الانتماء العائلي والطائفي والموقع الاقتصادي وأثره في الحياة السياسية

الانتماء العائلي والطائفي والموقع الاقتصادي وأثره في الحياة السياسية

أصبحنا كما في الجاهلية نصنع أصناماً ونظلّ لها عاكفين
فضل الله: مشكلتنا أننا منحنا الرمزية لأشخاص وأدخلناهم في دائرة المقدّس

أصدر سماحة العلامة المرجع، السيد محمد حسين فضل الله، بياناً تناول فيه مسألة الانتماء العائلي أو الطائفي أو الموقع الاقتصادي وأثره في الحياة السياسية في بلادنا، وجاء فيه:

يمثّل النسب العائلي، أو الانتماء الطائفي، أو الموقع الاقتصادي، أحد أهمّ الأسس التي ترتكز عليها الحركة السياسيّة في الشرق، حتّى ارتقى ذلك إلى مستوى الظاهرة التي منعت كثيراً من بلدانه من التقدّم الحضاري المنافس لما انطلقت به الدول المتقدّمة بعامّة.

فنحن نلاحظ أنّ الذهنيّة العامّة للناس تضع أفراد عائلة المسؤول الكبير الذي يمثّل قيمة اجتماعيّة أو دينية أو سياسية في موقع هذا المسؤول نفسه، فتعتبر ولده امتداداً له ولو لم يمتلك عناصر القيمة التي ملكها؛ حتّى درجت بعض التعبيرات التي يتداول بها الناس على تأكيد ضرورة عدم إغلاق بيت فلان السياسي أو الرمز، فأصبح للعائلةٍ بما هي عائلة، وجودها المتجذّر في النيابة أو الوزارة أو الرئاسة أو ما إلى ذلك، ما أدّى إلى انحصار المواقع ضمن عائلات محدّدة، ساهمت معها التوازنات المتنوّعة في منع وصول أيّ كفاءة إلى تلك المواقع من خارجها.

وفي الاتّجاه نفسه، تتحرّك الالتزامات والمشاعر الطائفيّة لترفع بعض الشخصيّات إلى مواقع القمّة أو السلطة، ممّن لا يملكون كفاءة الموقع وعناصره؛ لأنّ الطائفة لم تعد تستطيع أن تقدّم غيرهم بعدما حصرت نفسها في دوائر بعض عائلاتها، أو رموزها التاريخيّين، ممّا لم يعد الحاضر ينفتح على عناصرهم في تلك الدوائر الضيّقة.

ولذلك نجد أنّ إثارة النعرات الطائفيّة، إلى مستوى الفتنة، تتحرّك أحياناً من أجل تأجيح المشاعر الطائفيّة لدعم من لا يملكون القيم التي تتحرّك من خلالها الطائفة، سواء أكانت دينية أو روحيّة أو سياسية أو اجتماعيّة، فيُكرّسهم الناس رموزاً للطائفة من خلال كثافة الضباب الذي يمنع وضوح الرؤية لعناصرهم الذاتيّة وطبيعة القيم التي يختزنونها.

وأخطر ما في الأمر، أنّ هذه الذهنيّة ساهمت في وصول الفاسدين، والمنحرفين، والمنافقين، والذين لا يعيشون شيئاً من القيم الإنسانيّة أو الروحيّة في حياتهم، أو الذين كان تاريخهم مليئاً بالجرائم والمجازر أو بالعمالة للمُحتلّ؛ لأنّ القيمة التي يُراد للناس أن يمنحوها لهؤلاء لا ترتكز إلى عناصر شخصيّة هؤلاء في الحاضر، وإلى أدائهم في الأمس القريب؛ بل إلى قيم العائلة أو الحزب أو الطائفة أو المذهب أو الدِّين، وأصبح من المقبول الحديث دائماً عن قلبِ صفحاتٍ جديدة ينتقل فيها الشخص الزعيم من أقصى الانحراف إلى أشدّ حالات الاستقامة على المحجّة البيضاء.

وقد مثّلت هذه الذهنيّة ثغرةً استطاعت من خلالها المواقع والاستخبارات الدوليّة والإقليمية أن تقدّم لمجتمعاتنا بعض الشخصيّات، كقياداتٍ لها، ممّن تربّوا في أحضان هذا المحور أو ذاك، وهم لا يتحرّكون في خطّ خدمة شعوبهم، وتحقيق مصالح أوطانهم، بل يتحرّكون ـ في شكلٍ مباشر أو غير مباشر ـ في تنفيذ المشاريع والسياسات الاستكباريّة التي تبتعد عن مصلحة الأمّة والإنسان، ممّا نجد له ملامح واضحة في واقعنا الذي نعيشه.

ولقد أبعدت هذه الذهنيّة كلَّ الكفاءات التي تضجّ بها الأوطان، وأدخلت القمع السياسي والإرهاب الفكري كجزء من تركيبة أنظمتنا العربية والإسلاميّة، ممّا يُراد له أن يؤمّن استمرار الشرعيّة للواقع القائم المفتقد إلى عناصر الثقة بينه وبين الشعوب.

إنّنا نؤكّد ذلك لنقول: إنّ على المجتمعات العربيّة والإسلاميّة أن تنتقل بنفسها من ذهنيّة الشخص إلى ذهنيّة المؤسّسات القائمة على تحقيق مصالح المجموع، عبر نُظُمٍ تعتمد الكفاءة الذاتيّة في إطار الوطن كلّه، بعيداً عن العناوين الشكليّة، أو الأطر الإنسانيّة العامّة؛ لأنّ القيمة لا تكمن في الإطار، وإنّما في الصورة التي يختزنها، وأنّ الأشخاص يرحلون، والمؤسّسات تبقى لتمنح الشعب ثبات القاعدة التي تتحرّك عليها سياسته واقتصاده وأمنه، وأنّ من التخلّف أن يُجعل البلد كلّه مرتبطاً بحركة شخصٍ ما، مهما علا شأنه، أو بعائلة ما مهما لمع اسمها، أو بحزبٍ أو بطائفة أو ما إلى ذلك.

وفي هذا المجال، لا بدّ من أن تكفل الشعوب لأنفسها حرّية النقد؛ لأنّ ذلك يقوم على صوغ أسس موضوعيّة، تشكّل ميزاناً يوزن به الأشخاص تبعاً للعناصر التي تتطلّبها مواقعهم فيهم. وعندئذٍ تضمحلّ القيم الجوفاء التي تُمنح للأشخاص، وتنشأ في المجتمع ثقافة جديدة قائمة على المبدأ الذي أشار إليه الإمام عليّ بن أبي طالب(ع) بقوله: «إنّ الحقّ لا يُعرف بالرجال. اعرف الحقّ تعرف أهله».

وقد يكون من أهمّ المشاكل التي نعانيها في لبنان، أنّ الشعب منح الرمزيّة لكثير من الأشخاص من دون أساس موضوعيّ يتّصل بالموازين التي تتحرّك على أساسها الأوطان وتُبنى؛ حتّى أدمن هذا الشعب رموزه إلى المستوى الذي أُدخلت في دائرة المقدّس الذي لا يُمسّ، وأصبحنا، كما في الجاهليّة، نصنع أصناماً، باعتبارات جديدة، فنظلّ لها عاكفين!

مكتب سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله

 التاريخ: 04 رمضان   1428هـ  الموافق: 16 / 9 / 2007م

"المكتب الإعلامي"

أصبحنا كما في الجاهلية نصنع أصناماً ونظلّ لها عاكفين
فضل الله: مشكلتنا أننا منحنا الرمزية لأشخاص وأدخلناهم في دائرة المقدّس

أصدر سماحة العلامة المرجع، السيد محمد حسين فضل الله، بياناً تناول فيه مسألة الانتماء العائلي أو الطائفي أو الموقع الاقتصادي وأثره في الحياة السياسية في بلادنا، وجاء فيه:

يمثّل النسب العائلي، أو الانتماء الطائفي، أو الموقع الاقتصادي، أحد أهمّ الأسس التي ترتكز عليها الحركة السياسيّة في الشرق، حتّى ارتقى ذلك إلى مستوى الظاهرة التي منعت كثيراً من بلدانه من التقدّم الحضاري المنافس لما انطلقت به الدول المتقدّمة بعامّة.

فنحن نلاحظ أنّ الذهنيّة العامّة للناس تضع أفراد عائلة المسؤول الكبير الذي يمثّل قيمة اجتماعيّة أو دينية أو سياسية في موقع هذا المسؤول نفسه، فتعتبر ولده امتداداً له ولو لم يمتلك عناصر القيمة التي ملكها؛ حتّى درجت بعض التعبيرات التي يتداول بها الناس على تأكيد ضرورة عدم إغلاق بيت فلان السياسي أو الرمز، فأصبح للعائلةٍ بما هي عائلة، وجودها المتجذّر في النيابة أو الوزارة أو الرئاسة أو ما إلى ذلك، ما أدّى إلى انحصار المواقع ضمن عائلات محدّدة، ساهمت معها التوازنات المتنوّعة في منع وصول أيّ كفاءة إلى تلك المواقع من خارجها.

وفي الاتّجاه نفسه، تتحرّك الالتزامات والمشاعر الطائفيّة لترفع بعض الشخصيّات إلى مواقع القمّة أو السلطة، ممّن لا يملكون كفاءة الموقع وعناصره؛ لأنّ الطائفة لم تعد تستطيع أن تقدّم غيرهم بعدما حصرت نفسها في دوائر بعض عائلاتها، أو رموزها التاريخيّين، ممّا لم يعد الحاضر ينفتح على عناصرهم في تلك الدوائر الضيّقة.

ولذلك نجد أنّ إثارة النعرات الطائفيّة، إلى مستوى الفتنة، تتحرّك أحياناً من أجل تأجيح المشاعر الطائفيّة لدعم من لا يملكون القيم التي تتحرّك من خلالها الطائفة، سواء أكانت دينية أو روحيّة أو سياسية أو اجتماعيّة، فيُكرّسهم الناس رموزاً للطائفة من خلال كثافة الضباب الذي يمنع وضوح الرؤية لعناصرهم الذاتيّة وطبيعة القيم التي يختزنونها.

وأخطر ما في الأمر، أنّ هذه الذهنيّة ساهمت في وصول الفاسدين، والمنحرفين، والمنافقين، والذين لا يعيشون شيئاً من القيم الإنسانيّة أو الروحيّة في حياتهم، أو الذين كان تاريخهم مليئاً بالجرائم والمجازر أو بالعمالة للمُحتلّ؛ لأنّ القيمة التي يُراد للناس أن يمنحوها لهؤلاء لا ترتكز إلى عناصر شخصيّة هؤلاء في الحاضر، وإلى أدائهم في الأمس القريب؛ بل إلى قيم العائلة أو الحزب أو الطائفة أو المذهب أو الدِّين، وأصبح من المقبول الحديث دائماً عن قلبِ صفحاتٍ جديدة ينتقل فيها الشخص الزعيم من أقصى الانحراف إلى أشدّ حالات الاستقامة على المحجّة البيضاء.

وقد مثّلت هذه الذهنيّة ثغرةً استطاعت من خلالها المواقع والاستخبارات الدوليّة والإقليمية أن تقدّم لمجتمعاتنا بعض الشخصيّات، كقياداتٍ لها، ممّن تربّوا في أحضان هذا المحور أو ذاك، وهم لا يتحرّكون في خطّ خدمة شعوبهم، وتحقيق مصالح أوطانهم، بل يتحرّكون ـ في شكلٍ مباشر أو غير مباشر ـ في تنفيذ المشاريع والسياسات الاستكباريّة التي تبتعد عن مصلحة الأمّة والإنسان، ممّا نجد له ملامح واضحة في واقعنا الذي نعيشه.

ولقد أبعدت هذه الذهنيّة كلَّ الكفاءات التي تضجّ بها الأوطان، وأدخلت القمع السياسي والإرهاب الفكري كجزء من تركيبة أنظمتنا العربية والإسلاميّة، ممّا يُراد له أن يؤمّن استمرار الشرعيّة للواقع القائم المفتقد إلى عناصر الثقة بينه وبين الشعوب.

إنّنا نؤكّد ذلك لنقول: إنّ على المجتمعات العربيّة والإسلاميّة أن تنتقل بنفسها من ذهنيّة الشخص إلى ذهنيّة المؤسّسات القائمة على تحقيق مصالح المجموع، عبر نُظُمٍ تعتمد الكفاءة الذاتيّة في إطار الوطن كلّه، بعيداً عن العناوين الشكليّة، أو الأطر الإنسانيّة العامّة؛ لأنّ القيمة لا تكمن في الإطار، وإنّما في الصورة التي يختزنها، وأنّ الأشخاص يرحلون، والمؤسّسات تبقى لتمنح الشعب ثبات القاعدة التي تتحرّك عليها سياسته واقتصاده وأمنه، وأنّ من التخلّف أن يُجعل البلد كلّه مرتبطاً بحركة شخصٍ ما، مهما علا شأنه، أو بعائلة ما مهما لمع اسمها، أو بحزبٍ أو بطائفة أو ما إلى ذلك.

وفي هذا المجال، لا بدّ من أن تكفل الشعوب لأنفسها حرّية النقد؛ لأنّ ذلك يقوم على صوغ أسس موضوعيّة، تشكّل ميزاناً يوزن به الأشخاص تبعاً للعناصر التي تتطلّبها مواقعهم فيهم. وعندئذٍ تضمحلّ القيم الجوفاء التي تُمنح للأشخاص، وتنشأ في المجتمع ثقافة جديدة قائمة على المبدأ الذي أشار إليه الإمام عليّ بن أبي طالب(ع) بقوله: «إنّ الحقّ لا يُعرف بالرجال. اعرف الحقّ تعرف أهله».

وقد يكون من أهمّ المشاكل التي نعانيها في لبنان، أنّ الشعب منح الرمزيّة لكثير من الأشخاص من دون أساس موضوعيّ يتّصل بالموازين التي تتحرّك على أساسها الأوطان وتُبنى؛ حتّى أدمن هذا الشعب رموزه إلى المستوى الذي أُدخلت في دائرة المقدّس الذي لا يُمسّ، وأصبحنا، كما في الجاهليّة، نصنع أصناماً، باعتبارات جديدة، فنظلّ لها عاكفين!

مكتب سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله

 التاريخ: 04 رمضان   1428هـ  الموافق: 16 / 9 / 2007م

"المكتب الإعلامي"

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية