اتفاق الطائف تحوّل إلى دستور للبنان

اتفاق الطائف تحوّل إلى دستور للبنان
 

كثيراً ما يقرأ البعض الأمور من آخرها، وحتى إن بدأ القراءة من أولها، إلا أنه لا يكملها، أو يقفز فوق سطورها، أو يتعمد أو يسهو عن قراءة وإدراك الكثير من كلماتها التي تتعدى في مضمونها المفردات إلى أمر أكبر. وفي مثل حالة الأمة العربية التي يصرّ البعض أيضاً على أنها ليست أكثر من مجموعة دول ناطقة بالعربية، فإن الكثير من مصائبها وإسقاطاتها تعود إلى أئمتها من السياسيين ومن رجال الدين على السواء. وهناك الآن فاصل كبير من الزمن ومن القيم العلمية والاقتصادية تفصل بين الأمة والعالم، بعد أن دخلنا في متاهات الظلام الذي يصر البعض على أنه صنع إلهي، بينما النور الذي يعمّ البشرية صنع استعماري! رجل الدين اللبناني المتنوّر العلاّمة السيد محمد حسين فضل الله، طراز متقدم من رجال الدين، له مواقف غير تقليدية، وقراءات متحررة، وإيماءات انفتاحية، وتفسيرات علمية. والرجل الذي يجاهر بالدعوة إلى محاكاة العالم في العلم والتنمية والاعتراف بالآخر، يطرح مشروعاً للتعايش مع الآخر ونبذ الفرقة والتخلّف، وله في الشأن اللبناني الكثير المتحرك وغير المتحرك تحرجاً من متغيرات المرحلة التي يعيشها بلده:

الأنظمة تحاصر شعوبها

س: هناك تحوّلات وتطورات كثيرة على الساحة السياسية في المنطقة العربية وفي العالم، ما درجة نفع الإسلام والمسلمين والعرب منها؟

ج: هناك حرب عالمية ثالثة أو رابعة، ولكن بشكل آخر، حرب تتحرك في الخطوط الثقافية التي تنفتح على الخطوط السياسية والاقتصادية والأمنية، فأمريكا تقود الواقع الدولي، باعتبارها الدولة التي تفكر بأنها الدولة الإمبراطورية الوحيدة في العالم، والتي تحاول أن تتحرك في أكثر من موقع، كما هي حركتها على المستوى الدولي التي تحاصر من خلالها الدول الكبرى، كالاتحاد الأوروبي، وروسيا واليابان والصين، حتى تمنع تطورها لتصبح دولاً فاعلة قوية على أكثر من صعيد، ومن خلال ذلك، تعمل على أساس الضغط على العالم العربي والإسلامي، وربما حتى على العالم الثالث، من أجل السيطرة على مقدراته الاقتصادية، مروراً بالمقدرات السياسية والأمنية.

ولعلّ المشكلة هي أن أغلب الأنظمة الموجودة في هذا العالم سقطت بالضربة الأمريكية، القاضية، فتحوّلت إلى أنظمة تحاصر شعوبها في كل مصالحها لحساب المصالح الأمريكية باعتبار أن الغالب من هؤلاء يمثل الحارس للمصالح الاستكبارية. لكننا نتصور أن هناك أكثر من ضوء في الأفق تطلقه الشعوب التي تنفتح على إرادة الحرية، حتى إنها تستطيع الآن أن تفرق بين الحرية التي تطلقها الإدارة الأمريكية لتكون طُعماً تجتذب به الأسماك البشرية، وبين الحرية الأصيلة التي تنادي بها الشعوب.

إن أمريكا تقود العالم إلى الفوضى، وإلى اللااستقرار، تحت تأثير دمقرطة العالم الثالث، أو تحت تأثير الحريات وحقوق الإنسان، بعد أن استنفدت مسألة الحرب على الإرهاب، والتي استطاعت أن توجد أكثر من إرباك في المنطقة وفي خارجها من الدول الأخرى.

مواجهة الطغيان

س: العالم المستكبر، العالم الإمبريالي، كما تسميه فضيلتكم، على الأقل من وجهة نظرنا ووجهة نظر آخرين سوانا يتفقون معنا في الرأي، هو عالم واضح المعالم، عالم مدجّج بالاقتصاد والعلم والتكنولوجيا وكل أدوات التقنية الأساسية والتفوق الصناعي والاقتصادي، وصفوفه موحدة في مواجهة خطر الإسلام السياسي الذي يستند إلى الإرهاب لا إلى العلم، لكن العالم الإسلامي ممزق ومشغول بأمراض الصراع السني الشيعي، والتكفير والذبح والخطف. كيف يمكن مواجهة الطغيان العالمي في ظلّ هكذا مناخ؟

ج: علينا أن ندرس التطوّر في العالم، وعندما ندرس تاريخ أوروبا، فإننا نلاحظ أنها مرّت بما يشبه الواقع الذي نعيشه في العالم الإسلامي، فكانت هناك حروب دينية في داخل أوروبا، وكانت هناك انقسامات وتمزّقات كثيرة اجتازتها أوروبا، واستطاعت أن تدمّر الكثير في هذا المجال، سواء من خلال الموقف الأوروبي من سيطرة الدين على الواقع السياسي وتدخله في كثير من المواقع الحسّاسة والحيوية، أو من خلال النـزعات القومية بين موقف وموقع، حتى استطاعت أن تصل بعد قرون إلى عصر المؤسسات التي تمثلها أوروبا في أكثر من موقع.

وهكذا نجد أن أمريكا مرّت أيضاً بعصور كانت فيها مستعمَرة لأوروبا، ولكنها استطاعت أن تتطوّر. لذلك أنا أعتقد أنّه في العالم الإسلامي، هناك فئات رغم قلّتها، بدأت تتطوّر وتنفتح وتطلق أكثر من خطاب ثقافي وسياسي يدعو إلى الوحدة الإسلامية، وإن كنّا لا ننكر وجود فئات تكفيرية تحاول استعادة التاريخ، واستعادة حروب التاريخ وعصبيات التاريخ في العالم الإسلامي، وأنّ الأكثرية لم ترفع صوتها عالياً في العالم الإسلامي ضد هذه الفئات التكفيرية التي تستحل دماء المسلمين.

القتـل والـرفض

س: لكن هذا الأمر غير واضح في تاريخ يغلب عليه القتل ورفض الآخر وتكفير حتى المسلمين؟

ج: نحن عندما ندرس الواقع في العراق الذي تتمثل فيه مسألة الحساسيات السنية الشيعية، سواء في الانتخابات أو في تأليف الحكومة، أو في الاغتيالات التي تحصل أو في التفجيرات... وعندما ندرس ماذا يمثل حجم هذه الفئات أمام الواقع العراقي كله الذي لا يخلو من الحساسيات، لكنه يرفض هذه الأساليب، فإنّنا لا نرى أنّ هناك ظلاماً دامساً في الواقع الإسلامي، بل إن هناك أكثر من نقطة نور ونقطة ضوء تنتشر هنا وهناك، تماماً كما هي نقاط الضوء في الليل عندما تنتشر في الفضاء لتوحي أو لتشير إلى الفجر في نهاية المطاف.

س: عفواً، لكن ألا ترون سماحتكم أن هذا الكلام مثالي، ولا ينسجم مع ما وصلت إليه الأمة العربية والإسلامية من التجرّد حتى من أبسط القواعد الإنسانية في تعاملها مع بعضها البعض، وليس مع خصومها أو مع أعدائها، في وقت لم يعد ما يوجب وجود أعداء، طالما أن هناك مجالاً للحوار والتفاوض؟

ج: إنني لا أتكلم بطريقة مثالية، لكنني أرصد الواقع في الأمر، فأجد أن هناك إيجابيات قد تحتاج إلى عشرات السنين، ولا أتحدث عن سنة أو سنتين، أنا لا أتحدث عن دمقرطة العراق مثلاً أو دمقرطة أفغانستان كما يتحدث الرئيس بوش، لأن الديمقراطية بحاجة إلى أرضية يعيشها الإنسان، وإلى الاعتراف بالآخر وقبوله وما إلى ذلك، لكنني أتصور أن هناك أكثر من خط إيجابي يمثل ثقافة جديدة بدأ يتحرك، في الثقافة الإسلامية التي أصبح الكثيرون من الذين يقودونها يتحدثون عن الاعتراف بالآخر وقبوله، وعن الحوار، سواء كان سياسياً أو ثقافياً أو غير ذلك.

المسـاواة

س: المسألة لا تقتصر على العراق الآن، وهناك دول مطالبة بالتغيير قبل أن تتغير بفعل شعوبها أو بفعل الدول الكبرى أو الحروب؟

ج: أعطيت العراق مثالاً على ذلك، لأنّ أمريكا تحاول الآن من خلال الرئيس الأمريكي أن تستخدمه (أي العراق) في المجال الإعلامي للضغط على الشعوب الأخرى، ولاستهلاك المسألة بالنسبة للرأي العام الأمريكي، ليقول له لقد نجحنا في مشروعنا.

س: لكن مولانا، الذين نصفهم بالاستكبار والاستعمار يساوون بين البشر، حتى بيننا وبينهم، بينما المواطن المسلم غير الوهابي أو غير السني في الخليج، هو مواطن من الدرجة العاشرة وليس من الدرجة الثانية أو الثالثة؟

ج: إنني أعرف ذلك، ولكنني ألاحظ أن الخليج كغيره من دول العالم الثالث، لم يبقَ على ما هو عليه، ولعلّنا عندما نلاحظ بعض النقاط الإيجابية هنا وهناك، نرى ما يدلّنا على أنّ هذا الزلزال قد اقترب من الخليج.

المشكلة اللبنانية

س: ماذا عن لبنان؟ هل لبنان بمعزل عما يجري في العالم والمنطقة تحديداً من تحولات؟ أين تتجه الأمور في لبنان الآن؟

ج: إنّ مشكلة لبنان أنه دخل في الأجندة الأمريكية التي أُلحقت بها الأجندة الفرنسية، إن كل ما يحدث الآن في لبنان ليس لبنانياً، وإنما هو سوري.

س: ماذا تقصد سماحتكم، هل بالإمكان إيضاح ذلك؟

ج: أمريكا تريد الضغط على سورية من خلال هذا العبث وهذه الفوضى التي تثيرها في لبنان، لكنّي أتصور أن لبنان لن يتورّط من جديد في حرب أهلية، إنما هناك حرب سياسية لم تصل إلى حد سقوط الواقع في لبنان، وقد تابعتم أحاديثي في أيام الحرب عندما كنت أقول إن لبنان تحكمه ثلاث لاءات: لا تقسيم، لا انهيار، لا استقرار، لأن لبنان يمثل نافذة الشرق على الغرب، ونافذة الغرب على الشرق، وهو حاجة دولية كما هو حاجة عربية، لكنه بحاجة إلى الكثير من المتابعة، وأنا لا أتصور أن هذه الفوضى اللبنانية بهذا الحجم الذي يصوره الإعلام، وهذه لن تطول.

س: أليس من مصلحة لبنان أن تتطور الأمور نحو الأحسن، أم أن الأحسن هو بقاء سوريا في لبنان وانفراط حبل الطائف؟

ج: خروج السوريين من لبنان أصبح من التاريخ، لذلك المسألة هي هل يستبدل اللبنانيون النفوذ السوري الذي تحدثوا عنه طويلاً بالنفوذ الأمريكي أو النفوذ الفرنسي؟ هل نستبدل، كما كان يقول بعض الناس، على نحو النكتة السياسية، هل نستبدل عنجر بعوكر، أم ماذا؟ القضية هي هل إن أمريكا تريد السيطرة واللعب بالواقع السياسي اللبناني على أساس ما يمثله لبنان من موقع في المنطقة؟ لأنّ المسألة اللبنانية ليست في خط السياسة الأمريكية، بل هي مسألة تتغذى من الواقع المحلي، وهي مسألة تمتد من العراق إلى سوريا إلى إيران، كما عبّر الرئيس بوش أخيراً عندما تحدث عن هذا الامتداد حتى طهران.

مصير اتفاق الطائف

س: هل معنى هذا أن اتفاق الطائف سقط بكل مفرداته وبعض ثوابته وتداعياته، وما أسّسه على أرض الواقع من أحداث وتوليفات؟

ج: إن اتفاق الطائف تحول إلى دستور لبناني، فاتفاق الطائف لم يبقَ اتفاقاً لبنانياً أو اتفاقاً بين الطوائف اللبنانية على مستوى الاتفاقات الطارئة التي يمكن أن تتبدل بين وقت وآخر، وإنما أصبح اتفاقاً وطنياً يتمثل في الدستور اللبناني. ولذلك فإن العبث به أو محاولة إسقاطه تعني محاولة إسقاط الدستور اللبناني، لأنّ اتفاق الطائف الذي أُريد له عند انطلاقه أن يغلق الحرب، لا يمكن أن يسقطه اللبنانيون الآن، حتى الذين لم يوافقوا عليه، لأنهم يعتبرون أن لا بديل عنه على الأقل في المستقبل المنظور، من خلال الخطوط السياسية في هذه المرحلة على الأقل.

س: هل إن التوافقات الحالية في لبنان تصلح لأن تكون أساساً لتعايش مستقبلي دائم يغني عن الحاجة إلى مظلة أمريكية أو مظلة فرنسية؟

ج: أعتقد أن اللبنانيين يعيشون العيش المشترك على مستوى القاعدة، لأنّنا عندما ندرس حركة الشعب اللبناني في الواقع الاقتصادي والسياسي والثقافي والرياضي، وننظر إلى ذلك، نجد أن اللبنانيين، سواء كانوا مسيحيين أو مسلمين، سنة أو شيعة أو دروزاً، يتعايش بعضهم مع بعض، ويتكاملون من دون أي تعقيدات، لأن التعقيدات يصنعها السياسيون في أبراجهم العاجية، وقد كنت أقول إن القمة إذا أرادت أن ترتفع فعليها أن ترتفع إلى مستوى القاعدة. هناك حالة تعايشية حقيقية موجودة في الشعب اللبناني، ولكن اللعبة السياسية التي يثيرها السياسيون، سواء في المعارضة أو في الموالاة، والذين أدمنوا الهدم وأدمنوا الفساد، والذين أثروا على حساب الشعب، هؤلاء هم الذين يحاولون إثارة الحساسيات الطائفية، لينسفوا هذه الروح التعايشية لدى اللبنانيين. ولكن أعتقد أن اللبنانيين تعلموا من الحرب التي مرّت ذكراها الثلاثين، ألا يغامروا بحرب جديدة.

لا انقلابات في لبنان

س: هل يمكن التخوّف من أن لبنان بموجب المسلسل الحالي معرض لانقلابات أو لاندلاع مواجهات داخلية دموية؟

ج: إن لبنان لم يعش ولا يعيش مسألة الانقلابات بمعنى المصطلح الذي عاشته بعض البلدان العربية، ولكن قد تكون هناك انقلابات سياسية، بمعنى ديموقراطي، عندما تتحرك الانتخابات، وعندما ينجح بعض الناس ويسقط البعض الآخر، هذا أمر ممكن، ولكن المشكلة أن فريق أمريكا لا يزال يملك قوة يصادر بها الشارع.

س: إذا عُدنا إلى الشارع الإسلامي، كيف يمكن مواجهة ما يسمى المشروع الأمريكي أو الغربي بشكل عام، على افتراض أنهم السيئون ونحن الطيبون، هل نواجه من نختلف معه بالقتل والاغتيالات والخطف؟

ج: أنا لا أعتقد أن مسألة الاغتيالات يمكن أن تحل أي مشكلة، بل إنها تعقّد المشاكل. أنا لا أعتقد أن أحداً في المنظومة الإقليمية قد استفاد من اغتيال الرئيس الحريري، ما عدا إسرائيل التي تعتبر أن لبنان نقيضها، ولأنها ترى أن لبنان هو البلد الذي يمكن أن يكون هو مصرف العالم العربي، وأن يكون موقع المؤتمرات للعالم العربي ولما يتجاوز العالم العربي، وهكذا بالنسبة إلى جانب السياحة. لذلك أنا أعتقد أن المستفيد من هذه الفوضى اللبنانية إنما هو إسرائيل، ويتبعها التحالف الأمريكي الإسرائيلي.

العلاقات العربية ـ الإسرائيلية

س: على ذكر إسرائيل، تشير الصحف الآن إلى احتمال أن يرتفع عدد الدول العربية التي يمكن أن تعترف بإسرائيل، وتقيم علاقات دبلوماسية معها، إلى تسع دول، هل يعني الاعتراف بإسرائيل والتعايش معها الكفر بالله أو التخلي عن القيم والدين والأخلاق وبقية الثوابت؟

ج: طبيعي أن الواجهة التي تمثل هذا النوع من الحركة الدبلوماسية، هي العلاقات الدبلوماسية الإسرائيلية العربية، باعتبار أن هناك حقيقة سياسية منذ نشوء إسرائيل، وهي أن الطريق إلى أمريكا يمر عبر إسرائيل. وقد فرضت أمريكا على العالم العربي، وحتى العالم الإسلامي، أن الطريق إليها من أجل الحصول على بركاتها يمر بإسرائيل، أي بالعلاقات القوية مع إسرائيل، وهذا هو الذي جعل تركيا منذ الخمسينات تعقد علاقات دبلوماسية مع إسرائيل، لأنها كانت تخضع للنفوذ الأمريكي في هذا المقام وللبركة الأمريكية.

ونحن نعرف من خلال التجارب التي نعيشها الآن، أن إسرائيل ليست دولة عادية في ما تريده من علاقات مع العالم أو مع أية دولة أخرى، لأنها تعمل وتخطِّط من أجل السيطرة على العالم العربي اقتصادياً وسياسياً بالتحالف مع أمريكا التي تريد لإسرائيل أن تكون الدولة الأقوى. لذلك فإنها تحارب كل عناصر القوة في العالم العربي، سواء عناصر القوة في فلسطين أو في لبنان أو حتى في المسألة الإيرانية، لأنهّا لا تريد لأيّ دولة إسلامية أن تمثل قوة نووية أو أن يكون لديها خبرة نووية، حتى لو لم تتحوّل هذه الخبرة إلى نتائج عسكرية، لأنها تريد أن تكون إسرائيل هي الأقوى في المنطقة بحكم هذا التحالف.

لذلك، فإن القضية تتمثل في أن إسرائيل ليست أمينة على الدول التي تنشىء علاقات دبلوماسية معها، وهذا ما نلاحظه في الاجتياح السياسي وربما الأمني الإسرائيلي للأردن، ويُلاحظ أيضاً في العبث الإسرائيلي، والذي يتوافق مع بعض الخطوط السياسية الأمريكية بالنسبة إلى مصر، لأن إسرائيل، ومعها أمريكا، لا تريد لمصر الضخمة في امتدادها الإفريقي والعربي، أن تأخذ موقع القوة السياسية في المنطقة، لأن ذلك يمنع إسرائيل من أن تأخذ موقعها الذي تفكر فيه، ولا سيما إذا تحولت مصر إلى دولة مؤسسات، حيث إن ضخامة مصر، سواء في شعبها أو في امتداداتها الإسلامية والعربية والإقليمية، تمنع إسرائيل من أن تصبح القوة الأولى في المنطقة.

صـراع أزلـي

س: لكن هل الصراع العربي ـ الإسرائيلي صراع أزلي مكتوب له أن يبقى إلى الأبد، فيضيِّع كل فرص التنمية على العرب، ويبقيهم في حالة حرب تحت رحمة الدكتاتوريات والأنظمة المتخلّفة عن العالم؟

ج: أنا أعتقد أن الصراع العربي ـ الإسرائيلي على مستوى الأنظمة قد سقط، ولكن المسألة هي أن الشعوب لا تزال تعيش حيوية هذا الصراع.

س: لماذا يتوجّب أن نبقي على اعتبار أن أمريكا عدوّة لنا إلى الأبد، هل العيب فيها أم فينا؟ وماذا نستفيد من البقاء على العداء لأمريكا؟

ج: قلنا أكثر من مرة إننا لسنا ضد أمريكا الشعب، وإنما ضد أمريكا الإدارة، ولذلك عندما وقعت أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر)، أصدرنا فتوى شرعية بأن هذا العمل محرم ولا يقبله عقل ولا شرع ولا دين، وأن اختلافنا السياسي مع الإدارة الأمريكية لا يبرّر لنا أن نعتدي على الشعب الأمريكي. نحن نريد أن نكون أصدقاء للشعب الأمريكي، وفي كل سنة أبعث رسائل للأمريكيين المسلمين أقول لهم فيها: حاولوا أن تخلصوا لمواطنيّتكم الأمريكية، لتعيشوا مع الشعب الأمريكي في كل قضاياه الحيوية الداخلية، كالتنمية والضرائب وما إلى ذلك، وقد أصدرت فتوى شرعية بتحريم أي عمل يخل بالنظام الأمني العام الداخلي في الولايات المتحدة.

نحن لسنا ضد أمريكا، فلدينا مواطنون مسلمون في أمريكا يصل عددهم إلى ما يقارب الستة ملايين أو عشرة ملايين إنسان، لذلك نحن لا نعتبر أمريكا بالمعنى العام عدوة. أمريكا ليست الإدارة فقط، بل أمريكا المراكز الثقافية والمواقع العلمية، وأمريكا الإنسان الذي ينفتح على القضايا العامة، وهكذا.

نحن لا نريد أن نكون أعداء لأحد، ولكن المسألة هي أننا نفكر بمصالحنا الحيوية وباستقلالنا وحرياتنا كما يفكر العالم. وأذكر أن مراسل الواشنطن بوست، قال لي في بعض مقابلاته معي: بماذا تنصح الرئيس الأمريكي إذا التقيت معه؟ فأجبته: أنصحه بأن يحدق عندما يستيقظ من النوم في كل صباح بتمثال الحرية، ليعرف أن الشعوب تحب الحرية كما يحبها الشعب الأمريكي، فلا يضغط على حريات الشعوب. نحن لسنا ضد أمريكا، ولا نفكر كمسلمين في أن نثير العداوات مع العالم، بل نحن نعمل كما علّمنا الله سبحانه وتعالى، أن نكون أصدقاء للعالم، فالآية الكريمة تقول: {ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوةٌ كأنه وليٌ حميم}، يعني اختر الأساليب والوسائل التي تحوِّل أعداءك إلى أصدقاء.

الخسـارة والربـح

س: لماذا تستطيع إسرائيل أن تكسب أمريكا، بينما نحن نخسرها على الدوام، وندفع ثمن ذلك الذي تستفيد منه إسرائيل بالدرجة الأولى؟

ج: أولاً إسرائيل استطاعت أن تسيطر على مفاصل أمريكا، سواء المفاصل الإعلامية أو الاقتصادية أو الأمنية أو السياسية وما إلى ذلك، ولهذا فإنها خططت منذ البداية للسيطرة على كل المواقع المؤثرة على الرأي العام الأمريكي، أما نحن، فقد تأخرنا عن ذلك، وعلى طريقة الشاعر الذي يقول:

أتى الزمان بنوه في شبيـبته           فسرّهم وأتينـاه على هـرم

س: إذا عدنا إلى المواجهة التي يبدو أنها مفروضة من جانبنا الآن على الغرب أكثر مما يفرضها الغرب علينا، هل هذه المواجهة معدومة الحيلة والوسيلة ومقتصرة على المقاومة المسلحة والقتل والإرهاب؟ أليس بالإمكان إعادة تفسير المقاومة وتطويرها لتتمثّل بوحدة الصف ومحاربة الجهل والأميّة والتحوّل إلى برامج التنمية؟

ج: نعتقد أن الوسائل العسكرية المسلحة ليست هي الوسائل الوحيدة التي يمكننا من خلالها أن ننتصر، وذلك من جهة فقدان التوازن في هذا المجال، والمسألة هي أنّ علينا أن نبني أنفسنا بناءً حضارياً قوياً، وأن ننطلق في التخطيط من أجل توحيد الأمة وتنميتها ورفع مستواها الثقافي والحضاري، ومحاولة تنمية ذهنية الاعتراف بالآخر وما إلى ذلك، لأنك عندما تكون متخلّفاً، فإن هذا التخلّف سوف ينعكس على صراعك مع الآخرين، خصوصاً عندما يملك الآخرون الوسائل الحضارية التي يحاربونك بها.

س: بصراحة... مَنْ الأخطر على الأمة العربية والإسلامية: الأنظمة الدكتاتورية والتخلّف في العالم العربي؟ أم أمريكا وإسرائيل؟

ج: إنّ المشكلة هي أن الدكتاتورية والتخلّف في العالم العربي، هما الوسيلتان اللتان تمنحان أمريكا وإسرائيل العبث بكل الواقع الذي نعيشه.

 

كثيراً ما يقرأ البعض الأمور من آخرها، وحتى إن بدأ القراءة من أولها، إلا أنه لا يكملها، أو يقفز فوق سطورها، أو يتعمد أو يسهو عن قراءة وإدراك الكثير من كلماتها التي تتعدى في مضمونها المفردات إلى أمر أكبر. وفي مثل حالة الأمة العربية التي يصرّ البعض أيضاً على أنها ليست أكثر من مجموعة دول ناطقة بالعربية، فإن الكثير من مصائبها وإسقاطاتها تعود إلى أئمتها من السياسيين ومن رجال الدين على السواء. وهناك الآن فاصل كبير من الزمن ومن القيم العلمية والاقتصادية تفصل بين الأمة والعالم، بعد أن دخلنا في متاهات الظلام الذي يصر البعض على أنه صنع إلهي، بينما النور الذي يعمّ البشرية صنع استعماري! رجل الدين اللبناني المتنوّر العلاّمة السيد محمد حسين فضل الله، طراز متقدم من رجال الدين، له مواقف غير تقليدية، وقراءات متحررة، وإيماءات انفتاحية، وتفسيرات علمية. والرجل الذي يجاهر بالدعوة إلى محاكاة العالم في العلم والتنمية والاعتراف بالآخر، يطرح مشروعاً للتعايش مع الآخر ونبذ الفرقة والتخلّف، وله في الشأن اللبناني الكثير المتحرك وغير المتحرك تحرجاً من متغيرات المرحلة التي يعيشها بلده:

الأنظمة تحاصر شعوبها

س: هناك تحوّلات وتطورات كثيرة على الساحة السياسية في المنطقة العربية وفي العالم، ما درجة نفع الإسلام والمسلمين والعرب منها؟

ج: هناك حرب عالمية ثالثة أو رابعة، ولكن بشكل آخر، حرب تتحرك في الخطوط الثقافية التي تنفتح على الخطوط السياسية والاقتصادية والأمنية، فأمريكا تقود الواقع الدولي، باعتبارها الدولة التي تفكر بأنها الدولة الإمبراطورية الوحيدة في العالم، والتي تحاول أن تتحرك في أكثر من موقع، كما هي حركتها على المستوى الدولي التي تحاصر من خلالها الدول الكبرى، كالاتحاد الأوروبي، وروسيا واليابان والصين، حتى تمنع تطورها لتصبح دولاً فاعلة قوية على أكثر من صعيد، ومن خلال ذلك، تعمل على أساس الضغط على العالم العربي والإسلامي، وربما حتى على العالم الثالث، من أجل السيطرة على مقدراته الاقتصادية، مروراً بالمقدرات السياسية والأمنية.

ولعلّ المشكلة هي أن أغلب الأنظمة الموجودة في هذا العالم سقطت بالضربة الأمريكية، القاضية، فتحوّلت إلى أنظمة تحاصر شعوبها في كل مصالحها لحساب المصالح الأمريكية باعتبار أن الغالب من هؤلاء يمثل الحارس للمصالح الاستكبارية. لكننا نتصور أن هناك أكثر من ضوء في الأفق تطلقه الشعوب التي تنفتح على إرادة الحرية، حتى إنها تستطيع الآن أن تفرق بين الحرية التي تطلقها الإدارة الأمريكية لتكون طُعماً تجتذب به الأسماك البشرية، وبين الحرية الأصيلة التي تنادي بها الشعوب.

إن أمريكا تقود العالم إلى الفوضى، وإلى اللااستقرار، تحت تأثير دمقرطة العالم الثالث، أو تحت تأثير الحريات وحقوق الإنسان، بعد أن استنفدت مسألة الحرب على الإرهاب، والتي استطاعت أن توجد أكثر من إرباك في المنطقة وفي خارجها من الدول الأخرى.

مواجهة الطغيان

س: العالم المستكبر، العالم الإمبريالي، كما تسميه فضيلتكم، على الأقل من وجهة نظرنا ووجهة نظر آخرين سوانا يتفقون معنا في الرأي، هو عالم واضح المعالم، عالم مدجّج بالاقتصاد والعلم والتكنولوجيا وكل أدوات التقنية الأساسية والتفوق الصناعي والاقتصادي، وصفوفه موحدة في مواجهة خطر الإسلام السياسي الذي يستند إلى الإرهاب لا إلى العلم، لكن العالم الإسلامي ممزق ومشغول بأمراض الصراع السني الشيعي، والتكفير والذبح والخطف. كيف يمكن مواجهة الطغيان العالمي في ظلّ هكذا مناخ؟

ج: علينا أن ندرس التطوّر في العالم، وعندما ندرس تاريخ أوروبا، فإننا نلاحظ أنها مرّت بما يشبه الواقع الذي نعيشه في العالم الإسلامي، فكانت هناك حروب دينية في داخل أوروبا، وكانت هناك انقسامات وتمزّقات كثيرة اجتازتها أوروبا، واستطاعت أن تدمّر الكثير في هذا المجال، سواء من خلال الموقف الأوروبي من سيطرة الدين على الواقع السياسي وتدخله في كثير من المواقع الحسّاسة والحيوية، أو من خلال النـزعات القومية بين موقف وموقع، حتى استطاعت أن تصل بعد قرون إلى عصر المؤسسات التي تمثلها أوروبا في أكثر من موقع.

وهكذا نجد أن أمريكا مرّت أيضاً بعصور كانت فيها مستعمَرة لأوروبا، ولكنها استطاعت أن تتطوّر. لذلك أنا أعتقد أنّه في العالم الإسلامي، هناك فئات رغم قلّتها، بدأت تتطوّر وتنفتح وتطلق أكثر من خطاب ثقافي وسياسي يدعو إلى الوحدة الإسلامية، وإن كنّا لا ننكر وجود فئات تكفيرية تحاول استعادة التاريخ، واستعادة حروب التاريخ وعصبيات التاريخ في العالم الإسلامي، وأنّ الأكثرية لم ترفع صوتها عالياً في العالم الإسلامي ضد هذه الفئات التكفيرية التي تستحل دماء المسلمين.

القتـل والـرفض

س: لكن هذا الأمر غير واضح في تاريخ يغلب عليه القتل ورفض الآخر وتكفير حتى المسلمين؟

ج: نحن عندما ندرس الواقع في العراق الذي تتمثل فيه مسألة الحساسيات السنية الشيعية، سواء في الانتخابات أو في تأليف الحكومة، أو في الاغتيالات التي تحصل أو في التفجيرات... وعندما ندرس ماذا يمثل حجم هذه الفئات أمام الواقع العراقي كله الذي لا يخلو من الحساسيات، لكنه يرفض هذه الأساليب، فإنّنا لا نرى أنّ هناك ظلاماً دامساً في الواقع الإسلامي، بل إن هناك أكثر من نقطة نور ونقطة ضوء تنتشر هنا وهناك، تماماً كما هي نقاط الضوء في الليل عندما تنتشر في الفضاء لتوحي أو لتشير إلى الفجر في نهاية المطاف.

س: عفواً، لكن ألا ترون سماحتكم أن هذا الكلام مثالي، ولا ينسجم مع ما وصلت إليه الأمة العربية والإسلامية من التجرّد حتى من أبسط القواعد الإنسانية في تعاملها مع بعضها البعض، وليس مع خصومها أو مع أعدائها، في وقت لم يعد ما يوجب وجود أعداء، طالما أن هناك مجالاً للحوار والتفاوض؟

ج: إنني لا أتكلم بطريقة مثالية، لكنني أرصد الواقع في الأمر، فأجد أن هناك إيجابيات قد تحتاج إلى عشرات السنين، ولا أتحدث عن سنة أو سنتين، أنا لا أتحدث عن دمقرطة العراق مثلاً أو دمقرطة أفغانستان كما يتحدث الرئيس بوش، لأن الديمقراطية بحاجة إلى أرضية يعيشها الإنسان، وإلى الاعتراف بالآخر وقبوله وما إلى ذلك، لكنني أتصور أن هناك أكثر من خط إيجابي يمثل ثقافة جديدة بدأ يتحرك، في الثقافة الإسلامية التي أصبح الكثيرون من الذين يقودونها يتحدثون عن الاعتراف بالآخر وقبوله، وعن الحوار، سواء كان سياسياً أو ثقافياً أو غير ذلك.

المسـاواة

س: المسألة لا تقتصر على العراق الآن، وهناك دول مطالبة بالتغيير قبل أن تتغير بفعل شعوبها أو بفعل الدول الكبرى أو الحروب؟

ج: أعطيت العراق مثالاً على ذلك، لأنّ أمريكا تحاول الآن من خلال الرئيس الأمريكي أن تستخدمه (أي العراق) في المجال الإعلامي للضغط على الشعوب الأخرى، ولاستهلاك المسألة بالنسبة للرأي العام الأمريكي، ليقول له لقد نجحنا في مشروعنا.

س: لكن مولانا، الذين نصفهم بالاستكبار والاستعمار يساوون بين البشر، حتى بيننا وبينهم، بينما المواطن المسلم غير الوهابي أو غير السني في الخليج، هو مواطن من الدرجة العاشرة وليس من الدرجة الثانية أو الثالثة؟

ج: إنني أعرف ذلك، ولكنني ألاحظ أن الخليج كغيره من دول العالم الثالث، لم يبقَ على ما هو عليه، ولعلّنا عندما نلاحظ بعض النقاط الإيجابية هنا وهناك، نرى ما يدلّنا على أنّ هذا الزلزال قد اقترب من الخليج.

المشكلة اللبنانية

س: ماذا عن لبنان؟ هل لبنان بمعزل عما يجري في العالم والمنطقة تحديداً من تحولات؟ أين تتجه الأمور في لبنان الآن؟

ج: إنّ مشكلة لبنان أنه دخل في الأجندة الأمريكية التي أُلحقت بها الأجندة الفرنسية، إن كل ما يحدث الآن في لبنان ليس لبنانياً، وإنما هو سوري.

س: ماذا تقصد سماحتكم، هل بالإمكان إيضاح ذلك؟

ج: أمريكا تريد الضغط على سورية من خلال هذا العبث وهذه الفوضى التي تثيرها في لبنان، لكنّي أتصور أن لبنان لن يتورّط من جديد في حرب أهلية، إنما هناك حرب سياسية لم تصل إلى حد سقوط الواقع في لبنان، وقد تابعتم أحاديثي في أيام الحرب عندما كنت أقول إن لبنان تحكمه ثلاث لاءات: لا تقسيم، لا انهيار، لا استقرار، لأن لبنان يمثل نافذة الشرق على الغرب، ونافذة الغرب على الشرق، وهو حاجة دولية كما هو حاجة عربية، لكنه بحاجة إلى الكثير من المتابعة، وأنا لا أتصور أن هذه الفوضى اللبنانية بهذا الحجم الذي يصوره الإعلام، وهذه لن تطول.

س: أليس من مصلحة لبنان أن تتطور الأمور نحو الأحسن، أم أن الأحسن هو بقاء سوريا في لبنان وانفراط حبل الطائف؟

ج: خروج السوريين من لبنان أصبح من التاريخ، لذلك المسألة هي هل يستبدل اللبنانيون النفوذ السوري الذي تحدثوا عنه طويلاً بالنفوذ الأمريكي أو النفوذ الفرنسي؟ هل نستبدل، كما كان يقول بعض الناس، على نحو النكتة السياسية، هل نستبدل عنجر بعوكر، أم ماذا؟ القضية هي هل إن أمريكا تريد السيطرة واللعب بالواقع السياسي اللبناني على أساس ما يمثله لبنان من موقع في المنطقة؟ لأنّ المسألة اللبنانية ليست في خط السياسة الأمريكية، بل هي مسألة تتغذى من الواقع المحلي، وهي مسألة تمتد من العراق إلى سوريا إلى إيران، كما عبّر الرئيس بوش أخيراً عندما تحدث عن هذا الامتداد حتى طهران.

مصير اتفاق الطائف

س: هل معنى هذا أن اتفاق الطائف سقط بكل مفرداته وبعض ثوابته وتداعياته، وما أسّسه على أرض الواقع من أحداث وتوليفات؟

ج: إن اتفاق الطائف تحول إلى دستور لبناني، فاتفاق الطائف لم يبقَ اتفاقاً لبنانياً أو اتفاقاً بين الطوائف اللبنانية على مستوى الاتفاقات الطارئة التي يمكن أن تتبدل بين وقت وآخر، وإنما أصبح اتفاقاً وطنياً يتمثل في الدستور اللبناني. ولذلك فإن العبث به أو محاولة إسقاطه تعني محاولة إسقاط الدستور اللبناني، لأنّ اتفاق الطائف الذي أُريد له عند انطلاقه أن يغلق الحرب، لا يمكن أن يسقطه اللبنانيون الآن، حتى الذين لم يوافقوا عليه، لأنهم يعتبرون أن لا بديل عنه على الأقل في المستقبل المنظور، من خلال الخطوط السياسية في هذه المرحلة على الأقل.

س: هل إن التوافقات الحالية في لبنان تصلح لأن تكون أساساً لتعايش مستقبلي دائم يغني عن الحاجة إلى مظلة أمريكية أو مظلة فرنسية؟

ج: أعتقد أن اللبنانيين يعيشون العيش المشترك على مستوى القاعدة، لأنّنا عندما ندرس حركة الشعب اللبناني في الواقع الاقتصادي والسياسي والثقافي والرياضي، وننظر إلى ذلك، نجد أن اللبنانيين، سواء كانوا مسيحيين أو مسلمين، سنة أو شيعة أو دروزاً، يتعايش بعضهم مع بعض، ويتكاملون من دون أي تعقيدات، لأن التعقيدات يصنعها السياسيون في أبراجهم العاجية، وقد كنت أقول إن القمة إذا أرادت أن ترتفع فعليها أن ترتفع إلى مستوى القاعدة. هناك حالة تعايشية حقيقية موجودة في الشعب اللبناني، ولكن اللعبة السياسية التي يثيرها السياسيون، سواء في المعارضة أو في الموالاة، والذين أدمنوا الهدم وأدمنوا الفساد، والذين أثروا على حساب الشعب، هؤلاء هم الذين يحاولون إثارة الحساسيات الطائفية، لينسفوا هذه الروح التعايشية لدى اللبنانيين. ولكن أعتقد أن اللبنانيين تعلموا من الحرب التي مرّت ذكراها الثلاثين، ألا يغامروا بحرب جديدة.

لا انقلابات في لبنان

س: هل يمكن التخوّف من أن لبنان بموجب المسلسل الحالي معرض لانقلابات أو لاندلاع مواجهات داخلية دموية؟

ج: إن لبنان لم يعش ولا يعيش مسألة الانقلابات بمعنى المصطلح الذي عاشته بعض البلدان العربية، ولكن قد تكون هناك انقلابات سياسية، بمعنى ديموقراطي، عندما تتحرك الانتخابات، وعندما ينجح بعض الناس ويسقط البعض الآخر، هذا أمر ممكن، ولكن المشكلة أن فريق أمريكا لا يزال يملك قوة يصادر بها الشارع.

س: إذا عُدنا إلى الشارع الإسلامي، كيف يمكن مواجهة ما يسمى المشروع الأمريكي أو الغربي بشكل عام، على افتراض أنهم السيئون ونحن الطيبون، هل نواجه من نختلف معه بالقتل والاغتيالات والخطف؟

ج: أنا لا أعتقد أن مسألة الاغتيالات يمكن أن تحل أي مشكلة، بل إنها تعقّد المشاكل. أنا لا أعتقد أن أحداً في المنظومة الإقليمية قد استفاد من اغتيال الرئيس الحريري، ما عدا إسرائيل التي تعتبر أن لبنان نقيضها، ولأنها ترى أن لبنان هو البلد الذي يمكن أن يكون هو مصرف العالم العربي، وأن يكون موقع المؤتمرات للعالم العربي ولما يتجاوز العالم العربي، وهكذا بالنسبة إلى جانب السياحة. لذلك أنا أعتقد أن المستفيد من هذه الفوضى اللبنانية إنما هو إسرائيل، ويتبعها التحالف الأمريكي الإسرائيلي.

العلاقات العربية ـ الإسرائيلية

س: على ذكر إسرائيل، تشير الصحف الآن إلى احتمال أن يرتفع عدد الدول العربية التي يمكن أن تعترف بإسرائيل، وتقيم علاقات دبلوماسية معها، إلى تسع دول، هل يعني الاعتراف بإسرائيل والتعايش معها الكفر بالله أو التخلي عن القيم والدين والأخلاق وبقية الثوابت؟

ج: طبيعي أن الواجهة التي تمثل هذا النوع من الحركة الدبلوماسية، هي العلاقات الدبلوماسية الإسرائيلية العربية، باعتبار أن هناك حقيقة سياسية منذ نشوء إسرائيل، وهي أن الطريق إلى أمريكا يمر عبر إسرائيل. وقد فرضت أمريكا على العالم العربي، وحتى العالم الإسلامي، أن الطريق إليها من أجل الحصول على بركاتها يمر بإسرائيل، أي بالعلاقات القوية مع إسرائيل، وهذا هو الذي جعل تركيا منذ الخمسينات تعقد علاقات دبلوماسية مع إسرائيل، لأنها كانت تخضع للنفوذ الأمريكي في هذا المقام وللبركة الأمريكية.

ونحن نعرف من خلال التجارب التي نعيشها الآن، أن إسرائيل ليست دولة عادية في ما تريده من علاقات مع العالم أو مع أية دولة أخرى، لأنها تعمل وتخطِّط من أجل السيطرة على العالم العربي اقتصادياً وسياسياً بالتحالف مع أمريكا التي تريد لإسرائيل أن تكون الدولة الأقوى. لذلك فإنها تحارب كل عناصر القوة في العالم العربي، سواء عناصر القوة في فلسطين أو في لبنان أو حتى في المسألة الإيرانية، لأنهّا لا تريد لأيّ دولة إسلامية أن تمثل قوة نووية أو أن يكون لديها خبرة نووية، حتى لو لم تتحوّل هذه الخبرة إلى نتائج عسكرية، لأنها تريد أن تكون إسرائيل هي الأقوى في المنطقة بحكم هذا التحالف.

لذلك، فإن القضية تتمثل في أن إسرائيل ليست أمينة على الدول التي تنشىء علاقات دبلوماسية معها، وهذا ما نلاحظه في الاجتياح السياسي وربما الأمني الإسرائيلي للأردن، ويُلاحظ أيضاً في العبث الإسرائيلي، والذي يتوافق مع بعض الخطوط السياسية الأمريكية بالنسبة إلى مصر، لأن إسرائيل، ومعها أمريكا، لا تريد لمصر الضخمة في امتدادها الإفريقي والعربي، أن تأخذ موقع القوة السياسية في المنطقة، لأن ذلك يمنع إسرائيل من أن تأخذ موقعها الذي تفكر فيه، ولا سيما إذا تحولت مصر إلى دولة مؤسسات، حيث إن ضخامة مصر، سواء في شعبها أو في امتداداتها الإسلامية والعربية والإقليمية، تمنع إسرائيل من أن تصبح القوة الأولى في المنطقة.

صـراع أزلـي

س: لكن هل الصراع العربي ـ الإسرائيلي صراع أزلي مكتوب له أن يبقى إلى الأبد، فيضيِّع كل فرص التنمية على العرب، ويبقيهم في حالة حرب تحت رحمة الدكتاتوريات والأنظمة المتخلّفة عن العالم؟

ج: أنا أعتقد أن الصراع العربي ـ الإسرائيلي على مستوى الأنظمة قد سقط، ولكن المسألة هي أن الشعوب لا تزال تعيش حيوية هذا الصراع.

س: لماذا يتوجّب أن نبقي على اعتبار أن أمريكا عدوّة لنا إلى الأبد، هل العيب فيها أم فينا؟ وماذا نستفيد من البقاء على العداء لأمريكا؟

ج: قلنا أكثر من مرة إننا لسنا ضد أمريكا الشعب، وإنما ضد أمريكا الإدارة، ولذلك عندما وقعت أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر)، أصدرنا فتوى شرعية بأن هذا العمل محرم ولا يقبله عقل ولا شرع ولا دين، وأن اختلافنا السياسي مع الإدارة الأمريكية لا يبرّر لنا أن نعتدي على الشعب الأمريكي. نحن نريد أن نكون أصدقاء للشعب الأمريكي، وفي كل سنة أبعث رسائل للأمريكيين المسلمين أقول لهم فيها: حاولوا أن تخلصوا لمواطنيّتكم الأمريكية، لتعيشوا مع الشعب الأمريكي في كل قضاياه الحيوية الداخلية، كالتنمية والضرائب وما إلى ذلك، وقد أصدرت فتوى شرعية بتحريم أي عمل يخل بالنظام الأمني العام الداخلي في الولايات المتحدة.

نحن لسنا ضد أمريكا، فلدينا مواطنون مسلمون في أمريكا يصل عددهم إلى ما يقارب الستة ملايين أو عشرة ملايين إنسان، لذلك نحن لا نعتبر أمريكا بالمعنى العام عدوة. أمريكا ليست الإدارة فقط، بل أمريكا المراكز الثقافية والمواقع العلمية، وأمريكا الإنسان الذي ينفتح على القضايا العامة، وهكذا.

نحن لا نريد أن نكون أعداء لأحد، ولكن المسألة هي أننا نفكر بمصالحنا الحيوية وباستقلالنا وحرياتنا كما يفكر العالم. وأذكر أن مراسل الواشنطن بوست، قال لي في بعض مقابلاته معي: بماذا تنصح الرئيس الأمريكي إذا التقيت معه؟ فأجبته: أنصحه بأن يحدق عندما يستيقظ من النوم في كل صباح بتمثال الحرية، ليعرف أن الشعوب تحب الحرية كما يحبها الشعب الأمريكي، فلا يضغط على حريات الشعوب. نحن لسنا ضد أمريكا، ولا نفكر كمسلمين في أن نثير العداوات مع العالم، بل نحن نعمل كما علّمنا الله سبحانه وتعالى، أن نكون أصدقاء للعالم، فالآية الكريمة تقول: {ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوةٌ كأنه وليٌ حميم}، يعني اختر الأساليب والوسائل التي تحوِّل أعداءك إلى أصدقاء.

الخسـارة والربـح

س: لماذا تستطيع إسرائيل أن تكسب أمريكا، بينما نحن نخسرها على الدوام، وندفع ثمن ذلك الذي تستفيد منه إسرائيل بالدرجة الأولى؟

ج: أولاً إسرائيل استطاعت أن تسيطر على مفاصل أمريكا، سواء المفاصل الإعلامية أو الاقتصادية أو الأمنية أو السياسية وما إلى ذلك، ولهذا فإنها خططت منذ البداية للسيطرة على كل المواقع المؤثرة على الرأي العام الأمريكي، أما نحن، فقد تأخرنا عن ذلك، وعلى طريقة الشاعر الذي يقول:

أتى الزمان بنوه في شبيـبته           فسرّهم وأتينـاه على هـرم

س: إذا عدنا إلى المواجهة التي يبدو أنها مفروضة من جانبنا الآن على الغرب أكثر مما يفرضها الغرب علينا، هل هذه المواجهة معدومة الحيلة والوسيلة ومقتصرة على المقاومة المسلحة والقتل والإرهاب؟ أليس بالإمكان إعادة تفسير المقاومة وتطويرها لتتمثّل بوحدة الصف ومحاربة الجهل والأميّة والتحوّل إلى برامج التنمية؟

ج: نعتقد أن الوسائل العسكرية المسلحة ليست هي الوسائل الوحيدة التي يمكننا من خلالها أن ننتصر، وذلك من جهة فقدان التوازن في هذا المجال، والمسألة هي أنّ علينا أن نبني أنفسنا بناءً حضارياً قوياً، وأن ننطلق في التخطيط من أجل توحيد الأمة وتنميتها ورفع مستواها الثقافي والحضاري، ومحاولة تنمية ذهنية الاعتراف بالآخر وما إلى ذلك، لأنك عندما تكون متخلّفاً، فإن هذا التخلّف سوف ينعكس على صراعك مع الآخرين، خصوصاً عندما يملك الآخرون الوسائل الحضارية التي يحاربونك بها.

س: بصراحة... مَنْ الأخطر على الأمة العربية والإسلامية: الأنظمة الدكتاتورية والتخلّف في العالم العربي؟ أم أمريكا وإسرائيل؟

ج: إنّ المشكلة هي أن الدكتاتورية والتخلّف في العالم العربي، هما الوسيلتان اللتان تمنحان أمريكا وإسرائيل العبث بكل الواقع الذي نعيشه.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية