عالمُ دينٍ بكلِّ مقاييسِ الكمالِ ومواصفاتِهِ

المرجع السيد محمد حسين فضبل الله

مدخل
لقد تشرَّفنا بالحضور في مجالس درس العديد من الشخصيَّات الجليلة القدر، ونهلنا من معين فيضهم ما شاء الله لنا ذلك. لكنْ لما سافرنا إلى لبنان لمدّة سنة تقريباً (1986م ـ 1987م)، وفِّقنا للحضور في درس العلَّامة الفقيه، والسياسي الخبير، والمفسِّر الَّذي تجلَّت فيه صفات الإسلام وأخلاق القرآن، بكلِّ ما تحمل هذه الكلمات من ثقل معنوي وحقائق مادية، السيِّد محمد حسين فضل الله (رض).
وكان لما شربناه على يديه وفي مجلسه، طعمٌ وصفاتٌ جعلته يختلف عمّا أخذناه من قبل عن غيره من الأجلَّاء بامتياز، اختلاف نشأ بالدَّرجة الأولى من أبعاد شخصيَّة هذا العالم الفذّ، فهو قد جمع كلّ صفات العالم المتبحِّر. فمع كونه فقيهاً، كان له حلو البيان وعذب الخطاب، ينتقل بك في معاني السياسة من لبنان إلى إيران، بل إلى كلّ العالم الإسلامي.
كان محيطاً بدقائق الأمور، وكان يملك زمام الفصاحة والبيان، حيث يجعلك تدرك المعاني والمراد. في مسجد الإمام الرضا (ع) في منطقة بئر العبد، كان السيِّد فضل الله يؤمّ النَّاس جماعة، وكان يلقي هناك خطباً في جموع المصلّين، وكان يستمع إلى أسئلتهم واستفساراتهم. كما كان في هذا المسجد، وفي فترة الصّباح، يلقي على طلبته دروس الفقه المعمَّق. لكن كلّ هذه الفعاليات لم تكن تمنعه من أن يخصِّص ما يقارب السَّاعتين أو يزيد لمقابلة النَّاس، والاستماع إلى همومهم، ومداواة جروحهم، بعطف الأب الحنون والأخ الصَّديق.
وإلى جانب دوره العلمائيّ، كان يدفع بالشَّباب ويشجّعهم على الانضمام إلى المقاومة، مقاومة الكيان الغاصب، والَّذي كان آنذاك يستولي على قسم كبير من جنوب لبنان. وإلى جانب أبعاد شخصيَّة هذا العالم الَّذي قلّ له الندّ والمثيل، كان ما يجلبنا إليه ويشدّنا إلى شخصه ومقامه، سكوته عن أذى الناس، وليتهم كانوا أناساً عاديّين، فيجد لهم المرء عذراً هنا أو هناك، ولكنَّه أذى من علماء وشخصيات في مقام العلماء. كان يتلقَّى عبارات الجرح والذمّ بابتسامته المعهودة، وقلبه محلِّقٌ في عشق أهل البيت (ع) الذين واجهوا مثل هذه المواقف كثيراً، وما كان لهم ردٌّ سوى قولهم: «إن كان حقّاً فنسأل الله أن يغفره لنا، وإن كان غير ما تقول، فنسأل الله أن يغفر لك».
نعم، وجدنا أنفسنا نعترف بالجميل الكثير لهذا الرَّجل العظيم، وجدنا أنفسنا مدينين له بالكثير، ووجدنا أنَّ هذا الجميل يفرض علينا كتابة سطور نكشف فيها ما عاينّاه وشاهدناه عن قرب من هذا العالم المخلص، ونحكي فيها بعض الخواطر الَّتي عشناها في ظلّه، كلّ هذا تعبيراً عن حبّنا واحترامنا له، وفي الوقت نفسه، تعبيراً صادقاً عن الحرقة والأسى لفقدانه ورحيله عنَّا إلى ربّه.
العلَّامة السيِّد محمَّد حسين فضل الله
كان السيِّد فضل الله عالماً محيطاً؛، وكان يحظى باحترام كبير وشعبيّة عريضة. وفي الفترة الّتي كنتُ فيها في لبنان، كنتُ أحضر في مجلس دروسه في الفقه، وكنت أحرص على الصَّلاة خلفه مرَّتين أو ثلاث مرات صلاة العشاءين في بداية كلّ أسبوع.
كنتُ آنذاك شابّاً يافعاً، وكنت من فرط حماستي أتمنَّى أن تكون دولة لبنان تابعة لإيران وللإمام الخميني (رض)، وكان حينها السيَّد فضل الله يعتبر السيِّد الخوئي (رض) المرجع الأعلم، فكان يعطي فتاواه أوَّلاً، ثم فتاوى الإمام الخميني. وكنت أتمنى لو يقتصر على ذكر فتاوى الإمام الخميني، وأتمنى لو يذكره بالأعلم، دون غيره. وكان هذا ما جعلني أغضب منه، ولم يكن غضبي هذا بعيداً عمَّا كان يشحنني به...
إنسانيَّة السّلوك الاجتماعيّ عند السيِّد فضل الله
كان السيِّد فضل الله يخصِّص ساعتين، من العاشرة إلى الثَّانية عشرة، من كلِّ يوم، لمقابلة النّاس. وكان يفتح لهذا الغرض حجرة (صالون) كبيرة رُصفت بالكراسي، وكان يجلس هو في إحدى زواياها، وبجانبه كرسيّ، وكلّ من جاء دوره، وكانت له حاجة، كان يجلس بالقرب منه، يشرح له حاله، ويعرض حاجته، وكان بالقرب من هذا الصّالون حجرة خاصّة للقاءات الخاصَّة، حيث يستقبل فيها مَنْ كانت له مقالة أو حديث خاصّ... وكان مشرفاً على دورٍ للأيتام ومبرَّات كثيرة، فتحها في وجه الطَّبقة الفقيرة من أبناء المجتمع، لتحتضنهم، وتملأ حاجة اليتم والفقر لديهم...
الفصل بين المرجعيَّتين السياسيَّة والفقهيَّة
كنتُ كلَّما زرتُه وأصدقائي، نطلب جلسة خاصَّة، وكان يستقبلنا بعطف وحنان، رغم أنّ موضوعي معه في أغلب تلك اللّقاءات كان حول أعلميَّة الإمام الخميني، فقد كنت أسأله: لماذا لا يقول بأعلميَّة الإمام الخميني؟!
كان يقول لي إنَّه لم يثبت لديه حتَّى الآن أعلميَّة الإمام الخميني. وفي إحدى تلك الجلسات، صرَّح بكلام أظهر بحقٍّ مدى القدرة العلميَّة والتفكر العميق الَّذي كان يتمتَّع به هذا العالم، حيث قال إنَّ نصيحتي لك أن تفرِّق بين المرجعيَّة وبين السياسة، وأن لا تخلط بينهما. اترك كلًّا من المرجعية الدينية والسياسة يأخذ مساره الطبيعي. فأنا كذلك أتمنى وأريد أن يكون السيِّد الإمام هو الأعلم، وأن يثبت عندي ذلك بطرقه؛ فالسيِّد الإمام رجل ثورة، وأنا كذلك رجل ثورة، أمَّا عن السيِّد الخوئي (رض)، فقد كان مرجعاً دينياً، ولم يكن رجل ثورة، لكن ما العمل، ولم تثبت لديَّ أعلميَّة الإمام الخميني بعد؟!...
مراجعة نقديَّة لشخصي
اليوم... أدركت أنَّ ما كان يراه هو في الظَّلام؛ بقريحته وإحاطته العميقة بمجريات الأمور، لم ندركه نحن إلَّا بعد أن عشنا الوقائع وخضنا التَّجارب. فبعد أن عزل الشّيخ منتظري، وبعد أن رحل الإمام (رض) إلى مثواه الأخير، وما وقع من أحداث ومجريات، تبيَّن لنا جميعاً أنه لو أخذت السياسة مجراها، وسارت المرجعيَّة في مسيرها، لما وقع كلّ هذا النّزاع على المرجعيّة، ولما رفع حجاب الاحترام عنها، ولما استطاع العديد من علماء الطّابور الثاني والثالث أن يتقدَّموا إلى محراب الفتوى، يفتون بفتاوى هنا وهناك، ولما خصصت العديد من الميزانيات لغرض سلبيّ هنا أو هناك.
تواضع العلَّامة فضل الله
في تلك الفترة الَّتي تشرَّفتُ فيها بالتتلمذ على يد السيِّد فضل الله؛ وبحكم سنّ الشباب، كنتُ شابّاً ثوريّاً مفعماً بالحيويّة، وكنتُ، بدافع كلّ ذلك، شديداً وصارماً، وكان يقابلني بكلّ عطف وحنان، حتى إنّه كان يحدث أن أقطع كلامه معترضاً عليه، أو أقول له: «استمع»، فقد كنت حديث عهد باللّغة العربيّة، حيث إنَّ صيغة تلك الكلمة كانت تعني الأمر بالاستماع، وهو ما لم يكن يجوز من مثلي آنذاك، ورغم ذلك، لم تكن لديه أدنى حساسيّة من كلّ ذلك؛ وربما لأنه كان يدرك أنّني لم أتعلَّم بعد مقتضيات خطاب الأدنى للأعلى في العرف العربي، وكان ذلك لا يقلقه أو يحرّك فيه أدنى شيء سلبيّ تجاهي.
بل أكثر من هذا، كنّا كلّما حلّت مناسبة الثاني والعشرين من شهر بهمن الفارسي (ذكرى انتصار الثّورة)، أو أسبوع الوحدة، وغيرها من المناسبات، نطلب منه أن يحضر إلى المدرسة، وأن يشاركنا تلك المناسبة بخطاب أو كلمة، فكان يلبّي طلبنا، ويحضر بكلّ تواضع.
منصفٌ كلَّ الإنصاف
إحدى المميزات الأخرى الّتي امتاز بها السيِّد فضل الله هي الإنصاف، فقد كان منصفاً عادلاً، وكان قبل أن يصدر حكمه في شأن شخص، يعمل على أن يضع نفسه في مكانه، ويقرأ كلَّ ظروفه، وما يحيط به من أسباب ودواعٍ، ثمَّ يجلس ليفكّر في كلّ تلك المعطيات، وحينها يعطي حكمه ورأيه.
ومن الشَّواهد على إنصافه، أنني جلست إليه يوماً، وقلتُ: ما هو موقفك من هؤلاء العلماء والفضلاء الَّذين لربما يقومون بأعمال أو يتقوَّلون آراء لا تتناسب وآراءك؟ وما الَّذي علينا فعله تجاههم؟ أليس من الأفضل أن لا نجالسهم ولا نحادثهم؟ لكنَّه بعد أن سمع مقالتي، ذهب بفكره إلى الشَّيخ محمد مهدي شمس الدين - وكان حينها منافساً قويّاً للسيِّد فضل الله - وأجابني قائلاً: لو كانت لي الشّروط نفسها، وكنتُ في المحيط نفسه والأجواء ذاتها الَّتي كانت تحيط بالشّيخ محمد مهدي شمس الدين، لفكَّرت بنفس ما فكَّر فيه، ولعملت ما عمله، فلا يجب أن نتَّهم الرّجل أو نشكّ في نيّته، فالرجل شخصيّاً كان جيّداً، لكن تلك الظّروف التي أحاطت به، وما فرض عليه من أجواء، هو ما جعله يبادر بذلك التصرّف، كما أنّ علاقته بالحكومة حكمته بنوع من السلوكيّات...
شعار «إلهي إلهي...» بعد صلاة الجماعة
كنت أسعى لما كنت في لبنان أن أحضر الجماعة خلف السيِّد فضل الله، وكنت أحثّ أصدقائي على الحضور، وعلى قراءة دعاء «إلهي إلهي، حتى ظهور المهدي، احفظ لنا الخميني». وكان الكثير من الحاضرين هناك يعترضون على ذلك، ويعتبرونها بدعة مستحدثة، لكنَّ العلَّامة فضل الله لم يكن يصدر موقفاً مؤيِّداً أو معارضاً له...
لقد كان السيِّد فضل الله يدرك أنَّني كنت متعلِّقاً به، وذلك من خلال حضوري لدروسه، وكنت أحرص على حضور الجماعة بإمامته، لذلك كان يتجاوز شدَّة طبعي، لأنه كان يعلم أنها إنما كانت ناتجة من إخلاصي وحبّي لذلك الطريق. لكن اليوم، عندما أفكر في كلّ ذلك، أشعر بالخجل من نفسي.
درس البحث الخارج في الفقه للعلَّامة السيِّد فضل الله
كان درس بحث الخارج ينعقد في بيت السيِّد فضل الله في الصَّباح الباكر من كلّ يوم، وذلك بحضور خمسة إلى ستّة أشخاص. وكان موضوع الدرس كتاب العروة الوثقى، فقد كان يقرأ المتن أوّلاً، ثمَّ يفسِّر ويوضِّح المتن، وما فيه من إشكالات، ثمَّ بعد ذلك يطرح آراء ووجهة نظر السيِّد الخوئي، وما طرحه من إشكالات، وإجاباته عليها، وإذا كان له نظر خاصّ، فإنّه يطرحه ويجيب عن إشكالاته. وعلى العموم، فقد كان يطرح رأيه في كلّ مسألة من مسائل المتن.
وكان الدَّرس يعطل في الأيام التي يكون القصف الإسرائيلي شديداً. أما أنا، فقد كنت أحضر إلى مكان الدرس كلَّ يوم، وفي اليوم الَّذي لم يكن حراس السيّد فضل الله يعرفون إن كان الدرس سيعطَّل أو لا، كنت أنتظر في ذلك المكان مدَّة عشرين دقيقة، ولما أرى أنَّ أحداً لم يحضر إلى الدَّرس، أرجع إلى بيتي.
والعجيب في الأمر هو ذاك التَّوافق غير المنطوق بين الأستاذ والطلبة، فكلَّما كان القصف الإسرائيلي شديداً، كان الدرس يعطَّل، لكن ما هو حدّ شدّته وحدّ خفته؟ الطلبة فقط هم الذين يعرفون ذلك. لذلك، فالأمر كان توافقياً، ولم أكن أفهم مقياس شدّة القصف وعدمه، لأعرف أن الدرس قد تعطَّل أو لا، لذلك كنت مضطراً لأن أحضر إلى المكان بنفسي، وفي كلّ صباح.
العلَّامة فضل الله والرّعاية لحزب الله
كان السيِّد فضل الله يتكلَّم اللغة الفارسية. لذا، كنت تجده يستقبل الوافدين عليه من إيران، ويتكلَّم معهم بلغتهم. كانت له روح ثوريَّة، وكان كثير الدفاع والتبليغ لحزب الله. كما كان يرعى شباب المقاومة، ويحثّهم على الجهاد والصّمود في وجه العدوّ الصهيوني، لكن للأسف، لم يكن حزب الله آنذاك يراعي السيِّد فضل الله أو يدافع عنه، وكان الحزب آنذاك ذا توجّه إيراني في أسلوبه وطرق تنظيمه...
آخر لقاء بالسيِّد فضل الله
بعد أن غادرت لبنان، وعدت إلى وطني إيران، حرمت من رؤية السيِّد فضل الله بأمّ العين، ومن مجالسته المباشرة، والاستمتاع بحديثه. واستمرَّ هذا الحال إلى أن أتى السيِّد فضل الله بنفسه إلى إيران... حيث قام بزيارة المكتبة المركزيّة للعلوم والمعارف القرآنيّة في قمّ، وكنتُ أشتغل بالتّحقيق في هذا المركز، فذهبت لملاقاته، ورغم مرور سنوات طويلة على عدم رؤيته لي، ورغم تغييرات الدَّهر على كلانا، فإنَّه عرفني منذ اللّحظة الأولى، وكان تعامله جيّداً وسخيّاً...
ذكرياتٌ.. أحزان وعِبَر
إنَّ ما جعلني أتجرَّع مرارة فقدي لهذا العزيز، ما أحمله في نفسي وفي قلبي عنه من ذكريات حول جهاده، وتضحياته، وإخلاصه، وتواضعه، هذا العالم المحبّ للإنسانيّة.
لا يزال صدى صوته في درس بحث الخارج في الفقه يتردَّد في مسامعي، والاجواء مخيمة بأصوات القصف الإسرائيلي على مدينة بيروت سنة 1366هـ. ش.
ولا يزال صدى صوته في خطبه الغراء في مسجد الإمام الرضا (ع) في بئر العبد تحمل إلى قلبي عبق تلك الكلمات، ونسيم تلك العبارات. ولا تزال نفسي تحافظ على نبرات صوته، وطريقة أسلوبه في الإجابة عن أسئلة الشَّباب. نعم، ذكريات عن أخلاقه السَّمحة، تواضعه القرآني، حين كان يحضر إلى مدرسة الرسول الأكرم (ص)، ملبّياً دعوتي ودعوة رفاقي، فكان يلبي الدَّعوة من دون أدنى تكبّر أو استعلاء. نعم، لا تزال تتجسّد في عينيّ صورته وهو يمشي على العلم الإسرائيلي، معبِّراً عن رفضه للظّلم والاستبداد والطّغيان.
ما تزال ذكرياتي عن تلك الجلسات الخاصَّة حول المرجعية والأعلمية تغمر روحي ونفسي بفيض صفائه، وتكشف لقلبي وبصيرتي عمق تفكيره، وعظيم إدراكه للأمور، وهو يردّد عليّ عباراته المليئة بالمعاني: اترك الفقه والأصول والمعارف الحوزويَّة تكون هي المعيار والمقياس لتشخيص الأعلم، ولا تجعل للسّياسة طريقاً إلى ذلك؛ لأنَّ السياسة إذا تدخَّلت في تعيين المرجعيَّة، كان لها عظيم الضّرر.
ذكريات حول إنصافه وعدله في الحكم على النَّاس، تقواه، عدم مهاجمته لمن يتهجَّمون عليه أو يتَّهمونه بالسوء، احتضانه للأيتام ومساعدته لهم، مساعيه الحميدة في إيجاد دور للأيتام، كلّ ذلك لا يزال يحلّق في آفاق روحي، ويجعلني أعيش كلَّ تلك اللحظات بحبٍّ وشوق.
ذكريات عن سعيه وكدّه الجادّ في كتابة دورة كاملة في تفسير القرآن الكريم «من وحي القرآن»، وما تضمَّنه في مجلَّداته الأربعة والعشرين من مضامين تفسيرية علميَّة، كانت زاداً قوياً دفعني إلى الإقبال على العلوم، وزرع في قلبي حبّ البحث العلمي.
لا تزال خطواته في كتابة رسالة عمليَّة على طراز حديث يستجيب لما ابتُليت به الأمَّة في الحاضر، وتأليفه للعديد من كتب الفقه، إلى جانب مواضيع اجتماعيّة وأخلاقيّة، قد حازت السبق بامتياز.
وفي ظلّ كل تلك الذكريات، لا تزال ترفرف في قلبي وروحي تلك اللحظات التي كان يسافر فيها إلى سوريا، للتّدريس في حوزة المرتضى، فكان كلّ ذلك يزيد من عظمة الرّجل في نفسي، ويجعله يكبر ويكبر، ليبلغ الكمال.
لا تزال بحقٍّ شجاعته في إعلان الفتاوى الصادقة والصريحة، وفي مواجهته للكيان الغاصب الصهيوني، كلّ هذه الشجاعة كانت تنقلب عند ذلك الرّجل إلى حلم ووداعة مقابل جهل الجاهلين من أبناء الدّين والوطن، يتورع عن الردّ عليهم، وعن مقابلة سيّئاتهم بسوء.
دفاعه العقلاني والمستميت عن أحكام الدّين ومعارفه، من الذكريات التي لن يمحو أثرها أيّ شيء. كلّ هذا وغيره كثيرٌ إذا أضيف إلى مواقفه في مواجهة إسرائيل، ومواجهته للفكر الخرافي والخرافات والجهل، يجعل فقدنا إيَّاه ثلمة لا يسدّها شيء، وابتلاءً كبيراً للإسلام وأهله.
قدَّس الله روحه، وكثَّر من سالكي دربه.
* مجلة الاجتهاد والتجديد - (العدد 20-21 ) بتاريخ 1-1-2012 م 

مدخل
لقد تشرَّفنا بالحضور في مجالس درس العديد من الشخصيَّات الجليلة القدر، ونهلنا من معين فيضهم ما شاء الله لنا ذلك. لكنْ لما سافرنا إلى لبنان لمدّة سنة تقريباً (1986م ـ 1987م)، وفِّقنا للحضور في درس العلَّامة الفقيه، والسياسي الخبير، والمفسِّر الَّذي تجلَّت فيه صفات الإسلام وأخلاق القرآن، بكلِّ ما تحمل هذه الكلمات من ثقل معنوي وحقائق مادية، السيِّد محمد حسين فضل الله (رض).
وكان لما شربناه على يديه وفي مجلسه، طعمٌ وصفاتٌ جعلته يختلف عمّا أخذناه من قبل عن غيره من الأجلَّاء بامتياز، اختلاف نشأ بالدَّرجة الأولى من أبعاد شخصيَّة هذا العالم الفذّ، فهو قد جمع كلّ صفات العالم المتبحِّر. فمع كونه فقيهاً، كان له حلو البيان وعذب الخطاب، ينتقل بك في معاني السياسة من لبنان إلى إيران، بل إلى كلّ العالم الإسلامي.
كان محيطاً بدقائق الأمور، وكان يملك زمام الفصاحة والبيان، حيث يجعلك تدرك المعاني والمراد. في مسجد الإمام الرضا (ع) في منطقة بئر العبد، كان السيِّد فضل الله يؤمّ النَّاس جماعة، وكان يلقي هناك خطباً في جموع المصلّين، وكان يستمع إلى أسئلتهم واستفساراتهم. كما كان في هذا المسجد، وفي فترة الصّباح، يلقي على طلبته دروس الفقه المعمَّق. لكن كلّ هذه الفعاليات لم تكن تمنعه من أن يخصِّص ما يقارب السَّاعتين أو يزيد لمقابلة النَّاس، والاستماع إلى همومهم، ومداواة جروحهم، بعطف الأب الحنون والأخ الصَّديق.
وإلى جانب دوره العلمائيّ، كان يدفع بالشَّباب ويشجّعهم على الانضمام إلى المقاومة، مقاومة الكيان الغاصب، والَّذي كان آنذاك يستولي على قسم كبير من جنوب لبنان. وإلى جانب أبعاد شخصيَّة هذا العالم الَّذي قلّ له الندّ والمثيل، كان ما يجلبنا إليه ويشدّنا إلى شخصه ومقامه، سكوته عن أذى الناس، وليتهم كانوا أناساً عاديّين، فيجد لهم المرء عذراً هنا أو هناك، ولكنَّه أذى من علماء وشخصيات في مقام العلماء. كان يتلقَّى عبارات الجرح والذمّ بابتسامته المعهودة، وقلبه محلِّقٌ في عشق أهل البيت (ع) الذين واجهوا مثل هذه المواقف كثيراً، وما كان لهم ردٌّ سوى قولهم: «إن كان حقّاً فنسأل الله أن يغفره لنا، وإن كان غير ما تقول، فنسأل الله أن يغفر لك».
نعم، وجدنا أنفسنا نعترف بالجميل الكثير لهذا الرَّجل العظيم، وجدنا أنفسنا مدينين له بالكثير، ووجدنا أنَّ هذا الجميل يفرض علينا كتابة سطور نكشف فيها ما عاينّاه وشاهدناه عن قرب من هذا العالم المخلص، ونحكي فيها بعض الخواطر الَّتي عشناها في ظلّه، كلّ هذا تعبيراً عن حبّنا واحترامنا له، وفي الوقت نفسه، تعبيراً صادقاً عن الحرقة والأسى لفقدانه ورحيله عنَّا إلى ربّه.
العلَّامة السيِّد محمَّد حسين فضل الله
كان السيِّد فضل الله عالماً محيطاً؛، وكان يحظى باحترام كبير وشعبيّة عريضة. وفي الفترة الّتي كنتُ فيها في لبنان، كنتُ أحضر في مجلس دروسه في الفقه، وكنت أحرص على الصَّلاة خلفه مرَّتين أو ثلاث مرات صلاة العشاءين في بداية كلّ أسبوع.
كنتُ آنذاك شابّاً يافعاً، وكنت من فرط حماستي أتمنَّى أن تكون دولة لبنان تابعة لإيران وللإمام الخميني (رض)، وكان حينها السيَّد فضل الله يعتبر السيِّد الخوئي (رض) المرجع الأعلم، فكان يعطي فتاواه أوَّلاً، ثم فتاوى الإمام الخميني. وكنت أتمنى لو يقتصر على ذكر فتاوى الإمام الخميني، وأتمنى لو يذكره بالأعلم، دون غيره. وكان هذا ما جعلني أغضب منه، ولم يكن غضبي هذا بعيداً عمَّا كان يشحنني به...
إنسانيَّة السّلوك الاجتماعيّ عند السيِّد فضل الله
كان السيِّد فضل الله يخصِّص ساعتين، من العاشرة إلى الثَّانية عشرة، من كلِّ يوم، لمقابلة النّاس. وكان يفتح لهذا الغرض حجرة (صالون) كبيرة رُصفت بالكراسي، وكان يجلس هو في إحدى زواياها، وبجانبه كرسيّ، وكلّ من جاء دوره، وكانت له حاجة، كان يجلس بالقرب منه، يشرح له حاله، ويعرض حاجته، وكان بالقرب من هذا الصّالون حجرة خاصّة للقاءات الخاصَّة، حيث يستقبل فيها مَنْ كانت له مقالة أو حديث خاصّ... وكان مشرفاً على دورٍ للأيتام ومبرَّات كثيرة، فتحها في وجه الطَّبقة الفقيرة من أبناء المجتمع، لتحتضنهم، وتملأ حاجة اليتم والفقر لديهم...
الفصل بين المرجعيَّتين السياسيَّة والفقهيَّة
كنتُ كلَّما زرتُه وأصدقائي، نطلب جلسة خاصَّة، وكان يستقبلنا بعطف وحنان، رغم أنّ موضوعي معه في أغلب تلك اللّقاءات كان حول أعلميَّة الإمام الخميني، فقد كنت أسأله: لماذا لا يقول بأعلميَّة الإمام الخميني؟!
كان يقول لي إنَّه لم يثبت لديه حتَّى الآن أعلميَّة الإمام الخميني. وفي إحدى تلك الجلسات، صرَّح بكلام أظهر بحقٍّ مدى القدرة العلميَّة والتفكر العميق الَّذي كان يتمتَّع به هذا العالم، حيث قال إنَّ نصيحتي لك أن تفرِّق بين المرجعيَّة وبين السياسة، وأن لا تخلط بينهما. اترك كلًّا من المرجعية الدينية والسياسة يأخذ مساره الطبيعي. فأنا كذلك أتمنى وأريد أن يكون السيِّد الإمام هو الأعلم، وأن يثبت عندي ذلك بطرقه؛ فالسيِّد الإمام رجل ثورة، وأنا كذلك رجل ثورة، أمَّا عن السيِّد الخوئي (رض)، فقد كان مرجعاً دينياً، ولم يكن رجل ثورة، لكن ما العمل، ولم تثبت لديَّ أعلميَّة الإمام الخميني بعد؟!...
مراجعة نقديَّة لشخصي
اليوم... أدركت أنَّ ما كان يراه هو في الظَّلام؛ بقريحته وإحاطته العميقة بمجريات الأمور، لم ندركه نحن إلَّا بعد أن عشنا الوقائع وخضنا التَّجارب. فبعد أن عزل الشّيخ منتظري، وبعد أن رحل الإمام (رض) إلى مثواه الأخير، وما وقع من أحداث ومجريات، تبيَّن لنا جميعاً أنه لو أخذت السياسة مجراها، وسارت المرجعيَّة في مسيرها، لما وقع كلّ هذا النّزاع على المرجعيّة، ولما رفع حجاب الاحترام عنها، ولما استطاع العديد من علماء الطّابور الثاني والثالث أن يتقدَّموا إلى محراب الفتوى، يفتون بفتاوى هنا وهناك، ولما خصصت العديد من الميزانيات لغرض سلبيّ هنا أو هناك.
تواضع العلَّامة فضل الله
في تلك الفترة الَّتي تشرَّفتُ فيها بالتتلمذ على يد السيِّد فضل الله؛ وبحكم سنّ الشباب، كنتُ شابّاً ثوريّاً مفعماً بالحيويّة، وكنتُ، بدافع كلّ ذلك، شديداً وصارماً، وكان يقابلني بكلّ عطف وحنان، حتى إنّه كان يحدث أن أقطع كلامه معترضاً عليه، أو أقول له: «استمع»، فقد كنت حديث عهد باللّغة العربيّة، حيث إنَّ صيغة تلك الكلمة كانت تعني الأمر بالاستماع، وهو ما لم يكن يجوز من مثلي آنذاك، ورغم ذلك، لم تكن لديه أدنى حساسيّة من كلّ ذلك؛ وربما لأنه كان يدرك أنّني لم أتعلَّم بعد مقتضيات خطاب الأدنى للأعلى في العرف العربي، وكان ذلك لا يقلقه أو يحرّك فيه أدنى شيء سلبيّ تجاهي.
بل أكثر من هذا، كنّا كلّما حلّت مناسبة الثاني والعشرين من شهر بهمن الفارسي (ذكرى انتصار الثّورة)، أو أسبوع الوحدة، وغيرها من المناسبات، نطلب منه أن يحضر إلى المدرسة، وأن يشاركنا تلك المناسبة بخطاب أو كلمة، فكان يلبّي طلبنا، ويحضر بكلّ تواضع.
منصفٌ كلَّ الإنصاف
إحدى المميزات الأخرى الّتي امتاز بها السيِّد فضل الله هي الإنصاف، فقد كان منصفاً عادلاً، وكان قبل أن يصدر حكمه في شأن شخص، يعمل على أن يضع نفسه في مكانه، ويقرأ كلَّ ظروفه، وما يحيط به من أسباب ودواعٍ، ثمَّ يجلس ليفكّر في كلّ تلك المعطيات، وحينها يعطي حكمه ورأيه.
ومن الشَّواهد على إنصافه، أنني جلست إليه يوماً، وقلتُ: ما هو موقفك من هؤلاء العلماء والفضلاء الَّذين لربما يقومون بأعمال أو يتقوَّلون آراء لا تتناسب وآراءك؟ وما الَّذي علينا فعله تجاههم؟ أليس من الأفضل أن لا نجالسهم ولا نحادثهم؟ لكنَّه بعد أن سمع مقالتي، ذهب بفكره إلى الشَّيخ محمد مهدي شمس الدين - وكان حينها منافساً قويّاً للسيِّد فضل الله - وأجابني قائلاً: لو كانت لي الشّروط نفسها، وكنتُ في المحيط نفسه والأجواء ذاتها الَّتي كانت تحيط بالشّيخ محمد مهدي شمس الدين، لفكَّرت بنفس ما فكَّر فيه، ولعملت ما عمله، فلا يجب أن نتَّهم الرّجل أو نشكّ في نيّته، فالرجل شخصيّاً كان جيّداً، لكن تلك الظّروف التي أحاطت به، وما فرض عليه من أجواء، هو ما جعله يبادر بذلك التصرّف، كما أنّ علاقته بالحكومة حكمته بنوع من السلوكيّات...
شعار «إلهي إلهي...» بعد صلاة الجماعة
كنت أسعى لما كنت في لبنان أن أحضر الجماعة خلف السيِّد فضل الله، وكنت أحثّ أصدقائي على الحضور، وعلى قراءة دعاء «إلهي إلهي، حتى ظهور المهدي، احفظ لنا الخميني». وكان الكثير من الحاضرين هناك يعترضون على ذلك، ويعتبرونها بدعة مستحدثة، لكنَّ العلَّامة فضل الله لم يكن يصدر موقفاً مؤيِّداً أو معارضاً له...
لقد كان السيِّد فضل الله يدرك أنَّني كنت متعلِّقاً به، وذلك من خلال حضوري لدروسه، وكنت أحرص على حضور الجماعة بإمامته، لذلك كان يتجاوز شدَّة طبعي، لأنه كان يعلم أنها إنما كانت ناتجة من إخلاصي وحبّي لذلك الطريق. لكن اليوم، عندما أفكر في كلّ ذلك، أشعر بالخجل من نفسي.
درس البحث الخارج في الفقه للعلَّامة السيِّد فضل الله
كان درس بحث الخارج ينعقد في بيت السيِّد فضل الله في الصَّباح الباكر من كلّ يوم، وذلك بحضور خمسة إلى ستّة أشخاص. وكان موضوع الدرس كتاب العروة الوثقى، فقد كان يقرأ المتن أوّلاً، ثمَّ يفسِّر ويوضِّح المتن، وما فيه من إشكالات، ثمَّ بعد ذلك يطرح آراء ووجهة نظر السيِّد الخوئي، وما طرحه من إشكالات، وإجاباته عليها، وإذا كان له نظر خاصّ، فإنّه يطرحه ويجيب عن إشكالاته. وعلى العموم، فقد كان يطرح رأيه في كلّ مسألة من مسائل المتن.
وكان الدَّرس يعطل في الأيام التي يكون القصف الإسرائيلي شديداً. أما أنا، فقد كنت أحضر إلى مكان الدرس كلَّ يوم، وفي اليوم الَّذي لم يكن حراس السيّد فضل الله يعرفون إن كان الدرس سيعطَّل أو لا، كنت أنتظر في ذلك المكان مدَّة عشرين دقيقة، ولما أرى أنَّ أحداً لم يحضر إلى الدَّرس، أرجع إلى بيتي.
والعجيب في الأمر هو ذاك التَّوافق غير المنطوق بين الأستاذ والطلبة، فكلَّما كان القصف الإسرائيلي شديداً، كان الدرس يعطَّل، لكن ما هو حدّ شدّته وحدّ خفته؟ الطلبة فقط هم الذين يعرفون ذلك. لذلك، فالأمر كان توافقياً، ولم أكن أفهم مقياس شدّة القصف وعدمه، لأعرف أن الدرس قد تعطَّل أو لا، لذلك كنت مضطراً لأن أحضر إلى المكان بنفسي، وفي كلّ صباح.
العلَّامة فضل الله والرّعاية لحزب الله
كان السيِّد فضل الله يتكلَّم اللغة الفارسية. لذا، كنت تجده يستقبل الوافدين عليه من إيران، ويتكلَّم معهم بلغتهم. كانت له روح ثوريَّة، وكان كثير الدفاع والتبليغ لحزب الله. كما كان يرعى شباب المقاومة، ويحثّهم على الجهاد والصّمود في وجه العدوّ الصهيوني، لكن للأسف، لم يكن حزب الله آنذاك يراعي السيِّد فضل الله أو يدافع عنه، وكان الحزب آنذاك ذا توجّه إيراني في أسلوبه وطرق تنظيمه...
آخر لقاء بالسيِّد فضل الله
بعد أن غادرت لبنان، وعدت إلى وطني إيران، حرمت من رؤية السيِّد فضل الله بأمّ العين، ومن مجالسته المباشرة، والاستمتاع بحديثه. واستمرَّ هذا الحال إلى أن أتى السيِّد فضل الله بنفسه إلى إيران... حيث قام بزيارة المكتبة المركزيّة للعلوم والمعارف القرآنيّة في قمّ، وكنتُ أشتغل بالتّحقيق في هذا المركز، فذهبت لملاقاته، ورغم مرور سنوات طويلة على عدم رؤيته لي، ورغم تغييرات الدَّهر على كلانا، فإنَّه عرفني منذ اللّحظة الأولى، وكان تعامله جيّداً وسخيّاً...
ذكرياتٌ.. أحزان وعِبَر
إنَّ ما جعلني أتجرَّع مرارة فقدي لهذا العزيز، ما أحمله في نفسي وفي قلبي عنه من ذكريات حول جهاده، وتضحياته، وإخلاصه، وتواضعه، هذا العالم المحبّ للإنسانيّة.
لا يزال صدى صوته في درس بحث الخارج في الفقه يتردَّد في مسامعي، والاجواء مخيمة بأصوات القصف الإسرائيلي على مدينة بيروت سنة 1366هـ. ش.
ولا يزال صدى صوته في خطبه الغراء في مسجد الإمام الرضا (ع) في بئر العبد تحمل إلى قلبي عبق تلك الكلمات، ونسيم تلك العبارات. ولا تزال نفسي تحافظ على نبرات صوته، وطريقة أسلوبه في الإجابة عن أسئلة الشَّباب. نعم، ذكريات عن أخلاقه السَّمحة، تواضعه القرآني، حين كان يحضر إلى مدرسة الرسول الأكرم (ص)، ملبّياً دعوتي ودعوة رفاقي، فكان يلبي الدَّعوة من دون أدنى تكبّر أو استعلاء. نعم، لا تزال تتجسّد في عينيّ صورته وهو يمشي على العلم الإسرائيلي، معبِّراً عن رفضه للظّلم والاستبداد والطّغيان.
ما تزال ذكرياتي عن تلك الجلسات الخاصَّة حول المرجعية والأعلمية تغمر روحي ونفسي بفيض صفائه، وتكشف لقلبي وبصيرتي عمق تفكيره، وعظيم إدراكه للأمور، وهو يردّد عليّ عباراته المليئة بالمعاني: اترك الفقه والأصول والمعارف الحوزويَّة تكون هي المعيار والمقياس لتشخيص الأعلم، ولا تجعل للسّياسة طريقاً إلى ذلك؛ لأنَّ السياسة إذا تدخَّلت في تعيين المرجعيَّة، كان لها عظيم الضّرر.
ذكريات حول إنصافه وعدله في الحكم على النَّاس، تقواه، عدم مهاجمته لمن يتهجَّمون عليه أو يتَّهمونه بالسوء، احتضانه للأيتام ومساعدته لهم، مساعيه الحميدة في إيجاد دور للأيتام، كلّ ذلك لا يزال يحلّق في آفاق روحي، ويجعلني أعيش كلَّ تلك اللحظات بحبٍّ وشوق.
ذكريات عن سعيه وكدّه الجادّ في كتابة دورة كاملة في تفسير القرآن الكريم «من وحي القرآن»، وما تضمَّنه في مجلَّداته الأربعة والعشرين من مضامين تفسيرية علميَّة، كانت زاداً قوياً دفعني إلى الإقبال على العلوم، وزرع في قلبي حبّ البحث العلمي.
لا تزال خطواته في كتابة رسالة عمليَّة على طراز حديث يستجيب لما ابتُليت به الأمَّة في الحاضر، وتأليفه للعديد من كتب الفقه، إلى جانب مواضيع اجتماعيّة وأخلاقيّة، قد حازت السبق بامتياز.
وفي ظلّ كل تلك الذكريات، لا تزال ترفرف في قلبي وروحي تلك اللحظات التي كان يسافر فيها إلى سوريا، للتّدريس في حوزة المرتضى، فكان كلّ ذلك يزيد من عظمة الرّجل في نفسي، ويجعله يكبر ويكبر، ليبلغ الكمال.
لا تزال بحقٍّ شجاعته في إعلان الفتاوى الصادقة والصريحة، وفي مواجهته للكيان الغاصب الصهيوني، كلّ هذه الشجاعة كانت تنقلب عند ذلك الرّجل إلى حلم ووداعة مقابل جهل الجاهلين من أبناء الدّين والوطن، يتورع عن الردّ عليهم، وعن مقابلة سيّئاتهم بسوء.
دفاعه العقلاني والمستميت عن أحكام الدّين ومعارفه، من الذكريات التي لن يمحو أثرها أيّ شيء. كلّ هذا وغيره كثيرٌ إذا أضيف إلى مواقفه في مواجهة إسرائيل، ومواجهته للفكر الخرافي والخرافات والجهل، يجعل فقدنا إيَّاه ثلمة لا يسدّها شيء، وابتلاءً كبيراً للإسلام وأهله.
قدَّس الله روحه، وكثَّر من سالكي دربه.
* مجلة الاجتهاد والتجديد - (العدد 20-21 ) بتاريخ 1-1-2012 م 

اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير