هو للعلم منبع ،وللأصالة جذور، وللإنسانية مهد. هو للحضارة منطلق، معه يسمو الحوار إلى عالم الارتقاء،وتسبح الروح في وجدان الخلود.. هو علاّمة ومرجع متقدم حيّ في زمن كبّله الجمود.. رسالي يتمسّك بأصالة الحقيقة، لأن "البعد عنها خيانة للناس".. طموحه الإنسان، وغايته الإنسانية، وهدفه دولة مؤنسنة"، عمادها الحق والحقيقة.
هو العلاّمة المرجع السيد محمد حسين فضل الله، صاحب الطلّة السمحاء والابتسامة الدائمة والفكر النيّر المتجدّد الذي لا يتعقّد من نقد أو اتهام، لأن {الزبد يذهب جفاءً وما ينفع الناس يمكث في الأرض}. ينتقد الطائفية لأنها تحوّلت إلى عصبية وقبلية، ويدعو الطائفيين إلى نزع عصبيتهم وعدم اعتبار الطائفة دولة ومحمية. ويرى أن اتفاق الطائف انطلق من السطح، وليس من العمق. أما السبيل إلى الاستقرار في لبنان، فهو في رأيه الحوار الموضوعي العقلاني.. لا يرى فتنة طائفية في العراق الذي لم يعش في تاريخه حرباً مذهبية، ويؤكد أن خارطة الطريق خدعة دولية تقودها أميركا.
"الحوادث" التقت العلامة فضل الله، وكان حوار ليس ككل حوار..
علاقة القمة بالقاعدة وظروف فسادها:
* في خطبة الجمعة ما قبل الماضية، اعتبرت سماحتك أن القمة هي نتاج القاعدة، وسألت كيف نصلح القاعدة التي تبرر للقمّة فسادها لتتغير، وبالتالي لتحاسب القمة وتصلحها، واليوم نحن نوجه إليك هذا السؤال لتجيب عنه؟
ـ من الطبيعي أن القاعدة تمِثل المجتمع الذي يحمل كثيراً من مفاهيم التخلف من جهة، وبعض المفاهيم الجديدة من جهة أخرى، وربما اختلطت هذه المفاهيم ببعضها البعض، فأعطت مفهوماً ثالثاً مُشوّهاً يحمل شيئاً من التخلف وشيئاً من التقدم، وهذا ما يجعله يرتبك في خطواته، إن من خلال عملية التقويم للواقع الذي يعيشه، أومن خلال التحرك في أحداث الواقع وشخصياته. ثم هناك مشكلة أخرى يعيشها هذا المجتمع،وهي أنه يواجه الكثير من المفردات التي تتصل بحياته الاقتصادية والاجتماعية أو ما إلى ذلك، مما يدخل في العناصر المكونة للإنسان، في غرائزه المنفتحة على أكثر من جانب، والتي قد تلتقي بالعقل تارةً، وقد لا تلتقي به تارةً أخرى.
لهذا، فإننا نلاحظ أن ضغط الحاجات لدى الإنسان يجعله يتحرك بفعل ضرورات هذه الحاجات أكثر مما يتحرك بفعل ضرورات المبادىء أو الفكر أو القيم، وما إلى ذلك.
لهذا، فإنني أتصور أن القائمين على شؤون التوجيه والتربية والتوعية في المجتمع، لا بدّ لهم من أن يخططوا لتغيير المفاهيم والقيم الإنسانية لدى المجتمع حتى يستطيعوا بناء قاعدة إنسانية في داخل شخصية الفرد وشخصية المجتمع، لتكون حياته صورة لأفكاره ولإنسانيته، بحيث إذا انحرف فإن هناك شيئاً يُرجعه ،إلى القاعدة في هذا المقام و إلى الخط المستقيم.
ربما كانت هذه المسألة تمثل جهداً كبيراً، لأن مسألة أن يغير الإنسان في المجتمع بتغيير أفكاره، هي مسألة تحتاج إلى أن ينـزع الإنسان عن المجتمع كلََ رواسب التخلّف والجهل والخرافة، حتى يستطيع أن يجعل الأرض أرضاً نقية يمكن أن يضع البذور الخيرة والطيبة فيها. لكن علينا أن نجرب ذلك، ولو بنسبة معينة، لأننا نعتبر أن حركة الحياة هي حركة التجربة، حتى إن أغلب الفكر ينطلق من عمق التجربة في هذا المجال.
وفي ضوء ذلك، نتصور أن من الممكن جداً أن ينشأ لدينا جيل، مهما كان حجمه، يأخذ بأسباب القيم ويحركها في الواقع، حتى يعطي للواقع مناخاً نظيفاً يمكن أن يتنفس فيه الإنسان إنسانيته ليلتقي بإنسانية الآخر، وليؤنسن السياسة والاجتماع،و حتى غرائزه ليضبطها، باعتبار أننا بحاجة الى أن نعقلن غرائزنا من دون أن نلغيها، لأن إهمال الغريزة يحوّلها إلى حيوان قد يقتل صاحبه.
أنسنة الدولة:
* من أبرز ما طرحه فكر المرجع العلامة فضل الله هو أنسنة الدولة، أي تحقيق دولة الإنسان. اليوم في خضمِّ كل ما نشهده من استكبار واستبداد، أما زلت تؤمن بأن ثمة مساحة لدولة عنوانها الإنسان؟
ـ في تصوري، إن المسألة بهذه الظواهر السلبية لم تجعلني أفقد الثقة بالإنسان، لا من ناحية مثالية، ولكني عندما أدرس حركة الدولة في العالم - ولا أتحدث عن الأفق الضيق الذي نعيشه في لبنان - فإننا نجد أن هناك بعض الذين يعيشون في حركة هذه الدولة أو تلك، ما يزالون يحاولون أن يحققوا مبادئهم في موقعهم بالدولة، بقطع النظر عن طبيعة هذه المبادىء في ٍما يتعلق بالتفاصيل، كما إٍن هناك الكثير من القوانين التي تحاول أن تحمي الإنسان من نفسه ومن الآخرين بما يتصل بحقوق الإنسان، سواء استغلّها البعض أو لم يستغلّها.
إنّ هذه النقاط المتناثرة في العالم، وهذه النماذج الإنسانية الموجودة هنا وهناك، تمثِّل نقاط ضوء توحي للإنسان بأن هناك إمكانية في تغيير الواقع. قد لا نطمع بالتغيير مئة في المئة، لأن هذه المئة تمثل المطلق وليس في الحياة مطلق، والمطلق هو الله، ونحن في عالم محدود، لذلك علينا أن نرضى بالعشرة بالمئة لتساعدنا على العشرين بالمئة، وهكذا تتحرك حركة التطور.
إنني أؤمن بالإنسان، وبأن لديه فطرة في أعماق شخصيته، وهذا ما عبّر عنه الله عنه {فطرة الله الذي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيّم}. هناك طهر في عمق الإنسان، طهر قد يلتقي بالقيمة في عالم الوضوح، وقد يلتقي بالقيمة بطريقة ضبابية، ولكنه في الوقت نفسه، يختزن القيمة بوضعها الساذج في داخل الإنسان.
إني أتصور أن هذه الطاقة الفطرية الروحية في الإنسان سوف تتحرك إيجاباً في كثير من الحالات كما تتحرك سلباً، وأن علينا أن نحرك الإيجاب باتجاه السلب لنكتشف في داخل السلب بعض مفردات الإيجاب في هذا المجال. إنني عندما ألتقي بشخص ملطخ بكل الإجرام، أحاول أن أنظر بعمق ذاته لأرى شيئاً من بعض الطهر والصفاء يعيش داخل التراكمات التي تحيط به وتحجب عنه صفاء الفطرة.
أوضاع المرجعية وأهدافها:
* كيف تقرأ، سماحتك، امتداد مرجعيتك في ظل كل الشائعات التي تناولتك، والتي وصفها محبُّوك بالمغرضة؟
ـ منذ بدأت عملي في الحياة، وضعت في حسابي أن أخلص لله وللناس، وأن أحترم نفسي، ولذلك أبعدت عن كل عناصر ذاتي مسألة الطموحات الشخصية، لأني أتصور أن الإنسان الرسالي يفقد ذاته في العناصر الشخصية لذاته، ليتحوَّل إلى رسالة ويهتم بدوره في موقع الرسالة لا في موقع الذات.
ولهذا وضعت في حسابي أيضاً أن بعض الناس قد لا يلتقون معك كما أنك قد لا تلتقي مع بعض الناس أيضاً، وهذه تدخل في سنّة الحياة التي تتنوع فيها الأفكار وتتصادم، إن عليَّ أن أعترف بالآخر وبوجوده كإنسان له دور، وأعترف بفكره حتى لو لم أوافقه فيه، كما إنني أريد أن يعترف الآخرون بي.
لذلك فقد انطلقت منذ أكثر من خمسين سنة في دائرة الصراع، حتى عندما كنت في النجف، وبعدها، سواء على مستوى المفاهيم الإسلامية أو على مستوى الحركة الإسلامية، أو على مستوى الواقع السياسي الدولي والإقليمي والمحلي، لأنني عندما أنطلق في أي اتجاه، فإنني أحدق بالناس الذين يُحمّلني الله مسؤولية أن أقدم لهم الحقيقة.
ولذلك، فإني أعتبر أن البُعد عن أصالة الحقيقة التي أزعم أنني أفهمها بطريقتي الخاصة ـ ولا أدّعي أنني أفهم الحقيقة المطلقة ـ هو خيانة للناس، وأنا لا أحب أن أخون الناس. أنا قلت لبعض الناس عندما التقيت ببعض الشخصيات السياسية الكُبرى، وكان هناك حديث عن أنّ فلاناً ربما يخضع لهذا الخط السياسي، عندما تجدونني أبتعد عما أؤمن به أو أعمل بما يفقدني ثقتكم فلن تجدوني بينكم سأنسحب، لأنني لا أحب أن أغشكم، فما عشت حياتي له هو هذا.
من الطبيعي أنني كنت أتلقى الكثير من عناصر التخلّف والخرافة والجهل أو العناصر التي تختلف معي في الفكر، ولكنها لا تملك الأسلوب الموضوعي في مناقشة الفكر بالفكر، بل تعتمد أساليب التشهير وما إلى ذلك، ولقد اعتبرت هذا شيئاً طبيعياً، ورأيت أنه يُغني الفكرة أكثر مما يُسقطها أو يُفقرها، لأن ذلك يساعدني على أن أفكر في ردود الفعل، ثم لاحظت أن الذين يهاجمون فكري أو سيرتي أو موقعي، يخدمونني، لأنهم يثيرون علامات استفهام للناس: مَن هذا، ما هو هذا الفكر؟ ثم يبدأ الناس بدراسة هذا الفكر، ويرون أن هؤلاء لم ينقلوا الحقيقة لهم في هذا الاتهام أو ذاك.
أما مسألة امتداد المرجعية، فهو أننا نثق بأن الناس ليسوا متخلفين، هناك المثقفون والواعون والذين يطلبون الحقيقة، وإنني أخاطب هؤلاء وأستمع إليهم وأحاورهم وأناقشهم وأفتح عقلي وقلبي لهم، لأنني أدرك أن لكل إنسان، مهما صغر موقعه في المجتمع، تجربته الخاصة، ولذا فأنا أتعلم في بعض الحالات، حتى من الأطفال. لا أقول ذلك تواضعاً، بل لأن المسألة هي أن هذا الإنسان يملك تجربة ولو في إحساسه الطفولي، لا أملكها. لقد وضعت في حياتي ألاّ أتعقّد من نقد ولا أتعقّد من سباب أو اتّهام أو شتائم، لأن هذا يذهب في الهواء، فأما الزبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض. أرجو أن يكون ما أطرحه نافعاً للناس وأرجو أن يكون في موقع رضا الله.
لا حاجة لطائف جديد
* بعد أكثر من عشر سنوات على اتفاق الطائف هناك من يجزم بأن كل الدلائل تشير إلى أن لبنان يسير باتجاه معاكس لشواطئ الأمان والاستقرار، فما قولك؟ وهل نحن بحاجة إلى طائف جديد ينجح حيث فشل الأول، ويحقق الوحدة والاستقرار لشعب عانى الأمرَّين؟
ـ مشكلة اتفاق الطائف أنه لم ينطلق من العمق، لكنه انطلق من السطح، كان مجرد فرصة اضطرارية لوقف الحرب. فهو وسيلة للهدنة، ولم يكن وسيلة للسلام، بالمعنى الذي يتحسس فيه اللبنانيون معنى أن يكونوا مواطنين كي يلتقوا على أساس المواطنة لا على أساس الطائف. نحن لا نريد أن نلغي الطوائف، ولكن نريد أن نُدين الطوائف، لأن مشكلة الطائفة أنها تحولت إلى عصبية، كما تحول الدين والسياسية والاجتماع إلى عصبيات، بحيث فقد المضمون. فالطائفة تبدأ ديناً وتنتهي قبلية وعشائرية وعصبية. وهكذا السياسة، قد تنطلق خطوطاً مبدئية، وتنتهي إلى عصبيّات لشخص أو لحزب أو ما إلى ذلك. لهذا، فإنني أتصّور أننا لن نستطيع أن نحل المشكلة عندما يأتي طائف ثانٍ أو طائف ثالث، لأن القضية هي قضية الإنسان لا قضية القانون، عندما نعيش إنسانيتنا في وطننا ونقبل بعضنا البعض، ويكون الحوار الموضوعي العقلاني هو الذي يفصل بيننا في ما نختلف فيه، عند ذلك، يمكن لنا أن نحصل على السلام والاستقرار، بقطع النظر عن النظام الذي يحكمنا، لأن إنسانيتنا هي التي تجعلنا نحرّك النظام في اتجاهها. أما عندما نعيش الحيوانية، فإن من الطبيعي أننا سنحوّل النظام إلى حيوان وحشي يحاول أن يفترس هذا ويفترس ذاك. إن القوانين لا تحمي نفسها، وإنّما يحميها الإنسان الذي يعيش روحية القانون. إنني أتصوّر أن لبنان بحاجة إلى أن ينـزع الطائفيون فيه عصبيتهم الطائفية ويبتعدوا عن اعتبار الطائفة كدولة مستقلة لها مناطقها وسياستها ومحمياتها.. بل أن يعتبروا أن هناك شيئاً اسمه لبنان يتحرك فيه اللبنانيون سواسية كأسنان المشط. أما حكاية أننا نسير إلى اللااستقرار، فإنني أتصوّر أننا قد نبقى، بحكم هذا التأسيس الطائفي للبنان، في حالة اهتزاز، لكن لبنان لن يصل إلى حد السقوط والانهيار.
العلاقة مع إيران
* طرح عدم لقاء سماحتك بالرئيس الإيراني محمد خاتمي خلال زيارته للبنان جملة تساؤلات، واعتبره البعض انعكاساً للعلاقات المتوترة بين طهران وسماحتك، خصوصاً بعد موقفك من ولاية الفقيه؟
ـ أولاً، ليست هناك علاقات متوترة، ولكن هناك اختلاف في وجهات النظر بيننا، كما إنّ هناك الكثير من العلماء والمراجع في إيران يتحفظون على مسألة ولاية الفقيه، لأنها مجرد نظرية فقهية كبقية النظريات الفقهية، وأنا لم تثبت لدي شرعية ولاية الفقيه العامة من ناحية النصوص الدينية، ولكن لدينا قاعدة في الفقه الإسلامي، وهي وجوب حفظ النظام، فإذا حدث أن توقف حفظ النظام العام للأمة على ولاية الفقيه، فيكون له الشرعية، وإذا لم يتوقف، فالأمة يمكن أن تختار أي شخص يملك الكفاية، شرط أن يتقيد بالنظام الإسلامي العام. وهنا أتكلم في دائرة الواقع الإسلامي، لذلك أنا لا أعتبر أن هذا الاختلاف في وجهات النظر يمثل حالة توتر، فأنا أدعم الكثير من المواقف السياسية في إيران، انطلاقاً من موقفها ضد أميركا وإسرائيل ودعمها لحركات التحرر والمقاومة في لبنان وفلسطين. كما إنني أؤمن بالنظام الإسلامي، بقطع النظر عمّا يمكن أن يسجّله الإنسان من تحفظات وملاحظات في تطبيق هذا التشريع أو تطبيق ذاك التشريع، فهذا قائم في كل مكان في العالم. أما عدم لقائي بالسيد خاتمي، فإن المسألة تتعلق بالبروتوكول، لأن من تقاليد المرجعية ألا يزور المرجع رئيس الجمهورية. ولكن رئيس الجمهورية هو من يزور المرجع، وهذا أمر متبع في إيران، فالسيد خاتمي ـ حفظه الله ـ يزور مراجع قم. لهذا فالقضية ليست مسألة تتصل بالموقف من السياسة الإيرانية أو السيد خاتمي، فهو رجل صديق، وهناك ثقة واحترام متبادل بيننا قبل رئاسة الجمهورية، وذلك عندما كان وزيراً للإرشاد. فالمسألة أعطيت بعداً لا واقعية له في الإعلام.
أمريكا والمستنقع العراقي:
* ما تشهده الساحة العراقية اليوم يؤكد أن أميركا دخلت مستنقعاً يبدو ان البقاء فيه باهظ الثمن، عسكرياً وسياسياً. هل تشاطر هذا الرأي، خصوصاً في ظل مظهر أميركا أمام الرأي العام العالمي والأميركي نفسه؟
ـ أنني أؤكد ذلك، لأنني أرى أن أميركا تستطيع بما تملك من قوة هائلة ساحقة أن تحتل أي بلد، ولكنها لا تستطيع أن تدير البلد المحتل، لأنها لا تملك أي تاريخ في إدارة البلدان الأخرى كبريطانيا وفرنسا.. ولذلك فإنها دخلت الحرب في العراق تحت تأثير بعض التقارير التي قُدِّمت لها بأن العراقيين سوف يستقبلونها بالورود، وأن العراق لا يملك أية مقاومة، لهذا فإن المأزق الذي وقعت فيه جعلها تشعر بأنها بدلاً من أن يكون وجود جيشها لحماية الشعب العراقي، أصبحت المسألة أن وجوده هو لحماية نفسه من هذا الشعب. ثم إن فشل أميركا في تأمين الأمن والخدمات الحياتية للعراقيين واعتمادها على بعض الأطياف التي قد لا تملك امتداداً شعبياً، وعدم فهمها للتعقيدات القائمة في داخل المجتمع العراقي، جعلها تعيش الارتباك والاضطراب، وجعلها تُخطئ بكثير من الممارسات التي تحدث فيها بعض التقاليد والعادات التي تصل إلى حدّ القداسة في المجتمع العراقي.
ثم إن الطريقة التي أدار فيها الحاكم المدني الأميركي المسألة العراقية في إلغاء الجيش بالكامل وإلغاء حزب "البعث" بالكامل، وبقطع النظر عن القيمة السلبية والإيجابية في هذا، جعل كل هذا الكم الهائل من الناس يشعر أنه لا مستقبل له مع أميركا، الأمر الذي ربما ولّد بعضاً من اليأس إلى جانب وجود رئيس النظام البائد على قيد الحياة، وربما كان يملك بعض الامتدادات. مع ملاحظات أخرى، وهي أن بعض الجهات بدأت تتحدث عن مقاومة سلمية إلى جانب المقاومة العسكرية، ما يعني أن المقاومة السلمية في هذا الجانب تتمثل بالتظاهر، وتتمثل حتى في مجلس الحكم الانتقالي الذي صرَّح بعض أعضائه أن علينا أن نبادر إلى تشكيل حكومة حتى يزول الاحتلال، فأصبح هناك نوع من التواصل غير المتفق عليه بين المقاومة العسكرية والمقاومة السلمية، باعتبار أن الروحية واحدة، وإن كانت الوسائل متعددة.
إن أميركا أمام الخسائر التي تواجهها يومياً، بدأت تشعر أنها غرقت في الرمال المتحركة العراقية، والعراق هو البلد الذي يكون في حالة الصفاء حتى إذا جاء الغبار من الربع الخالي، فيتحول الجو إلى جو أحمر بفعل الرمل الأحمر، وربما كانت شخصية الإنسان العراقي تشابه طبيعته الجوية. لهذا بدأت الإدارة الأميركية تواجه مشكلة داخلية ونوعاً من الشماتة الخافتة الأوروبية من الذين عارضوا الحرب، وهذا ما جعلها الآن تستنجد بالعالم وبالأمم المتحدة، لكنها في الوقت نفسه بقيت على "عنجهيتها" وعنفوانها، بأنها تريد من حلفائها أو عملائها في العالم أن يرسلوا جنودهم إلى العراق، لكنها اشترطت أن تبقى القيادة العسكرية لكل هذه الجيوش لأميركا، وهذا مما لا توافق عليه فرنسا وألمانيا والكثير من الدول التي تعتبر أنها مستعدة لأن تشارك تحت مظلة الأمم المتحدة. أميركا دخلت المأزق ولا ندري كيف تخرج منه. ونرجو أن تخرج منه مهشّمة.
لا انقسام طائفي في العراق:
* ما هي ملاحظاتك على مجلس الحكم الانتقالي؟ وهل برأيك دخلنا عصر الانقسام الطائفي "الأميركي" في العراق؟
ـ أتصوّر أن مجلس الحكم الانتقالي في نظر الذين وافقوا عليه أو دخلوا فيه، بالإضافة إلى الحاجة الأمريكية، كان محاولة للخروج من المأزق الذي تحوّل إلى حلقة مفرغة، ودوامة لكل الأطراف السياسية والشعبية وما إلى ذلك.
لهذا كانت أمريكا بحاجة إلى هذا المجلس لتثبت للعراقيين أننا بدأنا نوجه الوجه السياسي إلى أن تأخذوا أموركم بيدكم. كما إن هؤلاء الذين دخلوا إلى مجلس الحكم الانتقالي، اعتقدوا خطأً أو صواباً أن لا طريقة لديهم ليدخلوا في تجربة الاستقلال الوطني إلا بهذا الطريق، باعتبار أن الاحتلال هو الأمر الواقع الذي لا يملكون شيئاً بدونه، تماماً كما كانوا لا يملكون شيئاً بدون صدام.
لكنني لا أتصور أن المسألة العراقية سوف تنتهي إلى فتنة مذهبية طائفية، ربما كان تشكيل المجلس بطريقة قد توحي للسنّة بأن الشيعة أخذوا أكثرية المقاعد مثلاً، أو ربما كانت هناك بعض الأوضاع التي تحركت في قضية أن المثلث السنّي وتوابعه هو الذي يقاوم الاحتلال بينما الشيعة لا يقاومون، لكنني أعتقد أن مثل هذه التعقيدات لن تصل إلى حد فتنة مذهبية طائفية، وإن كانت أمريكا تحاول ذلك، لأن العراق لم يعش في تاريخه حرباً مذهبية، لذلك فهناك ضمان داخل الشخصية العراقية لمنع الفتنة الطائفية في العراق.
* هل في برنامجك زيارة العراق في المدى القريب والبعيد، وهي التي لها في قلبك مساحة شاسعة لمعايشتها وذكرياتها؟
ـ ليس هناك برنامج لزيارةٍ في المدى القريب، لأن الأوضاع في العراق ما تزال أقرب إلى الفوضى منها إلى النظام، ولكنني، وقد عشت العراق ولادةً وشباباً وثقافةً، أحب أن أزوره، ولكن متى؟ إن هذا متروك للظروف.
خارطة الوهم:
* "خارطة الطريق"، هل ترى فيها "خارطة" حل للمسألة الفلسطينية، وماذا يعنينا منها في لبنان وسوريا؟
ـ أعتبر أن خارطة الطريق هي خدعة دولية تقودها أمريكا، لأن المسألة الإسرائيلية ـ الفلسطينية، أو الإسرائيلية ـ العربية، بحاجة إلى قوة ضاغطة على إسرائيل، لأن إسرائيل وضعت في حسابها لدى كل زعمائها منذ هرتزل وحتى الآن، ألاّ تعطي الفلسطينيين شيئاً، وألا تسمح بوجود دولة فلسطينية، كما هي الدول، ولذلك فإن خارطة الطريق تمثل مجرد خارطة تقول للطرفين سيروا فيها، وتركت للطرفين الحرية في فرض الشروط على بعضهما البعض.
بيروت ـ بارعة الفقيه الحوادث:1/8/2003