أخشى من عقدة تقف وراء الأسلوب الحادّ في مواجهة الوجود السوري

أخشى من عقدة تقف وراء الأسلوب الحادّ في مواجهة الوجود السوري

يجذبك في العلاّمة السيد محمد حسين فضل الله لا صلة له بتلك الابتسامة التي تفتح من دون استئذان باب قلبك له، ولا ينحصر بذاك التشابه الكبير بينه وبين السنبلة التي بقدر ما يتكاثر قمحها يتعمّق تواضعها، بل قدرته النادرة على التوفيق بين عنفوان المبادئ الصارخ بهمس، وبين الحكمة السالبة للاهتمام.لا ينتمي السيد إلى تلك الفئة التي تشدّك إليها أحداث طارئة أو مفاصل استثنائية، بحيث تدرك فوراً ما تريد منه فتسعى للحصول عليه وترحل خائباً أو منتصراً، بل هو من تلك النخبة التي تحتضن الحدث في ذاتها، فتحار من أين تبدأ كلامك معه، حتى إذا حانت لحظة النهاية تشعر أنه فاتك الكثير الكثير.في حضرته يجتاحك الحنين إلى عصور عشتها "أكاديمياً"، فتستذكر سقراط وتلميذه أفلاطون وأرسطو وديكارت وباسكال وروحانية فولتير الثائرة على الإلحاد المتدثّر تديّنا،ً وعلى ابن رشد الذي نوّرت كتبه ظلام أوروبا بعدما هجرها ظلاميو الشرق.
مع هذا الرجل تبحث في هموم لبنان من دون أن تعلق في زواريب الشِطرنج السياسي، وتقرأ المستقبل على حجارة الدومينو التي تقف معاً وتتهاوى معاً، وتجول في سوريا وفلسطين وسائر العرب من دون أن تتهيّب المواجهة الفكرية مع "القطب الأوحد".
ولدى ذاك العلامة قدرة متفوقة على النقد بلا تهديم، وعلى المصارحة من دون تجريح، وعلى التوصيف من دون مبالغة، وعلى المخاصمة من دون نسف الجسور.
وهنا يكمن الحدث كل الحدث، في اللقاء بين السيد محمد حسين فضل الله و"المستقبل". فماذا يقول عن لبنان والدولة فيه والمقامات الدينية وعن العلاقة بسوريا وعن النظرة إلى الولايات المتحدة وعن دوره شخصياً في عراق العصر الأميركي؟
التداعي في نظرة اللبنانيين إلى دولتهم يجد مبرراته في دأب القائمين على شؤون الدولة بشخصنة أجهزتها وربطها بخصوصياتهم الشخصية أو الطائفية، ويكمن خطر ذلك في أن الشخصانية تمنع أي عمل جبار، لأن ذلك يفترض أن تكون المواطنية أساساً للحقوق والواجبات.

مشكلة لبنان، وفق رؤيته الخاصة، تكمن في أن تركيبة هذا البلد، على الرغم مما فيها من إيجابيات، لا تسمح بأن يكون هناك وطن مستقر، لأن لبنان لم يؤسَّس ليكون وطناً، بل ليكون حاجةً للغرب في الشرق، ونافذة للشرق على الغرب، فهو ليس مجرد وطن، بل معادلة سياسية يراد من خلالها تجربة كل الاتجاهات الموجودة في المنطقة. وينبّه إلى أنه يراد للبنان أن يكون القاعدة للمخابرات الدولية والإقليمية، وخطر ذلك ليس في أن المخابرات موجودة فقط لجمع المعلومات، ولكنها تعمل لصنع الوقائع.

يبدي ثورة على تقديس غير المقدس في الشرق، ويجزم بأنه من حق الناس أن ينتقدوا الموقع الديني إذا انفتح على القضايا العامة، لأنه في هذه الحالة هو موقع بشري يخطئ ويصيب، ويرى أن هناك استلاباً للناس باسم خدمتهم، لأنك عندما تتحدث عن قضايا الناس، فيجب أن تحترمهم بقبول نقدهم.

متيقِّن هو من توافر الوحدة الوطنية في هذا البلد، فهي متجسدة على مستوى الإنسان العادي، فالشعب حاور بعضه بعضاً وأخذ النتائج، في وقت يتحدث البعض من أبراجهم العاجية عن شروط الحوار ومن يحاور من.

ولا يستسيغ هذا الإطناب في مديح ما انتهى إليه المجمع الماروني الأخير، لأن مواقفه بديهية، "نحن نقدِّر أي طرح شمولي في البلد، ونقدّر أي انفتاح واقعي على القضايا العامة، ولكن علينا ألا نمنّن الناس بذلك".

الكلام على الوجود السوري في لبنان ليس من المحرمات، ولكن يجب مقاربة هذا الموضوع بما هو حاصل حول لبنان وليس انطلاقاً من تفكير بالمطلق، وهو يدعو إلى دراسة هذا الوجود ميدانياً لمعرفة دوره في ضمان الأمن في البلاد وعدم الاكتفاء بالافتراضات، فالتعقيدات الواقعية هي الأساس.

سوريا لا تفكر، وفق وجهة نظره، بالبقاء في لبنان، لأن ذلك يحمّلها عبئاً ثقيلاً ويخلق لها مشاكل، ويعتقد أن هذه المسألة، كما مسألة المقاومة، مرتبطة بأزمة الشرق الأوسط، فمتى حلّت تنتهي كل التعقيدات.

وإذ يعرب عن اعتقاده أن واشنطن سترفض خروج سوريا من لبنان، يبدي خشيته من أن تكون الخلفيات الكامنة وراء الأسلوب الحاد في التعاطي لبنانياً مع الوجود السوري تحركها عقدة معينة، ويدعو إلى تغيير الواقع بأدوات الواقع.

لا يتوجَّس فضل الله من الوضع في الجنوب على مستقبل لبنان، "لأن الجنوب أخذ دوره وكذلك لبنان، ولكن تبقى هناك بعض التهاويل وبعض الاستفزازات".

لا مشكلة مع الولايات المتحدة الأميركية متى تغيّرت الإدارة الأميركية لتنفتح على الشعوب ـ هكذا يقول ـ بعد أن يؤكد أن نظرته إلى أميركا تمليها صورة فلسطين ومواقع المستضعفين في العالم.

يرى، وهو من دخل بمؤسساته في الآونة الأخيرة إلى العراق، أن الشيعة هناك لا يؤيدون الاحتلال، ولكنهم يعتبرون أن المقاومة المسلحة بحاجة إلى برنامج أو إلى تخطيط وإلى امتداد إقليمي يرفدها ويساعدها ويعاونها وإلى ظروف واقعية.

كلام السيّد، سيّد الكلام... وهذه وقائع الحديث معه:

أريد للنظام الطائفي أن يبقي لبنان في حالة اهتزاز يمكن أن ينفذ إليه الآخرون

لا خوف على الجنوب ولبنان، فهما أخذا دوريهما 

* يقال إن اللبناني ما عاد يؤمن بوجود دولة، وينظر إلى كل ما يحصل بشك أو باستسلام، فهل لذلك مبررات حقيقية؟

ـ لا تخلو هذه الصورة من تسطيح للقضايا، لأن مسألة أن تكون هناك دولة هي مسألة أن يكون هناك كيان ينظّم شؤون الناس ويعمل على أساس توفير خدماتهم وضروراتهم، وهذا أمر موجود في لبنان، لكن أن يكون هذا الكيان القانوني صالحاً أو غير صالح، فهذا أمر واقعي، إن عدم الصلاح لأي جهاز أو كيان لا يعني إبعاده عن الواقع، ولكنه يمثل مشكلة في الواقع، لهذا أن نتحدث عن عدم وجود دولة بالمطلق فهذا أمر غير دقيق.

* لكن ماذا عن شعور الناس السلبي تجاه الدولة؟

ـ الدولة موجودة، لكن الناس تشعر بذلك لأن القائمين على شؤون الدولة "شخصنوا" أجهزة الدولة وربطوها بخصوصياتهم الشخصانية أو الطائفية أو غير ذلك، ولهذا فإن الناس عادة لا تنظر إلى الدولة من خلال إداراتها، ولكن من خلال القائمين عليها، ولذا بدأت فكرة "أن لبنان مزرعة وليس دولة"، لأن هناك من يستغل الدولة، وهذه هي المشكلة في هذا الموضوع. وإنني أتصور أن جانباً من المشكلة في هذا الواقع ربما يمتد إلى أكثر الواقع العربي والعالم الثالث، وهو مسألة تطييف الدولة. وإذا أردنا أن نتحدث عن لبنان، فإنني أعتقد أن النظام الطائفي هو سر الأسرار في هذه المشكلة، لأن النظام الطائفي جعل الناس ترتبط بطوائفها أكثر مما ترتبط بوطنها. وقد أدى ذلك إلى أن يتحرك الناس على أساس أن يكون لكل طائفة رمز يأخذ الكثير من "تقديس الناس" ـ إذا صحّ التعبير ـ بحيث يعتبرون الإساءة إليه إساءة إلى الطائفة، ويرون أنه حتى لو أخطأ ـ وهم ينتقدون خطأه ـ فإن ذلك لا يبرر أن يكسر أو يحبس أو يحاسب وما إلى ذلك.

إن هذا الاستغراق في الشخصيات الطائفية أدى إلى شخصنة الوطن، ولذلك فإننا نلاحظ أن الذين يسمون رموز الطائفة يحرسون الفساد الإداري وينتجونه في بعض الحالات، ويحرسون اللصوص والمنحرفين، على أساس أن هذا محسوب على فلان وهذا محسوب على آخر. ونحن نعرف أنه ليس هناك أية شخصية في لبنان على المستويات الطائفية المتقدمة أو على ما يتبعها من مواقع، يمكن أن تحاسبه الدولة، لأن الحساب فقط للأشخاص الفقراء والبسطاء الذين لا سند لهم ـ حسب التعبير الشعبي ـ هذا بالإضافة إلى وجود بعض المداخلات الإقليمية التي تحمي شخصاً هنا وشخصاً هناك. إن المسألة هي أن التركيبة اللبنانية بالرغم مما فيها من إيجابيات، هي تركيبة لا تسمح بأن يكون هناك وطن مستقر وأن تكون هناك دولة لبنانية.

تقديس غير المقدس

* عندما يأتي إليك الناس يحاولون البحث عن حل أو بداية حل لهذه المشكلة العميقة، فهل ترى أن هناك مخرجاً؟

ـ إنني أشك في واقعية الحل، لسبب بسيط، هو أن لبنان في القاعدة التي تأسس عليها كوطن لم يؤسس ليكون وطناً للبنانيين، بل أسِّس ليكون حاجة للغرب في الشرق ونافذة للشرق على الغرب. إن لبنان ليس مجرد وطن كباقي الأوطان في المنطقة، بل هو معادلة سياسية يراد من خلالها تجربة كل الاتجاهات الموجودة في المنطقة. ومن هنا فإن حروب لبنان تمثل مدرسة للآخرين، فالحروب بين المسيحيين والمسلمين كانت مدرسة للمسيحيين في المنطقة، ومدرسة لإنتاج التعصب الإسلامي ـ المسيحي فيها.

وهكذا عندما حدثت الحرب بين الفلسطينيين وبين فريق من الشيعة، فإن ذلك أدى لإنتاج حالة سلبية بين السنّة والشيعة في المنطقة، وهذا ما لاحظناه في ردود الفعل التي كانت تتحدث عن وجود صراع سنّي ـ شيعي، وأن الشيعة يهجمون على السنّة، ولم يتحدث عن طبيعة هذه الحرب السياسية ومفرداتها التفصيلية. وهكذا نجد أن لبنان يراد له أن يكون القاعدة للمخابرات الدولية والإقليمية، ونحن نعتقد أن المخابرات ليست موظفة فقط لجمع المعلومات، ولكنها تعمل لصنع الوقائع.

إن هناك فرقاً بين أن تنقد الدين أو تنقد الموقع الديني كموقع ديني، وبين أن تنقد الموقع الديني الذي ينفتح على القضية السياسية.

وهكذا أريد للنظام الطائفي أن يبقي لبنان في حالة اهتزاز يمكن أن ينفذ إليه الآخرون، لأن الذهنية الطائفية، وليس الدينية ـ لأن الطائفة ليست ديناً ـ تجعل هناك شخصانية للطائفة تفصلها عن الطوائف الأخرى، مناطقياً وسياسياً وما إلى ذلك، بحيث تتحرك المجالس الطائفية من أجل دراسة خصوصيات الطائفة ولو على حساب لبنان. لأن المسألة هي أن المجالس الطائفية تحوّلت إلى ما يشبه "الولايات غير المتحدة"، وهذا ما نلاحظه في غياب النقد الموضوعي البنّاء للمواقع الطائفية الكبرى، سواء على المستوى الديني أو على المستوى السياسي، فإن الجميع قد توافقوا على إعطاء الكلمات الفضفاضة لهذا الموقع الديني الرسمي أو لذاك الموقع الديني الرسمي، من دون أن يجرؤ أحد على نقده كموقع ينفتح على القضايا العامة، ومن حق الناس أن ينقدوه.

إن هناك فرقاً بين أن تنقد الدين أو تنقد الموقع الديني كموقع ديني، وبين أن تنقد الموقع الديني الذي ينفتح على القضية السياسية.

حتى إننا نتصور أن هذا النوع من التقديس للمواقع الدينية هو أمر يمثل خطأً وخطراً، لأن هذه المواقع الدينية هي مواقع بشرية تخطئ وتصيب، حتى إن من حق الناس أن ينتقدوا فهم هذه المواقع للدين وخطوطها السياسية.

هناك في لبنان استلاب للناس باسم خدمة الناس، لأنك عندما تتحدث عن قضايا الناس فيجب أن تحترم الناس بأن تقبل نقدهم لك، وأن يخاطبوك كشخصية عامة، لا أن تكون الهالة الدينية مانعة للناس عن أن تتحدث معك بعيداً عن النقد وعن المساءلة وما إلى ذلك، وهذه مشكلتنا في الشرق من أننا نقدس غير المقدس

الأبراج العاجية تحاول دائماً أن تبقي هيمنتها على الناس الموجودين في القاعدة أو على الأرض

* في ظل "تقديس غير المقدس"، ألا ترون الحاجة إلى إعادة البحث في مكوّنات البلد من "الميليشيات أثناء الحرب"، إلى "المقاومة والصراع مع إسرائيل"، و"المزرعة قبل الحرب"، و"المسيحيون بعد نفي أو سجن زعمائهم"، و"أمراء الحرب"، وصولاً إلى المكوّنات الإسلامية ودور المرجعيات السياسية؟

ـ إن هذه المكوّنات، ولا سيما في مواقعها السياسية، تحتاج للمراجعة، لأن الإنسان هو الذي يحرك هذه المكوّنات وينتجها أو يسقطها. إنني أتصور أن هذه المكوّنات بتعقيداتها الطائفية أو الشخصانية، أو من خلال الخلفيات السياسية في داخل البلد أو خارجه، تمنع أي عمل جبار للمراجعة، لأن العمل الجبار يفرض أن تكون المواطنة أساس الحقوق والواجبات.

وأستطيع أن أقول إن الأغلبية، إذا لم يكن كل المواطنين، ليسوا مستعدين لذلك، لأن الثقافة الطائفية التي دخلت إلى العقول والقلوب تمنع هذه الجهة أو تلك من أن تتنازل عن خصوصياتها لحساب الوطن كله أو حساب الناس كلهم. ولهذا أدمن الناس هذا الواقع حتى وهم يرجمونه بحجارة النقد وما أشبه ذلك. إن القضية ليست قضية ما هو الحل، بل القضية هي البحث عن الإنسان في الوطن، الإنسان الذي يقود الواقع .

إن هناك ضوضاء سياسية تتحرك من خلال التصريحات والخطابات في المجلس النيابي، أو من خلال بعض الأوضاع في مجلس الوزراء وما إلى ذلك، هناك ضوضاء في هذه الأجواء، ولكننا عندما ندرس المسألة، فإننا نجد أنه ليس هناك جدية للحل؛ عندما تستمع إلى جلسات الاستجواب أو جلسات طرح الثقة وتسمع ما تسمع من فضائح، تجد أن ذلك ينتهي بإعطاء الثقة، وعندما تلاحظ هنا وهناك أن المؤسسات الكبرى في لبنان التي يُفرض أن تكون مستقلة ومفصولة بعضها عن بعض، تجد أن التسويات بين القائمين على هذه المؤسسة أو تلك المؤسسة تحاول أن تجعل هناك تداخلاً بين المؤسستين لحساب رمز هنا ورمز هناك، وهذا ما نلاحظه في المؤسسات الدستورية المختلفة، والجميع أصبحوا يعرفون أن "الكبار" حسب التعبير السياسي إذا اتفقوا فإن البلد يرتاح، وإذا اختلفوا فإن البلد يعيش حالة طوارئ.

إن الدولة لا يمكن أن تضعف أو تهتز أو تسقط لمجرد أن مسؤولاً هنا يختلف مع مسؤول هناك، وهذا ما نلاحظه في أميركا أو بريطانيا أو أية دولة أخرى. لذلك إنني أعتقد أن الشخصانية هي أخطر من الطائفية، وهي الأساس في منع إيجاد الحل باسم أنهم يريدون إيجاد الحل.

الحوار والأبراج العاجية

* انطلاقاً من الكلام الذي أشرتم إليه، هل تشعرون أن الوحدة الوطنية في خطر؟

ـ إني أتصور أن هناك وحدة وطنية على مستوى الإنسان العادي، ودليلنا على ذلك أن المناطق المختلطة تتعايش مع بعضها البعض بشكل طبيعي جداً، سواء على المستوى التجاري أو الزراعي أو حتى على المستويات التربوية والثقافية والرياضية. إن الناس لا تشكو من فقدان الوفاق الوطني أو الوحدة الوطنية، ربما نجد بعض الحساسيات هنا وهناك، ولكنها لا تصل إلى مرحلة الخطورة، بحيث إنها تفصل الناس بعضهم عن بعض. إننا نلاحظ أن الناس في كل لبنان، الذين يختلفون سياسياً وطائفياً ومناطقياً، يلتقون مع بعضهم البعض في الأفراح والأتراح وفي القضايا الكبرى. لقد كنت أقول في اطار الحديث عن "الحوار الإسلامي ـ المسيحي" في لبنان، إن الشعب حاور بعضه بعضاً وأخذ النتائج، في الوقت الذي يوجد البعض في الأبراج العاجية وهم يتحدثون عن شروط الحوار ومن يحاور من؟ وإن الشعب اللبناني عاش الوفاق الوطني وهناك من يتحدث عن أسس الوفاق الوطني وما إلى ذلك. إن مشكلة بعض الناس أنهم يستغرقون في غرائزهم ولا ينفتحون على قضايا الناس، ولهذا فإننا عندما نواجه أي حدث انتخابي، سواء على مستوى البلديات أو الانتخابات النيابية، فإننا نجد أن الأصوات التي ترتفع، حتى من بعض عقلاء السياسة، تعمل على إثارة غرائز الشباب لا إثارة عقولهم، سواء في الطائفة الواحدة أو بين الطوائف المتعددة. القضية هي أن الأبراج العاجية تحاول دائماً أن تبقي على هيمنتها على الناس الموجودين في القاعدة أو على الأرض، لأنهم "البقرة الحلوب" سياسياً وأمنياً.

لا نريد أن نلغي الطوائف ولكننا نريد أن نلغي هذه الزنازين التي تحبس الطوائف نفسها فيها

المجمع الماروني

* "المجمع الماروني" عمد إلى إجراء مراجعة نقدية على الصعد السياسية والثقافية، ونجح في مواجهة بعض أجواء الشكوى والإحباط. فلماذا لا نلحظ مثل هذه التجربة على المستوى الإسلامي، وكيف تنظرون إلى ردود الفعل على نتائج "المجمع"؟

ـ لقد وصلنا في لبنان إلى مستوى من الانحدار بحيث إن أي فريق طائفي يطرح أموراً وفاقية أو انفتاحاً على البلد كله أو على المنطقة يعتبر حدثاً كبيراً لا بد لنا من أن نحيطه بكل الأهازيج والكلمات الفضفاضة وما إلى ذلك. إن مسألة أي فريق في أي بلد، من ناحية واقعية، هي أن ينفتح المواطنون على بعضهم البعض، لأن هذا الانفتاح شرط نمو البلد وشرط تطوره واستقراره. كما أن من الطبيعي جداً أن ينفتح البلد على كل المنطقة الذي هو جزء منها، لأنه لا يستطيع أن ينعزل عنها من أي جانب من الجوانب، حتى في مورد الاختلاف السياسي وما إلى ذلك. لهذا فإن هذه الجوقة السياسية اللبنانية تحاول دائماً أن ترفع الصوت بالكثير من المديح والتبجيل والنفاق السياسي لأي كلمة تصدر من فريق مسلم يتحدث عن الحوار، أو فريق مسيحي يتحدث عن المواطنية والانفتاح على المنطقة، مع أن هذا أمر بسيط جداً على مستوى واقع الإنسان المواطن الذي يحترم نفسه ووطنه في العالم. ولذلك فإنني أتصور أنّ المسألة ليست أن يكون هناك "مجمع ماروني" أو "مجمع إسلامي" أو شيعي أو سني أو كاثوليكي.. المسألة هو هذا السؤال: هل نحن مقتنعون الاقتناع الرسالي بأن هناك بلداً واحداً لا بد لكل فريق أن يقدم بعض التنازلات من خصوصياته لمصلحته الوطن؟ هل نحن نحلق في الفضاء بحيث لا يحيطنا إلا الفراغ من هنا وهناك لنعزل عن المنطقة؟ إنني اتصور أن مسألة إيجاد مواقع طائفية، حتى لو انفتحت على بعض القضايا العامة، تبقي لبنان على مشاكله. إننا لا نريد أن نلغي الطوائف فهي واقع موجود في لبنان وفي العالم. ولكننا نريد أن نلغي هذه الزنازين التي تحبس الطوائف نفسها فيها لتفصلها عن الآخرين. لذلك نحن نقدِّر أي طرح شمولي في البلد أو في المنطقة، ونقدِّر أي انفتاح واقعي على القضايا العامة، ولكن علينا أن لا نمنن الناس بذلك، وعلى الناس أن لا يشعروا أن هناك حدثا غير عادي في هذا الطرح أو ذاك، لأنه شيء طبيعي جداً، ولا بد أن يتحرك بعفوية في حياة الناس.

إنني أدعو إلى السياسة الواقعية، ولا أقصد بالواقعية الاستسلام للأمر الواقع، بل أن نغير الواقع بأدوات الواقع.

إعادة الانتشار السوري

* شهدنا مؤخراً خطوة جديدة على صعيد الانتشار العسكري السوري في لبنان، كيف تنظرون إلى هذه الخطوة في ضوء التطورات الدولية والإقليمية والداخلية؟

ـ لقد طرحت منذ زمن طويل في نقاط هذا الجدل حول الوجود السوري في لبنان، أن ينطلق اللبنانيون ليدرسوا بدقة مسألة هذا الوجود، هل هناك بحسب الخصوصيات اللبنانية والرياح الموسمية التي تتحرك في لبنان بين وقت وآخر، هل هناك ضمانة للامن في لبنان في غياب الوجود السوري؟ إنني لا أعطي رأياً في هذا المجال، لكنني أقول لندرس القضية دراسة ميدانية، لا حسب الافتراضات، ولكن حسب التعقيدات الواقعية الموجودة في لبنان مقارنة بما حول لبنان، وألا نفكر في المطلق.

ولذلك هناك من يناقش في مسألة التدخل السوري في السياسة اللبنانية أو الأمنية، هذا الأمر قابل للمناقشة، لكن المسألة الأساس هي علاقة الوجود السوري بالأمن اللبناني. وهل يمكن أن يكون هناك انفصال بين الأمن اللبناني والأمن السوري بحسب الظروف الحاضرة أو في المرحلة المقبلة. لذلك إنني أتصور أنه من غير الطبيعي جداً أن يبقى الجيش السوري في لبنان، حتى إن سوريا لا تفكر في ذلك، لأن ذلك يحمِّلها عبئاً ثقيلاً ويخلق لها مشاكل، لأنه قد يفتح هناك أكثر من ثغرة على المستويات المحلية والعربية والدولية، وهذا ما لاحظناه بالنسبة إلى أميركا.

ولذلك فإن الانسحابات السورية أو إعادة الانتشار هو أمر جد طبيعي بالنسبة إلى السياسة السورية في المرحلة الحاضرة، ولكنني لاحظت في بعض تصريحات وزير الخارجية الأميركي قبل يومين، بأنه يطلق المسألة على مستوى التمنيات بأن يأتي اليوم الذي ينسحب فيه السوريون من لبنان، ما يدل على أن المسألة ليست ملحة جدا على صعيد السياسة الأميركية، بالرغم من كل التهاويل التي تثيرها أميركا حول الوجود السوري.

لذلك أعتقد أنه ليس من الطبيعي أن نخلق عقدة بين لبنان وسوريا، سواء في دائرة طائفية أو عاطفية. إنني أخشى أن تكون خلفيات هذا الأسلوب الحادّ في مواجهة الوجود السوري عقدةً تتحرك، ربما في أذهان الكثيرين، سواء كانت مرتبطة بالتعقيدات الخارجية أو الداخلية.

إنني أدعو إلى السياسة الواقعية، ولا أقصد بالواقعية الاستسلام للأمر الواقع، بل أن نغير الواقع بأدوات الواقع.

إنني أعتقد أن سوريا سوف تنسحب من لبنان حفاظاً على أمنها وسياستها وعلى مواقعها، وهي دولة براغماتية تعرف كيف تلاحق الواقع وكيف تتجاوز مواقع الخطر في الواقع. ولكن المسألة هي القضايا المرتبطة بأكثر من جانب سياسي في المنطقة. إن مسألة الوجود السوري في لبنان، كما أن مسألة المقاومة في لبنان، ليست مرتبطة بأحداث مرحلية حاضرة، بل هي مرتبطة بأزمة الشرق الأوسط، وعندما تحل أزمة الشرق الأوسط تنتهي كل هذه التعقيدات.

إنني أتصوّر الوجود الأميركي الطويل في العراق سوف يخلق هناك مشكلة للأميركيين

* إذا حصل الانسحاب السوري في إطار "كباش" سوري ـ أميركي، هل هناك ما يخشى منه؟

ـ إنني أتصوّر أن أميركا سوف تمنع سوريا من أن تنسحب، لأن الوجود السوري في لبنان لم يكن وجوداً سورياً بالمعنى الوطني، بل كان مسألة عربية ودولية، حتى لا يخرّب لبنان الكثير من توازنات السياسة في المنطقة. إن سوريا لا تزال حاجة أميركية دولية، لأنها البلد العربي الوحيد القادر على ضبط التوازنات بدون إثارة المشكلة.

* حتى في العراق؟

ـ وحتى في العراق، لأن سوريا أساساً تعرف من خلال تجربتها ـ ولا أدّعي العصمة لها، ولكن هذه هي مجريات الأحداث ـ تعرف كيف تتجاوز المناطق الحادة بطريقة تحفظ لها أكثر من ماء الوجه.

المقاومة ليست شعاراً يرتفع في الهواء، ولكنها خطة وبرنامج وقيادة

اللامقاومة الشيعية في العراق

* على الصعيد العراقي، دعوتم دائماً إلى مقاومة الاحتلال الأميركي ورفض هذا الاحتلال، لكننا نلاحظ أن المقاومة لا تزال محدودة ومحصورة في مناطق معينة، فما هي الأسباب؟

ـ إن الاحتلال من حيث المبدأ، لاسيما إذا كان ينتقل من خطأ إلى خطأ، يجتذب المقاومة، مع ملاحظة أخرى، وهي أن المقاومة البارزة في العراق الآن لا يستطيع الإنسان أن ينسبها إلى فريق واحد، حتى لو أثيرت المسألة تحت عنوان "فدائيي صدام" أو "بقايا النظام" أو "فلول البعث". إن هناك حالة إسلامية بدأت تتنامى على مستوى حركة المقاومة المسلحة أو على مستوى المقاومة السلمية نتيجة الظروف، ولعل أميركا بدأت تفهم أن هذه المقاومة التي كانت لا تمثل شيئاً منظماً، بدأت تتحوّل إلى حالة تنظيمية تتوزع الأدوار.

لذلك فإنني أتصوّر أن الأسلوب الأميركي الجديد بالاستنجاد بدول العالم، وفي محاولة إعطاء "دور مائع" للأمم المتحدة، هذا الأسلوب ينطلق من إحساس أميركا بالخطر في تحوّل العراق إلى رمال متحركة على "الطريقة الفيتنامية"، مع بعض الفوارق الموضوعية هنا وهناك. لذلك فإنني أتصور أن المرحلة الآن هي مرحلة الإرباك لأميركا، وهذا هو الذي يفسر تحوّل أميركا بمشاريعها السلطوية أو الإدارية من طرح إلى طرح إلى أن رسا الطرح على "مجلس الحكم الانتقالي" الذي اعتبر "مجلس حكم" بدل أن يكون "مجلس مستشارين". لكنني أتصوّر أن هذه المسألة قد لا تلقى نجاحاً كبيراً، لأن "مجلس الحكم الانتقالي" لا يملك آلية ذاتية عراقية مستقلة تستطيع أن تنفذ برنامجه أو أن تقوّي الحكومة التي يعينها بطريقة مستقلة، ولا بد للأميركيين أن يكونوا في كل الدوائر والوزارات والحكومات، ما قد يخلق الكثير من الحساسيات والمشاكل، لاسيما إذا عرفنا أن الأميركيين يتحدثون عن وجود لمدة خمس سنوات.

إنني أتصوّر أن هذا الوجود الأميركي الطويل، والذي يتمظهر بأكثر من مظهر من خلال العناوين السياسية التي يثيرها المسؤولون الأميركيون بين وقت وآخر، إن هذا الواقع سوف يخلق هناك مشكلة للأميركيين لا نستطيع تحديد حجمها، وخصوصاً أن هناك وضعاً إقليمياً يحيط بالعراق لا يستطيع إلا أن يتدخّل في العراق حفاظاً على أمنه الوطني.

* لماذا هناك من يردّد أن الشيعة في العراق لا يريدون المقاومة، بل هم يسعون لتعزيز دورهم في السلطة وفي الحكم وفي الدولة، ولكل حادث حديث فيما بعد؟

ـ عندما ندرس المسألة بدقة على الصعيد الشيعي، فإن القضية هي أن الشيعة لا يزالون تحت تأثير كل تلك الوحشية التي مارسها النظام السابق ضدهم، والتي تتمثل بالمقابر الجماعية، والتي لا ندّعي أنها فقط مقابر شيعية، فهناك مقابر كردية أو سنّية. لكن المسألة هي أن الشيعة عانوا كثيراً ولا يزالون تحت تأثير هذه المعاناة.

وربما يفكر البعض منهم أن هناك احتمالاً أن يعود صدام حسين للحكم مجدداً، لأنه لا يزال حياً ولا يزال يدّعي قيادة المقاومة.

لذلك فإن الشيعة بحسب الأصوات التي ترتفع من هذا الفريق أو ذاك الفريق، لا يؤيدون الاحتلال، ولكنهم يعتبرون أن المقاومة المسلحة بحاجة إلى برنامج أو إلى تخطيط وإلى امتداد إقليمي يرفدها ويساعدها ويعاونها، وإلى ظروف واقعية موجودة في داخل البلد، وربما لا يجد الكثيرون منهم أن هناك فرصة للمقاومة المسلحة في الوقت الحاضر، لأن المقاومة ليست شعاراً يرتفع في الهواء، ولكنها خطة وبرنامج وقيادة وما إلى ذلك.

في تصوري أنه ليس هناك طموح شيعي في العراق يعمل على أن يسيطر على العراق بشكل ساحق، بل إن كل طموح الشيعة في العراق وفي أكثر من بلد عربي يعيشون فيه مع السنّة أو مع الفئات الأخرى ، هو أن يحصلوا على حقوقهم المواطنية والانسانية ليكونوا مواطنين كبقية المواطنين. إن كل حديث عن أن الشيعة يطمحون إلى وجود خاص بهم منفصل عن المواطنين الآخرين، هو حديث إعلامي يخضع لألغام سياسية معينة يحاول أن يضع في الطريق ألغاماً سياسية، وهناك سبب بسيط جداً، فالشيعة يعرفون أنه ليست هناك أية واقعية لأن يكونوا الحاكمين وحدهم في العراق أو في أي بلد آخر، لأنهم يعيشون ـ إذا أردنا أن نستخدم العناوين الطائفية ـ في بحر إسلامي سني، وإنني أتصور أن الدعوة إلى الوحدة الإسلامية عند الشيعة قد تكون أقوى من الدعوة إلى الوحدة الإسلامية عند السنّة، لأنها تعتبر ضرورة وجودية وضرورة إسلامية وسياسية بالنسبة إليهم.

فضل الله "العراقي"

* لقد أشرتم سابقاً إلى إمكانية العودة إلى النجف والتحرك من داخل العراق، أين أصبح هذا المشروع؟ وكيف تتواصلون مع أبناء العراق وقواه السياسية والدينية؟

ـ إن هناك قنوات عدة للتواصل شبه اليومي في هذا المجال، وهناك مراكز ثقافية فتحت في أكثر من منطقة ومدينة في العراق، وهناك تواصل مع بعض الجهات السياسية والإسلامية، وحتى على مستوى الوحدة الاسلامية، فالعلاقات موجودة مع السنّة والشيعة ومع العلماء السنّة في الموصل وبغداد، وهم يتعاونون مع علماء من الشيعة. إننا نعمل من أجل العراق كله ومن أجل الإسلام كله ولا نبحث عن أي موقع.

* هل أنتم خائفون على مستقبل العراق؟

ـ لست خائفاً بما لهذه الكلمة من معنى، لأن الشعب العراقي شعب أصيل في وحدته الوطنية، على الرغم من كل الحساسيات التي تثار بين وقت وآخر، ولهذا لم نجد في التاريخ العراقي أي حرب سنّية ـ شيعية. نحن لا ننكر وجود بعض الحساسيات نتيجة التعددية، حتى إن هناك بعض الحساسيات داخل السنّة وداخل الشيعة.

لكن ليست هناك خطورة حتى الآن، وليس هناك في المستقبل المنظور أية فرصة واقعية لحرب طائفية على مستوى السنّة أو الشيعة ونحن لا نستطيع أن نجزم بذلك بشكل مطلق ونتحدث عن الغيب.

* من خلال الحوزة العلمية التي تشرفون عليها في مقام السيدة زينب في سوريا والإحاطة الشيعية العربية بمرجعيتكم، يبدو أن لكم "هالة" ما داخل اللعبة العراقية على المستوى الشيعي، وهذا الدور جعل البعض يتلمس اهتماماً أميركياً بارزاً بمرجعيتكم والسعي للاتصال بكم. فأين أنتم من هذا الواقع؟

ـ بالنسبة لي ولعلاقتي بالعراق، فأنا عراقي المولد والنشأة والثقافة، لقد عشت نصف عمري في العراق، وحتى إنني لم أبتعد عن العراق على الصعيد الفكري والسياسي والحركة الإسلامية، وحتى الحركات غير الإسلامية التي كانت تتصل بي بين وقت وآخر لتأخذ الرأي وأتحاور معها. لذلك لم أبتعد عن العراق حتى الآن في أي موقع من المواقع، ولذلك فإن علاقتي بالعراق هي علاقة عضوية ولم تقتصر على الشيعة بل تمتد إلى السنّة، ولا تقتصر على الإسلاميين بل تمتد إلى العلمانيين.

إن المراكز الثقافية التي فتحناها في العراق، وهي تتضمن كتبي وأشرطة التسجيل والفيديو، تلاقي إقبالاً لدى الجامعيين العراقيين، كما تلاقي إقبالاً لدى الآخرين. هذا من جهة، وأما من الجهة الثانية، فإنني في المسألة الأميركية أنطلق من قاعدة إسلامية انسانية على مستوى الاستراتيجية، وهي معارضة أميركا في كل سياساتها، لا من خلال العقدة من أميركا، لأنني لا أتحدث عن الإدارة الأميركية، فإنني أرى صورة أميركا في فلسطين وصورة أميركا في الكثير من مواقع المستضعفين في العالم، وأرى صورة أميركا في إرباكها لكل العالم العربي والإسلامي، وأرى صورة أميركا في المواقع الرسمية الموظفة لدى مخابراتها في أكثر من بلد عربي لحراسة مصالحها وامتيازاتها وما إلى ذلك.

لذلك نحن نعرف أن أميركا تمثل وجوداً كبيراً جداً على مستوى العالم، ولكننا في الوقت نفسه، نؤمن بأن علينا أن نرفع الصوت عالياً لمواجهة الاستكبار الأميركي والاستكبار العالمي، لأن مسؤوليتنا عن الإنسان كله من خلال مسؤوليتنا عن القيم الإسلامية تفرض علينا ذلك، وعندما تتغير الإدارة الأميركية لتنفتح على الشعوب فليست هناك أية مشكلة مع أميركا.

لقد سألني مراسل "الواشنطن بوست" ما هي النصيحة التي تقدمها للرئيس بوش، فقلت له: إنني أريد له في كل يوم أن يحدق في تمثال الحرية، ليعرف وليتذكر أن الشعوب تحب الحرية ولا تريد أحداً يخنق حريتها تحت أي عنوان، كما يحب الشعب الأميركي حريته.

* في هذه الصورة، هل تعتقدون أن محاولة أميركا لفرض "خارطة الطريق" وإقامة دولة فلسطينية يساعد في تحسين الصورة الأميركية؟

ـ إنني أتصور أن أميركا قد تفكر بذلك، وربما يفكر الرئيس بوش بأن يقدم ذلك للناخبين بأنه استطاع أن يحل المشكلة المزمنة، والتي ربما تترك تأثيرها على اليهود وعلى المنطقة، ولكنني أتصور أنه من الصعب أن ينجح بوش في تنفيذ "خارطة الطريق"، لأنه رسم الخارطة ولكنه لم يحدّد نهاية الطريق. ربما تؤدي الخارطة إلى طريق مسدود بفعل اللعبة الإسرائيلية، والتي تحاول أن تلعب لعبة الضغط على الرئيس بوش من خلال استغراقه في الأمن الإسرائيلي وفي صداقته "لرجل السلام" شارون، كما كان يقول بوش.

مع أن شارون الليكودي بخصوصيته الذاتية وخصوصية حزبه، لا يريد دولة فلسطينية، ولذلك فإنه ينتظر الانتخابات الأميركية ليغلق ملف هذه الخارطة ويبدأ الرئيس الجديد بحث مسألة الصراع العربي الإسرائيلي الجديد.

الجنوب اللبناني

* هل أنتم خائفون على الوضع في الجنوب ولبنان؟

ـ لا خوف على الجنوب، لأن الجنوب قد أخذ دوره، ولا خوف على لبنان لأنه أخذ دوره، ولكن تبقى هناك بعض التهاويل وبعض الاستفزازات.

نشرت في جريدة المستقبل اللبنانية  الخميس 24/ج1/1424هـ
الموافق في 24 تموز - يوليو 2003م العدد رقم1355 .


يجذبك في العلاّمة السيد محمد حسين فضل الله لا صلة له بتلك الابتسامة التي تفتح من دون استئذان باب قلبك له، ولا ينحصر بذاك التشابه الكبير بينه وبين السنبلة التي بقدر ما يتكاثر قمحها يتعمّق تواضعها، بل قدرته النادرة على التوفيق بين عنفوان المبادئ الصارخ بهمس، وبين الحكمة السالبة للاهتمام.لا ينتمي السيد إلى تلك الفئة التي تشدّك إليها أحداث طارئة أو مفاصل استثنائية، بحيث تدرك فوراً ما تريد منه فتسعى للحصول عليه وترحل خائباً أو منتصراً، بل هو من تلك النخبة التي تحتضن الحدث في ذاتها، فتحار من أين تبدأ كلامك معه، حتى إذا حانت لحظة النهاية تشعر أنه فاتك الكثير الكثير.في حضرته يجتاحك الحنين إلى عصور عشتها "أكاديمياً"، فتستذكر سقراط وتلميذه أفلاطون وأرسطو وديكارت وباسكال وروحانية فولتير الثائرة على الإلحاد المتدثّر تديّنا،ً وعلى ابن رشد الذي نوّرت كتبه ظلام أوروبا بعدما هجرها ظلاميو الشرق.
مع هذا الرجل تبحث في هموم لبنان من دون أن تعلق في زواريب الشِطرنج السياسي، وتقرأ المستقبل على حجارة الدومينو التي تقف معاً وتتهاوى معاً، وتجول في سوريا وفلسطين وسائر العرب من دون أن تتهيّب المواجهة الفكرية مع "القطب الأوحد".
ولدى ذاك العلامة قدرة متفوقة على النقد بلا تهديم، وعلى المصارحة من دون تجريح، وعلى التوصيف من دون مبالغة، وعلى المخاصمة من دون نسف الجسور.
وهنا يكمن الحدث كل الحدث، في اللقاء بين السيد محمد حسين فضل الله و"المستقبل". فماذا يقول عن لبنان والدولة فيه والمقامات الدينية وعن العلاقة بسوريا وعن النظرة إلى الولايات المتحدة وعن دوره شخصياً في عراق العصر الأميركي؟
التداعي في نظرة اللبنانيين إلى دولتهم يجد مبرراته في دأب القائمين على شؤون الدولة بشخصنة أجهزتها وربطها بخصوصياتهم الشخصية أو الطائفية، ويكمن خطر ذلك في أن الشخصانية تمنع أي عمل جبار، لأن ذلك يفترض أن تكون المواطنية أساساً للحقوق والواجبات.

مشكلة لبنان، وفق رؤيته الخاصة، تكمن في أن تركيبة هذا البلد، على الرغم مما فيها من إيجابيات، لا تسمح بأن يكون هناك وطن مستقر، لأن لبنان لم يؤسَّس ليكون وطناً، بل ليكون حاجةً للغرب في الشرق، ونافذة للشرق على الغرب، فهو ليس مجرد وطن، بل معادلة سياسية يراد من خلالها تجربة كل الاتجاهات الموجودة في المنطقة. وينبّه إلى أنه يراد للبنان أن يكون القاعدة للمخابرات الدولية والإقليمية، وخطر ذلك ليس في أن المخابرات موجودة فقط لجمع المعلومات، ولكنها تعمل لصنع الوقائع.

يبدي ثورة على تقديس غير المقدس في الشرق، ويجزم بأنه من حق الناس أن ينتقدوا الموقع الديني إذا انفتح على القضايا العامة، لأنه في هذه الحالة هو موقع بشري يخطئ ويصيب، ويرى أن هناك استلاباً للناس باسم خدمتهم، لأنك عندما تتحدث عن قضايا الناس، فيجب أن تحترمهم بقبول نقدهم.

متيقِّن هو من توافر الوحدة الوطنية في هذا البلد، فهي متجسدة على مستوى الإنسان العادي، فالشعب حاور بعضه بعضاً وأخذ النتائج، في وقت يتحدث البعض من أبراجهم العاجية عن شروط الحوار ومن يحاور من.

ولا يستسيغ هذا الإطناب في مديح ما انتهى إليه المجمع الماروني الأخير، لأن مواقفه بديهية، "نحن نقدِّر أي طرح شمولي في البلد، ونقدّر أي انفتاح واقعي على القضايا العامة، ولكن علينا ألا نمنّن الناس بذلك".

الكلام على الوجود السوري في لبنان ليس من المحرمات، ولكن يجب مقاربة هذا الموضوع بما هو حاصل حول لبنان وليس انطلاقاً من تفكير بالمطلق، وهو يدعو إلى دراسة هذا الوجود ميدانياً لمعرفة دوره في ضمان الأمن في البلاد وعدم الاكتفاء بالافتراضات، فالتعقيدات الواقعية هي الأساس.

سوريا لا تفكر، وفق وجهة نظره، بالبقاء في لبنان، لأن ذلك يحمّلها عبئاً ثقيلاً ويخلق لها مشاكل، ويعتقد أن هذه المسألة، كما مسألة المقاومة، مرتبطة بأزمة الشرق الأوسط، فمتى حلّت تنتهي كل التعقيدات.

وإذ يعرب عن اعتقاده أن واشنطن سترفض خروج سوريا من لبنان، يبدي خشيته من أن تكون الخلفيات الكامنة وراء الأسلوب الحاد في التعاطي لبنانياً مع الوجود السوري تحركها عقدة معينة، ويدعو إلى تغيير الواقع بأدوات الواقع.

لا يتوجَّس فضل الله من الوضع في الجنوب على مستقبل لبنان، "لأن الجنوب أخذ دوره وكذلك لبنان، ولكن تبقى هناك بعض التهاويل وبعض الاستفزازات".

لا مشكلة مع الولايات المتحدة الأميركية متى تغيّرت الإدارة الأميركية لتنفتح على الشعوب ـ هكذا يقول ـ بعد أن يؤكد أن نظرته إلى أميركا تمليها صورة فلسطين ومواقع المستضعفين في العالم.

يرى، وهو من دخل بمؤسساته في الآونة الأخيرة إلى العراق، أن الشيعة هناك لا يؤيدون الاحتلال، ولكنهم يعتبرون أن المقاومة المسلحة بحاجة إلى برنامج أو إلى تخطيط وإلى امتداد إقليمي يرفدها ويساعدها ويعاونها وإلى ظروف واقعية.

كلام السيّد، سيّد الكلام... وهذه وقائع الحديث معه:

أريد للنظام الطائفي أن يبقي لبنان في حالة اهتزاز يمكن أن ينفذ إليه الآخرون

لا خوف على الجنوب ولبنان، فهما أخذا دوريهما 

* يقال إن اللبناني ما عاد يؤمن بوجود دولة، وينظر إلى كل ما يحصل بشك أو باستسلام، فهل لذلك مبررات حقيقية؟

ـ لا تخلو هذه الصورة من تسطيح للقضايا، لأن مسألة أن تكون هناك دولة هي مسألة أن يكون هناك كيان ينظّم شؤون الناس ويعمل على أساس توفير خدماتهم وضروراتهم، وهذا أمر موجود في لبنان، لكن أن يكون هذا الكيان القانوني صالحاً أو غير صالح، فهذا أمر واقعي، إن عدم الصلاح لأي جهاز أو كيان لا يعني إبعاده عن الواقع، ولكنه يمثل مشكلة في الواقع، لهذا أن نتحدث عن عدم وجود دولة بالمطلق فهذا أمر غير دقيق.

* لكن ماذا عن شعور الناس السلبي تجاه الدولة؟

ـ الدولة موجودة، لكن الناس تشعر بذلك لأن القائمين على شؤون الدولة "شخصنوا" أجهزة الدولة وربطوها بخصوصياتهم الشخصانية أو الطائفية أو غير ذلك، ولهذا فإن الناس عادة لا تنظر إلى الدولة من خلال إداراتها، ولكن من خلال القائمين عليها، ولذا بدأت فكرة "أن لبنان مزرعة وليس دولة"، لأن هناك من يستغل الدولة، وهذه هي المشكلة في هذا الموضوع. وإنني أتصور أن جانباً من المشكلة في هذا الواقع ربما يمتد إلى أكثر الواقع العربي والعالم الثالث، وهو مسألة تطييف الدولة. وإذا أردنا أن نتحدث عن لبنان، فإنني أعتقد أن النظام الطائفي هو سر الأسرار في هذه المشكلة، لأن النظام الطائفي جعل الناس ترتبط بطوائفها أكثر مما ترتبط بوطنها. وقد أدى ذلك إلى أن يتحرك الناس على أساس أن يكون لكل طائفة رمز يأخذ الكثير من "تقديس الناس" ـ إذا صحّ التعبير ـ بحيث يعتبرون الإساءة إليه إساءة إلى الطائفة، ويرون أنه حتى لو أخطأ ـ وهم ينتقدون خطأه ـ فإن ذلك لا يبرر أن يكسر أو يحبس أو يحاسب وما إلى ذلك.

إن هذا الاستغراق في الشخصيات الطائفية أدى إلى شخصنة الوطن، ولذلك فإننا نلاحظ أن الذين يسمون رموز الطائفة يحرسون الفساد الإداري وينتجونه في بعض الحالات، ويحرسون اللصوص والمنحرفين، على أساس أن هذا محسوب على فلان وهذا محسوب على آخر. ونحن نعرف أنه ليس هناك أية شخصية في لبنان على المستويات الطائفية المتقدمة أو على ما يتبعها من مواقع، يمكن أن تحاسبه الدولة، لأن الحساب فقط للأشخاص الفقراء والبسطاء الذين لا سند لهم ـ حسب التعبير الشعبي ـ هذا بالإضافة إلى وجود بعض المداخلات الإقليمية التي تحمي شخصاً هنا وشخصاً هناك. إن المسألة هي أن التركيبة اللبنانية بالرغم مما فيها من إيجابيات، هي تركيبة لا تسمح بأن يكون هناك وطن مستقر وأن تكون هناك دولة لبنانية.

تقديس غير المقدس

* عندما يأتي إليك الناس يحاولون البحث عن حل أو بداية حل لهذه المشكلة العميقة، فهل ترى أن هناك مخرجاً؟

ـ إنني أشك في واقعية الحل، لسبب بسيط، هو أن لبنان في القاعدة التي تأسس عليها كوطن لم يؤسس ليكون وطناً للبنانيين، بل أسِّس ليكون حاجة للغرب في الشرق ونافذة للشرق على الغرب. إن لبنان ليس مجرد وطن كباقي الأوطان في المنطقة، بل هو معادلة سياسية يراد من خلالها تجربة كل الاتجاهات الموجودة في المنطقة. ومن هنا فإن حروب لبنان تمثل مدرسة للآخرين، فالحروب بين المسيحيين والمسلمين كانت مدرسة للمسيحيين في المنطقة، ومدرسة لإنتاج التعصب الإسلامي ـ المسيحي فيها.

وهكذا عندما حدثت الحرب بين الفلسطينيين وبين فريق من الشيعة، فإن ذلك أدى لإنتاج حالة سلبية بين السنّة والشيعة في المنطقة، وهذا ما لاحظناه في ردود الفعل التي كانت تتحدث عن وجود صراع سنّي ـ شيعي، وأن الشيعة يهجمون على السنّة، ولم يتحدث عن طبيعة هذه الحرب السياسية ومفرداتها التفصيلية. وهكذا نجد أن لبنان يراد له أن يكون القاعدة للمخابرات الدولية والإقليمية، ونحن نعتقد أن المخابرات ليست موظفة فقط لجمع المعلومات، ولكنها تعمل لصنع الوقائع.

إن هناك فرقاً بين أن تنقد الدين أو تنقد الموقع الديني كموقع ديني، وبين أن تنقد الموقع الديني الذي ينفتح على القضية السياسية.

وهكذا أريد للنظام الطائفي أن يبقي لبنان في حالة اهتزاز يمكن أن ينفذ إليه الآخرون، لأن الذهنية الطائفية، وليس الدينية ـ لأن الطائفة ليست ديناً ـ تجعل هناك شخصانية للطائفة تفصلها عن الطوائف الأخرى، مناطقياً وسياسياً وما إلى ذلك، بحيث تتحرك المجالس الطائفية من أجل دراسة خصوصيات الطائفة ولو على حساب لبنان. لأن المسألة هي أن المجالس الطائفية تحوّلت إلى ما يشبه "الولايات غير المتحدة"، وهذا ما نلاحظه في غياب النقد الموضوعي البنّاء للمواقع الطائفية الكبرى، سواء على المستوى الديني أو على المستوى السياسي، فإن الجميع قد توافقوا على إعطاء الكلمات الفضفاضة لهذا الموقع الديني الرسمي أو لذاك الموقع الديني الرسمي، من دون أن يجرؤ أحد على نقده كموقع ينفتح على القضايا العامة، ومن حق الناس أن ينقدوه.

إن هناك فرقاً بين أن تنقد الدين أو تنقد الموقع الديني كموقع ديني، وبين أن تنقد الموقع الديني الذي ينفتح على القضية السياسية.

حتى إننا نتصور أن هذا النوع من التقديس للمواقع الدينية هو أمر يمثل خطأً وخطراً، لأن هذه المواقع الدينية هي مواقع بشرية تخطئ وتصيب، حتى إن من حق الناس أن ينتقدوا فهم هذه المواقع للدين وخطوطها السياسية.

هناك في لبنان استلاب للناس باسم خدمة الناس، لأنك عندما تتحدث عن قضايا الناس فيجب أن تحترم الناس بأن تقبل نقدهم لك، وأن يخاطبوك كشخصية عامة، لا أن تكون الهالة الدينية مانعة للناس عن أن تتحدث معك بعيداً عن النقد وعن المساءلة وما إلى ذلك، وهذه مشكلتنا في الشرق من أننا نقدس غير المقدس

الأبراج العاجية تحاول دائماً أن تبقي هيمنتها على الناس الموجودين في القاعدة أو على الأرض

* في ظل "تقديس غير المقدس"، ألا ترون الحاجة إلى إعادة البحث في مكوّنات البلد من "الميليشيات أثناء الحرب"، إلى "المقاومة والصراع مع إسرائيل"، و"المزرعة قبل الحرب"، و"المسيحيون بعد نفي أو سجن زعمائهم"، و"أمراء الحرب"، وصولاً إلى المكوّنات الإسلامية ودور المرجعيات السياسية؟

ـ إن هذه المكوّنات، ولا سيما في مواقعها السياسية، تحتاج للمراجعة، لأن الإنسان هو الذي يحرك هذه المكوّنات وينتجها أو يسقطها. إنني أتصور أن هذه المكوّنات بتعقيداتها الطائفية أو الشخصانية، أو من خلال الخلفيات السياسية في داخل البلد أو خارجه، تمنع أي عمل جبار للمراجعة، لأن العمل الجبار يفرض أن تكون المواطنة أساس الحقوق والواجبات.

وأستطيع أن أقول إن الأغلبية، إذا لم يكن كل المواطنين، ليسوا مستعدين لذلك، لأن الثقافة الطائفية التي دخلت إلى العقول والقلوب تمنع هذه الجهة أو تلك من أن تتنازل عن خصوصياتها لحساب الوطن كله أو حساب الناس كلهم. ولهذا أدمن الناس هذا الواقع حتى وهم يرجمونه بحجارة النقد وما أشبه ذلك. إن القضية ليست قضية ما هو الحل، بل القضية هي البحث عن الإنسان في الوطن، الإنسان الذي يقود الواقع .

إن هناك ضوضاء سياسية تتحرك من خلال التصريحات والخطابات في المجلس النيابي، أو من خلال بعض الأوضاع في مجلس الوزراء وما إلى ذلك، هناك ضوضاء في هذه الأجواء، ولكننا عندما ندرس المسألة، فإننا نجد أنه ليس هناك جدية للحل؛ عندما تستمع إلى جلسات الاستجواب أو جلسات طرح الثقة وتسمع ما تسمع من فضائح، تجد أن ذلك ينتهي بإعطاء الثقة، وعندما تلاحظ هنا وهناك أن المؤسسات الكبرى في لبنان التي يُفرض أن تكون مستقلة ومفصولة بعضها عن بعض، تجد أن التسويات بين القائمين على هذه المؤسسة أو تلك المؤسسة تحاول أن تجعل هناك تداخلاً بين المؤسستين لحساب رمز هنا ورمز هناك، وهذا ما نلاحظه في المؤسسات الدستورية المختلفة، والجميع أصبحوا يعرفون أن "الكبار" حسب التعبير السياسي إذا اتفقوا فإن البلد يرتاح، وإذا اختلفوا فإن البلد يعيش حالة طوارئ.

إن الدولة لا يمكن أن تضعف أو تهتز أو تسقط لمجرد أن مسؤولاً هنا يختلف مع مسؤول هناك، وهذا ما نلاحظه في أميركا أو بريطانيا أو أية دولة أخرى. لذلك إنني أعتقد أن الشخصانية هي أخطر من الطائفية، وهي الأساس في منع إيجاد الحل باسم أنهم يريدون إيجاد الحل.

الحوار والأبراج العاجية

* انطلاقاً من الكلام الذي أشرتم إليه، هل تشعرون أن الوحدة الوطنية في خطر؟

ـ إني أتصور أن هناك وحدة وطنية على مستوى الإنسان العادي، ودليلنا على ذلك أن المناطق المختلطة تتعايش مع بعضها البعض بشكل طبيعي جداً، سواء على المستوى التجاري أو الزراعي أو حتى على المستويات التربوية والثقافية والرياضية. إن الناس لا تشكو من فقدان الوفاق الوطني أو الوحدة الوطنية، ربما نجد بعض الحساسيات هنا وهناك، ولكنها لا تصل إلى مرحلة الخطورة، بحيث إنها تفصل الناس بعضهم عن بعض. إننا نلاحظ أن الناس في كل لبنان، الذين يختلفون سياسياً وطائفياً ومناطقياً، يلتقون مع بعضهم البعض في الأفراح والأتراح وفي القضايا الكبرى. لقد كنت أقول في اطار الحديث عن "الحوار الإسلامي ـ المسيحي" في لبنان، إن الشعب حاور بعضه بعضاً وأخذ النتائج، في الوقت الذي يوجد البعض في الأبراج العاجية وهم يتحدثون عن شروط الحوار ومن يحاور من؟ وإن الشعب اللبناني عاش الوفاق الوطني وهناك من يتحدث عن أسس الوفاق الوطني وما إلى ذلك. إن مشكلة بعض الناس أنهم يستغرقون في غرائزهم ولا ينفتحون على قضايا الناس، ولهذا فإننا عندما نواجه أي حدث انتخابي، سواء على مستوى البلديات أو الانتخابات النيابية، فإننا نجد أن الأصوات التي ترتفع، حتى من بعض عقلاء السياسة، تعمل على إثارة غرائز الشباب لا إثارة عقولهم، سواء في الطائفة الواحدة أو بين الطوائف المتعددة. القضية هي أن الأبراج العاجية تحاول دائماً أن تبقي على هيمنتها على الناس الموجودين في القاعدة أو على الأرض، لأنهم "البقرة الحلوب" سياسياً وأمنياً.

لا نريد أن نلغي الطوائف ولكننا نريد أن نلغي هذه الزنازين التي تحبس الطوائف نفسها فيها

المجمع الماروني

* "المجمع الماروني" عمد إلى إجراء مراجعة نقدية على الصعد السياسية والثقافية، ونجح في مواجهة بعض أجواء الشكوى والإحباط. فلماذا لا نلحظ مثل هذه التجربة على المستوى الإسلامي، وكيف تنظرون إلى ردود الفعل على نتائج "المجمع"؟

ـ لقد وصلنا في لبنان إلى مستوى من الانحدار بحيث إن أي فريق طائفي يطرح أموراً وفاقية أو انفتاحاً على البلد كله أو على المنطقة يعتبر حدثاً كبيراً لا بد لنا من أن نحيطه بكل الأهازيج والكلمات الفضفاضة وما إلى ذلك. إن مسألة أي فريق في أي بلد، من ناحية واقعية، هي أن ينفتح المواطنون على بعضهم البعض، لأن هذا الانفتاح شرط نمو البلد وشرط تطوره واستقراره. كما أن من الطبيعي جداً أن ينفتح البلد على كل المنطقة الذي هو جزء منها، لأنه لا يستطيع أن ينعزل عنها من أي جانب من الجوانب، حتى في مورد الاختلاف السياسي وما إلى ذلك. لهذا فإن هذه الجوقة السياسية اللبنانية تحاول دائماً أن ترفع الصوت بالكثير من المديح والتبجيل والنفاق السياسي لأي كلمة تصدر من فريق مسلم يتحدث عن الحوار، أو فريق مسيحي يتحدث عن المواطنية والانفتاح على المنطقة، مع أن هذا أمر بسيط جداً على مستوى واقع الإنسان المواطن الذي يحترم نفسه ووطنه في العالم. ولذلك فإنني أتصور أنّ المسألة ليست أن يكون هناك "مجمع ماروني" أو "مجمع إسلامي" أو شيعي أو سني أو كاثوليكي.. المسألة هو هذا السؤال: هل نحن مقتنعون الاقتناع الرسالي بأن هناك بلداً واحداً لا بد لكل فريق أن يقدم بعض التنازلات من خصوصياته لمصلحته الوطن؟ هل نحن نحلق في الفضاء بحيث لا يحيطنا إلا الفراغ من هنا وهناك لنعزل عن المنطقة؟ إنني اتصور أن مسألة إيجاد مواقع طائفية، حتى لو انفتحت على بعض القضايا العامة، تبقي لبنان على مشاكله. إننا لا نريد أن نلغي الطوائف فهي واقع موجود في لبنان وفي العالم. ولكننا نريد أن نلغي هذه الزنازين التي تحبس الطوائف نفسها فيها لتفصلها عن الآخرين. لذلك نحن نقدِّر أي طرح شمولي في البلد أو في المنطقة، ونقدِّر أي انفتاح واقعي على القضايا العامة، ولكن علينا أن لا نمنن الناس بذلك، وعلى الناس أن لا يشعروا أن هناك حدثا غير عادي في هذا الطرح أو ذاك، لأنه شيء طبيعي جداً، ولا بد أن يتحرك بعفوية في حياة الناس.

إنني أدعو إلى السياسة الواقعية، ولا أقصد بالواقعية الاستسلام للأمر الواقع، بل أن نغير الواقع بأدوات الواقع.

إعادة الانتشار السوري

* شهدنا مؤخراً خطوة جديدة على صعيد الانتشار العسكري السوري في لبنان، كيف تنظرون إلى هذه الخطوة في ضوء التطورات الدولية والإقليمية والداخلية؟

ـ لقد طرحت منذ زمن طويل في نقاط هذا الجدل حول الوجود السوري في لبنان، أن ينطلق اللبنانيون ليدرسوا بدقة مسألة هذا الوجود، هل هناك بحسب الخصوصيات اللبنانية والرياح الموسمية التي تتحرك في لبنان بين وقت وآخر، هل هناك ضمانة للامن في لبنان في غياب الوجود السوري؟ إنني لا أعطي رأياً في هذا المجال، لكنني أقول لندرس القضية دراسة ميدانية، لا حسب الافتراضات، ولكن حسب التعقيدات الواقعية الموجودة في لبنان مقارنة بما حول لبنان، وألا نفكر في المطلق.

ولذلك هناك من يناقش في مسألة التدخل السوري في السياسة اللبنانية أو الأمنية، هذا الأمر قابل للمناقشة، لكن المسألة الأساس هي علاقة الوجود السوري بالأمن اللبناني. وهل يمكن أن يكون هناك انفصال بين الأمن اللبناني والأمن السوري بحسب الظروف الحاضرة أو في المرحلة المقبلة. لذلك إنني أتصور أنه من غير الطبيعي جداً أن يبقى الجيش السوري في لبنان، حتى إن سوريا لا تفكر في ذلك، لأن ذلك يحمِّلها عبئاً ثقيلاً ويخلق لها مشاكل، لأنه قد يفتح هناك أكثر من ثغرة على المستويات المحلية والعربية والدولية، وهذا ما لاحظناه بالنسبة إلى أميركا.

ولذلك فإن الانسحابات السورية أو إعادة الانتشار هو أمر جد طبيعي بالنسبة إلى السياسة السورية في المرحلة الحاضرة، ولكنني لاحظت في بعض تصريحات وزير الخارجية الأميركي قبل يومين، بأنه يطلق المسألة على مستوى التمنيات بأن يأتي اليوم الذي ينسحب فيه السوريون من لبنان، ما يدل على أن المسألة ليست ملحة جدا على صعيد السياسة الأميركية، بالرغم من كل التهاويل التي تثيرها أميركا حول الوجود السوري.

لذلك أعتقد أنه ليس من الطبيعي أن نخلق عقدة بين لبنان وسوريا، سواء في دائرة طائفية أو عاطفية. إنني أخشى أن تكون خلفيات هذا الأسلوب الحادّ في مواجهة الوجود السوري عقدةً تتحرك، ربما في أذهان الكثيرين، سواء كانت مرتبطة بالتعقيدات الخارجية أو الداخلية.

إنني أدعو إلى السياسة الواقعية، ولا أقصد بالواقعية الاستسلام للأمر الواقع، بل أن نغير الواقع بأدوات الواقع.

إنني أعتقد أن سوريا سوف تنسحب من لبنان حفاظاً على أمنها وسياستها وعلى مواقعها، وهي دولة براغماتية تعرف كيف تلاحق الواقع وكيف تتجاوز مواقع الخطر في الواقع. ولكن المسألة هي القضايا المرتبطة بأكثر من جانب سياسي في المنطقة. إن مسألة الوجود السوري في لبنان، كما أن مسألة المقاومة في لبنان، ليست مرتبطة بأحداث مرحلية حاضرة، بل هي مرتبطة بأزمة الشرق الأوسط، وعندما تحل أزمة الشرق الأوسط تنتهي كل هذه التعقيدات.

إنني أتصوّر الوجود الأميركي الطويل في العراق سوف يخلق هناك مشكلة للأميركيين

* إذا حصل الانسحاب السوري في إطار "كباش" سوري ـ أميركي، هل هناك ما يخشى منه؟

ـ إنني أتصوّر أن أميركا سوف تمنع سوريا من أن تنسحب، لأن الوجود السوري في لبنان لم يكن وجوداً سورياً بالمعنى الوطني، بل كان مسألة عربية ودولية، حتى لا يخرّب لبنان الكثير من توازنات السياسة في المنطقة. إن سوريا لا تزال حاجة أميركية دولية، لأنها البلد العربي الوحيد القادر على ضبط التوازنات بدون إثارة المشكلة.

* حتى في العراق؟

ـ وحتى في العراق، لأن سوريا أساساً تعرف من خلال تجربتها ـ ولا أدّعي العصمة لها، ولكن هذه هي مجريات الأحداث ـ تعرف كيف تتجاوز المناطق الحادة بطريقة تحفظ لها أكثر من ماء الوجه.

المقاومة ليست شعاراً يرتفع في الهواء، ولكنها خطة وبرنامج وقيادة

اللامقاومة الشيعية في العراق

* على الصعيد العراقي، دعوتم دائماً إلى مقاومة الاحتلال الأميركي ورفض هذا الاحتلال، لكننا نلاحظ أن المقاومة لا تزال محدودة ومحصورة في مناطق معينة، فما هي الأسباب؟

ـ إن الاحتلال من حيث المبدأ، لاسيما إذا كان ينتقل من خطأ إلى خطأ، يجتذب المقاومة، مع ملاحظة أخرى، وهي أن المقاومة البارزة في العراق الآن لا يستطيع الإنسان أن ينسبها إلى فريق واحد، حتى لو أثيرت المسألة تحت عنوان "فدائيي صدام" أو "بقايا النظام" أو "فلول البعث". إن هناك حالة إسلامية بدأت تتنامى على مستوى حركة المقاومة المسلحة أو على مستوى المقاومة السلمية نتيجة الظروف، ولعل أميركا بدأت تفهم أن هذه المقاومة التي كانت لا تمثل شيئاً منظماً، بدأت تتحوّل إلى حالة تنظيمية تتوزع الأدوار.

لذلك فإنني أتصوّر أن الأسلوب الأميركي الجديد بالاستنجاد بدول العالم، وفي محاولة إعطاء "دور مائع" للأمم المتحدة، هذا الأسلوب ينطلق من إحساس أميركا بالخطر في تحوّل العراق إلى رمال متحركة على "الطريقة الفيتنامية"، مع بعض الفوارق الموضوعية هنا وهناك. لذلك فإنني أتصور أن المرحلة الآن هي مرحلة الإرباك لأميركا، وهذا هو الذي يفسر تحوّل أميركا بمشاريعها السلطوية أو الإدارية من طرح إلى طرح إلى أن رسا الطرح على "مجلس الحكم الانتقالي" الذي اعتبر "مجلس حكم" بدل أن يكون "مجلس مستشارين". لكنني أتصوّر أن هذه المسألة قد لا تلقى نجاحاً كبيراً، لأن "مجلس الحكم الانتقالي" لا يملك آلية ذاتية عراقية مستقلة تستطيع أن تنفذ برنامجه أو أن تقوّي الحكومة التي يعينها بطريقة مستقلة، ولا بد للأميركيين أن يكونوا في كل الدوائر والوزارات والحكومات، ما قد يخلق الكثير من الحساسيات والمشاكل، لاسيما إذا عرفنا أن الأميركيين يتحدثون عن وجود لمدة خمس سنوات.

إنني أتصوّر أن هذا الوجود الأميركي الطويل، والذي يتمظهر بأكثر من مظهر من خلال العناوين السياسية التي يثيرها المسؤولون الأميركيون بين وقت وآخر، إن هذا الواقع سوف يخلق هناك مشكلة للأميركيين لا نستطيع تحديد حجمها، وخصوصاً أن هناك وضعاً إقليمياً يحيط بالعراق لا يستطيع إلا أن يتدخّل في العراق حفاظاً على أمنه الوطني.

* لماذا هناك من يردّد أن الشيعة في العراق لا يريدون المقاومة، بل هم يسعون لتعزيز دورهم في السلطة وفي الحكم وفي الدولة، ولكل حادث حديث فيما بعد؟

ـ عندما ندرس المسألة بدقة على الصعيد الشيعي، فإن القضية هي أن الشيعة لا يزالون تحت تأثير كل تلك الوحشية التي مارسها النظام السابق ضدهم، والتي تتمثل بالمقابر الجماعية، والتي لا ندّعي أنها فقط مقابر شيعية، فهناك مقابر كردية أو سنّية. لكن المسألة هي أن الشيعة عانوا كثيراً ولا يزالون تحت تأثير هذه المعاناة.

وربما يفكر البعض منهم أن هناك احتمالاً أن يعود صدام حسين للحكم مجدداً، لأنه لا يزال حياً ولا يزال يدّعي قيادة المقاومة.

لذلك فإن الشيعة بحسب الأصوات التي ترتفع من هذا الفريق أو ذاك الفريق، لا يؤيدون الاحتلال، ولكنهم يعتبرون أن المقاومة المسلحة بحاجة إلى برنامج أو إلى تخطيط وإلى امتداد إقليمي يرفدها ويساعدها ويعاونها، وإلى ظروف واقعية موجودة في داخل البلد، وربما لا يجد الكثيرون منهم أن هناك فرصة للمقاومة المسلحة في الوقت الحاضر، لأن المقاومة ليست شعاراً يرتفع في الهواء، ولكنها خطة وبرنامج وقيادة وما إلى ذلك.

في تصوري أنه ليس هناك طموح شيعي في العراق يعمل على أن يسيطر على العراق بشكل ساحق، بل إن كل طموح الشيعة في العراق وفي أكثر من بلد عربي يعيشون فيه مع السنّة أو مع الفئات الأخرى ، هو أن يحصلوا على حقوقهم المواطنية والانسانية ليكونوا مواطنين كبقية المواطنين. إن كل حديث عن أن الشيعة يطمحون إلى وجود خاص بهم منفصل عن المواطنين الآخرين، هو حديث إعلامي يخضع لألغام سياسية معينة يحاول أن يضع في الطريق ألغاماً سياسية، وهناك سبب بسيط جداً، فالشيعة يعرفون أنه ليست هناك أية واقعية لأن يكونوا الحاكمين وحدهم في العراق أو في أي بلد آخر، لأنهم يعيشون ـ إذا أردنا أن نستخدم العناوين الطائفية ـ في بحر إسلامي سني، وإنني أتصور أن الدعوة إلى الوحدة الإسلامية عند الشيعة قد تكون أقوى من الدعوة إلى الوحدة الإسلامية عند السنّة، لأنها تعتبر ضرورة وجودية وضرورة إسلامية وسياسية بالنسبة إليهم.

فضل الله "العراقي"

* لقد أشرتم سابقاً إلى إمكانية العودة إلى النجف والتحرك من داخل العراق، أين أصبح هذا المشروع؟ وكيف تتواصلون مع أبناء العراق وقواه السياسية والدينية؟

ـ إن هناك قنوات عدة للتواصل شبه اليومي في هذا المجال، وهناك مراكز ثقافية فتحت في أكثر من منطقة ومدينة في العراق، وهناك تواصل مع بعض الجهات السياسية والإسلامية، وحتى على مستوى الوحدة الاسلامية، فالعلاقات موجودة مع السنّة والشيعة ومع العلماء السنّة في الموصل وبغداد، وهم يتعاونون مع علماء من الشيعة. إننا نعمل من أجل العراق كله ومن أجل الإسلام كله ولا نبحث عن أي موقع.

* هل أنتم خائفون على مستقبل العراق؟

ـ لست خائفاً بما لهذه الكلمة من معنى، لأن الشعب العراقي شعب أصيل في وحدته الوطنية، على الرغم من كل الحساسيات التي تثار بين وقت وآخر، ولهذا لم نجد في التاريخ العراقي أي حرب سنّية ـ شيعية. نحن لا ننكر وجود بعض الحساسيات نتيجة التعددية، حتى إن هناك بعض الحساسيات داخل السنّة وداخل الشيعة.

لكن ليست هناك خطورة حتى الآن، وليس هناك في المستقبل المنظور أية فرصة واقعية لحرب طائفية على مستوى السنّة أو الشيعة ونحن لا نستطيع أن نجزم بذلك بشكل مطلق ونتحدث عن الغيب.

* من خلال الحوزة العلمية التي تشرفون عليها في مقام السيدة زينب في سوريا والإحاطة الشيعية العربية بمرجعيتكم، يبدو أن لكم "هالة" ما داخل اللعبة العراقية على المستوى الشيعي، وهذا الدور جعل البعض يتلمس اهتماماً أميركياً بارزاً بمرجعيتكم والسعي للاتصال بكم. فأين أنتم من هذا الواقع؟

ـ بالنسبة لي ولعلاقتي بالعراق، فأنا عراقي المولد والنشأة والثقافة، لقد عشت نصف عمري في العراق، وحتى إنني لم أبتعد عن العراق على الصعيد الفكري والسياسي والحركة الإسلامية، وحتى الحركات غير الإسلامية التي كانت تتصل بي بين وقت وآخر لتأخذ الرأي وأتحاور معها. لذلك لم أبتعد عن العراق حتى الآن في أي موقع من المواقع، ولذلك فإن علاقتي بالعراق هي علاقة عضوية ولم تقتصر على الشيعة بل تمتد إلى السنّة، ولا تقتصر على الإسلاميين بل تمتد إلى العلمانيين.

إن المراكز الثقافية التي فتحناها في العراق، وهي تتضمن كتبي وأشرطة التسجيل والفيديو، تلاقي إقبالاً لدى الجامعيين العراقيين، كما تلاقي إقبالاً لدى الآخرين. هذا من جهة، وأما من الجهة الثانية، فإنني في المسألة الأميركية أنطلق من قاعدة إسلامية انسانية على مستوى الاستراتيجية، وهي معارضة أميركا في كل سياساتها، لا من خلال العقدة من أميركا، لأنني لا أتحدث عن الإدارة الأميركية، فإنني أرى صورة أميركا في فلسطين وصورة أميركا في الكثير من مواقع المستضعفين في العالم، وأرى صورة أميركا في إرباكها لكل العالم العربي والإسلامي، وأرى صورة أميركا في المواقع الرسمية الموظفة لدى مخابراتها في أكثر من بلد عربي لحراسة مصالحها وامتيازاتها وما إلى ذلك.

لذلك نحن نعرف أن أميركا تمثل وجوداً كبيراً جداً على مستوى العالم، ولكننا في الوقت نفسه، نؤمن بأن علينا أن نرفع الصوت عالياً لمواجهة الاستكبار الأميركي والاستكبار العالمي، لأن مسؤوليتنا عن الإنسان كله من خلال مسؤوليتنا عن القيم الإسلامية تفرض علينا ذلك، وعندما تتغير الإدارة الأميركية لتنفتح على الشعوب فليست هناك أية مشكلة مع أميركا.

لقد سألني مراسل "الواشنطن بوست" ما هي النصيحة التي تقدمها للرئيس بوش، فقلت له: إنني أريد له في كل يوم أن يحدق في تمثال الحرية، ليعرف وليتذكر أن الشعوب تحب الحرية ولا تريد أحداً يخنق حريتها تحت أي عنوان، كما يحب الشعب الأميركي حريته.

* في هذه الصورة، هل تعتقدون أن محاولة أميركا لفرض "خارطة الطريق" وإقامة دولة فلسطينية يساعد في تحسين الصورة الأميركية؟

ـ إنني أتصور أن أميركا قد تفكر بذلك، وربما يفكر الرئيس بوش بأن يقدم ذلك للناخبين بأنه استطاع أن يحل المشكلة المزمنة، والتي ربما تترك تأثيرها على اليهود وعلى المنطقة، ولكنني أتصور أنه من الصعب أن ينجح بوش في تنفيذ "خارطة الطريق"، لأنه رسم الخارطة ولكنه لم يحدّد نهاية الطريق. ربما تؤدي الخارطة إلى طريق مسدود بفعل اللعبة الإسرائيلية، والتي تحاول أن تلعب لعبة الضغط على الرئيس بوش من خلال استغراقه في الأمن الإسرائيلي وفي صداقته "لرجل السلام" شارون، كما كان يقول بوش.

مع أن شارون الليكودي بخصوصيته الذاتية وخصوصية حزبه، لا يريد دولة فلسطينية، ولذلك فإنه ينتظر الانتخابات الأميركية ليغلق ملف هذه الخارطة ويبدأ الرئيس الجديد بحث مسألة الصراع العربي الإسرائيلي الجديد.

الجنوب اللبناني

* هل أنتم خائفون على الوضع في الجنوب ولبنان؟

ـ لا خوف على الجنوب، لأن الجنوب قد أخذ دوره، ولا خوف على لبنان لأنه أخذ دوره، ولكن تبقى هناك بعض التهاويل وبعض الاستفزازات.

نشرت في جريدة المستقبل اللبنانية  الخميس 24/ج1/1424هـ
الموافق في 24 تموز - يوليو 2003م العدد رقم1355 .

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية