ألقى سماحة العلامة السيّد محمد حسين فضل الله خطبة الجمعة من على منبر مسجد الإمام الرضا(ع) في بئر العبد، بتاريخ: 8 /9/1409هـ/ الموافق: 14 نيسان 1989م، وذلك بحضور حشدٍ من المؤمنين، ومما جاء فيها:
{وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}[1]. هذه السّورة تلخِّص في كلماتها القصيرة العناصر الَّتي تقرِّب الإنسان إلى الله، وتفتح حياته على سلامة الحياة في الدّنيا والآخرة، وعلى ربح الموقع الكبير عند الله، سواء في واقع الإنسان في حياته الفرديَّة كإنسان، أو في حياته الاجتماعيَّة كجزءٍ من المجتمع، فإذا أردت أن تكون الرَّابح في الموقف الَّذي يخسر فيه النَّاس، فإنَّ عليك في حياتك الفرديَّة أن تلتزم بالإيمان بالله وحده؛ أن يكون الله وحده هو الَّذي يملك عليك فكرك، فلا يكون في فكرك موقع للألوهيَّة لغير الله، وأن يملك أحاسيسك، فلا تفتحها لغير الله، وأن يملك عليك حياتك، فلا يكون لك قائد في كلِّ حياتك غير الله..
ارتباط الإيمان بالعمل الصّالح
لهذا، كانت كلمة الإيمان تمثِّل كلّ العناصر العقيديَّة فيما نؤمن بالله واليوم الآخر، والعنوان الآخر هو العمل الصَّالح الّذي يدخل في داخله كلّ أعمالك التي تسير على أساس حكم الله وشريعته، فإذا كان عملك مطابقاً لحكم الله فيما يحلّ ويحرم، فإنَّ عملك يكون صالحاً، وأمّا إذا كان عملك متحركاً بعكس ذلك، فإنَّ عملك لن يكون صالحاً. إنَّ صلاح العمل ينطلق من خلال المصدر التّشريعيّ الّذي يسير فيه العمل، لهذا لا بدّ للعمل الصالح من ضوابط، والعمل الصّالح هو أن تقف عند حدود الله فيما تعمله..
ولهذا، لا بدَّ في مسألة الإيمان من المعرفة، ولا بدَّ في مسألة العمل الصّالح من المعرفة.. فالكثيرون من النّاس ربما يحسبون أنفسهم أنهم على خير، وقد يكونون في خطِّ الشّرّ، لأنهم لم يحصلوا على المعرفة التي تميِّز لهم الباطل من الحقّ..
ثم بعد ذلك، تأتي مسألة الرّبح على مستوى المجتمع، فلكي يسلم المجتمع من الضّعف والانهيار والضَّلال، لا بدَّ من أن يتواصى النّاس بالحقّ؛ أن يُذكّر بعضهم بعضاً بالحقّ، والحقّ ليس شيئاً معلَّقاً في الهواء؛ فهناك الحقّ في العقيدة، ويقابله باطل الكفر، وهناك الحقّ في العمل ويقابله باطل الفسق، والحقّ في العلاقات ويقابله باطل الطّغيان والظّلم، وهكذا...
لا بدَّ للمجتمع في ساعات الخوف من أن يقوِّي بعضه بعضاً، ويوصي بعضه البعض الآخر بالصَّبر، بهذا انتصر المسلمون، وبهذا شقّوا طريقهم في الحياة كلّها.
علينا أن نفهم حقيقة أنَّ هناك حقّاً لا بدَّ من أن نقف معه، وأنّ ثمن الوقوف مع الحقّ هو أن نتألّم ونجرح ونشرَّد وأن نعاني الكثير، ولكنَّ ثمنه عند الله هو أن يرعاك برضوانه.
هذا هو الجمع بين التَّواصي بالحقّ والتّواصي بالصَّبر؛ أن تصبر على كلِّ الآلام التي تأتيك من الحقّ.. حاول أن تصبر عندما تُؤذى في الله، عندما يسبّك النَّاس لأنّك مع الله، وعندما يشرّدك الناس لأنّك مع الله، لتكن فرحاً الفرح الرّوحيّ، لأنَّك تجاهد في سبيل الله، وتتألّم تحت عناية الله.
والصّبر هو ما نحتاجه إذا أردنا أن نقف ضدّ التيّار؛ أن نقف ضدّ الّذين يريدوننا أن نسير نحو الكفر والظّلم والضّلال، وما دمت مع الحقّ، فعليك أن تعرف أنّ معركتك في الحياة طويلة.
لهذا، اليأس لا وجود له في حياتنا المستقبليّة كما في حياتنا الحاضرة.. إنَّ هناك ألغاماً لا بدَّ من أن نتعلَّم كيف نسير عليها، وإنَّ هناك أشواكاً لا بدَّ من أن نتعلَّم كيف نزيلها من أيدينا، حتى نثبت في مواقع الزّلزال. وأن تصبر، معناه أنَّك تملك العمود الفقريّ لحياتك العمليَّة، لأنَّك إذا جزعت سقطت، وإذا سقطْتَ سقطَتْ ركيزة حياتك.
مخطَّط القضاء على الإسلام
وعلى هذا الأساس، فإنَّنا نعيش كمسلمين الواقع الَّذي نعيشه في كلِّ العالم، والَّذي يعمل المستكبرون فيه على أساس أن يعقدوا حلفاً غير مقدَّس يقوم على نهب ثرواتنا وإسقاط عزّتنا، وعلى اعتبارنا مجرّد بقرةٍ حلوب تخدم اقتصادهم، إنهم يعملون على أن لا تقوم لنا قائمة، وأن لا ينطلق المسلمون كموقع قوَّة في العالم.
وهم يعملون في الوقت نفسه، على أن ينسى المسلمون الإسلام، وعلى أن يفقدوا الإيمان، فإذا لم يستطيعوا أن يصلوا إلى هذه الخطّة، فهم يعملون لينسى المسلمون الحقَّ فيما بينهم. إنهم يطرحون عناوين غير الإسلام، يطرحون عقائد كافرة وضالَّة يسمّونها أحزاباً وحركات، ولكنَّها أديان القرن العشرين الَّتي تأخذ أسلوب الدِّين في طريقة الالتزام، ولكنَّها تحارب الدّين، فهي تعتبر الحديث عن الدِّين حديثاً عما يفرِّق النَّاس من أجل أن لا يتواصوا بالحقّ، فإذا تحدَّث متحدّث بالإسلام، قالوا له: إيّاك أن تتحدَّث عن الإسلام، تحدَّث عن القوميَّة، عن الوطنيَّة، إنَّهم يمنعوننا من خلال التَّهاويل السياسيَّة من أن نتحدَّث عن الإسلام ونطرحه، حتى أصبح الكثيرون ممن يحملون رمز الإسلام وعمامة الإسلام، يرفضون طرح الإسلام، لأنَّه لا يتَّفق مع أوضاع هذا البلد أو ذاك.
وهكذا يحاول المستكبرون أن يثيروا في داخلنا دعوات الضّعف والسّقوط؛ هل أنتم في حجم أميركا وأوروبّا وإسرائيل؟ إنّكم تقفون أمام هؤلاء الّذين يملكون أدوات التّدمير لبلدكم.. وغير ذلك، هل أنتم في حجمهم؟ حاولوا أن تطيعوا كلَّ رئيس وكلَّ زعيم، أن تتقبَّلوا الأمر الواقع.. أليس هذا كلامهم؟ أليست الدَّعوات الموجودة في كلِّ الواقع السّياسيّ أنَّ علينا أن ننتمي إلى الشَّرق من جهة، والغرب من جهة أخرى، لأنَّنا لا نملك إلا ذلك؟!
إنَّنا قلنا للنَّاس: يا جماعة، على الأقلّ لا بدَّ من أن نفكّ حصار الشّرق والغرب عن عقولنا ومشاعرنا وعواطفنا، فإذا لم تستطع أن ترفض بيدك، فارفض بلسانك أو بقلبك، أريد أن أفكِّر إسلاميّاً.. ولكنَّ بعض النَّاس يريدون أن يكونوا عبيداً بالجملة، يريدون أن يكونوا عبيداً في عقولهم وعواطفهم. والله أرادنا أن نكون الموحِّدين له، وأن نلتزم برفض كلِّ عبوديَّة لغير الله، والله أراد لنا أن نتصوَّر الآخرين صغاراً، وأنَّ كلَّ ما عداه هو الأصغر.. إنّا نريد أن نتواصى بالحقّ، لنظلّ مسلمين لا متعصّبين ولا طائفيّين، بل مسلمين ملتزمين، نطرح الإسلام للعالم كلِّه، ونقول للعالم إنَّ الإسلام يطرح حلَّ مشكلة الناس كلّهم، وليس مشكلة المسلمين فقط.
إنَّ الله يبغض المؤمن الضَّعيف الَّذي يملك أن يحصل على القوَّة ولا يعمل ليحصل عليها. إنَّ الاستكبار العالميَّ يعمل على مصادرة كلِّ مواقعنا، ويعمل على إبعادنا عن الإسلام، ويجمع كلَّ رؤساء الجمهوريَّة والوزارات وغير ذلك، حتى يحملهم على أكتافنا حتى يكونوا الواجهة، ولهذا فهم المسلمون شكلاً، الكفّار مضموناً، والعرب شكلاً، والمتغرّبون حقّاً.. ولهذا، فإنَّ علينا أن نعتبر أنفسنا في معركة دائمة، لا أقصد أن نكون فوضويّين أو نتعقَّد من العالم، نحن نحبّ النّاس كلَّهم، ونحبّ لهم أن يتحاوروا معنا، ولا مانع عندنا من أن نتعاون مع النّاس، لكنَّ هناك فرقاً بين أن تتعاون مع النّاس وأن تنحني لهم..
المسألة أن نعتبر أنفسنا في معركة دائمة على مستوى الثَّقافة للّذين يريدون أن يدمِّروا حياتنا الثّقافيَّة، وعلى مستوى السياسة لكلِّ الّذين يريدون أن يدمِّروا حياتنا السياسيَّة، وهكذا على مستوى الأمن وغير ذلك.
محاولة تطويق الانتفاضة
وهكذا نجد العالم يحرّك الفتن والمشاكل في داخل مواقع المسلمين، لأنَّ هناك خطّةً لتمييع الحقيقة، حتى لا يرتبط النّاس بها في كلّ مجالات الحياة.
لنأخذ المسألة الفلسطينيّة مثلاً، من الَّذي أعطى اليهود شرعيَّةً في أن يسيطروا على فلسطين؟ إنهم يطالبون بأن يحكموا بلداً كانوا فيه قبل ألفي سنة! إنَّ هذا سخيف ولا معنى له، لكنَّ الغرب العلمانيّ أقرَّ ذلك، واعترف الغرب والشَّرق بإسرائيل، وأصبحت إسرائيل دولة شرعيَّة على مستوى القانون الدَّولي. أمّا الفلسطينيّون، فأصبحوا غرباء وإرهابيّين ومتطرّفين عندما يواجهون إسرائيل، أصبحوا خارج الشّرعيّة وخارج الخطّ، وأصبحت مسألتهم مسألة لاجئين.
وهكذا نجد أنَّ العالم لا يزال يتحرَّك في القضيّة الفلسطينيَّة على مستوى إنسانيّ وعلى مستوى سياسيّ ضبابيّ، وليس هناك أيّ أفقٍ له، إنّهم يقولون إنَّ الشَّعب الفلسطينيّ له الحقّ في حقوقه المشروعة، لكن ما هي حقوقه المشروعة؛ هل الضّفَّة وغزّة، أو فلسطين كلّها أو غير ذلك؟
وإنَّهم الآن يعملون على تطويق الانتفاضة، ولهذا يسكتون عن كلِّ الجرائم اليوميَّة التي ترتكبها إسرائيل، فالعالم يأسف ويستنكر ولكنَّه لا يندفع، لأنَّه التزم بإسرائيل، ولذلك يعيش المشكلة في كيف يمكن أن يجمع بين التزامه بإسرائيل، وإعطاء الفلسطينيّين حقوقهم المشروعة.
ولذلك، أكثر الدّول تلتزم بإسرائيل ما قبل الـ67. أمّا ما بعد الـ 67، فقد قالوا إنّها "أراضٍ احتلت"، وإسرائيل تقول: نعطيهم حكماً ذاتيّاً. ويتحرّك الجدل، والمسألة الآن هي كيف يمكن أن يقضوا على الانتفاضة بعد أن دفعوا معظم الدّول العربيّة إلى الاعتراف بحقّ إسرائيل في الوجود، بالنّسبة إلى ما قبل الـ 67، أمّا ما بعدها، فمتروكة للمفاوضات، كلّ ذلك من أجل أن يُقضى على الانتفاضة، لأنها أصبحت محرجةً لكلّ المشاريع في الشّرق الأوسط، ولكلّ الناس في العالم.
وقد وصل الأمر بالإسرائيليّين في الأسبوع الماضي أن منعوا كلَّ المؤمنين من الضفّة الغربيّة وغزّة من الدّخول إلى المسجد الأقصى، لأنَّ صلاة الجمعة أصبحت مشكلةً بالنّسبة إليهم، لأنَّ الصَّلاة لم تعد مجرّد كلام يردِّده الخطيب، كما هو الوضع في البلاد العربيّة أو الإسلاميّة، عندما تأتي إليه المخابرات فيقول ما تريد.
إنَّ هناك في فلسطين صلاة جمعة في خطّ الثّورة وحركة الثّورة. ولهذا، ففي كلّ صلاة جمعة تظاهرات، ولذلك حاول المحتلّ أن يمنع الشّباب المجاهد في الضفّة الغربيّة وغزّة من دخول المسجد الأقصى، ولم يتحرّك صوتٌ في العالم العربيّ ضدّ هذا الإجراء. كانت هناك كلمات خجولة، لأنهم يخافون من صلاة الجمعة الثّائرة، وهكذا رأينا إسرائيل تندفع للقيام بمجزرةٍ في قرية فلسطينيّة، ولا أحد يتحرّك، إنّها ترتكب كلّ المجازر بهذا الشّعب الأعزل، والكلّ يعمل على حلّ مشكلة إسرائيل، لا حلّ المشكلة الفلسطينيّة.
لبنان مطبخ القضيّة الفلسطينيَّة
وعندما نعيش مشكلتنا في لبنان، فعلينا أن نفهم أنَّ أكثر هذه الحروب ليست هي الحروب الّتي يراد من خلالها إنتاج وضع لبنانيّ معيّن، أو الوصول إلى نتائج على مستوى الأوضاع الدّستوريَّة أو الإصلاحيَّة. إنَّ المسألة هي أنَّ السّاحة اللّبنانيّة أريد لها أن تكون مطبخ القضيَّة الفلسطينيَّة، فعندما تحتاج إلى نارٍ، فالشّعب اللّبنانيّ هو الّذي يقبل أن يكون وقوداً لهذه النّار، والسياسيّون اللّبنانيّون دورهم أن يهيّئوا أدوات المطبخ.
أتعرفون أنَّ أكثر خلفيّات هذه الحرب تنطلق من واقع يتّصل بالمسألة الفلسطينيّة؟ لأنَّ هناك فكرة في أن تعقد قمّة عربيّة يراد من خلالها إيجاد جوٍّ سياسيٍّ جديد، كما في الجوّ الذي حصل في قمّة فاس، التي تناسى فيها العرب اللاءات الثّلاثة: لا صلح، لا اعتراف، ولا تفاوض، وتحركت المسألة نحو الصّلح والتّفاوض والاعتراف، ويراد الآن إيجاد جوّ سياسيّ في كلّ السّاحة العربيَّة، بحيث يصل إلى الإجماع، من أجل أن تعود مصر إلى الجامعة العربيّة، مع وجود علاقات دبلوماسيّة بينها وبين إسرائيل، ومعناه أنّ الجامعة العربيّة تعترف بإسرائيل من خلال اعتراف بالدّولة التي كسرت كلّ الحواجز واعترفت بإسرائيل. ومعنى ذلك، أنهم لا يرون في إسرائيل شيئاً مزعجاً، ثم يريدون أن يرتّبوا كلّ العلاقات العربيّة بين كلّ الدّول العربيّة، لا من أجل التّضامن العربي، بل من أجل أن يكون هناك إجماع عربيّ على تحريك القضيّة الفلسطينيّة في الخطّ الأمريكيّ الّذي يقود للاعتراف بإسرائيل، وترتيب مسألة الشّعب الفلسطيني بطريقةٍ لا يكون فيها دولة متَّصلة، بل يعطون مجرّد هامش ما في الأردن.
ولهذا كانت المشكلة الأخيرة في لبنان لإيجاد ضغوطٍ على بعض الجهات العربيّة الّتي لا تزال ترفض الاعتراف بإسرائيل، حتّى ينطلق العرب كلّهم في موقف تضامنٍ مع إسرائيل لا تضامن ضدّ إسرائيل، فإذا استسلم العرب لأميركا وإسرائيل، فأيّ ضرورةٍ للقوّة والتّضامن!
لهذا، إنّ المطبخ اللّبناني في حربه الحاضرة، ليس هو مطبخ تحرير كما يتحدّث هذا المغامر الذي انطلق حتى يدمّر بيروت الشرقيّة والغربيّة، حتى تبنى بيروت لبنانيّة حضاريّة على أنقاض بيروتنا، لأنَّ بيروتنا، حسب رأيه، هي بيروت الإرهاب والفوضى. المسألة ليست مسألة انتخابات وإصلاحات، بل أن تكون السّاحة اللّبنانيّة ساحةً من أجل ممارسة الضّغط ضدّ بعض الدّول العربيّة التي لا تزال تعمل على مواجهة إسرائيل وأمريكا بقوّة، وإذا تمّت الأمور كما يراد، فإنَّ القضايا سوف تحلّ بشكلٍ بسيط. هل تتصوَّر عقولنا أنَّ كلَّ هذا التّدمير هو من أجل انتخاب رئيس، أو الإصلاح؟ هذا عنوان المسألة وليس حقيقة المسألة.
لهذا لا بدَّ من أن نراقب استمرار المعركة أو عدم استمرارها، لا من خلال الأوضاع الداخليّة فيما ترتّبه اجتماعات اللّجنة العربيّة، بل لا بدَّ من أن نراقب: هل نضجت الطّبخة فيما هي المسألة العربيّة والفلسطينيّة؟ وهل إنَّ المواقف سوف تضعف أم لا؟ ولهذا ترون أنّ هناك حركة سياسيّة تحاول أن تثير التّوازن بين اللّجنة العربيّة وفرنسا وأميركا، على أساس أنّ وقت حلّ الأزمة اللّبنانيّة لم يأت بعد، والجماعة ليسوا مستعجلين، لأنَّ عندهم قضايا أهمّ.
في هذه المرحلة، إنَّ الشّغل بالمسألة اللّبنانيّة هو من خلال حاجة أزمة الشّرق الأوسط للأزمة اللّبنانيّة، ولهذا فإنَّ تطوّرات الحرب والسِّلم تتبع تطوّرات الأوضاع السياسيَّة في مسألة أزمة الشّرق الأوسط، أمّا القضيّة اللّبنانيّة، فسوف تحلّ بعد حلّ أزمة الشّرق الأوسط، لأنَّ قضيّة الشَّرق الأوسط لا بدَّ من أن تستفد كلَّ الأزمة اللّبنانيّة.
الحوار هو الحلّ
ولهذا، علينا أن نعرف أنّه ليست هناك حلول للمسألة اللّبنانيّة، بقطع النّظر عن موافقتنا أو عدم موافقتنا على ذلك. إنّ كلّ فريقٍ يحاول أن يربح شيئاً من هذه المعارك، ويحاول أن يسوِّق قضاياه، ونحن لا نجلس لننتظر الأوامر الأميركيّة، وإذا استطعنا أن نخرّب الخطة الأميركيّة، فعلينا أن نتحرَّك، وعلينا أن نؤكِّد مطالبنا وقضايانا، فيما هي مسألة الإصلاح وغير ذلك. قلنا لهم إنَّ علينا أن نستغني عن الطائفيَّة السياسيّة حتى يكون لبنان ساحةً للجميع، ولا تقف الحواجز الطائفيّة أمام النّاس الّذين يطرحون فكراً شاملاً وعامّاً.
تعالوا إلى الكلمة السَّواء، قلنا لهم ذلك، ولكنَّهم مصرّون على الطائفيَّة السياسيَّة، باعتبار أنها تحمي المسيحيّة من البحر الإسلامي الكبير، كما يقولون. إنّنا نقول لهم: إذا كنتم لا تتوافقون على إلغاء الطائفيّة، فلا مانع، لكنّنا عندما تتحدّثون عن طائفيّة سياسيّة في البلد، فلا بدَّ من أن نكون نحن الطّائفة الأولى، على أساس أنَّ الطائفة الأكبر هي الطّائفة الأولى في الحكم والسّلطة؛ إنّنا لا نتحدّث عن الطائفة الشيعيّة، بل عن المسلمين.
إذا كنتم تريدون أن تبقوا النّظام الطائفيّ، فإنَّ طبيعة النظام الطائفي يقضي بأن تكون الطائفة الأكبر هي التي تحكم من خلال إمكاناتها. إنّنا لا نتحدَّث بهذه اللّغة، ولكنَّكم إذا كنتم تصرّون على ذلك، فذلك ما نريده، ونحن نقول لهم لا بدَّ من أن يتغيَّر الواقع على كلِّ حال، فإمّا أن يتساوى اللّبنانيّون في الحقوق والواجبات، أو أن تتغيّر المسألة في داخل النّظام الطائفيّ.
ونريد أن نقول لمن يتحدَّثون عن الجيش اللّبنانيّ الّذي يتَّسع لكلّ اللّبنانيّين، إنَّنا في الضَّاحية والمنطقة الغربيّة نجد أنَّ الجيش يقصف المدنيّين، وأغلب القتلى هم من اللّبنانيّين، وإذا كانت المسألة كذلك، فكيف يمكن أن يكون هناك جيشٌ يحمل الصِّفة اللّبنانيَّة وأن يحمي اللّبنانيّين. لقد قيل عندما قُصفت الضَّاحية إنَّ القيادة السياسيّة هي التي أمْلَتْ ذلك، ولكن في هذا اليوم، القيادة السياسيَّة العسكريَّة تتجمع بيدٍ واحدة وتقصف المدنيّين.
إنّنا نقول للّبنانيّين، إنَّ هذه الحرب ليست لمصلحتكم، إنَّ المسألة هي أن تكونوا واقعيّين في طرح القضايا، وأن تعترفوا بكلّ المتغيّرات السياسيَّة في العالم والمنطقة. ولذلك، فإنَّ هذه المغامرة العسكريّة الّتي انطلقت منذ الثّلاثاء الأسود، ثم تطوَّرت إلى هذا الحدّ، لن تستطيع أن تعطيكم شيئاً، إنَّكم تسيرون عكس التيَّار وعكس التَّاريخ، ولو أنّكم حصلتم على بعض امتيازاتكم من خلال بعض الدّول الأوروبيّة الّتي لا تحصلون على دعمها. إنَّ المسألة هي أنَّ المستقبل سوف يسخر من كلّ هذا الواقع مما يسمى بالخوف المسيحي أو الضَّمانات والامتيازات.
إننا نقول لكلّ اللّبنانيّين: افتحوا المجال للحوار، ولكن على أساس أن ينطلق من خلال طبيعة الأوضاع في طبيعتها المبدئيّة والواقعيّة، ليفتح كلّ فريقٍ قلبه للفريق الآخر، وليفهم كلّ فريقٍ الآخر، أمّا أن يبقى الحوار حوار الطّرشان، فما فائدة الحوار؟ وأمّا أن يبقى حوار المدافع، فهل ينفع ذلك؟
عندما تحتفلون بذكرى الحرب الّتي تثيرون الضَّباب حول حركتها، فإنَّ معنى ذلك أنَّنا سوف نحتفل بالذّكرى الخمسين لـ 13 نيسان دون حلّ.
إنّني أخشى أن نظلَّ في حربٍ وفوضى دائمين، فيما يحاول الكثيرون أن يبتعدوا عن الحقوق الإنسانيّة في لبنان، وإنّني أخشى أن تظلَّ الحرب بينكم وبيننا تحت العناوين الدوليَّة وغيرها، ثم نتحدَّث بعد خمسين سنة: هل الإصلاح قبل الانتخابات أو العكس؟ إنّكم تتحدَّثون عن جنس الملائكة، ونحن نتحدَّث عن أمن النّاس وحقوق الناس! {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}[2].
[1] [العصر].
[2] [آل عمران: 64].