنَّنا ضدّ الإدارة الأميركيّة التي تعمل للسيطرة على مقدِّرات الشَّعب.

ولهذا، نحن نرفض أن تكون علاقتنا علاقةً جيّدة بالدّولة الّتي تمثّل هذه السياسة، وعلى هذا، نحن ضد كلّ الطّروحات السّياسيّة على مستوى لبنان والمنطقة والعالم، والّتي تقول إنَّ علينا أن نعمل على أن نثير اهتمامات أميركا بنا لتحلَّ لنا المشكلة، لأنّنا نعرف أنَّ أميركا لا تحلّ المسألة اللّبنانية لحساب اللّبنانيين، ولا تحلّ المشكلة العربيّة لحساب العرب، ولكنها تعمل على حلّ المشكلة من خلال مصلحتها ومصلحة المستكبرين.

وبذلك، فإنها تحلّ المشكلة من هنا، وتثير أمامنا مشاكل كثيرة هناك. وعلى هذا الأساس، كنّا ضدّ أن تقدَّم التنازلات لأميركا من قبل كلّ العرب ومنظَّمة التحرير الفلسطينيّة، لأننا نعرف أنّ أميركا هي الراعية لإسرائيل بكلّ أوضاعها.

المراهنة على سياسة التعب!

وفي بعض الحالات، تقدِّم أميركا مصلحة إسرائيل على بعض مصالحها، لأنها تلتزم أمن إسرائيل التزاماً مطلقاً، وعندما تبيع كلَّ دول الخليج سلاحاً، فإنَّ الشرط الأساس أن لا تستخدم ضدّ إسرائيل.. وهكذا نرى الآن المشكلة الّتي تدور بين بريطانيا وأميركا والاتحاد السوفياتي، لأنَّ الاتحاد السوفياتي باع ليبيا عدّة طائرات يمكن أن تصل خطورتها إلى إسرائيل، أمّا أن يكون عند إسرائيل قنبلة ذرية وأسلحة تهدّد بها كلّ المنطقة، فلا مشكلة..

الآن مثلاً، قدّمت منظّمة التَّحرير لأميركا تنازلاً، لتحاورها من خلال اعترافها بإسرائيل، ولكنَّ أميركا من خلال اجتماع رئيسها برئيس الكيان الصّهيونيّ، تبنَّت التفكير الإسرائيليّ، ورفضت الدّولة المستقلّة، وتبنّت مسألة الانتخابات..

إنَّ أميركا تتبنّى التّفكير الإسرائيلي بعد أن قدَّم لها العرب دمهم في كلِّ التّنازلات، وهي تعمل على أن تحلَّ مشكلة إسرائيل، ولا تعمل على أن تحلَّ للفلسطينيّين والعرب مشكلتهم. ولهذا علينا أن نفكّر بوعيٍ ولا نفكّر في سياسة التعب، لأنّنا لن نرتاح من المشاكل، وإذا حُلّت مشكلة هنا، خلقت لنا مشاكل هناك.. وسياسة التَّعب هي الّتي يراهن عليها كلّ المستكبرين.

ونلاحظ الآن الوضع في أفغانستان بعد الانسحاب السوفياتي، حيث تعمل أميركا بواسطة بعض الدّول الّتي تسير في الفلك الأميركي، لأن تنقل أفغانستان من أن تكون دولةً تابعةً للسياسة السوفياتيّة، إلى أن تكون تابعةً للسياسة الأميركيّة، وقد عملت لإيجاد وضعٍ مذهبيٍّ بين المجاهدين، بحيث أصبح وضعهم أصعب من الأوّل، وهكذا نجد أنها حاولت أن تحلّ المشكلة الأفغانيّة، ولكن لحساب المصالح الأميركيّة.

التَّعاطي الفرنسيّ مع لبنان

ونحن الآن في لبنان، في وضع الدَّولة التي لا تتحرَّك بشكلٍ فاعل، ففرنسا مشغولة عنه بمسألة الشَّرق الأوسط، وهي تعتبر المسألة اللّبنانيَّة في الدَّرجة الثَّانية، ولكنَّها تحركها وتؤخِّرها على طريقة تقطيع الوقت بالمبادرات، ريثما تفرغ أميركا من شحن المسألة اللّبنانيَّة على طريقتها.

ولهذا، فإنَّ الواقع في لبنان لا يزال يراوح مكانه، ويعيش في دائرة المشاكل الّتي أثيرت فيه، وحتى مسألة هذه الحرائق التي أثيرت في المرحلة الأخيرة، ومحاولة هذا الرجل (عون)، الذي عمل على أن يتاجر بحياة الشعب اللّبناني تحت عناوين لا واقعيَّة لها؛ هذه الحرائق كانت حرائق مضبوطة حتى في فوضاها. ولذلك عندما بدأت تتقدّم لتتجاوز الخطوط الحمر، ضبطت بقدرة قادر، وإذا حصلت بعض الخروقات، فهي خروقات مدروسة للوصول إلى بعض النّتائج وبعض الحلول، ويراد منها إيجاد بعض الأجواء الّتي تتدخَّل في حلِّ المشكلة الأمنيّة لا السّياسيّة، ونلاحظ في هذا الجوّ ظاهرةً جديدةً، هي الظّاهرة الفرنسيَّة في تعاملها مع هذه الأزمة اللّبنانيّة منذ البداية وحتى الآن.

لم تقف فرنسا بشكلٍ قويٍّ أو فاعلٍ على مستوى مسؤوليها أو مثقَّفيها الّذين يتحدَّثون باللّغة الإنسانيَّة، الوقفة الصَّلبة عندما اجتاحت إسرائيل لبنان، وعندما قصفت الضَّاحية قصفاً مدمّراً، أو عندما كان الناس يقصفون في المناطق الإسلاميّة. قد تكون هناك تصريحات توحي بالأسف، لكن لم نشعر بأنّ الفرنسيّين، شعباً ومسؤولين، يقفون ليستنكروا الأعمال اللاإنسانيَّة التي كانت تمارس من قبل إسرائيل والمارونيّة السّياسيّة.

تعرف فرنسا أنَّ هناك وضعاً يعاني فيه المسلَّحون في لبنان وبعض المسيحيّين المستضعفين منذ أن انطلقت الدّولة اللّبنانيّة، بحيث إنَّ المسألة على مستوى الحكم ليست مسألة إنسانيَّة، وإنَّ هناك عملاً دائماً في إبقاء هذه الامتيازات بعنوان تأمين المسيحيين من الخوف. ولم تستنكر فرنسا هذا التمييز الَّذي يشبه التمييز العنصريّ، ولكن عندما حدثت مشكلة في زحلة، انطلقت فرنسا ـ ديستان، وأرسلوا طائرات لنقل الجرحى، واستنكروا الوضع كلَّه.

عنصريّة فرنسيّة

إنّ آلان متيران رئيس حزب اشتراكيّ علماني، وفرنسا دولة علمانيّة، وهو يتحدث عن حماية المسيحيّين والأقلّيات، وعن الدّمار الذي حدث هناك، وأنّ بلاده لا ترضى عن كلّ هذا الدّمار، ولكنّهم لا يتحدّثون عن الدّمار هنا أو عن قصف المستشفيات، فهناك قصف للمستشفيات بشكل متعمَّد، وهناك قصف للمدنيّين بشكل متعمّد، فمستشفى الرسول الأعظم قصف بحوالى 60 قذيفة، وكذلك مستشفى الجامعة الأميركيّة وغيرهما.

هل عادت فرنسا لحماية الأقلّيات؟ وهل المسألة كذلك؟ وهل معنى ذلك أنَّ فرنسا تتدخَّل لتكون لطائفة ضدّ طائفة؟ ماذا عن المسلمين الّذين يدمِّرون؟ نحن لا نتحدَّث بلغة طائفيّة، ولكنَّ فرنسا لا تزال تحنّ إلى مواقع الدَّولة الكبرى، وهي لا تستطيع دخول لبنان من خلال العناوين الحضاريَّة، بل من خلال العقليّة العنصريّة.

وهذا ما انطلق في حرب الخليج، حيث نشرت بعض التَّقارير أثناءها أنَّ حرب الخليج قد تصنع جوّاً إسلاميّاً كبيراً، وانطلق أحد المسؤولين الفرنسيّين إلى العراق، وانطلقت فرنسا منذ ذلك الوقت لدعم العراق ضدّ الإسلام.

إنَّهم يحملون عصبيَّة ضدّ الإسلام، بالرغم من أنَّ الإسلام يمثِّل الدين الثّاني في فرنسا، وهناك 4 ملايين مسلم في فرنسا. إنّنا الآن أمام هذه اللّعبة التي نعرف أنَّ المغامرين في لبنان لا يستفيدون منها، لأنَّ فرنسا تشتغل كأداة من أدوات اللّعبة الأميركيَّة التي لا تسمح لها بأن يكون لها دور كبير في لبنان، مهما اشتدّ الصّراخ وعلت الكلمات.

إنَّ أميركا ـ أو حتى فرنسا ـ تعمل على أن تنظّم اللجنة العربية لإخراج المارونيّة السياسيّة من المأزق، وذلك بمحاولة وقف إطلاق النّار بالطّريقة التي تحفظ فيها المارونيّة السياسيّة ماء وجهها. أمّا التحرك السياسي نحو مجلس الأمن، فهذه الأمور كلّها مؤجّلة، والقصة لا تزال قصة اللّعب بالنار وقصّة المغامرين الذين أحرقوا الشّعب اللّبناني من مسيحيّين ومسلمين بمغامراتهم وطموحاتهم التي لا تملك أيّة واقعيّة.

لرصد اللّعبة السياسيّة

إنّ علينا أن نبقى مع قضايانا وأن لا نتعب، لأنَّ هناك عملاً يراد من خلاله إحراق كلّ المراحل التي بلغها المسلمون في لبنان، ولا بدَّ لنا من وقفة واحدة ترصد خفايا حركة اللّعبة السياسيّة الدوليّة والإقليميّة، وترصد العامل الإسرائيليّ الّذي يتحرَّك بكلّ قوَّة في المسألة. وهناك كلام يقال بأنَّ قائد ما يسمّى بجيش لبنان الجنوبي، لا يزال يجول في المنطقة الشرقيّة ليجتمع بقائد ما يسمّى بالحكومة العسكريّة، لينسّق معه ضدّ كلّ هذا الخطّ الّذي يرفض المارونيّة السياسيّة والصهيونيّة.

إنَّ هناك تنسيقاً دقيقاً بينه وبين هذا الجيش الّذي أثبت أنه جيش الطائفة لا جيش لبنان؛ إنّ الجيش الّذي قصف الضّاحية سابقاً، والغربيّة مؤخَّراً، ليس جديراً بأن يكون جيش لبنان، ونحن كنّا نقول دائماً إنّ مسألة الحوار تنطلق عندما تكفّ الحالة الإسرائيليّة عن أن تفرض نفسها على المارونيّة السياسيّة، وإذا كانت المارونيّة السياسيّة قد تغطَّت بين المحاور العربيّة، فلا بدّ من كشفها.

إنّنا نحاور كلّ الناس، والمسيحيّون خصوصاً، ونحن محكومون بالحوار، ولكنّ الّذين يطلقون الحوار ليسوا جادّين، لأنَّ لعبة التزامن بين الإصلاحات والانتخابات أو التقدّم إليها، لا تطرح في السّاحة الواقعيَّة، لأنّنا إذا كنّا مقتنعين بالإصلاحات فيها، فلا معنى لأن تقدّم أو لا تقدّم على الانتخابات.

إنَّها لعبة مستمرّة للحفاظ على امتيازات المارونيَّة السياسيَّة، وهناك عمل للتّنسيق بين المارونيَّة السياسيّة هنا، والمارونيّة السياسيّة في الشّريط الحدودي، ونحن نرفض هذا التّنسيق، ونحن مع كلّ الّذين يرفضون هذا الخطّ، ونقول لهم إنَّ اللّعب بالنَّار لا يحرق الّذين توجّه إليهم النّار دائماً، بل قد يحرق الّذين يثيرون الحرب ثم يهربون منها.


[1]  [البقرة: 183].

[2]  [البقرة: 185].

[3]  تحف العقول، ابن شعبة الحراني، ص 413.

[4]  [الحجرات: 12].

[5]  [النّساء: 107].

[6]  [هود: 113].

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية