عصيٌّ عليّ تقديمه بكلمات موجزة، لذلك أعفيت نفسي من هذه المهمة الشاقة، فمعه يمكن أن تبدأ بلا مقدمات، ولأنّ لقاءه لا يحتاج إلى موضوع، فقد أعفيتكم أيضاً من توقّع محور واحد لحديثي معه، هو سماحة العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله.
نص الحوار:
* سماحة السيد، دعني أستعر بداية عبارة: "الإسلام اليوم في قفص الاتهام"، وخصوصاً في الجانب السياسي، وذلك عندما يوظِّفه البعض من المسلمين مبرِّراً للهجوم، أو واجهةً للهجوم على الآخر، بينما يتذرَّع به الآخر كواجهةٍ للهجوم علينا، كيف وقع الإسلام في هذا التوظيف؟
- لعل الخطأ في إدارة هذا الموضوع، ينطلق من عنوان السؤال، وهو إدخال الإسلام في موقع الاتهام بدلاً من إدخال المسلمين في هذا الموقع. فالإسلام يمثِّل قاعدةً للفكر والعاطفة والحياة، وينطلق من خلال القيم الروحية والأخلاقية والإنسانية، مما قد تختلف الاجتهادات في تفسيره وتأويله. إنهم يدخلون الإسلام في دائرة الإرهاب، متذرِّعين ببعض العناوين المذكورة في الثقافة الإسلامية، كمفهوم الجهاد، أو متذرّعين ببعض الممارسات التي يقوم بها بعض المسلمين. ونحن عندما ندرس المسألة بعقل موضوعي اجتهادي، نلاحظ أن كلمةً الجهاد في الإسلام ليست كلمةً عدوانية يندفع فيها هذا المفهوم ليكون سيفاًَ مسلَّطاً على الناس، حتّى يدخلوا في الإسلام بالعنف والقوة، أو ليصادر حياتهم؛ إن الجهاد في الإسلام ليس بدعاً من ألوان الصراع بين موقع وموقع آخر، فنحن نعرف أن كل الحضارات في العالم، تبرر لشعوبها دفاعهم عن أنفسهم أمام الذين يعادونهم أو يعتدون عليهم أو يقتلونهم، والجهاد في الإسلام شعاره: "قاتل من يقاتلك، دافع عن نفسك، دافع عن المستضعفين".
* ولكن بأي طريقة سماحة السيد؟
- بالوسائل الإنسانية في مسألة الحرب والسلم.
* كيف تصفون ما قامت به بعض المنظَّمات التي تتخذ من الإسلام واجهةً لها، كمنظمة القاعدة، من هجمات في مدن أوروبية؟
- نحن نعتقد أن ما قامت به هذه المنظمة ليس إسلامياً، وقد كنت أول شخصية إسلامية أصدرت بياناً تفصيلياً في مسألة 11 أيلول في الهجوم على مركز التجارة العالمي، وقلت إنّ هذا العمل لا يقبله عقل ولا شرع ولا دين، وإننا نريد أن نكون أصدقاء الشعب الأمريكي، وإنّنا على الرغم من اختلافنا مع الإدارة الأمريكية، لا نحاربها بهذه الطريقة.
* إذاً بأي طريقة تواجهونها وليس في اليد حيلة؟
- نحن نحارب أمريكا بالوسائل الحضارية، بأن نقاطعها فيما نستطيع مقاطعتها به من الناحية الاقتصادية، ونواجه السياسة الأمريكية بسياسة إسلامية، تحاول أن تشير إلى كل نقاط الضعف، وإلى كل الوسائل اللإنسانية التي توجهها نحو الشعوب.
* هل سماحة السيد يرى، مع من يرى، أنّ ما يتعرض له الإسلام اليوم، خصوصاً بعد 11 أيلول سبتمبر، هو حرب صليبية جديدة؟
- أنا لا أعتبر أن الغرب ـ ولا سيما في إداراته الرسمية ـ مسيحي، بل هو علماني، وقد ينتمي البعض من قادته إلى المسيحية، وربما يقومون بعملية إيحائية في المسألة الدينية، كما نلاحظ ما يقوم به الرئيس بوش الذي يتحدث بصفته مسيحياً يستنـزل الوحي من الله، فالله هو الذي يوحي إليه، وهو الذي يطلب منه ماذا يفعل!! وربما انطلقت بعض تعبيراته ليتحدث عن حرب صليبية، وإن كان قد اعتذر بعد ذلك. نحن لا نعتبر أن هناك حرباً بيننا وبين المسيحية، ولكن ما يحدث، هو أن هناك حرباً بين الدول الكبرى التي تريد أن تضغط على الشعوب لتصادرها اقتصادياً. لذلك، فمسألتنا مع الغرب أو مع أكثر دول الغرب، كمسألة دول أمريكا اللاتينية مع الدول الكبرى، ليست قضية الإسلام أو المسيحية، إضافةً إلى أنّنا من الدعاة إلى حوار إسلامي ـ مسيحي.
* هل أنت ضد مقولة صراع الحضارات؟
- لسنا مع صراع الحضارات، ولكنّنا مع حوار الحضارات في هذا المجال، وأذكر أنني دعوت البابا الراحل إلى أن نلتقي على خطين؛ الخط الأول هو توحيد الله الذي نؤمن به معاً، والخطّ الثّاني هو مواجهة الاستكبار العالمي لحساب رعاية المستضعفين في العالم.
* وهل القيادات المسيحية في العالم، من البابا الراحل إلى البابا الراهن، قادرة على أن ترفع صوت المسيحية الحقيقي في مواجهة هذا الاستكبار العالمي؟
- هم يملكون أن يرفعوا الصوت، ولكنّهم لا يملكون أن يجذّروه في الواقع، لأننا نعرف أن الفاتيكان قد يملك قوة معنوية روحية، لكنه لا يملك قوة مادية، وهذا ما تحدَّث به ستالين، عندما تحدث معه بعض الناس عن البابا، فقال: كم يملك البابا من دبّابات؟!
* هناك من يضع الإسلام أيضاً في قفص الاتهام فكرياً وحياتياً، لأنّ البعض يراه عاجزاً، كما يقولون، عن تحقيق مواكبة فعلية لتطورات العصر، هل هذا صحيح؟
- علينا أن نحدِّد المفاهيم؛ هل العصر كلّه يمثل الحقيقة في أفكاره؟ هل إن كل ما في العصر خير وعدل وإنسانية؟ نحن كمسلمين في حركية الإسلام نؤمن بالعقل على أساس أن العقل هو الحجة بين الله وبين العباد.
* أين موقع النص سماحة السيد؟
- عندما ننفتح على النصّ، ندرس: هل هذا النص يعارض العقل أو أنه يواكبه؟ فإذا رأينا أن النص يعارض العقل القطعي، أوّلنا النص لمصلحة العقل. فالعقل الفطري الإنساني القطعي لا يمكن أن يتعارض مع النص، لأن النص، وإن كان كلمات ثابتة، لكن مضمونه متحرك.
* التأويل هو القناة التي تربط النص بالعقل، فهل ما زال التأويل مشرَّعاً ومفتوحاً في عصرنا هذا، أم أن التراكم المعرفي بات يمنع ذلك؟
- إنني أتصوّر أن الاجتهاد المنفتح على المعرفة وعلى العقل، يتحرك بين وقت وآخر لدى المجتهدين الواعين المنفتحين، ليدرس النص بذهنية موضوعية عقلانية، ليؤكد النص أولاً؛ هل صدر من رسول الله(ص) أو لم يصدر، في عملية توثيق له، ثم يدرس مضمونه من حيث مواكبته للعقل الفطري الإنساني.
* في عصور مختلفة من عصور الإسلام، ألغيت بعض النصوص. هل تعتقد أن إعادة دراسة القرآن، تسمح اليوم بحذف نصوص أو إبطال العمل ببعضها؟
- علينا أن ندرس هذا الأمر، ففي عقيدة المسلمين، القرآن بكل آياته هو كلام الله ووحيه، وليس فيه أيُّ خطأ، وليس في داخله أي إشكال، لذا نقول: لن نحذف شيئاً من القرآن، لأنّ القرآن كلام الله، لكن هناك بعض العناوين التي تحدّث عنها القرآن، خرجت عن التداول في الواقع الإنساني كلّه. مثلاً، لقد تحدَّث القرآن عن العبيد والإماء، ونحن نلاحظُ أنَّ الإسلام في تجاربه في معالجة قضيَّة العبودية، استطاع بطريقة سلميَّة أن ينهي مسألة العبودية في العالم الإسلامي كلّه، وإذا كانت هناك بعض البلدان الإسلامية تتعاطى مع العبودية بشكل واقعي، فإنّ الاجتهاد الإسلامي عندما يدرس هذه الظواهر، الموجودة، في سبيل المثال، في السودان أو في موريتانيا، يعتبر أن هذه العبودية الموجودة في الواقع ليس لها أي شرعية. فنحن مثلاً عندما ندرس كيف كان الغربيون يستقدمون السود بحجة تشغيلهم في الغرب، ولكنهم عندما يصلون يستعبدونهم، نجد أنّ هذه الوسائل لا تخرج الإنسان عن أن يكون حراً، لأنّ قضية العبيد والإماء كانت محصورة في نطاق الحرب، عندما كان الآخرون يستعبدون المسلمين، فكانت المسألة رد فعل، أما عندما تقهر إنساناً لتستعبده، أو تخدعه لتستعبده، فهذا لا يخرجه عن كونه حراً، ولا يترتَّب عليه آثار العبودية.
* يحاول الفقهاء في عصرنا هذا أن يؤوّلوا النص تأويلات تتناسب مع طبيعة العصر دون أن تضرُّ بجوهر هذا النّصّ، لكنَّهم يواجهون ممانعةً شديدة من بعض التيارات. أخيراً، أطلق الدكتور حسن الترابي، المفكر الإسلامي من السودان، تصريحات أثارت بلبلة، تحدّث الترابي عن رأيين جديدين، أولهما جواز زواج المسلمة من كتابي، والثاني متعلق بحجاب المرأة وحصره بغطاء الصدر. كيف تقرأون هذه التصريحات؟ وهل هي فتاوى جديدة؟
- هناك مسألة لا بد لنا من أن نثيرها أمام مسألة الفتاوى، لأنّ الفتوى تمثل استنباط الحكم من النص، ومسألة زواج المسلمة من غير المسلم، هي من المسائل التي قد تقع موضعاً للاجتهاد، ولكنَّ هناك تسالماً بين المسلمين بكل مذاهبهم، بعدم شرعية زواج المسلمة بغير المسلم، سواء كان كتابياً أو غير كتابي، ويتم الاستناد في ذلك إلى بعض الاجتهادات في فهم القرآن والسنة، أو إلى تحليلات لهذا الموضوع، لا تنطلق من قاعدة اجتهادية فتوائية، من قبيل أن زواج المسلم بالكتابية لا يثير أي شيء سلبي، لأنّ الإسلام يؤمن بالكتب السماوية كلّها، فهو يؤمن بالإنجيل كما يؤمن بالتوراة، لذا هو يحترم انتماء الكتابية إذا تزوَّجها، لكن لو أنّ مسيحياً أو يهودياً تزوج مسلمة، فإنه قد لا يحترم انتماءها الديني، قد يكون إنساناً طيباًَ يحترمها إنسانياً، لكنه لا يحترمها دينياً، لأنّه لا يرى محمداً نبياً، ولا يرى القرآن كتاباً مقدَّساً لكن على الصّعيد الشرعي، فإن هذه المسألة هي من المسائل التي لا بدَّ من أن تُبحث اجتهادياً لمن ينفي هذا أو يثبت ذاك. وقد لاحظت أن الدكتور الترابي، لم يستطع في اجتهاده هذا أن يؤكد الحجة الفقهية.
أمَّا مسألة الحجاب، فهي من المسائل الخاضعة أيضاً للاجتهاد في فهم النص، فأكثر المسلمين يفهمون أنَّ الحجاب يشمل الجسد كلّه ما عدا الوجه والكفين، بينما هو يحاول أن يستنطق النصوص بطريقة لا تخضع للذهنية العلمية الاجتهادية، ما يجعلها تحمل نقاط ضعف أساسية، وهذا موضع نقاش.
إننا في الوقت الذي نختلف نحن والآخرون معه، ومع غيره ممن حاول أن يجتهد في قضية فهم القرآن، من حيث تأويل النص وما إلى ذلك، لا نعتبر أن العنف في مواجهة الفتاوى أو في مواجهة الفكر الآخر الذي يجتهد في الإسلام، يمكن أن يحلّ المشكلة، ولا بد من أن يبقى الحوار العلمي الموضوعي الفقهي هو الأساس في إدارة الاختلافات الاجتهادية.
* هذا صحيح سماحة السيد، لكنَّ المسألة أنَّ العامة ليس عندهم القدرة ذاتها على الدراسة والتأويل والتمييز بين ما يقوله هذا الفقيه أو ما يقوله فقيه آخر، لذلك هم يضيعون بين هذه الفتاوى؟
- من الطّبيعي أن مسؤوليَّة الجهات الفقهية الثقافية الطليعية، أن تحاول دائماً أن تثقِّف العامة، وأن تخلق في وعيهم الانفتاح على الرأي الآخر، حتى لا تتحرك المسألة في موقع العنف، بل في موقع اعتبار أن الرأي المختلف يدخل في دائرة الخطوط الاجتهادية، فنحن نعتبر ـ مثلاً ـ أن المذاهب الإسلامية، سواء كانت سنية أو شيعية، يختلف فيها المجتهدون، فهناك في الاتجاه الإسلامي السني الكثير من المذاهب الفقهية، وكذلك في الاتجاه الإسلامي الشيعي أيضاً، هناك مجتهدون يختلفون في آرائهم وفتاواهم. المطلوب هو أن نثقّف العامة بشكل عام على مسألة قبول الآخر.
* اليوم هناك اتهامات صريحة للشيعة تطعن بولائهم العروبي، هذه الاتهامات صدرت من رؤساء دول، كحسني مبارك، ومن رجال دين، وحتى من أطياف في الشارع السني. هل تعتقد أن هناك دخاناً بلا نار؟
- أنا لا أتصوَّرُ أنَّ هناك ناراً في الساحة الواقعية يمكن أن ينطلق منها هذا الدُّخان، ولكنَّ الآخرين يحاولون أن يوقدوا ناراً من خلال بعض التعقيدات التي يتوهّمونها ويحرّكونها، انطلاقاً من بعض المشاكل التي قد تتحرك في شكل العقدة المذهبية أو العقدة السياسية.
إنّنا عندما ندرس تاريخ الشيعة، في الأفق الذي تحركت فيه العروبة كخط سياسي، في عملية استقلال هذا البلد أو ذاك البلد، أو في مواجهة الاحتلال هنا والاحتلال هناك، نجد أن الشيعة كانوا من أشد الناس إخلاصاً لعروبتهم. ففي القرن الماضي، في سنة 1920، انطلق الشيعة من موقع النجف الأشرف بقيادة علمائهم لمواجهة الاستعمار البريطاني، في الوقت الذي كانت الخلافة العثمانية هي التي تحكم العراق، وسقط منهم الكثيرُ من الشهداء في مواجهة الاستعمار البريطاني، وتحرَّكوا بعد زوال الاحتلال العثماني ليتعاونوا مع كلِّ العراقيين بعيداً عن كل إحساس طائفي. ولذلك، لم تحدث في العراق أي مشكلة طائفية بين السنة والشيعة، على الرغم من أن الحكم كان للسنة، وكان الشيعة خارج نطاق الواقع السياسيّ. ثم إذا درسنا المسألة في لبنان، فإنّنا نجد أن المسلمين الشيعة في المقاومة الإسلامية وفي حركة أمل، هم الذين واجهوا الاحتلال الإسرائيلي، وما زالوا يواجهونه، وهم الذين استطاعوا أن يحرروا لبنان من الاحتلال الإسرائيلي، في الوقت الذي لم تستطع أي دولة عربية أن تحرر بلدها من دون قيد أو شرط.
* لكن سماحة السيد، لنكن أكثر صراحةً ووضوحاً، أين تلعب إيران دورها في الذهنية الشيعية؟
- بين إيران الثقافية التي تتحرك فيها المرجعيات الدينية، وبين الشيعة، علاقات فتوى وعلاقات فكر، ولكن نحن نعرف أن مرجعية إيران بالنسبة إلى الشّيعة في العالم، ليست مرجعية شاملة، فالكثير من شيعة العالم يرجعون إلى النجف الأشرف في انتمائهم الفتوائي. أما بالنسبة إلى إيران السياسية، فإنّنا نعرف أن الكثير من الشيعة في العراق وفي لبنان وفي مناطق أخرى، يملكون خطاً سياسياً يختلف عن الخط السياسي الذي تلتزمه إيران، فليس كل الشيعة يلتزمون خط ولاية الفقيه.
* مسألة أخرى مرتبطة بهذا الموضوع، وهي مسألة القومية العربية لدى الشيعة؟
- نحن نعتقد أن الشيعة عرب أقحاح وليسوا فرساً أو أتراكاً وما إلى ذلك.
* كل الشيعة؟
- كل الشيعة العرب.
* أقصد كل الشيعة الموجودين في الدول العربية؟
- لا أحد من الشيعة العرب يتنكر لعروبته، أما الشيعة الذين سكنوا العراق مدة، وهم من جنسيات أخرى، فقد تعربوا، وإن كانوا لا يزالون متمسكين بقوميتهم، وذلك ليس بدعاً من الحال، لأنّ هذه المسألة ليست محصورة بالشيعة فقط، فالسنّة الإيرانيون مثلاً لا يزالون يتحركون من خلال قوميتهم.
لكن هناك نقطة لا بد من أن نبحثها بالنسبة إلى القومية العربية، فالعروبة تمثل حالة إنسانية، وهي وجهٌ من وجوه التنوّع الإنساني، فهناك عرب، وهناك فرس وهناك أتراك إلى آخر المسألة: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا}(الحجرات/13). لذلك أعتقد أن الشيعة العرب، وحتى المسلمين السنّة العرب، خصوصاً الذين يلتزمون الخط الإسلامي، لم يبتعدوا عن عروبتهم، لأنّهم لا يرون مشكلة بين عروبتهم وبين إسلامهم، كما أنّنا نلاحظ أن الإسلام عندما انطلق في رسالة النبي محمد(ص)، لم يشعر العرب الذين نزل الإسلام عليهم، بأن هناك مشكلةً بين عروبتهم وإسلامهم، لأنّ العروبة حالة إنسانية، ولأنّ الإسلام هو حالة ثقافية فكرية تنفتح على كلِّ القيم، لكن المشكلة أن القومية العربية تأدلجت، فدخلت فيها الاشتراكية والماركسية والوجودية. لذلك، إذا كان المسلمون ـ سواء كانوا شيعة أو سنة ـ يختلفون مع الماركسية، أو مع الاشتراكية، أو مع الوجودية، فليس معنى ذلك أنهم يختلفون مع العروبة.
وأحب أن أذكر طرفة في هذا المجال، وهي أنّ شخصاً نذر نذراً بأنه إذا شفي سوف يبيع جمله بعشرة دراهم، وشُفي الرجل وتحيَّر، فالجمل يساوي ألف درهم، واستشار بعض أصحابه، فقال له: خذ سنوراً (قطة) وعلّقه في عنق الجمل، وقل إنني أبيع الجمل بعشرة دراهم، ولكني أبيع القط بألف درهم، ولن أبيع الجمل إلا مع القط، فذهب المثل: «ما أرخص الجمل لولا القلادة».
* يلتبس موقف الطائفة الشيعية على البعض، فقد نراهم في إيران وفي لبنان من أكبر المتصدين للمشروع الأمريكي والإسرائيلي في المنطقة، بينما نجد الغالبية منهم في العراق منخرطة في المشروع الأمريكي تحديداً، هل تشرح لنا هذا الالتباس؟
- أنا لا أعتقد المسألة بهذه الدقة، نحن نعرف كما يعرف الجميع، أنّ الشيعة في العراق كانوا مضطهدين من قبل النظام العراقيّ السابق، كما ونعرف أنّ المقابر الجماعية التي لا تزال تكتشف بين وقت وآخر، هي للشيعة، سواء كانوا من علماء الدين أو من السياسيين أو من غيرهم، لذلك عاش الشيعة من خلال النظام في زنزانة سياسية واقتصادية وحتى دينية. ونحن نعرف أن أمريكا كانت تخطط منذ زمن لاحتلال العراق، وهذا ما كشفت عنه الدراسات، أن مسألة احتلال العراق كانت منذ الثمانينات، لذلك، قررت أمريكا أن تحتل العراق، كما قررت سابقاً أن تحتل الكويت، بالتخطيط لأن يتحرَّك صدام حسين لاحتلال الكويت، ليكون هناك فرصة للأمريكيين للدخول إلى الخليج من خلال الكويت.
فالشيعة لم يجتذبوا أمريكا لتحتل العراق، وعندما دخلتها، لم تقابل بالورود، بل قوبلت بالرصاص في البصرة، وتأخَّر دخول الجيش الأمريكي والبريطاني إلى العراق حوالي خمسة أيام. نعم، لقد تنفّس الشّيعة عندما سقط الطّاغية، ولكن لم تكن لديهم أية ظروف للمقاومة، مع أننا نعرف أن هناك بعض الشيعة قاوموا المحتل، كما في النجف وكربلاء. وبعض معلوماتي التي أملكها الآن، أن هناك حركة مقاومة شيعية، من خلال بعض الاتجاهات في العراق، ضد الأمريكيين، كما أن مرجعيات الشيعة كافة لم توافق على الاحتلال. ونحن نعرف أن المرجعيات في النجف لا تستقبل أمريكياً، حتى إن الرئيس بوش أرسل رسالة مكتوبة إلى السيد علي السيستاني، فلم يكتفِ بعدم قراءتها، بل إنه رفض استلامها كليةً.
لذلك، فالشعب العراقي الشيعي غير متواطئ مع الاحتلال، ولكن الظروف الخانقة التي تواجهه، وخصوصاً بعد دخول التكفيريّين في المجازر التي يتابعونها ضد الشيعة في كل يوم، في مساجدهم ومزاراتهم وأسواقهم، هذه الظّروف لا تسمح له بإعلان المواجهة العسكرية ضدّ الاحتلال.
* ما أريد أن أتحدث عنه سماحة السيد، وأنت عراقي المولد والنشأة، هل ترى أن العراق يتجه إلى حرب أهلية؟
- إنني أتصوّر أن ذهنية العراقي لا تتفق مع ذهنية الفتنة الطائفية، وذلك من خلال تاريخه، لكني أتصور أن الأمريكيين الذين يريدون أن يبقوا طويلاً في العراق، يحاولون أن يشجعوا هذا الاتجاه، وربما كانت الأوضاع الدموية التي حدثت في العراق من خلال المجازر، تجتذب بعض ردود الفعل، لكنها ليست ردود فعل واسعة، بل هي أقرب إلى ردود الفعل الفردية التي لن يصل معها العراق إلى الحرب الأهلية.
* هل تتجه إيران نحو التفاوض أو الاتفاق مع الأمريكيين في الشأن العراقي؟
- لقد سمعت الرئيس الإيراني يقول إنّنا لن نتفاوض مع أمريكا في الشأن العراقي، لأنّ العراق استطاع الآن أن يتجاوز المسألة.
* عبر عشرات السنين، حمل التشيّع بالاستناد إلى النظرية المهدوية، حلم خلاص المستضعفين في الأرض، اليوم نجد الشيعة أكثر انخراطاً في الهم السياسي، فهم في صلب العراك السياسي في العراق وفي إيران وفي لبنان. هل تغير المذهب الشيعي؟
- أولاً، قضية المهدوية ليست محصورة بالشيعة وإنما هي قضيّة إسلامية، لأنّ السنّة يعتقدون بالإمام المهدي الذي يخرج في آخر الزمان، وإن كانوا يختلفون مع الشيعة في أنه وُلد أو لم يولد. ربما كانت هناك تطلعات على مستوى الأحلام تنفتح على مسألة الإمام المهدي كشخصية قيادية للخلاص، في الوقت الذي كان الشيعة يُلاحقون تحت كل حجر ومدر، وكان الاضطهاد هو الطابع لحياتهم، لكنهم الآن بدأوا يفسرون مسألة المهدوية على أساس أنها لا تعني أن تجلس وتندب حظك أو تحلم، لكن عليك أن تنطلق من أجل أن تهيئ جمهوراً يمكن له أن يصنع موقعاً هنا وموقعاً هناك، وأن يشارك في الواقع، لأنّ معنى أن تكون مسلماً، هو أن تكون عنصراً فاعلاً، يعمل من أجل أن يكون الإسلام قاعدةً للفكر والعاطفة والحياة، وأن يشارك في حركة العالم من أجل الحرية والاستقلال والتنمية وما إلى ذلك.
* مسألة سلاح حزب الله من المسائل الخلافية اليوم في لبنان. في رأيك، لماذا من حق حزب الله أن يكون مسلَّحاً اليوم دون بقية الطوائف اللبنانية؟
- إنّ سلاح حزب الله ليس سلاحاً طائفيّاً، لأنّ سلاح الطائفة يمثل السلاح الذي يراد به تحريك الخلافات الطائفية، أمّا سلاحه، فهو سلاح مقاومة من أجل تحرير البلد من الاحتلال، وهذا ما عاش تجربته عندما قدم آلاف الشهداء من أجل تحرير لبنان من الاحتلال الإسرائيلي الذي نجح فيه، ولم يطلق رصاصة واحدة ضد لبناني آخر على الصعيد الطائفي. لذلك، فمسألة القرار 1559 الذي أُقرّ في مجلس الأمن، كان قراراً إسرائيلياً، باعتراف وزير خارجية إسرائيل السابق شالوم، الذي أكّد وقوفه خلف هذا القرار، بعد أن أقنع به أمريكا، التي أقنعت بدورها مجلس الأمن، إلى جانب الضغط الفرنسي أيضاً.
لذلك، فسلاح حزب الله هو سلاح مقاوم من أجل إنهاء الاحتلال، وإذا كان البعض يقول إنّ هناك جيشاً يملك أن يدافع عن البلد، فإن الكل يعرف أن الجيش لا يملك السلاح الذي يستطيع من خلاله أن يدافع عن البلد، كما أنّه لا يملك القرار الذي يتحرك فيه من الناحية السياسية لمواجهة المحتل، إضافةً إلى أنّ مسألة الجيش اللبناني، هي مسألة تتحرك على أساس أنه جيش نظامي لا يستطيع أن يتحرك بحرية كما تتحرك المقاومة. فاللبنانيون حتى الآن يرون أن هناك أرضاً محتلة هي مزارع شبعا، وإن كان بعض الناس يناقش في ذلك، أو أن الأمم المتحدة لا توافق على ذلك، لكن حزب الله يقدم أطروحة، وهي أننا نطلب من الحكومة اللبنانية أو من الدولة اللبنانية، أن تقدم خطة دفاعية لحماية لبنان من العدوان الإسرائيلي، لأنّ إسرائيل ـ بحسب التجربة ـ خاضت أكثر من حرب ضد لبنان دون مبرر.
لذلك، فإنّ المقاومة ستبقى بسلاحها ما دام لبنان لا يملك خطَّة دفاعية، وما دام الجيش اللبناني غير قادر على أن يواجه إسرائيل في هذا المجال. فالقضيَّة في مسألة الضغط الأمريكي والفرنسي تتصل بالدفاع عن إسرائيل وحمايتها، لأنّ أمريكا لا تريد لإسرائيل أن يكون لديها أية مشكلة أو عائق في أي بلد عربي يسمح بأن يواجه عدوانها ويرغمها على دفع ثمن العدوان. ليست المسألة أن لبنان لا يتحمل جيشين، ولكن المسألة هي أنّ إسرائيل لا تتحمل مقاومة فاعلة قوية كانت تجربتها ناجحة في هزيمتها.
* لكن سماحة السيد، لبنان بلد ذو تركيبة طائفية دقيقة، وبعض الطّوائف يرى أن وجود سلاح حزب الله مثار تخوّف وقلق لهذه الطّوائف، خصوصاً أنّها تحمل في ذاكرتها ما جرى أيام الحرب الأهلية اللبنانية عندما كانت الطوائف مسلَّحة؟!
- من المعروف أنّ حزب الله لم يدخل في أيّ حرب مع أي طائفة، لذلك، هذه مسألة يمكن أن يدار الحوار حولها، ليفهموا أن مسألة سلاح المقاومة ليس سلاح طائفة، وإنما هو سلاح وطن. هذا من جهة، ومن جهة ثانية، فليجربوا أن يدخلوا في حوار لتأكيد خطة دفاعية للدفاع عن لبنان. نحن نسأل الطوائف الأخرى: ما هي خطتكم الاستراتيجية في الدفاع عن لبنان لو حصل هناك أي اعتداء عليه؟
* منذ ثلاثة عقود، لم يحظ لبنان بحالة استقرار حقيقية، فما إن ينعم بلحظة استقرار، حتّى يعود الوضع لينتكس مرة أخرى. لماذا هناك حالة استعصاء مخيبة في لبنان؟
- إنني في دراستي لتكوين لبنان، أجد أنّه وُجِد لا ليكون وطناً لبنيه، بل ليكون الرئة التي تتنفّس فيها مشاكل المنطقة. وكنت أقول دائماً، إن هناك ثلاث لاءات تحكم لبنان: "لا تقسيم، لا انهيار، لا استقرار"، وإن النظام الطائفي الذي وضع للبنان كقانون، على أساس العرف سابقاً، وعلى أساس الميثاق أخيراً، هو الذي أحدث اهتزازات جعل كل طائفة تنطلق لتنفتح على محور إقليمي هنا، أو دولي هناك. لقد أريد للبنان أن يثقف المنطقة بمشاكل طائفية وحزبية وما إلى ذلك؛ اليمين واليسار، المسيحيون والمسلمون، السنّة والشيعة. لذلك، فإنّ لبنان لم يُصنع ليكون دولة المواطن، بل ليكون دولة الطائفة، فالخطُّ الطائفي هو الذي يبعث على الاهتزاز في كلِّ مرحلة تتحرك فيها طائفة هنا وطائفة هناك، والشاهد على ذلك: أن الحرب اللبنانية لم تنطلق من حالة لبنانية ذاتية على المستوى الطائفي، وإنما انطلقت من تخطيط الوزير الأمريكي الأسبق هنري كسنجر، الذي أراد تصفية القضية الفلسطينية في لبنان، لذلك خطط للمشكلة بين الفلسطينيين والمسيحيين، أو بين الحركة الوطنية وبين فريق آخر، وعندما انتهت المسألة، جاء اتفاق الطائف، الذي هو اتفاق أمريكي بطربوش لبناني وعقال عربي. فلبنان بلدٌ أريد له أن يكون ساحةً للاهتزاز.
* اتفاق الطائف يمثل اليوم الدستور اللبناني. هل تعتقد أن الأمريكيين وضعوا فيه بذوراً للانشقاق؟
- بلا إشكال، أمريكا أساساً لم تكن تهتم بلبنان أبداً، ولا تزال غير مهتمّة به، لأنها الآن تريد أن يكون لبنان ورقةً للضغط على سوريا لتتنازل عن موقفها في فلسطين وفي العراق، وقد التقت في ذلك المصلحة الفرنسية التي تريد أن ترجع إلى لبنان كما كانت بقوة، بالمصلحة الأمريكية، من دون أن يرتكز هذا التوجه إلى قوة سياسية أو اقتصادية غير عادية. نحن عندما ندرس الآن زيارة رئيس وزراء لبنان إلى أمريكا، فإنّنا نرى أنها زيارة غزل، فالرئيس بوش بدأ يتغزَّل بلبنان، وبدأ يقدم المأدبة السخية للبنانيين، ولكنه لم يقدم لهم مساعدة اقتصادية في حجم حاجة البلد، إنه يمنح إسرائيل أكثر من ثلاث مليارات دولار في السنة، ولكنه يقدم للبنان 35 مليون دولار.
* خروج الجيش السوري، والمخطَّط الأمريكي في لبنان، أعادا مسألة تكريس الزَّعامات الطائفية، فالشَّارع اللّبناني الّذي هدأ لفترة فيما يتعلق بالتجييش الطائفي، نراه اليوم يعود إلى هذه الحالة. فهل الزَّعامات هي التي تجيِّش الشَّارع، أم الشَّارع هو الّذي يكرِّس هذه الزَّعامات؟
- أنا أعتقد أنَّ الزعامات هي التي تجيِّش الشارع، لأنّنا عندما ندرس الشارع اللّبناني، نجد أنه شارع المواطن، فاللّبنانيون الآن في المناطق المختلطة يتعاونون؛ الفلاحون مع الفلاحين، والعمَّال مع العمَّال، والرياضيون مع الرياضيين، والمثقفون مع المثقفين، والتجار مع التجار... إنَّ الزعامات السياسية هي التي تحاول أن تثير الحساسيات بين وقت وآخر، ليهتز الشارع اللبناني في عملية تخويف هذه الطائفة من الطائفة الأخرى. سألني أحد الإعلاميين في أيّام الحرب: ما هو الحل للبنان؟ قلت له: اجمعوا كل السياسيين في سفينة وأطلقوها في البحر ليرتاح لبنان.
* لكن المواطن اللبنانـي الذي وصفته بأنه يملك شعور المواطنة، ألا ترى أيضاًَ أنه قابل للتمسك بثوب الطائفة؟
- هناك مشكلة في لبنان، وهي أنَّ حاجات المواطن ربطت بالطائفة، والطّائفة ربطت برموزها، ومن هنا، فإنّ الناس يعودون إلى قواعدهم الطائفية، من أجل تلبية حاجاتهم التي لا يستطيعون الحصول عليها كمواطنين.
* سماحة السيد، هل تعتقد أن أمريكا تلعب بزعامات في لبنان؟
- عندما ندرس حركة السفير الأمريكي أولاً، والسفير الفرنسي ثانياً، وتدخّلهما في كل القضايا، حتى الصغيرة منها، وتغير كثير من آراء السياسيين اللبنانيين عند اجتماعه مع هذا السفير أو ذاك السفير، نعرف أن المسألة ليست مجرد أن أمريكا وفرنسا يساعدان لبنان، ولكنّهما تتحركان من أجل السيطرة عليه بطريقة وبأخرى.
* هل يعملون وفق هذه المعطيات على أرض الواقع من خلال أجهزة استخبارات مثلاً؟
- أنا أعتبر أن لبنان هو البلد الذي تلتقي فيه كلُّ مخابرات العالم، حتى إنّ بعض المسؤوليين الأمريكيين في لبنان قال، إنّ بيروت أفضل مكان للتنصّت.
* هناك موضوع مرتبط اليوم بالنـزاع الذي يجري على مسألة رئاسة الجمهورية، فزعيم التيار الوطني الحر العماد ميشال عون تحالف مؤخراً مع حزب الله، وفاجأ الجميع من الجهتين بهذا الاتفاق غير المتوقع. في رأيك، هل سياسة التحالفات في لبنان ما تزال سياسة مجدية؟
- أنا أعتقد أنها سياسة تفاهمات وليست سياسة تحالفات.
* ألا تفرز التّفاهمات في النهاية شكلاً من أشكال التحالف؟
- قد تفرز في بعض الحالات بعض الخطوط العملانية، ولكنها لا تستمر طويلاً.
* وحتى اتفاق ميشال عون مع حزب الله لن يستمر؟
- لن أعلق على هذه الأمور التفصيلية.
* في رأيك، ماذا يفعل المواطن اللبناني الذي يعيش حالة القلق اليومية؟
- عليه أن يبقى في هذه الدوَّامة لأنّه اختار ذلك.
* كيف اختار ذلك؟