لا أتوقع حدوث فتنة شيعية ـ سنية مسلَّحة في العراق

لا أتوقع حدوث فتنة شيعية ـ سنية مسلَّحة في العراق
 

بيروت ـ اسماعيل فقيه:

تمر المنطقة العربية اليوم في مرحلة صعبة بعد الاحتلال الأميركي للعراق ووضوح أهداف الهجمة الأميركية على المنطقة، تارة بذريعة حيازة العراق أسلحة التدمير الشامل، وتارة أخرى بذريعة «محاربة الإرهاب» وتبرز عواقب وخيمة في الأفق، إذ بات ما يسمى «الإرهاب الإسلامي» الذريعة الأساس لهذا الغزو الكاسح للمنطقة العربية ـ الإسلامية.كيف يمكن مواجهة هذه الهجمة؟ والى أي مدى نجحت الولايات المتحدة في تحقيق «انتصاراتها» بعدما احتلت أفغانستان والعراق؟ أسئلة كثيرة تلح اليوم، والإجابة عليها تحتاج إلى معرفة حقيقية وفاعلة، والعلامة السيد محمد حسين فضل الله هو أحد المراجع الإسلامية الشيعية، ومن أبرز الشخصيات الفكرية الرائدة في العالم العربي والإسلامي، والقادرة على فهم طبيعة المرحلة. وقد زارته «البيان» وحاورته حول هذه المسائل، والآتي نص الحوار:

مناعة الوحدة الإسلامية

* الوحدة الإسلامية مهدّدة على امتداد العالم الإسلامي، خاصة في العراق، عن طريق المحاولات الحثيثة لإثارة الفتنة المذهبية بين السنة والشيعة، ومع ذلك، لم نجد جهوداً عملية لوأد هذه الفتنة، وخصوصاً من قِبَل الغيارى الفاعلين على هذه الساحة الإسلامية، لماذا في رأيكم هذا التلكؤ؟

ـ عندما ندرس العنوان العراقي في نطاق الوحدة الإسلامية، فإننا نجد في دراستنا للتاريخ في العراق، أن هذا البلد كان وحدوياً بالمعنى الاجتماعي العام، فلم تحدث هناك وفي مدى التاريخ، ورغم تنوع أنظمة الحكم فيه، فتنة شيعية ـ سنية، رغم أن التعددية تفرض وجود بعض الحساسيات.

ولكنها لم تصل إلى مستوى الحرب الأهلية أو الفتنة المذهبية التي تربك الواقع كله، لكن الأحداث التي انطلقت في العراق بعد الاحتلال الأميركي، تحركت على أساس خطوط عدة، وفي مقدّمها الخط الأميركي الذي حاول أن يثير مسألة السنّة والشيعة عندما يتحدّث عن أنّ الشيعة مسالمون للاحتلال ومرحّبون، بينما السنة خلاف ذلك.

ونحن عندما ندرس هذه المسألة، فإنّنا نجد أن القضية لم تنطلق بهذا الهدوء في المنطقة الشيعية لصالح الاحتلال، وإنما انطلقت من خلال طبيعة النظام الطاغي الذي قام بعملية أشبه بالتصفية للواقع الشيعي على جميع المستويات، إضافةً إلى تشجيعه على المسألة الطائفية من خلال الخطوط التكفيرية التي حشد لها الكثيرين، فالشيعة لم يرحبوا بالاحتلال، ولكن الظروف التي أحاطت بهم، ورغبة التخلّص من الطاغية، أدّيا إلى فقدانهم كل عوامل المقاومة في تلك المرحلة.

والجانب الثاني الذي يُثار أمام هذا الجدل، هو سياسة الاحتلال الهادفة إلى تقسيم الواقع السياسي العراقي، فقد أثيرت في البداية المسألة الكردية، على أساس أن الأكراد يريدون الحصول على نوع من الاستقلال الذاتي الذي ربما يفكرون من خلاله باستقلال شامل، وهو ما أدى إلى الحديث أيضاً عن الفيدرالية التي لا تزال تعيش في نطاق ضبابي، لأن البعض حاول تصويرها كفيدرالية عرقية ومذهبية، وهذا ما جعل البعض من السياسيين الشيعة يتحدث عن فيدرالية في الجنوب تشمل محافظات عدة.

إلى جانب ذلك، كان امتناع الكثيرين من السنّة من الدخول في الانتخابات، الأمر الذي خلق هاجساً مذهبياً يتحدث عن الأكثرية: هل هم الشيعة أو السنة؟ وما هي حصة السنة الحاكمين سابقاً؟ وما هي حصة الشيعة؟ ما خلق ذهنية سياسية مذهبية تتمثل الآن في مسألة الهيئة الرئاسية، ورئاسة الوزراء، والوزراء.

وثالثاً: ربما ما أثار بعض المشاكل، هو قيام التكفيريين، وهم من السنّة، بعمليات واغتيال وتفجير في مناطق الشيعة، سواء اغتيال الشخصيات الشيعية، أو تفجير الأماكن، كل ذلك أدى إلى بروز حالة نفسية متشنجة. ولكن نستطيع التأكيد أنه رغم كل هذه السلبيات، فإن الشيعة الذين قتل منهم الكثير، سواء في أماكنهم المقدسة، أو من شخصياتهم الكبيرة غير المذهبية، لم يقوموا بأي ردة فعل ضد السنة، ولم يحدث أيّ اغتيالات شيعية ضد السنة بشخصياتهم ومراكزهم.

كما أن هناك نوعاً من أنواع التواصل على مستوى شخصياتهم الدينية والسياسية، ما أبعد العراق عن أن يكون أرضاً تتورط في الحرب الأهلية المذهبية. إني أتصور أنه مهما حدث في العراق من الحساسيات المذهبية، فإن العراق لن يتحوّل إلى بلدٍ يحرك الفتنة المذهبية المسلّحة.

حركة التكفير تشويهٌ لصورة الإسلام

* ذكرت الجماعات التكفيرية، بماذا تعلّقون على النهج الذي تجسِّده هذه الجماعات المتطرفة التي تشوه صورة الإسلام؟

ـ إن مشكلة هؤلاء التكفيريين، هي أنهم خضعوا لثقافة متخلّفة في فهم النصوص، ما أدى بهم إلى ملاحقة بعض الجزئيات في المسائل الإسلامية على مستوى المفاهيم وغيرها، الأمر الذي جعل مسألة تكفير المسلمين تواجه بطريقة ساذجة ومتخلِّفة، فهم إذا صحَّ حديث عن الرسول عندهم ولم يصح عند غيرهم، فإنهم يعتبرون الآخرين مخالفين للرسول، وبناءً عليه، فهم كَفَرة بزعمهم ويجوز قتلهم.

إن هناك كلاماً في الفقه الإسلامي حول مسألة الجهاد بالمستوى الذي يرون فيه شرعية قتل الكافر من خلال الكفر، بينما يرى آخرون كثيرون أن الحرب هي التي تبرر قتل الكافر، فعندما يحارب الكافر المسلمين، فإن طبيعة الدفاع عن النفس أو الأمة تفرض شرعية الحرب. فهؤلاء التكفيريون يعتبرون الكفر مبرراً شرعياً كافياً لقتل من يعتقدونه كافراً. وعلى ضوء هذا، استحلوا دماء المسلمين من السنة والشيعة.

* هل هذه الحركات المتطرفة على علاقة ما بالأميركيين؟

ـ من الطبيعي أن الأميركيين حاولوا إيجاد حركات إسلامية تعمل لحسابهم، وقد استفادوا من التعقيدات الإسلامية ضد الشيوعية والسوفيات الذين سيطروا على أفغانستان، حيث استفاد الأميركيون من المناخ المضاد للشيوعية والاحتلال السوفياتي، في تكوين جماعات باسم المجاهدين الذين انطلقوا، لا من خلال تبعيتهم للأميركيين، بل من خلال دينهم الذي حرصوا عليه، وخوفاً من الشيوعية التي تعتبر الإلحاد قاعدةً لتفكيرها، ونحن نلاحظ أن الأميركيين يتابعون صلتهم ببعض هؤلاء المتطرفين.

* حيال هذا الوضع المتفجِّر، لماذا لا يعقد مؤتمر قمة إسلامي كبير لتدارك هذا الأمر، أو لماذا لا تتحرك منظمة المؤتمر الإسلامي؟

ـ إننا نلاحظ أن منظمة المؤتمر الإسلامي لم تتحدث بشكل قوي عن مسألة الوحدة الإسلامية، إلا عندما انطلقت الولايات المتحدة في مكافحة الإرهاب بعد11 سبتمبر، على أساس أنّ الضغط الأميركي حاول أن يصادر الكثير من الأوضاع الإسلامية المعارضة للسياسة الأميركية تحت تأثير مكافحة الإرهاب الإسلامي وغير ذلك.

أما العلماء، فهناك المخلصون للإسلام والوحدة الإسلامية، ولكن هناك أيضاً العلماء التكفيريون الذين لا يعتقدون ببعض الفرق والمذاهب الإسلامية. ولهذا حين يتحدثون عن الوحدة الإسلامية، يتحدثون عنها في نطاقهم المذهبي لا في النطاق الإسلامي العام.

قراءة في أحداث 11أيلول

* كيف تقرأ أحداث11 سبتمبر؟ وهل يقف وراءها طرف معين؟

ـ حين انطلقت أحداث 11 سبتمبر، كان هناك رد فعل من قِبَل الإدارة الأميركية ضد هؤلاء الذين قاموا بالتفجيرات أو من يقفون خلفهم.

ومن الطبيعي أن أميركا، التي كانت تستغل بعض المواقع الإسلامية لحساب سياستها في تعاملها مع الأنظمة التي تحتضن أمثال هؤلاء، قد شعرت بأنها للمرة الأولى في تاريخها تواجه حرباً شاملة تتحدى الوجود الأميركي في الداخل، الأمر الذي جعل الإدارة الأميركية المحافظة الجديدة واللوبي الصهيوني، يجدان في هذا الحدث الضخم فرصةً لمواجهة كل العالم الإسلامي بالحرب، باعتبار أنه يمثل خطراً على الأمن والمصالح الأميركية، لتستفيد من خلال ذلك في المزيد من السيطرة على ثروات العالم الإسلامي من جهة، ولتنفيذ مخطط التحالف الاستراتيجي الأميركي، وإيجاد مناخ معين يفسح في المجال لمحاصرة كل الدول التي تمتلك مصالح حيوية في مناطق العالم الإسلامي، كالاتحاد الأوروبي وروسيا والصين واليابان من جهة أخرى.

إن الولايات المتحدة استفادت من أحداث11 سبتمبر، ولو صرفت مليارات الدولارات لما حصلت على ما حصلت عليه من نتائج نتيجة هذه الأحداث، والذين قاموا بهذه العملية لم يفكّروا في ما يتحركون به بالمستوى السياسي الباحث عن النتائج بشكل دقيق.

"الإرهـاب الإسـلامي"؟!

* «الإرهاب الإسلامي»، بات مصطلحاً سياسياً أميركياً تبرر فيه أميركا وإسرائيل الهجمة الشاملة على العالم الإسلامي، ما هو تعليقكم؟

ـ إذا صحّ أن نطلق هذه الكلمة على الواقع الإسلامي العنيف، من خلال ما يتحرك به هؤلاء الذين يواجهون النفوذ الأميركي في المناطق الإسلامية بطريقة العنف، فإننا لا نستطيع الحديث عن «إرهاب إسلامي» إلا إذا وضعنا المصطلح بين قوسين.

* لمــاذا؟

ـ لأننا عندما ندرس كل ما حدث لأساليب هؤلاء، بقطع النظر عن موافقتنا أو عدمها، فإننا نجد أنها كانت رد فعل على السياسة الأميركية في العالم الإسلامي... إننا نسمع من هؤلاء في أدبياتهم الخطابية الحديث عن إسرائيل واحتلالها واضطهادها للفلسطينيين، ونسمع إلى جانب ذلك الحديث عن الأنظمة العربية الخاضعة للسياسة الأميركية، والتي حوّلت بلدانها إلى سجون كبيرة تحكم بحالات الطوارئ وبأجهزة المخابرات، حتى فقدت الشعوب العربية والإسلامية كل إنسانيتها وحرياتها وحقوقها، ونقرأ أيضاً في مسألة احتلال العراق واحتلال أفغانستان والفوضى التي ترشها أميركا على العالم الإسلامي، وهو ما نلاحظه في كل عناصر القوة في هذا العالم.

لذلك، فهي تنعت كل المدافعين عن حرياتهم وعن وطنهم «كحماس» و«الجهاد الإسلامي» و«كتائب الأقصى» في فلسطين و«حزب الله» في لبنان بالإرهاب، وتريد ألاّ يكون هناك قوة لأي فريق عربي أو إسلامي، وهو ما نلاحظه في الطريقة التي تدير بها أميركا حربها ضد إيران في مسألة مشروعها النووي السلمي، مع عدم معاملة كوريا الشمالية بالمثل.

إنّ التحالف الأميركي ـ الإسرائيلي يعمل على إضعاف كل مواقع القوة في العالم العربي والإسلامي، ولذلك فإن ما يسمى بالإرهاب، إنما هو رد فعل للإرهاب الأميركي والإرهاب الإسرائيلي. نحن نعرف أن أميركا التي ضغطت على سوريا ولبنان بالقرار 1559، أرادت بعنوان الشرعية الدولية إسقاط هذه الشرعية في كل القرارات الصادرة عن مجلس الأمن ضد إسرائيل.

ونلاحظ الآن، أنّ الرئيس الأميركي جورج بوش يتحدث مع آرييل شارون عن إلغاء حق العودة للفلسطينيين إلى بلادهم، وأنّ المستوطنات الكبرى لابد أن تبقى، ما جعل السياسة الأميركية تحارب الحقوق الفلسطينية أكثر مما تحاربها إسرائيل، حتى إننا نشعر بالحماس الذي يصدر من بوش وإدارته لما يتصل باضطهاد الفلسطينيين أكثر من حماس إسرائيل.

إنّ هذا الإرهاب لم ينطلق من حالة إسلامية ومن تفكير إسلامي ابتدائي ومن مزاج إسلامي للإرهاب، بل انطلق من رد فعل للسياسة الأميركية ـ الإسرائيلية، تماماً كما تتحدث أميركا عن رد فعلها ضد الأنظمة التي تشعر بالخطر منها، كما كانت تتحدث عن صدام حسين وخطورته على الأمن الأميركي.

هناك إرهاب يتغذّى من إرهاب، وليس هناك إرهاب إسلامي بالمطلق في هذا المجال، إلا ما قد يحدث من خلال حالات الجهل التي نلاحظها في كثير من الشعوب البدائية، كأفريقيا وغيرها.

سياسة الذئب والحملان

* «الحرب على الإرهاب» في المنظور الأميركي لها طبيعتها المختلفة عسكرياً: (أفغانستان والعراق)، سياسياً: (تغيير الأنظمة تحت عناوين نشر الديمقراطية والحرية)، وثقافياً: (تغيير المناهج وحذف بعض الآيات القرآنية تحديداً)، فما هو رأيكم؟

ـ إن السياسة الأميركية في العالم الإسلامي تعمل على اجتثاث كل جذور الممانعة التي يمكن أن تعيش في وجدان الشعوب الإسلامية ضد حركة الاستكبار العالمي الذي يحاول مصادرة ثروات الشعوب ومواقعها الاستراتيجية، وكل ما يتصل بمصالحها السياسية والاقتصادية وغير ذلك.

ولهذا، فإنه يريد ألا تكون هناك أيّ حالٍ جهادية، ولو كانت دفاعية أو وقائية، تتحرك في وجدان الشعوب الإسلامية، لذا فهم يطالبون بحذف آيات الجهاد في القرآن، ويشوّهون صورة الإسلام، لأنّهم ينظرون إليه كحركة عدوانية ضد الشعوب غير المسلمة، بدلاً من أن يقرّوا بواقعه المفهومي الأصيل الذي يؤكّد أنّه حركة دفاعية ضد عدوان الآخرين.

وهكذا نجد في محاولة تدجين الأنظمة، أن تدجين بعض الأحزاب وبعض التيارات يتم تحت اسم السلام والحضارة، إن أميركا تعمل على أساس اجتثاث كل جذور القوة التي تصنع الممانعة وتأخذ بأسباب الحرية بالمعنى الأصيل، لا بالطريقة الأميركية وبأسباب العزة والكرامة، لأن أميركا تريد ممارسة سياسة الذئب مع الحملان الوديعة.

* هل تعتبر أن اغتيال الرئيس رفيق الحريري يندرج في سياق مخطّط معين؟ وهل يرمي لإثارة فتنة بين السّنة والشيعة؟

ـ أعتقد أنه في غياب المجرم الذي قام بهذه الجريمة، لابد لنا أن نتصور من المستفيد من ذلك. إنني في أول تصريح تحدثت به عن المسألة، لاحظت أن المستفيد الأول هو إسرائيل.

وذلك، لأنّها شعرت بالحرج عندما تحوّل لبنان إلى واحة للأمن يجتذب المؤتمرات العالمية والسوّاح من سائر أنحاء العالم العربي والإسلامي والأوروبي، لأن إسرائيل تعتبر أن مشكلتها في العالم العربي هي مشكلة لبنان، فهو البلد الوحيد في هذا العالم الذي كان أسبق البلدان إلى الديمقراطية، وإلى الحريات، وأكثر البلدان انفتاحاً على الغرب، في الوقت الذي نجد أن الغرب ينفتح أيضاً على الشرق من خلال لبنان. إن ميزات لبنان تمثّل التحدي لإسرائيل التي تريد أن تكون بديلاً عنه اقتصادياً أو سياسياً... لهذا، فإن اغتيال الرئيس الحريري قد يخلط الكثير من الأوراق، باعتبار أن هذه الشخصية تمثل امتداداً في أكثر من جانب وموقع، ولا أجد هناك أي مصلحة لأي بلد عربي أو حالة محلية في ذلك.

* هل يمكن أن تكون إسرائيل هي الفاعل، أي أنها اغتالت الرئيس الحريري؟

ـ إنني لا أستبعد ذلك بنسبة كبيرة من الاحتمال.

الإسلام منفتح ومتنوّر

* لماذا يبدو الفكر الإسلامي عاجزاً عن صوغ خطاب تحديثي جديد يتلاءم وأوضاع الحياة العصرية ومعطياتها القائمة؟

ـ إنني أرفض هذه التهمة، صحيحٌ أن هناك الكثير ممن يكتبون ما يُسمى فكراً في العالم الإسلامي لا يزالون يعيشون في عصورٍ سابقة من التخلّف الذي لا يعيش المعاصرة، ولكنني أعتقد أن هناك فكراً إسلامياً متنوّراً منفتحاً على واقع المعاصرة، وحتى على واقع الحداثة، مما قد يُثير الجدل في داخل الواقع الثقافي الإسلامي.

هناك الكثير من نماذج الفكر الإسلامي التي تدرس حاجات العصر وتطلّعاته، وتناقش بعض المُسلّمات التي استهلكها الواقع الإسلامي. لذلك فإنني أرفض مقولة أن الفكر الإسلامي في موقعه الحاضر هو فكر عاجز عن مواجهة المتغيرات الحضارية الثقافية والفكرية.

ـ استتباعاً، يُلاحظ أن المسيرة الإصلاحية التي امتدّت لما يقارب قرناً ونصف القرن، بغضِّ النظر عن ملامح التغيير في استراتيجيتها، تبدو مسيرتها الحديثة متخلّفة عن طروحات الفكر؟

ـ إنَّ المشكلة التي واجهت العالم الإسلامي هي في السيطرة الاستعمارية عليه، والتي جعلته يتجه إلى مواجهة القضايا السياسية والأمنية أكثر من مواجهته لقضايا الحداثة وغيرها. نحن نلاحظ أن العالم الإسلامي، منذ الأربعينات وحتى الآن، لا يزال يعيش حالة زلزال أمني وسياسي واختلاط في الأوراق، ولا سيّما عندما انطلقت التيارات العالمية التي شغلت الذهنية الإسلامية بجدل أشبه بالجدل البيزنطي في هذا المجال.

لأنّ التيارات التي فرضت نفسها على الواقع، كانت تيارات نظرية أكثر مما هي تيارات واقعية، كما إن الوضع الأمني للعالم الإسلامي، أصبح منذ ولادة إسرائيل وتحالفها مع الغرب، يعيش حالةً من الاهتزاز الدائم، إذ لم يعد هناك استقرار يسمح بالعمل على أساس نظرية الاعتراف بالآخر، بسبب هذا النوع من الحرب الإعلامية التي يخوّن فيها كل فريق الفريق الآخر.

ولم تحدث هناك فترة هدوء تسمح بالانفتاح على الفكر أو بالحوار الثقافي والموضوعي. إن مشكلة العالم الإسلامي، هي أنه عالم لا يزال يعيش الاهتزاز والسيطرة الاستكبارية التي تمنعه من أن يستقر ويتوازن، وأن يفكر بهدوء.

* ثمّة قائل بوجود إسلام حقيقي حجبته تصورات خاطئة، وبالتالي فإن حملة التجديد الإسلامي ينبغي أن تقتصر على تخليص الدين من الانحرافات والبدع، وما علينا سوى البحث عن هذا الإسلام واستخراجه من ركام التاريخ، ليكون قادراً على تخليصنا من محنة الحداثة؟

ـ إنني لا أؤمن بالمصطلحات الضبابية. وعندما تتحدث عن إسلام حقيقي، عليك تقديم صورة هذا الإسلام الحقيقي، لتتهم الواقع الفكري الإسلامي بأنه يمثل البدع أو الخرافات. إن المشكلة هي أن كل فريق يدّعي أنه يمثل الإسلام الحقيقي، ولكن من دون أن يقدم توضيحاً لهذه الصورة التي يقدمها عن الإسلام.

إنّنا نعتبر أنه إذا كانت هناك الكثير من البدع والخرافات التي أحاطت بالإسلام، فإن هناك أيضاً تخلفاً في فهم الإسلام، انطلق من خلال هؤلاء الذين عاشوا عقدة البدعة لكل شيء جديد، أو الذين ينظرون إلى كلّ فكر آخر مختلف على أنّه انحراف.

إنني أعتقد أنه إذا أريد لهذه المسألة أن تقف على قاعدة عقلانية واقعية، فعلى جميع الفرقاء الذين يختلفون في تصوراتهم للإسلام، أن يجلسوا ويضعوا النصوص الإسلامية أمامهم ثم يتحاوروا حواراً موضوعياً لا تكفير فيه، ولا تضليل ولا عقد ضد الآخر، بل ينطلق على أساس الاعتراف بالآخر، على قاعدة: {وإنّا أو إيّاكم لعلى هدى أو في ضلال مبين} [سبأ:24]، باعتبار أنّ هناك حقيقةً نبحث عنها سوياً، والإسلام يطرح مسألة الاعتراف بالآخر والوقوف معه على قاعدة مشتركة. ولهذا، فعلى المسلمين أن يكونوا قرآنيين للوصول إلى الحقيقة.

* أي مشروعية لمن يتحدث عن التجديد الإسلامي؟ وهل من المعقول أن يتحدث عن الإسلام من لا يلتزمه؟

ـ من الطبيعي أن كلمة التجديد فضفاضة، وهناك فرق بين الحديث عن عقدة التجديد وعقلانية التجديد، بمعنى أننا لا نعتبر أن ما جاء به القدامى هو الحقيقة، فهم يخطئون ويصيبون، ونحن نخطئ ونصيب. فمن الممكن أن يأخذ بالبحث التجديدي أي شخص بشرط أن تكون أدواته علمية عقلية واقعية، وهو ما نعني به تجديد الفهم للإسلام لا تجديد الإسلام.

* كيف تناقش مقولة إن ما يميز الخطاب الإسلامي الجيد هو ذلك التوازن النفساني في زوال سحر الغرب والتراث معاً؟

ـ نحن نؤمن بالأصالة، فإذا كنا نؤمن بالإسلام أنه فكر يتميز بعناصر ثابتة ومتحركة، فإنه من الطبيعي جداً أن يكون بحثنا الإسلامي منفتحاً على المقارنة بين النظرية والمعرفة.

نحن لا نحمل عقدة من الحضارات الأخرى، بحيث نرجمها بالحجارة بشكل مطلق، بل نحاول أن ندرس دائماً في حوار الحضارات الذي نؤمن به والذي أكده القرآن الكريم، وهو كتاب الحوار الإنساني الحضاري، نؤمن بأن ندرس ما نتفق عليه مع بعض الحضارات، وما نختلف فيه، لنلتقي على ما اتفقنا عليه، ولنتحاور في ما اختلفنا فيه.

* كيف ترى مستقبل لبنان، والعراق، وسوريا، وحتى الشرق الأوسط برمّته؟ وهل هناك مناعة للوقوف أمام مشاريع التفتيت والتقسيم؟

ـ إنّني أؤمن بالشعوب، بكلِّ ما أملك من كفر بالأنظمة، ولذلك لا أشعر بالسقوط ولا أشعر بالإحباط أمام المشكلات التي تتحرك نحو التقسيم والإضعاف. وأعتقد أن الشعوب قادرة على الخروج من تحت الركام لتبني وطناً جديداً.

مجلة "البيان الإماراتية" 28/4/2005م

 

بيروت ـ اسماعيل فقيه:

تمر المنطقة العربية اليوم في مرحلة صعبة بعد الاحتلال الأميركي للعراق ووضوح أهداف الهجمة الأميركية على المنطقة، تارة بذريعة حيازة العراق أسلحة التدمير الشامل، وتارة أخرى بذريعة «محاربة الإرهاب» وتبرز عواقب وخيمة في الأفق، إذ بات ما يسمى «الإرهاب الإسلامي» الذريعة الأساس لهذا الغزو الكاسح للمنطقة العربية ـ الإسلامية.كيف يمكن مواجهة هذه الهجمة؟ والى أي مدى نجحت الولايات المتحدة في تحقيق «انتصاراتها» بعدما احتلت أفغانستان والعراق؟ أسئلة كثيرة تلح اليوم، والإجابة عليها تحتاج إلى معرفة حقيقية وفاعلة، والعلامة السيد محمد حسين فضل الله هو أحد المراجع الإسلامية الشيعية، ومن أبرز الشخصيات الفكرية الرائدة في العالم العربي والإسلامي، والقادرة على فهم طبيعة المرحلة. وقد زارته «البيان» وحاورته حول هذه المسائل، والآتي نص الحوار:

مناعة الوحدة الإسلامية

* الوحدة الإسلامية مهدّدة على امتداد العالم الإسلامي، خاصة في العراق، عن طريق المحاولات الحثيثة لإثارة الفتنة المذهبية بين السنة والشيعة، ومع ذلك، لم نجد جهوداً عملية لوأد هذه الفتنة، وخصوصاً من قِبَل الغيارى الفاعلين على هذه الساحة الإسلامية، لماذا في رأيكم هذا التلكؤ؟

ـ عندما ندرس العنوان العراقي في نطاق الوحدة الإسلامية، فإننا نجد في دراستنا للتاريخ في العراق، أن هذا البلد كان وحدوياً بالمعنى الاجتماعي العام، فلم تحدث هناك وفي مدى التاريخ، ورغم تنوع أنظمة الحكم فيه، فتنة شيعية ـ سنية، رغم أن التعددية تفرض وجود بعض الحساسيات.

ولكنها لم تصل إلى مستوى الحرب الأهلية أو الفتنة المذهبية التي تربك الواقع كله، لكن الأحداث التي انطلقت في العراق بعد الاحتلال الأميركي، تحركت على أساس خطوط عدة، وفي مقدّمها الخط الأميركي الذي حاول أن يثير مسألة السنّة والشيعة عندما يتحدّث عن أنّ الشيعة مسالمون للاحتلال ومرحّبون، بينما السنة خلاف ذلك.

ونحن عندما ندرس هذه المسألة، فإنّنا نجد أن القضية لم تنطلق بهذا الهدوء في المنطقة الشيعية لصالح الاحتلال، وإنما انطلقت من خلال طبيعة النظام الطاغي الذي قام بعملية أشبه بالتصفية للواقع الشيعي على جميع المستويات، إضافةً إلى تشجيعه على المسألة الطائفية من خلال الخطوط التكفيرية التي حشد لها الكثيرين، فالشيعة لم يرحبوا بالاحتلال، ولكن الظروف التي أحاطت بهم، ورغبة التخلّص من الطاغية، أدّيا إلى فقدانهم كل عوامل المقاومة في تلك المرحلة.

والجانب الثاني الذي يُثار أمام هذا الجدل، هو سياسة الاحتلال الهادفة إلى تقسيم الواقع السياسي العراقي، فقد أثيرت في البداية المسألة الكردية، على أساس أن الأكراد يريدون الحصول على نوع من الاستقلال الذاتي الذي ربما يفكرون من خلاله باستقلال شامل، وهو ما أدى إلى الحديث أيضاً عن الفيدرالية التي لا تزال تعيش في نطاق ضبابي، لأن البعض حاول تصويرها كفيدرالية عرقية ومذهبية، وهذا ما جعل البعض من السياسيين الشيعة يتحدث عن فيدرالية في الجنوب تشمل محافظات عدة.

إلى جانب ذلك، كان امتناع الكثيرين من السنّة من الدخول في الانتخابات، الأمر الذي خلق هاجساً مذهبياً يتحدث عن الأكثرية: هل هم الشيعة أو السنة؟ وما هي حصة السنة الحاكمين سابقاً؟ وما هي حصة الشيعة؟ ما خلق ذهنية سياسية مذهبية تتمثل الآن في مسألة الهيئة الرئاسية، ورئاسة الوزراء، والوزراء.

وثالثاً: ربما ما أثار بعض المشاكل، هو قيام التكفيريين، وهم من السنّة، بعمليات واغتيال وتفجير في مناطق الشيعة، سواء اغتيال الشخصيات الشيعية، أو تفجير الأماكن، كل ذلك أدى إلى بروز حالة نفسية متشنجة. ولكن نستطيع التأكيد أنه رغم كل هذه السلبيات، فإن الشيعة الذين قتل منهم الكثير، سواء في أماكنهم المقدسة، أو من شخصياتهم الكبيرة غير المذهبية، لم يقوموا بأي ردة فعل ضد السنة، ولم يحدث أيّ اغتيالات شيعية ضد السنة بشخصياتهم ومراكزهم.

كما أن هناك نوعاً من أنواع التواصل على مستوى شخصياتهم الدينية والسياسية، ما أبعد العراق عن أن يكون أرضاً تتورط في الحرب الأهلية المذهبية. إني أتصور أنه مهما حدث في العراق من الحساسيات المذهبية، فإن العراق لن يتحوّل إلى بلدٍ يحرك الفتنة المذهبية المسلّحة.

حركة التكفير تشويهٌ لصورة الإسلام

* ذكرت الجماعات التكفيرية، بماذا تعلّقون على النهج الذي تجسِّده هذه الجماعات المتطرفة التي تشوه صورة الإسلام؟

ـ إن مشكلة هؤلاء التكفيريين، هي أنهم خضعوا لثقافة متخلّفة في فهم النصوص، ما أدى بهم إلى ملاحقة بعض الجزئيات في المسائل الإسلامية على مستوى المفاهيم وغيرها، الأمر الذي جعل مسألة تكفير المسلمين تواجه بطريقة ساذجة ومتخلِّفة، فهم إذا صحَّ حديث عن الرسول عندهم ولم يصح عند غيرهم، فإنهم يعتبرون الآخرين مخالفين للرسول، وبناءً عليه، فهم كَفَرة بزعمهم ويجوز قتلهم.

إن هناك كلاماً في الفقه الإسلامي حول مسألة الجهاد بالمستوى الذي يرون فيه شرعية قتل الكافر من خلال الكفر، بينما يرى آخرون كثيرون أن الحرب هي التي تبرر قتل الكافر، فعندما يحارب الكافر المسلمين، فإن طبيعة الدفاع عن النفس أو الأمة تفرض شرعية الحرب. فهؤلاء التكفيريون يعتبرون الكفر مبرراً شرعياً كافياً لقتل من يعتقدونه كافراً. وعلى ضوء هذا، استحلوا دماء المسلمين من السنة والشيعة.

* هل هذه الحركات المتطرفة على علاقة ما بالأميركيين؟

ـ من الطبيعي أن الأميركيين حاولوا إيجاد حركات إسلامية تعمل لحسابهم، وقد استفادوا من التعقيدات الإسلامية ضد الشيوعية والسوفيات الذين سيطروا على أفغانستان، حيث استفاد الأميركيون من المناخ المضاد للشيوعية والاحتلال السوفياتي، في تكوين جماعات باسم المجاهدين الذين انطلقوا، لا من خلال تبعيتهم للأميركيين، بل من خلال دينهم الذي حرصوا عليه، وخوفاً من الشيوعية التي تعتبر الإلحاد قاعدةً لتفكيرها، ونحن نلاحظ أن الأميركيين يتابعون صلتهم ببعض هؤلاء المتطرفين.

* حيال هذا الوضع المتفجِّر، لماذا لا يعقد مؤتمر قمة إسلامي كبير لتدارك هذا الأمر، أو لماذا لا تتحرك منظمة المؤتمر الإسلامي؟

ـ إننا نلاحظ أن منظمة المؤتمر الإسلامي لم تتحدث بشكل قوي عن مسألة الوحدة الإسلامية، إلا عندما انطلقت الولايات المتحدة في مكافحة الإرهاب بعد11 سبتمبر، على أساس أنّ الضغط الأميركي حاول أن يصادر الكثير من الأوضاع الإسلامية المعارضة للسياسة الأميركية تحت تأثير مكافحة الإرهاب الإسلامي وغير ذلك.

أما العلماء، فهناك المخلصون للإسلام والوحدة الإسلامية، ولكن هناك أيضاً العلماء التكفيريون الذين لا يعتقدون ببعض الفرق والمذاهب الإسلامية. ولهذا حين يتحدثون عن الوحدة الإسلامية، يتحدثون عنها في نطاقهم المذهبي لا في النطاق الإسلامي العام.

قراءة في أحداث 11أيلول

* كيف تقرأ أحداث11 سبتمبر؟ وهل يقف وراءها طرف معين؟

ـ حين انطلقت أحداث 11 سبتمبر، كان هناك رد فعل من قِبَل الإدارة الأميركية ضد هؤلاء الذين قاموا بالتفجيرات أو من يقفون خلفهم.

ومن الطبيعي أن أميركا، التي كانت تستغل بعض المواقع الإسلامية لحساب سياستها في تعاملها مع الأنظمة التي تحتضن أمثال هؤلاء، قد شعرت بأنها للمرة الأولى في تاريخها تواجه حرباً شاملة تتحدى الوجود الأميركي في الداخل، الأمر الذي جعل الإدارة الأميركية المحافظة الجديدة واللوبي الصهيوني، يجدان في هذا الحدث الضخم فرصةً لمواجهة كل العالم الإسلامي بالحرب، باعتبار أنه يمثل خطراً على الأمن والمصالح الأميركية، لتستفيد من خلال ذلك في المزيد من السيطرة على ثروات العالم الإسلامي من جهة، ولتنفيذ مخطط التحالف الاستراتيجي الأميركي، وإيجاد مناخ معين يفسح في المجال لمحاصرة كل الدول التي تمتلك مصالح حيوية في مناطق العالم الإسلامي، كالاتحاد الأوروبي وروسيا والصين واليابان من جهة أخرى.

إن الولايات المتحدة استفادت من أحداث11 سبتمبر، ولو صرفت مليارات الدولارات لما حصلت على ما حصلت عليه من نتائج نتيجة هذه الأحداث، والذين قاموا بهذه العملية لم يفكّروا في ما يتحركون به بالمستوى السياسي الباحث عن النتائج بشكل دقيق.

"الإرهـاب الإسـلامي"؟!

* «الإرهاب الإسلامي»، بات مصطلحاً سياسياً أميركياً تبرر فيه أميركا وإسرائيل الهجمة الشاملة على العالم الإسلامي، ما هو تعليقكم؟

ـ إذا صحّ أن نطلق هذه الكلمة على الواقع الإسلامي العنيف، من خلال ما يتحرك به هؤلاء الذين يواجهون النفوذ الأميركي في المناطق الإسلامية بطريقة العنف، فإننا لا نستطيع الحديث عن «إرهاب إسلامي» إلا إذا وضعنا المصطلح بين قوسين.

* لمــاذا؟

ـ لأننا عندما ندرس كل ما حدث لأساليب هؤلاء، بقطع النظر عن موافقتنا أو عدمها، فإننا نجد أنها كانت رد فعل على السياسة الأميركية في العالم الإسلامي... إننا نسمع من هؤلاء في أدبياتهم الخطابية الحديث عن إسرائيل واحتلالها واضطهادها للفلسطينيين، ونسمع إلى جانب ذلك الحديث عن الأنظمة العربية الخاضعة للسياسة الأميركية، والتي حوّلت بلدانها إلى سجون كبيرة تحكم بحالات الطوارئ وبأجهزة المخابرات، حتى فقدت الشعوب العربية والإسلامية كل إنسانيتها وحرياتها وحقوقها، ونقرأ أيضاً في مسألة احتلال العراق واحتلال أفغانستان والفوضى التي ترشها أميركا على العالم الإسلامي، وهو ما نلاحظه في كل عناصر القوة في هذا العالم.

لذلك، فهي تنعت كل المدافعين عن حرياتهم وعن وطنهم «كحماس» و«الجهاد الإسلامي» و«كتائب الأقصى» في فلسطين و«حزب الله» في لبنان بالإرهاب، وتريد ألاّ يكون هناك قوة لأي فريق عربي أو إسلامي، وهو ما نلاحظه في الطريقة التي تدير بها أميركا حربها ضد إيران في مسألة مشروعها النووي السلمي، مع عدم معاملة كوريا الشمالية بالمثل.

إنّ التحالف الأميركي ـ الإسرائيلي يعمل على إضعاف كل مواقع القوة في العالم العربي والإسلامي، ولذلك فإن ما يسمى بالإرهاب، إنما هو رد فعل للإرهاب الأميركي والإرهاب الإسرائيلي. نحن نعرف أن أميركا التي ضغطت على سوريا ولبنان بالقرار 1559، أرادت بعنوان الشرعية الدولية إسقاط هذه الشرعية في كل القرارات الصادرة عن مجلس الأمن ضد إسرائيل.

ونلاحظ الآن، أنّ الرئيس الأميركي جورج بوش يتحدث مع آرييل شارون عن إلغاء حق العودة للفلسطينيين إلى بلادهم، وأنّ المستوطنات الكبرى لابد أن تبقى، ما جعل السياسة الأميركية تحارب الحقوق الفلسطينية أكثر مما تحاربها إسرائيل، حتى إننا نشعر بالحماس الذي يصدر من بوش وإدارته لما يتصل باضطهاد الفلسطينيين أكثر من حماس إسرائيل.

إنّ هذا الإرهاب لم ينطلق من حالة إسلامية ومن تفكير إسلامي ابتدائي ومن مزاج إسلامي للإرهاب، بل انطلق من رد فعل للسياسة الأميركية ـ الإسرائيلية، تماماً كما تتحدث أميركا عن رد فعلها ضد الأنظمة التي تشعر بالخطر منها، كما كانت تتحدث عن صدام حسين وخطورته على الأمن الأميركي.

هناك إرهاب يتغذّى من إرهاب، وليس هناك إرهاب إسلامي بالمطلق في هذا المجال، إلا ما قد يحدث من خلال حالات الجهل التي نلاحظها في كثير من الشعوب البدائية، كأفريقيا وغيرها.

سياسة الذئب والحملان

* «الحرب على الإرهاب» في المنظور الأميركي لها طبيعتها المختلفة عسكرياً: (أفغانستان والعراق)، سياسياً: (تغيير الأنظمة تحت عناوين نشر الديمقراطية والحرية)، وثقافياً: (تغيير المناهج وحذف بعض الآيات القرآنية تحديداً)، فما هو رأيكم؟

ـ إن السياسة الأميركية في العالم الإسلامي تعمل على اجتثاث كل جذور الممانعة التي يمكن أن تعيش في وجدان الشعوب الإسلامية ضد حركة الاستكبار العالمي الذي يحاول مصادرة ثروات الشعوب ومواقعها الاستراتيجية، وكل ما يتصل بمصالحها السياسية والاقتصادية وغير ذلك.

ولهذا، فإنه يريد ألا تكون هناك أيّ حالٍ جهادية، ولو كانت دفاعية أو وقائية، تتحرك في وجدان الشعوب الإسلامية، لذا فهم يطالبون بحذف آيات الجهاد في القرآن، ويشوّهون صورة الإسلام، لأنّهم ينظرون إليه كحركة عدوانية ضد الشعوب غير المسلمة، بدلاً من أن يقرّوا بواقعه المفهومي الأصيل الذي يؤكّد أنّه حركة دفاعية ضد عدوان الآخرين.

وهكذا نجد في محاولة تدجين الأنظمة، أن تدجين بعض الأحزاب وبعض التيارات يتم تحت اسم السلام والحضارة، إن أميركا تعمل على أساس اجتثاث كل جذور القوة التي تصنع الممانعة وتأخذ بأسباب الحرية بالمعنى الأصيل، لا بالطريقة الأميركية وبأسباب العزة والكرامة، لأن أميركا تريد ممارسة سياسة الذئب مع الحملان الوديعة.

* هل تعتبر أن اغتيال الرئيس رفيق الحريري يندرج في سياق مخطّط معين؟ وهل يرمي لإثارة فتنة بين السّنة والشيعة؟

ـ أعتقد أنه في غياب المجرم الذي قام بهذه الجريمة، لابد لنا أن نتصور من المستفيد من ذلك. إنني في أول تصريح تحدثت به عن المسألة، لاحظت أن المستفيد الأول هو إسرائيل.

وذلك، لأنّها شعرت بالحرج عندما تحوّل لبنان إلى واحة للأمن يجتذب المؤتمرات العالمية والسوّاح من سائر أنحاء العالم العربي والإسلامي والأوروبي، لأن إسرائيل تعتبر أن مشكلتها في العالم العربي هي مشكلة لبنان، فهو البلد الوحيد في هذا العالم الذي كان أسبق البلدان إلى الديمقراطية، وإلى الحريات، وأكثر البلدان انفتاحاً على الغرب، في الوقت الذي نجد أن الغرب ينفتح أيضاً على الشرق من خلال لبنان. إن ميزات لبنان تمثّل التحدي لإسرائيل التي تريد أن تكون بديلاً عنه اقتصادياً أو سياسياً... لهذا، فإن اغتيال الرئيس الحريري قد يخلط الكثير من الأوراق، باعتبار أن هذه الشخصية تمثل امتداداً في أكثر من جانب وموقع، ولا أجد هناك أي مصلحة لأي بلد عربي أو حالة محلية في ذلك.

* هل يمكن أن تكون إسرائيل هي الفاعل، أي أنها اغتالت الرئيس الحريري؟

ـ إنني لا أستبعد ذلك بنسبة كبيرة من الاحتمال.

الإسلام منفتح ومتنوّر

* لماذا يبدو الفكر الإسلامي عاجزاً عن صوغ خطاب تحديثي جديد يتلاءم وأوضاع الحياة العصرية ومعطياتها القائمة؟

ـ إنني أرفض هذه التهمة، صحيحٌ أن هناك الكثير ممن يكتبون ما يُسمى فكراً في العالم الإسلامي لا يزالون يعيشون في عصورٍ سابقة من التخلّف الذي لا يعيش المعاصرة، ولكنني أعتقد أن هناك فكراً إسلامياً متنوّراً منفتحاً على واقع المعاصرة، وحتى على واقع الحداثة، مما قد يُثير الجدل في داخل الواقع الثقافي الإسلامي.

هناك الكثير من نماذج الفكر الإسلامي التي تدرس حاجات العصر وتطلّعاته، وتناقش بعض المُسلّمات التي استهلكها الواقع الإسلامي. لذلك فإنني أرفض مقولة أن الفكر الإسلامي في موقعه الحاضر هو فكر عاجز عن مواجهة المتغيرات الحضارية الثقافية والفكرية.

ـ استتباعاً، يُلاحظ أن المسيرة الإصلاحية التي امتدّت لما يقارب قرناً ونصف القرن، بغضِّ النظر عن ملامح التغيير في استراتيجيتها، تبدو مسيرتها الحديثة متخلّفة عن طروحات الفكر؟

ـ إنَّ المشكلة التي واجهت العالم الإسلامي هي في السيطرة الاستعمارية عليه، والتي جعلته يتجه إلى مواجهة القضايا السياسية والأمنية أكثر من مواجهته لقضايا الحداثة وغيرها. نحن نلاحظ أن العالم الإسلامي، منذ الأربعينات وحتى الآن، لا يزال يعيش حالة زلزال أمني وسياسي واختلاط في الأوراق، ولا سيّما عندما انطلقت التيارات العالمية التي شغلت الذهنية الإسلامية بجدل أشبه بالجدل البيزنطي في هذا المجال.

لأنّ التيارات التي فرضت نفسها على الواقع، كانت تيارات نظرية أكثر مما هي تيارات واقعية، كما إن الوضع الأمني للعالم الإسلامي، أصبح منذ ولادة إسرائيل وتحالفها مع الغرب، يعيش حالةً من الاهتزاز الدائم، إذ لم يعد هناك استقرار يسمح بالعمل على أساس نظرية الاعتراف بالآخر، بسبب هذا النوع من الحرب الإعلامية التي يخوّن فيها كل فريق الفريق الآخر.

ولم تحدث هناك فترة هدوء تسمح بالانفتاح على الفكر أو بالحوار الثقافي والموضوعي. إن مشكلة العالم الإسلامي، هي أنه عالم لا يزال يعيش الاهتزاز والسيطرة الاستكبارية التي تمنعه من أن يستقر ويتوازن، وأن يفكر بهدوء.

* ثمّة قائل بوجود إسلام حقيقي حجبته تصورات خاطئة، وبالتالي فإن حملة التجديد الإسلامي ينبغي أن تقتصر على تخليص الدين من الانحرافات والبدع، وما علينا سوى البحث عن هذا الإسلام واستخراجه من ركام التاريخ، ليكون قادراً على تخليصنا من محنة الحداثة؟

ـ إنني لا أؤمن بالمصطلحات الضبابية. وعندما تتحدث عن إسلام حقيقي، عليك تقديم صورة هذا الإسلام الحقيقي، لتتهم الواقع الفكري الإسلامي بأنه يمثل البدع أو الخرافات. إن المشكلة هي أن كل فريق يدّعي أنه يمثل الإسلام الحقيقي، ولكن من دون أن يقدم توضيحاً لهذه الصورة التي يقدمها عن الإسلام.

إنّنا نعتبر أنه إذا كانت هناك الكثير من البدع والخرافات التي أحاطت بالإسلام، فإن هناك أيضاً تخلفاً في فهم الإسلام، انطلق من خلال هؤلاء الذين عاشوا عقدة البدعة لكل شيء جديد، أو الذين ينظرون إلى كلّ فكر آخر مختلف على أنّه انحراف.

إنني أعتقد أنه إذا أريد لهذه المسألة أن تقف على قاعدة عقلانية واقعية، فعلى جميع الفرقاء الذين يختلفون في تصوراتهم للإسلام، أن يجلسوا ويضعوا النصوص الإسلامية أمامهم ثم يتحاوروا حواراً موضوعياً لا تكفير فيه، ولا تضليل ولا عقد ضد الآخر، بل ينطلق على أساس الاعتراف بالآخر، على قاعدة: {وإنّا أو إيّاكم لعلى هدى أو في ضلال مبين} [سبأ:24]، باعتبار أنّ هناك حقيقةً نبحث عنها سوياً، والإسلام يطرح مسألة الاعتراف بالآخر والوقوف معه على قاعدة مشتركة. ولهذا، فعلى المسلمين أن يكونوا قرآنيين للوصول إلى الحقيقة.

* أي مشروعية لمن يتحدث عن التجديد الإسلامي؟ وهل من المعقول أن يتحدث عن الإسلام من لا يلتزمه؟

ـ من الطبيعي أن كلمة التجديد فضفاضة، وهناك فرق بين الحديث عن عقدة التجديد وعقلانية التجديد، بمعنى أننا لا نعتبر أن ما جاء به القدامى هو الحقيقة، فهم يخطئون ويصيبون، ونحن نخطئ ونصيب. فمن الممكن أن يأخذ بالبحث التجديدي أي شخص بشرط أن تكون أدواته علمية عقلية واقعية، وهو ما نعني به تجديد الفهم للإسلام لا تجديد الإسلام.

* كيف تناقش مقولة إن ما يميز الخطاب الإسلامي الجيد هو ذلك التوازن النفساني في زوال سحر الغرب والتراث معاً؟

ـ نحن نؤمن بالأصالة، فإذا كنا نؤمن بالإسلام أنه فكر يتميز بعناصر ثابتة ومتحركة، فإنه من الطبيعي جداً أن يكون بحثنا الإسلامي منفتحاً على المقارنة بين النظرية والمعرفة.

نحن لا نحمل عقدة من الحضارات الأخرى، بحيث نرجمها بالحجارة بشكل مطلق، بل نحاول أن ندرس دائماً في حوار الحضارات الذي نؤمن به والذي أكده القرآن الكريم، وهو كتاب الحوار الإنساني الحضاري، نؤمن بأن ندرس ما نتفق عليه مع بعض الحضارات، وما نختلف فيه، لنلتقي على ما اتفقنا عليه، ولنتحاور في ما اختلفنا فيه.

* كيف ترى مستقبل لبنان، والعراق، وسوريا، وحتى الشرق الأوسط برمّته؟ وهل هناك مناعة للوقوف أمام مشاريع التفتيت والتقسيم؟

ـ إنّني أؤمن بالشعوب، بكلِّ ما أملك من كفر بالأنظمة، ولذلك لا أشعر بالسقوط ولا أشعر بالإحباط أمام المشكلات التي تتحرك نحو التقسيم والإضعاف. وأعتقد أن الشعوب قادرة على الخروج من تحت الركام لتبني وطناً جديداً.

مجلة "البيان الإماراتية" 28/4/2005م

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية