في رسالة وجّهها لمناسبة الميلاد وعاشوراء ورأس السنة
فضل الله: المنطقة على وشك خيارات واستحقاقات ولبنان بأمسّ الحاجة لوحدة أبنائه |
لمناسبة ميلاد السيد المسيح(ع) ورأس السنة الهجرية والسنة الميلادية وذكرى عاشوراء، وجه سماحة العلامة المرجع، السيد محمد حسين فضل الله، رسالة إلى اللبنانيين والعرب والمسلمين، جاء فيها:
نلتقي في هذه الأيام بمناسبات إسلامية ومسيحية تمثل موضع الاهتمام والتقدير لدى المسلمين والمسيحيين على السواء... وقد التقت هذه المناسبات الروحية فيما يمثل تطلعات المؤمنين بالله سبحانه هنا وهناك نحو السلام المنطلق من عمق حركة النبوة والممتد في حركة الأولياء الصالحين، وعباد الله المخلصين.
فقد التقينا قبل أيام بذكرى ميلاد عيسى، السيد المسيح(ع)، الذي مثّل رسالة المحبة الإلهية الخالصة المنفتحة على الإنسان كلّه، والذي جعله الله وأمَّه آيتين من آياته الكبرى، ومعجزتين من معاجزه العظمى... وبذلك انفتح مولده على الحرية والعدل والسلام والقيم الإلهية والرسالية السامية التي تلتقي بحركة النبوة في ذكرى السنة الهجرية الجديدة، التي مثّلت الامتداد للرسالات السماوية بتجسيدها لقيم الحق والخير التي ينشدها كل أتباع الرسل في إحقاق الحق وإزهاق الباطل وإقامة العدل، وفي احترام الإنسان... لأننا نتطلع إلى الهجرة النبوية الشريفة من خلال ما مثَّلته من انطلاقة عملية للإسلام، وما مهدت له من قيامة حقيقية له، كما نتطلع إلى ذكرى عاشوراء كحركة لا تنفصل عن معاني الهجرة، فهي تمثل هجرةً في سبيل الإسلام، وحركةً تصحيحيةً في الواقع الإسلامي، ونهضة فاعلة في مواجهة الظلم الذي ترفضه كل الأديان والشرائع، وثورة على الباطل الذي أريد له أن يتحول إلى نهج وخط تعتاد عليه الأمة فيغدو جزءاً من ثقافتها وحركتها.
إننا عندما نلتقي بهذه المناسبات وبذكرى السنة الميلادية الجديدة في حركة تعانق عبر الزمنين الهجري والميلادي، فإننا نؤكد جملة من المعطيات:
أولاً: إن هذه المناسبات تمثل محطّاتٍ للتلاقي والتفاهم بين أتباع الرسالات السماوية، وخصوصاً بين المسيحية والإسلام، لأننا نؤمن بأن الرسالات تمثل محطات تلتقي في نطاق سلسلة متكاملة، أراد الله من خلالها أن يبعث برسل المحبة والرحمة إلى الناس لإخراجهم من الظلمة إلى النور، ولرفعهم من حضيض الجهل والظلم إلى آفاق العلم والعدل، في سياق حركات متعاقبة مثّلت كل واحدة منها صورة الحق الناصع في مرحلتها وفي آفاقها الزمنية.
ولذلك، فإن كل من يسعى لتحويل هذه المناسبات إلى مواقع للتفرقة والتباغض والخلاف، ولا ينفتح بها على آفاق الحوار والتفاهم والتحابب، فإنه يمثل حالة تمرّد على مفاهيم هذه الرسالات ومعانيها التي أرادها الأنبياء أن تحمل بشائر الألفة والمحبة واللقاء بين البشر.
ثانياَ: إذا كان ثمة من يعتقد أن معاني الهجرة النبوية الشريفة بأبعاد الفرح والغبطة التي يعيشها المسلمون في هذه الذكرى تتناقض مع معاني عاشوراء لما تحمله من صور المأساة ومعاني الألم والحزن، فإن هؤلاء واهمون، لأنهم لم ينفتحوا على معنى الفرح الرسالي الذي عاشه الإمام الحسين(ع) في حركته ونهضته، والذي جسده بأسمى أنواع التضحية والوفاء في الخط الإسلامي، وبقوله(ع): "هوّن ما نزل بي أنه بعين الله...".
ثالثاً: إن لبنان اليوم بأمس الحاجة إلى الحفاظ على وحدة أبنائه وتماسك فئاته السياسية المختلفة وطوائفه ومذاهبه المتعددة، في مرحلةٍ يتحدث الكثيرون في الداخل والخارج عن خطورتها، وعن صعوبتها، وفي وقت تتحضّر الكثير من الأطراف الإقليمية والدولية للدخول في خيارات واستحقاقات قد تترك تأثيراتها الكبرى على البلد الذي لا بد لأبنائه جميعاً من أن يتحملوا مسؤولياتهم في الحفاظ على الوحدة الوطنية من جهة، كما لا بد للمسلمين فيه من أن يبذلوا كل طاقاتهم لصون الوحدة الإسلامية التي تمثل عنوان عزة وقوة لهم، وألا يفسحوا في المجال أمام دعاة الغلو وأتباع الخرافة وحركات التكفير والتضليل ليتسلّلون إلى داخلهم ليعبثوا بواقعهم أو ليحولّوا مناسباتهم الإسلامية الجامعة، وخصوصاً عاشوراء، إلى مواقع للتنازع والتقاتل، لأن الإمام الحسين(ع) يمثل الشخصية الإسلامية الجامعة التي يقدسها المسلمون جميعاً، فلا يمكن لأحد أن يبذر بذور الشقاق بين المسلمين ثم يدعّي الانتماء إليه، ولا يمكن لمذهب بعينه أو طائفة بنفسها أن تدّعي احتكار حركته ونهضته وثورته، لأنه نموذج في الثورة على الظلم في الواقع الإسلامي كلّه، ومثال العزة والإباء لكل الأحرار في العالم، وفي مدى الزمن كلّه.
رابعاً: إننا نعيش في واقع عربي وإسلامي مأزوم، لا من جهة أطماع المستكبرين وحروبهم على أرضنا واحتلالهم لبلادنا فحسب، بل أيضاً من جهة ما يعيشه الواقع العربي والإسلامي من نقاط ضعف على المستوى الداخلي، ونحن نلمح في الأفق القريب واقعاً عربياً تشترك فيه جهات عربية رسمية يسعى للاقتصاص من المقاومة، ويُسلّط جام غضبه على الانتفاضة، ويعد العدة لها ويكيد لمجاهديها، ويكاد يستصرخ إسرائيل لكي تجتاح غزة فلا تبقي فيها ولا تذر، لأن هؤلاء راهنوا على تسوية سريعة وعاجلة مع العدو تريحهم من فلسطين وقضيتها، ففوجئوا بانكسار الحلقة الإسرائيلية أمام المقاومة في لبنان في تموز من العام 2006، ولكنهم يراهنون في هذه الأيام على هزيمة الانتفاضة وفصائلها في غزة، حتى يفسح لهم ذلك في المجال للدخول في مفاوضات سريعة مع العدو تم تحديد أهدافها ورسمت معطياتها ونتائجها مسبقاً، وهي تنتظر الوقت المناسب لقيام بعض العرب بالإعلان عن تخليهم الكامل عن القضية الفلسطينية وتبرؤهم من دم هذا الصديق الذي تسفك دماؤه في ساحات غزة وبيوتها ودساكرها وأحيائها.
خامساًً: إننا نستمع إلى كلمات تنطلق من هنا وهناك لتقول إنّ منطقة الشرق الأوسط تمثل منطقةً حيويةً للولايات المتحدة الأميركية لأسباب سياسية واقتصادية واستراتيجية، ولمعطيات تتصل بأمن إسرائيل، وبالتالي لا بد من مراعاة هذه المصالح الأمريكية وتفهم حاجة الولايات المتحدة إلى استمرار التعاطي مع قضايانا بوحي من ذلك... ولكننا في المقابل نؤكد أن هذه المنطقة التي كانت في التاريخ مهد الديانات، والتي تحمل في أرضها الاحتياطي العالمي الأكبر في مجالات الطاقة المختلفة، هي منطقة حيوية لشعوبها وجماعاتها التي أثبتت أنها تستحق الانتماء إليها من خلال ما قدمته من تضحيات كبرى على أرضها في مواجهة أعتى الجيوش وأصعب الاحتلالات، فما يجري في فلسطين يعطي الصورة الحقيقية حول أصحاب الأرض الذين بذلوا كل غالٍ ونفيس من أجلها، وحول لصوص الأرض الذين يهددون في هذه الأيام، وعلى أبواب الأعياد، كنيسة القدس بالخناق والحصار والتضييق، كما قال بطريرك القدس لطائفة اللاتين، فؤاد طوال، كما يهددون المسجد الأقصى بالهدم والحفريات المتواصلة، كما أكد قاضي قضاة فلسطين، تيسير التميمي، في رسالته الأخيرة إلى منظمة المؤتمر الإسلامي.
إنّنا ندعو العرب والمسلمين إلى وقفة واحدة للدفاع عن المقدسات الإسلامية والمسيحية في فلسطين المحتلة، وللدفاع عن قضايانا وحماية إنساننا في العراق وفلسطين وأفغانستان والسودان والصومال، وفي كل مكان في مواجهة قوى الشر والاحتلال والعدوان التي لم تتعظ من تجاربها السابقة، وقد يدفعها غرورها وحرصها على مصالح إسرائيل إلى استئناف حروبها الأمنية والعسكرية والاقتصادية بأشكال وأساليب جديدة.
|