السيّد فضل الله للتلفزيون الإيراني:
صلابة الإمام الخميني(رض) وشجاعته وإصراره واعتماده على الله وعرفانه القرآني أساس نجاح ثورته
بمناسبة رحيل قائد الثورة الإسلامية في إيران، الإمام الخميني(رض)، أجرى التلفزيون الإيراني مقابلةً مع سماحة العلامة المرجع، السيد محمد حسين فضل الله، تناول فيها الأبعاد الروحية والسياسية لشخصية الإمام(رض)... وهذا نصّ الحوار الّذي بدأه سماحة السيّد بقوله:
لقد كان الإمام الخمينيّ (رضوان الله عليه) إسلامياً بكلّ ما للكلمة من معنى، وكان يمثل الشخصية الإسلامية التي تعتبر الإسلام كل شيء في العالم، فقد كان يفكّر في الإسلام في مستوى العالم، وإن كان منطلقاً في حركته من إيران، لكّنه كان يعتبر إيران الموقع الذي يمتدّ في تجربته الإسلامية إلى أكثر من موقع في المنطقة، ولهذا انطلق خصومه من الاستكبار العالمي ليحاربوه في الشعوب الأخرى، التي تعيش خصوصيةً في مواقعها، باتّهامه بتصدير الثورة. وأنا أتصوّر أنّه لو كان النبيّ محمّد(ص) في هذا العصر، لقالوا في حربهم ضدّه إنّه يريد تصدير ثورته ودعوته الإسلامية إلى المنطقة والعالم.
وقد تجلّى الإسلام في كلّ فكر الإمام الخميني، من خلال اجتهاده الفقهي في مسألة ولاية الفقيه العامّة التي سبقه إليها فقهاء كبار، كالشهيد الأول، وصاحب الجواهر، والشيخ النراقي، ولكنهم لم يوفَّقوا لأن يحوِّلوا هذه النظرية إلى حركة تنفيذية في الواقع، لأنّ ظروفهم لم تسمح لهم بذلك، ولكنّ الإمام الخميني(رض) بإصراره، وصلابته، وصموده، وإيمانه برسالته، واستعداده لتحمّل كلّ الأخطار، حتى خطر التضحية بالنفس، استطاع أن يحرّك الشعب الإيراني المسلم وبعض الشعوب الأخرى، من أجل إسقاط الكفر وكل السّائرين في خطه، وإسقاط الاستكبار العالمي الذي كان يسيطر على إيران وعلى المنطقة كلّها، سواء الاستكبار السوفياتي، أو الاستكبار الغربي.
فقد كانت صلابته وشجاعته وإصراره واعتماده على الله سبحانه وتعالى وعرفانه القرآني، الأساس في نجاح ثورته، إضافةً إلى أنّ الشعب الإيراني المسلم رأى فيه الفقيه الشجاع المخلص الذي يحبّ شعبه. وقد كنت أستمع إليه في بعض مواقفه وهو يقول: إنّ كلّ ما عندنا هو من الله تعالى، وليس لي أيّ دور في ذلك، وبالدرجة الثانية، كل ما عندنا من الشعب. فقد كان يؤمن بالشعب المسلم الواعي المنفتح.
فالإمام الخميني(رض) يمثل الشخصية الإسلامية الشيعية الملتزمة بمنهج أهل البيت(ع)، باعتبار أنّه المنهج الإسلامي الأصيل الذي يعمل على وحدة المسلمين، وكان شعاره: "يا مسلمي العالم اتّحدوا". وكان يرى أنّ على المسلمين الذين يختلفون في نظرياتهم المذهبيّة أو الكلامية أو الفقهية، أن يأخذوا بقول الله سبحانه وتعالى: {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرّقوا}[آل عمران:103]، {فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله والرسول}[النّساء:59]. كان يؤمن بأنّ أفضل وسيلة لتقريب المسلمين بعضهم من بعض، وصنع وحدتهم، هو الحوار وإرجاع ما اختلفوا فيه إلى كتاب الله وسنّة نبيّه(ص).
ولم يقتصر دوره على الوحدة الإسلامية، بل كان يعمل على وحدة المستضعفين في العالم، وهو ما يجسّده شعاره المعروف: "يا مستضعفي العالم اتّحدوا"، لأنه كان يريد للمستضعفين أن يفهموا أنّ الإسلام يمثّل الدين الحضاري الذي يمكن أن يحقّق للإنسان الحل لمشاكله الاقتصادية والسياسية والأمنية والثقافية المعقّدة، وكان يرى أن المستضعفين عندما يكتشفون الإسلام، فإنّه يمكن أن ينفتحوا عليه ويتّحدوا مع المسلمين في مواجهة الاستكبار العالميّ.
وقد كان من أهمّ نتائج ثورة الإمام الخميني(رض) التي واجهها العالم المستكبر والعالم الكافر، أنّه أدخل الإسلام في كلّ عقل، سواء من خلال الذين يؤيّدونه أو الذين يعادونه، فأصبح العالم انطلاقاً من ثورته يفكّر في الإسلام، ويؤيّد قضايا الحرية فيه، وخصوصاً في مسألة الاستفتاء الشّعبي الذي أخذ به الإمام الخميني(رض) كنظريّة فقهيّة، إلى جانب كونه نظريةً سياسيةً، ما جعل العالم ينفتح على الإسلام بعدما كانت الكثير من الشعوب لا تعرف من الإسلام حتى اسمه، لأنه لم يصلهم كدين حضاريّ.
وكان الإمام الخمينيّ(رض) رائداً في الدعوة الإسلامية، ومنفتحاً على الناس كلهم، وكان يعتبر أنّ على القيادات أن تستفتي الشعب وتستمع إلى انتقاده لها، حتى إنّه(رض) كان يوجّه النقد إلى الشخصيات القيادية الموجودة في أعلى المستويات الحكوميّة وغير الحكومية أمام الناس، لأنّه كان لا يريد أن يعطي امتيازاً للقيادات بالطّريقة التي تجعلهم يتحوّلون إلى أشخاص يقدّس الناس أخطاءهم. كان يعمل على أساس أن يثقّف الشعب والقيادات بالإسلام، وكان يريد إسلاماً ينفتح على قيم الحقّ والعدالة، لا إسلاماً ينفتح على آفاق السلطة على حساب الحق. لذلك كان يمثل نموذج الفقيه الإسلامي القياديّ الذي بقي يفكّر ويستنبط ويجتهد ويراقب الواقع الداخلي والخارجي إلى آخر عمره.
وإنّني أدعو إلى دراسة الإمام الخميني(رض) دراسةً واسعةً، من خلال حركته، ومن خلال تصريحاته التي جُمعت في صحيفة "نور"، حتى ينفتح الناس على نموذج من الدعاة الإسلاميين الذين هم في المستوى العالي من الفقه والإخلاص لله سبحانه وتعالى وللإسلام في خطّ الأئمة من أهل البيت(ع)، الذين نريد للأمّة كلّها أن تفهم تراثهم الحضاري، وأن لا تكتفي بأن تعيش حالة المأساة فيهم.
إنّنا عندما نتذكّر هذه الشخصية الإسلامية الفذّة، نشعر بميزتها وفرادتها في موقعها، بحيث استطاعت أن تتفوّق على من قبلها وتتعب من هو بعدها.
ونريد للجمهورية الإسلامية التي انطلقت من عمق حركته وفقهه، أن تبقى في خطّه، وأن تستوحيه في المتغيّرات التي تحدث في العالم، لتضيف إلى خطه خطوطاً جديدة تنطلق من روح خطّه، لا أن تبقى في حال جمود في المرحلة التي عاشها(رض)، لأن المراحل التي تعيشها تختلف عن المرحلة التي عاشها، رحمه الله رحمةً واسعة، وعوّض الأمّة عنه بقيادات إسلامية رائدة في الدعوة الإسلامية.
س: سماحة السيد، في رأيكم، ما أهمّ فتاوى الإمام الخميني الفقهية حول وحدة الشيعة والسنّة؟
ج: إنّ المشكلة في قضية الوحدة الإسلامية بين السنة والشيعة، تنطلق من مسألتين:
أوّلاً، مسألة الامتداد التاريخي للأحقاد التي كان يثيرها الطائفيون والمذهبيون المتعصّبون في تكفير المسلمين بعضهم بعضاً، وتضليل بعضهم بعضاً، وخصوصاً عندما كانت السلطات الجائرة التي تحكم المسلمين تشجّع ذلك، وتمنع خطّ أهل البيت الإسلامي الأصيل من الامتداد في واقع الناس ليسيروا في خطّه المستقيم، وقد حدثت مشاكل كثيرة في التاريخ حول هذا، وامتدّت في الثّقافات التي يثيرها الفقهاء المتعصّبون الطائفيّون، حيث إنّهم كانوا يثقّفون الشّعب البسيط بالقضايا السلبية التي تحدث عند هذا الفريق أو ذاك الفريق، وكان الجدل يتحرك من خلال أن يرجم فريق إسلامي فريقاً إسلامياً آخر بالضلال والكفر والبعد عن الإسلام.
ثانياً، مسألة الاستكبار العالمي الذي أصبح يرى في الانقسام بين السنّة والشيعة فرصةً له من أجل السيطرة على مقدّرات المسلمين وثرواتهم ومواقعهم الاستراتيجية، ولذلك فهو يعمل على تحريك الخلافات الإسلامية بإثارة العصبيات المذهبية، وبطريقة العداوة للإسلام والمسلمين، وهذا ما نلاحظه أيضاً في الموظّفين من قبل الاستكبار العالمي من ملوك وأمراء ورؤساء ووزراء وزعماء أحزاب، الذين يعملون على إثارة هذه الأمور، ليبقى الاستكبار العالميّ مسيطراً على الواقع الإسلامي كلّه.
إنّنا نتصّور أن قضية الوحدة الإسلامية أصبحت مربوطةً بالسياسة الاستكبارية العالميّة، ولذلك فإنّ على المسلمين الوحدويين أن يعملوا في هذين الخطّين: أولاً، أن ينفذوا إلى الداخل من أجل أن يثقّفوا المسلمين بأن يحترم بعضهم بعضاً، ويحفظ بعضهم بعضاً، ولا يكفّر بعضهم بعضاً، وأن يتواصلوا ويتكاملوا ويقفوا ضد الاستكبار العالمي الذي بدأ يعمل على احتلال المناطق والبلاد الإسلامية، كالعراق وأفغانستان والصومال والسودان، وما إلى ذلك، كما عمل الأوروبيون على احتلال كثير من مناطق المسلمين.
إنّ الشعار الذي أطلقه الإمام الخميني(رض): الحرية لكلّ الشعوب ولكل المسلمين، هو شعارنا في خطّ الوحدة والحرية والوعي والانفتاح والانطلاق من خلال الإسلام، ليعود الإسلام قاعدةً للفكر والعاطفة والحياة.
س: مولانا، ما أهميّة يوم القدس العالمي الذي أعلنه الإمام الخميني؟
ج: إنّ إعلان يوم القدس يمثل حركةً سياسيةً دينيةً من أجل أن تبقى القدس في الذهنية السياسية للمسلمين يوماً عالمياً يعيش فيه المسلمون ما يشبه العيد المستقبلي لتحريرها، ولكنّ الاستكبار العالمي، ومعه عملاؤه في البلاد الإسلامية، شعروا بأنّ هذا اليوم يمثّل خطراً على الخطّة الاستكبارية الأمريكية والأوروبية بشأن الكيان الإسرائيلي الغاصب، لأنّه يساهم في تعبئة المسلمين جميعاً بضرورة الانفتاح على قضيّة تحرير القدس وإخراج اليهود منها.
لهذا نشأت حربٌ عالميّة على يوم القدس، حتى من قبل بعض الذين يتّصل بهم القدس اتصالاً وطنياً، كبعض الجهات الفلسطينية التي ترفض الاحتفال بيوم القدس، بالرغم من أنّها تتحدّث عن ضرورة أن تكون القدس عاصمة الدولة الفلسطينية، لأنهم يخافون من الاستكبار العالمي الذي قد يفرض عليهم أموراً كثيرةً في طريق عمالتهم له.
لذلك لا بدّ للمسلمين من أن يصرّوا على الاحتفال بيوم القدس، وعلى امتداد هذا اليوم لتكون كل أيام السنة أياماً للقدس، لأنّ القدس لا تمثّل مجرد بلد أو مسجد، ولكنّها تمثل كل فلسطين وكل العالم الإسلامي، لأنّ الله سبحانه وتعالى عندما تحدّث عن المسجد الأقصى، تحدث عن مباركة كل ما حوله، وهذه الكلمة قد تمتدّ إلى العالم الإسلامي كلّه.
س: سؤال أخير، كيف تنظرون إلى الإمام الخميني كزعيم روحي وسياسي بشكل مختصر؟
ج: لقد كان الإمام الخميني(رض) يمثّل الإنسان القيادي للحركة الإسلامية، ومن الطبيعي أنّ كل إنسان يعيش بعقله وقلبه وطاقاته وكلّ شؤونه من أجل الحركة الإسلامية، مقتدياً برسول الله(ص) وبالأئمّة الأطهار الذين كان الإسلام كل حياتهم، لا بدّ من أن يكون قائداً للمسلمين جميعاً. ونحن ندعو كلّ العاملين للإسلام، أن يصنعوا من أنفسهم مشروع قيادة، فإذا سقط قائد فعليهم أن يملأوا الفراغ بقائد آخر، لأنّ صنع القيادة الحكيمة يتوقّف عليها مصير الإسلام ومصير الحرية في العالم.
إننا نعتقد أنه لا يجوز أن يكون هناك فراغ قيادي، ومن الطبيعي أننا عندما نريد أن نعتبر شخصاً قائداً، فإنّ علينا أن ندرس كل عناصر القيادة في شخصه، ولا ننطلق من خلال المدائح الاستهلاكية والعواطف الذاتية في هذا المقام، لأنّ القيادة تمثل حالةً موضوعيةً في عناصرها، تشمل حاضر الأمّة ومستقبلها كلّه.
س: مولانا، تكلّمتم عن البعد السياسي للإمام الخميني، ماذا عن البعد العرفاني بشكل مختصر؟
ج: لقد قلت في بداية حديثي، إنّ الإمام(رض) كان عرفانياً قرآنياً، ولذلك فإنني أتصوّر أن القرآن، بحسب مفاهيمه التي تنفتح على الله تعالى في عالم المعرفة وفي عالم العقيدة والعبادة والطاعة، بحيث يكون الله كلّ شيء للإنسان، بعيداً عن كل المفردات الفلسفية التي دخلت في علم العرفان، يجعل من الإنسان عرفانياً، لأني أعتقد أنّ العرفان هو عرفان القرآن، الذي استوحى منه النبي(ص) والأئمة من أهل البيت(ع) الأدعية التي كانوا يبتهلون بها إلى الله، فإنّ دراسة هذا التراث، إضافةً إلى التعمق في دراسة القرآن الكريم، لا بالطريقة الفلسفية المعقّدة المنطلقة من فلسفات أخرى، بل انطلاقاً من روحية الدعوة الإسلامية وروحية القرآن الكريم، هذه الدراسة تمثّل العرفان الذي يجعلنا ننفتح على الله سبحانه وتعالى بكلّ صفاء، وبكل روحانية، وبكل إخلاص.
ـ شكراً جزيلاً لكم...