السيِّد جعفر فضل الله يوضح أبعاد فتوى المرجع فضل الله
حقِّ كلِّ مُعتدى عليه أن يردَّ الاعتداء الموجَّه إليه من أيّ معتد
في ردٍّ على التَّعليقات الّتي نُشِرت في عددٍ من الصّحف، وبينها "الرأي" الكويتيَّة، على الفتوى الّتي أصدرها المرجع الشّيعيّ العلّامة السيّد محمد حسين فضل الله قبل أيّام، "حيث يجوّز للمرأة الدّفاع عن نفسها ضدّ عنف الرّجل"، أصدر السيِّد جعفر محمد حسين فضل الله (من مكتب المرجع الشيعيّ)، بياناً توضيحيّاً جاء فيه:
"من دواعي السّرور أن يثور الجدل في شأن مسألةٍ ترتبط بحدود العلاقة بين الرّجل والمرأة، والتي تتَّصل بفهم النصّ الدّينيّ من جهة، وبإشكاليَّة نظرة الآخرين إلى الإسلام من جهةٍ أخرى. وإن كُنَّا نصف الواقع في مسألة هذه النَّظرة فحسب، فلا نريد أن نجعلها مبرّراً لإسقاط أفكارٍ لا تنتمي إلى حقل الدّلالة للنصّ الدّينيّ نفسه، على المنهج العربيّ في فهم الكلام.
وداعي السّرور أمران:
الأوَّل: أنَّنا جميعاً ننخرط في جدلٍ على مسائل ذات صلةٍ بالواقع، وليست أموراً فرضها الخيال في لحظة ترفٍ فكريّ، ممّا اعتاد أن يثير جدالاً عقيماً لا يزيد علماً ولا يطرد جهلاً.
الثاني: أنَّ الجدل لم يعد محصوراً في دائرة كلِّ مذهب، حيث قواعد النّقاش إسلاميّة المنشأ والمفردات، وبات الانفتاح في الاجتهاد جزءاً من الغنى الذي فقده المسلمون عندما انغلقوا على أنفسهم، كلٌّ في إطار مذهب، يتحوَّل معه الاجتهاد إلى نحوٍ من أنحاء التّقليد الّذي ينحصر عند أعتاب التّقديس.
ولعلَّ من الأهميّة الإشارة إلى أنَّ أيَّ موضوعٍ فقهيّ أو عقيديّ، أو إلى أيِّ مجالٍ معرفيّ انتمى، ممّا يعتمد على فهم النّصوص الدّينيّة في استخلاص طبيعته أو حقيقته، لا يُمكن معه أن يُعمَد إلى الاجتزاء في قراءة النّصوص، بل لا بدَّ من استيعاب كلِّ النّصوص ذات الصّلة بالموضوع، وعند ذلك، يكون كلّ نصٍّ جزءاً من مكوِّنات الصّورة النهائيّة الّتي يرتضيها منهج التّفكير الذي نتبنَّاه.
وعلى كلّ حالٍ، فما أحاوله في هذه المقالة، ليس تسجيل ردودٍ على مخالفة الرأي الّذي أطلقه المرجع السيّد محمد حسين فضل الله في ما يخصُّ المرأة في ردِّ الاعتداء عليها من زوجها، أو على رميه بالشّذوذ العلمي، بقدر ما أحاول إثارة بعض الأمور الّتي قد يكون من شأنها أن ترسم خطّاً منهجيّاً في فهم النّصّ الدّيني في ما يتعلّق بهذه المسألة، وربما غيرها، وبالحجم الّذي تسمح به الكتابة الإعلاميَّة، ممّا من شأنه أن يوضح ما كان يرمي إليه العلاّمة المرجع فضل الله في حديثه عن حق ردِّ العدوان، وذلك في نقاط:
أوّلاً: إنَّ حدود أيّ علاقةٍ ذات طابعٍ اجتماعيّ، تحدّدها طبيعة الحقوق والواجبات المتبادلة بين الطّرفين أو الأطراف، ولذلك، لا بدَّ سلفاً من تحديد طبيعة العلاقة التي تحكم الحياة الزوجيّة بين الزّوج وزوجته، أو الحياة بعامَّة عندما نتحدّث عن رجل وامرأة. وممّا لا شكّ فيه، أنَّ عقد الزّواج ليس عقد تمليك، ينتج بموجبه تمليك المرأة للرّجل، بل هو عقدٌ يحكمه قوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ}[1]، هذه الدّرجة تتحدَّد وفق ما يُثبته النّصّ الدينيّ، وهو حقّ الطّلاق وإدارة البيت الزوجيّ (القوامة). أمّا الطّاعة، فهي للالتزامات الزوجيّة التي تُلزم الطّرفين من خلال عقد الزّواج، سواء لِجِهَةِ تحقيق الإحصان لكليهما من الناحية الجنسيّة، أو من جهة تحقيق التّناسل، أو من جهة حماية حريم العائلة، وإقامة حدود الله وما إلى ذلك.
ثانياً: لقد فهم السيِّد فضل الله أنَّ قوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ}[2]، مختصٌّ بالحياة الزوجيَّة، لأنّ الزوجيَّة هي المجال الوحيد الّذي يُنفق الرَّجل فيه على المرأة بصفة كونه رجلاً وكونها امرأة، وأمّا خارجها، فالرّجل ـ بما هو أب ـ يُنفق على الذّكر والأنثى معاً، إضافةً إلى ذيل الآية الذي يتحدّث عن المرأة الصّالحة والمرأة الناشز ممّا هو واضح في تناوله للبيت الزّوجيّ. كما يرى السيِّد فضل الله أنَّ القوامة هي الإدارة الّتي تفرض للمدير السّلطة على إدارة مؤسَّسة الزّواج لما تقتضيه المؤسَّسة، لا بما لا تقتضيه، وبالتّالي، ليس من حقّ الرّجل أن ينطلق من مزاجه الشّخصيّ، فيتعاطى ما ليس له بحقّ. ويرى بعض العلماء ــــ ومنهم السيِّد فضل الله ــــ أنَّ ظاهر الآية كون الشّرطين أساس القوامة، لا أنّ التميّز التكويني للرّجل هو السَّبب وحده. وعليه يترتّب جملة من الأحكام، كما لو منعها حقَّها من الإنفاق، فإنّه يجوز لها أن تمنعه حقّاً مقابله.
ثالثاً: لا بدَّ من التّسليم بنقطة، وهي أنَّ من حقِّ كلِّ مُعتدى عليه أن يردَّ الاعتداء الموجّه إليه من كلِّ معتد، سواء كان المعتدى عليه امرأةً أو رجلاً، وسواء كان المعتدي امرأةً أو رجلاً أيضاً، وهذا هو الأصل في علاقة الرّجل بالمرأة، وكلّ منهما بمثله، فإذا اقترن الرّجل بالمرأة من خلال الزواج، فإنّه ليس ما يدلّ على انتفاء هذه القاعدة سوى ما ورد في قوله تعالى: {وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً}[3]، وهي مسألة تابعةٌ لنظام الحقوق بين الزَّوجين، وبالتَّالي، خصَّها السيِّد فضل الله بمسألة التمرّد على الحقِّ الجنسيّ الخاصّ، ممّا لا يُمكن فيه الاستعانة بالسّلطة القضائيّة أو الشّرطة إلى داخل غرف النّوم، فلا بدَّ من إيجاد آليَّةٍ ضابطةٍ للالتزام الحقوقيّ المفروض بالزّواج على كلٍّ من الطّرفين، وليس إلاّ هذا التدرّج من الموعظة إلى الهجران، ثمّ الضَّرب الّذي يتَّفق الفقهاء المسلمون على أنّه تأديبٌ ملطَّف، بعد اشتراط كونه غير مبرح.
على أنَّ هذه المسألة خاصَّة، ولا تشمل ما كان بصدده السيِّد فضل الله، من الحديث عن العنف الموجَّه من الرّجال والنساء، وإلاّ، فهل يُمكن أن يلتزم أحدٌ أنّه لو فقأ الزّوج عين زوجته، أو كسر عظمها، أو جرحها، أو أحرق شيئاً من جسدها، أو ضربها ضرباً مبرحاً، أنّه ليس من حقِّها ردّ الاعتداء؟
لذلك، فما اعترض به بعض العلماء ليس هو المقصود بالعنف، ولا سيّما مع تصريحه بأنّه تعاطٍ بما ليس له بحقّ، وبعد الاستدلال له بآية ردِّ العدوان.
رابعاً: من واضحات القرآن، أنَّ الحياة الزوجيّة لا يُمكن أنْ تتحرّك في إطار الإضرار بالزَّوجة، وذلك هو قوله تعالى: {وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لَّتَعْتَدُواْ}[4]، وأيّ ضررٍ أعظم من أن ينطلق الرّجل من رجولته عندما يتحرّك بالعنف ضدّ المرأة، ممّا ليس له بحقّ؟! بل ربما يُستفاد من الآية إمكان أن يتدخَّل القضاء الشّرعيّ للتّفريق بين الزَّوجين إذا امتنع الزّوج عن المساكنة بالمعروف والإقلاع عن الإضرار، مُضافاً إلى أدلّة أخرى واردة في هذا المجال.
خامساً: ليس ما يمنع من التأمُّل في مدلول آية "الضَّرب"، لِجِهَة أنّها تقابل الكلام عن {وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ}، بالكلام عن "الصَّالحات القانتات الحافظات للغيب"، قال تعالى: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللهُ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ}[5]، إذ من الممكن افتراض أنَّ معنى النّشوز في الآية يتَّصل بالانحراف، لأنها هي الّتي لا تحفظ الغيب بما حفظ الله، وقد يؤيِّده أنَّ قوله تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً}[6]، فرَّق بين مفهومين: النّشوز والإعراض، ما يوحي بأنَّ النّشوز هو معنى لا يتَّصل بالطّرف الآخر ضمن الزّواج، بل هو النّشوز خارج الزّواج الّذي يلازم كونه يتطلّب امرأةً أخرى، ولذا، كان الحلّ المطروح للمرأة هنا هو عقد الصُّلح بينهما وبين زوجها، حيث عقّب تعالى: {فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً}[7]، لأنَّ الشّرَع أحلَّ له أن يتزوَّج بأخرى، بينما كان الحلّ المطروح هناك أشدّ، لأنَّ الشَّرع لم يُبح لها التزوّج بآخر، ما يسمح بالترقّي في استخدام الوسائل الرّادعة إلى حدّ العنف الجسديّ، والله العالِم.
سادساً: ينبغي التأمّل في دلالة بعض الأحاديث الواردة في حثّ المرأة على طاعة زوجها، لأنَّ هذه الأحاديث تتعرّض إلى الجانب الأخلاقيّ، كما هي الأحاديث الواردة بالنّسبة إلى الأبوين، كما في المرويّ عن النبيّ(ص) الذي قال لمن شكاه أباه: "أنت ومالك لأبيك"[8]، فإنّه لا يُراد بها تشريع نوعٍ من الملكيّة الأبويّة للولد، لأنّه مستقلّ ماليّاً عن الأبوين، بنصّ القرآن، عندما يبلغ، وإنّما تتحدَّث عن أنَّ طبيعة إدارة العلاقة بين الولد وولده، لا بدَّ من أن يعيش معها الولد روحيَّة الانسحاق أمام إرادة الوالد من موقع الاحترام والاعتراف بالجميل، ممّا يشكِّل عنصر توازنٍ أمام نزوع الولد الطبيعيّ إلى التفلّت من عقال الوالدين، وحتّى لا يقود إلى ضعف جانب الاحترام، ولا سيّما أنّ التمرّد طبيعةُ تَعاقُب الأجيال.
أخيراً: إنَّ اعتبار حقّ المرأة في ردّ الاعتداء، إنّما يُدرجه السيّد فضل الله ضمن الخيارات، أمّا إدارة المسألة من الناحية الواقعيّة، فتخضع لجملةٍ من العوامل التي تفرضها طبيعة العلاقة بين الزوجين، لأنَّ مدى الانسجام والسكينة التي يعيشها الزوجان، سوف تُلقي بظلالها على أيِّ ردّ فعل من أحدهما تجاه الآخر، ممّا قد يلتقي بالعفو عن الإساءة، أو بالالتفاف على الإساءة لتحويلها إلى محطّةٍ للتأمّل والدّراسة التي قد تحوّل المسيء من موقع الإساءة إلى موقع الإحسان، شأنه في ذلك شأن أيّ إدارة لردود الفعل في المجتمع عموماً. وإلاّ فالحياة الزوجيّة ينبغي أن تقوم على ما بيّنه الله في قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً}[9]، وقوله تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ}[10]، وهذا ما من شأنه ألاّ يجعل الحياة الزّوجيّة حياةً حقوقيّة جافّة، بل حياةً ملؤها المحبّة والرّحمة التي تنظر في كلِّ طرفٍ نقاط ضعفه، لا لتستغلّها، بل لتسدَّ ضعفها من خلال نقاط القوّة لدى الطّرف الآخر، ونحن نقرأ عن رسول الله(ص) أنّه قال: "خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي"[11]، وأنّه أوصى الرّجال بالمرأة أحد الضّعيفين في المجتمع، والله من وراء القصد".
موقع إيلاف الإلكتروني/ بيروت ــــ الرأي العام الكويتيَّة
[1] [البقرة: 228].
[2] [النّساء: 34].
[3] [النّساء: 34].
[4] [البقرة: 231].
[5] [النّساء: 34].
[6] [النّساء: 128].
[7] [النِّساء: 128].
[8] الكافي، الشيخ الكليني، ج 5، ص 135.
[9] [الرّوم: 21].
[10] [البقرة: 187].
[11] وسائل الشّيعة، الحرّ العاملي، ج 20، ص 171.