أجرت قناة L.B.C الفضائية اللبنانية مقابلة مع سماحة العلاّمة المرجع السيد محمد حسين فضل الله، ضمن برنامج "كلام الناس" الذي يعدّه ويقدّمه مارسيل غانم، وتناولت التداعيات الداخلية والإقليمية والدولية، للاحتلال الأميريكي للعراق، وسبل مواجهتها.
تاريخ: 21 صفر 1424هـ/24 - 4 - 2003م
* بدايةً، سماحة السيد، كنتم من أوّل الذين توقّعوا هذه الحرب على العراق، اليوم وقد وقعت الحرب وهذه التداعيات لهذه الحرب... صيغة الحكم لعراق المستقبل، كيف تتوقّعون أن تكون، وهل تتغيّر كثيراً عمّا كانت عليه قبيل الحرب؟
ـ لا يزال الحكم ومستقبل العراق السياسي ضبابياً، لأن هناك أكثر من جهة تخطط له، وفي مقدّمتها أمريكا، التي اعتبرت أن لها الحق في التخطيط لعراق المستقبل الذي تريد أن تسيطر عليه اقتصادياً وسياسياً وربما ثقافياً، بما ينسجم مع تطلعها إلى وحدانية القطب في العالم، وبالرغم من أنها تتحدّث عن أنها سوف تعطي العراقيين الحرية في اختيار ممثّليهم وحكومتهم، نتساءل: كيف يمكن لأي شعب ممارسة حرّيته في ظل هذه الهيمنة العسكرية التي تسيطر على كلّ مفاصل العراق وتواجه الفرد العراقي بما يشعر فيه بالإحباط والسقوط...
بين حرية الكلام وحرية تقرير المصير:
* مقاطعاً: لقد مارس الشيعة حرّيتهم في كربلاء؟
ـ لذلك نحن نقول إنّ هناك فرقاً بين أن تكون لك حرية الكلام وبين أن يكون لك حرية تقرير المصير...
إنّنا قد نواجه مسألة حرية الكلام التي تحاول أمريكا أن تمنن بها على الشعب العراقي، ولكن السؤال: هل يملك الشعب العراقي تحت الاحتلال الأمريكي حريته في تقرير مصيره؟ كيف نفسّر أن تنصب أمريكا جنرالاً أكثر صهيونيةً من الصهاينة أنفسهم لإدارة الوضع المدني في العراق ولتأسيس حكومة عراقية كما عبّر هو عن ذلك؟ كيف يمكن لحكومة عراقية أن تعمل بحرية في وقت تتضمن كلّ وزارة فيها مستشاراً أمريكياً؟ إنني لا أفهم هذه الحرية في هذا المجال... ثم لماذا تتعامل أمريكا مع العرب باعتبارهم سذّجاً يتقبلون الكلمات المعسولة في الوقت الذي لا تقبل فيه إسرائيل إلا المواقف الحقيقية التي تخذم سياستها؟! إنهم يحاولون أن يقدموا أنفسهم كجمعية خيرية تتحدث كما يتحدث الرئيس بوش بآيات الإنجيل وتتحدّث عن حقوق الإنسان والحريات والديمقراطيات... حتى أصبح من بديهيات السياسة عند كلّ من يحلّل السياسة في العالم، أن أمريكا هاجمت العراق لا لإسقاط النظام كهدف إستراتيجي لمصلحة الشعب العراقي أو لأسلحة الدمار الشامل... ولكن لأن ذلك كان جزءاً من تخطيطها السياسي للمنطقة، وربما يمتدّ إلى أكثر من مكان في العالم ... لذلك قصّة أن أمريكا أعطت الشعب العراقي الحرية كذبة أمريكية تضاف إلى كلّ قاموس الكذب الذي لا نزال نتابعه في السياسة الأمريكية في أكثر من مكان في العالم ولا سيما في فلسطين...
تعددية في الاراء:
* عفواً سماحة السيد، كلامكم بشأن الحريات التي يعد الأمريكيون العراقيين بها ... فعملياً الأميركيون استخدموا واستعملوا بعض الشيعة العراقيين للوصول إلى أهدافهم، وهولاء الشيعة لم يخجلوا عملياً من أنهم أداة لهذه السلطة الأمريكية؟
ـ إن هناك مسألة لا بدّ من أن نواجهها، وهي أن الشيعة في العراق هم جزء من الشعب العراقي، والشعب العراقي جزء من العالم العربي والإسلامي، ولذلك فإن مسألة أن يتعاون ويتحاور فريق شيعي أو غير شيعي مع أمريكا ليس معناه أن هذا هو موقف الشيعة، لأن هناك من يخالف هؤلاء مع احترام رأيهم في هذا المجال... ولعلّ أفضل دليل على ذلك هو أن المنطقة الشيعية ولا نريد التفريق بين مناطق العراق على أساس مذهبي ولكن المنطقة العراقية في الجنوب وقفت بكلّ قوة أمام الاحتلال الأمريكي البريطاني، حيث إنها فاجأت الأمريكيين الذين كانوا يراهنون على الشيعة الذين قالوا عنهم إنهم سيستقبلونهم بالورود...
هناك تعدّدية في الاراء عند الشيعة كما عند الشعوب الأخرى، ونحن قد نحترم بعض هذه الاراء ونناقشها، ولكن المسألة أن أية جهة لا تستطيع أن تمثل كلّ الناس.
ديمقراطية الكلام:
* هناك نقطتان أشرتم ـ سماحتكم ـ لهما وهما: مسألة الأنظمة والمخطط الأمريكي الاستراتيجي لبقية الأنظمة ومسألة الديمقراطية الأمريكية... برأيكم، هل تقبل أمريكا بديمقراطية على الطريقة الغربية في العراق؟ واستطراداً، ما الذي يقبله السيد محمد حسين فضل الله ويرفضه في الديمقراطية الغربية؟
ـ أمّا الجواب عن السؤال الأوّل،فإنّ أمريكا، كما الكثير من الذين يملكون القرار الحاسم في مجلس الأمن، والذين يخططون تبعاً لنفوذهم وسياستهم ومصالحهم الاقتصادية، لا يمكن أن يقبلوا بديمقراطية على الطريقة الغربية، لأن هذه المسألة تجعل الشعب حراً في مواجهة كل المصالح التي يفرضها الاخرون عليه، ما يتنافى مع مصالح هذا المستعمر أو ذاك... ولهذا لاحظنا أن كلّ الدول التي مارست الاستعمار في المنطقة، وحتى أمريكا التي تدخلت في أكثر من دولة، كانت تمنح بعض الشعوب ديمقراطية على السطح ما أدّى إلى انتخاب المجالس النيابية والرؤساء التي تبلغ نسبة نجاحهم 99،99%، وهؤلاء هم أكثر حلفاء أمريكا في العالم . إن أمريكا تريد إعطاء ديمقراطية الكلام ولكنها لا تعطي ديمقراطية التغيير، ولا سيما إذا كان التغيير يتحدّى الكثير من مصالحها الاستغلالية الإحتكارية.
* يعني في حسابات الترويج السياسي فقط؟
ـ إن تجربتنا ودراستنا لتركيبة النظام الأمريكي في نظرته للشعوب، وخصوصاً هذه الإدارة الأمريكية، ولا سيما عندما نلاحظ موقفها من إسرائيل مقارناً بموقفها من الفلسطينيين والعالم العربي، تجعلنا نعرف أن أمريكا ليست جادة في إعطاء الشعوب حرياتها في تقرير المصير ،فهي تلتزم الدفاع عن اقتصادها وسياستها وأمنها، وهي لم تقدّم أي شاهد في كل حركتها في العالم على أنها ساهمت في تجذير هذه الديمقراطية في البلدان التي تدخلت فيها عسكرياً أو سياسياً... أما بالنسبة للديمقراطية ـ كما طرحتم في السؤال الثاني ـ فنحن نعرف أن الديمقراطية تعني أن الأكثرية هي التي تحدّد الشرعية... في الإسلام كدين هناك ثوابت كأي دين من الأديان في عالم التشريع..
* مقاطعاً: ما هي هذه الثوابت؟
ـ هناك ثوابت العبادات، وثوابت متعلّقة بالأحوال الشخصية ، والمتعلقة ببعض المعاملات .. ولكن وجود الثوابت لا يعني التجمد عندها، لأن هناك مجالاً للاجتهاد بحسب ما تتحمله طبيعة النصوص والظروف المحيطة بها وبالواقع... ولكن نحن نقول إنه عندما تكون المسألة مسألة متعلّقة بالواقع السياسي للشعب واختيار ممثّليه أو باختيار السياسة، فإننا نؤمن بالاستفتاء الشعبي، ولكن مع الضوابط المراعية لطبيعة الفكر الذي يمثّله هذا الشعب في البلد، وهو الفكر الإسلامي في البلاد الإسلامية...
أوروبا المنافسة:
* كنتم تتحدّثون عن المخطط الاستراتيجي للعالم، والذي بدأت أمريكا تعمل له انطلاقاً من العراق، من تقصدون بهذه الأمكنة الأخرى والأنظمه، فأي المناطق والأنظمة مستهدفة في العالم اليوم؟
ـ في البداية على المستوى الاستراتيجي العالمي، إن المستهدف هو الاتحاد الأوروبي.
* لماذا؟
ـ الإمكانات الأوروبية مضافة إلى التخطيط زائد الجهد البشري الكمي والنوعي، سيجعل أوروبا خلال وقت قصر في موازاة أميركا، فعندما تعيش أوروبا نموّها الطبيعي حسب تخطيطها ،فإن الاتحاد الأوروبي قد يتحول إلى قطب ثانٍ في العالم، حيث لا تستطيع أمريكا فرض نفسها قطباً وحيداً على العالم إزاءه، لأنه قد يكون قطباً متكافئاً ويمثل قوّة مستقلة... ثمّ هناك روسيا التي لا تزال تفكر بالعنفوان الامبراطوري الذي كانت تعيش به، وهي تخطط للمستقبل لأن ترمّم علاقتها بالمنطقة، وأن تجعل اقتصادها اقتصاداً قوياً وموقعها السياسي مؤثراً، ثم هناك الصين هذا العملاق المارد الذي يمكن أن يتطور بعد عشرين سنة إلى أن يصبح قوّة هائلة على المستوى العددي والعلمي والتكنولوجي والعسكري.
إنّ أمريكا تحاول من خلال سيطرتها على نفط المنطقة أن تسيطر على نفط العالم ذلك لأن القرن الماضي كان قرن النفط الأمريكي وأمريكا تريد استكماله الان... وقد يقول بعض الناس إن أمريكا تريد النفظ، فليست المسألة هي أن أمريكا تأخذ حاجتها أو أكثر من حاجتها من النفط... ولكن أمريكا تريد أن تتحكم في قرار توزيع النفط، ولذلك فإنها تستطيع إذا أمسكت بنفط العالم أو بالسيطرة على مقدرات الذين يملكون النفط، أن تضغط على أوروبا وعلى الصين مستقبلاً وحتى على روسيا، لأن نفطها سوف لن يساوي شيئاً، وهذا ما يفسر موقف فرنسا وروسيا وألمانيا والصين من أمريكا في مجلس الأمن، حيث هزموا أمريكا سياسياً ودبلوماسياً حتى لو انتصرت بعد ذلك عسكرياً. إن هذا يعطينا مؤشراً مهماً في هذا المجال والمقام... ثم هناك العالم العربي والإسلامي، أو بعض العالم الإسلامي، الذي صرّح وزير الخارجية الأمريكي أنه يريد إعادة تشكيله بأي طريقة، ونحن لا نتصور أنها طريقة التقسيم، لأنه ليس هناك أي ظروف مؤاتية للتقسيم الان، ولكن هناك الكثير مما تريد أمريكا القيام به، كتجفيف منابع "الإرهاب"، باعتبار أن كثيراً من الدول العربية ولا سيما دول الخليج تختزن في داخلها مصدر الكثير من الحركات الإسلامية ولا سيما ابن لادن.
الأنظمة والخارج:
* الديكتاتورية القائمة في العالم العربي، هل هي مستعصية إلى حدّ لا يمكن إزاحتها إلا بالاستعانة بالخارج سماحة السيد؟
ـ ليست المسألة بهذه الدقة، إن الشعوب العربية قادرة على إسقاط الأنظمة الديكتاتورية...
* مقاطعاً: الشعوب العربية قادرة؟
ـ أعطيكم فكرة حول هذا الموضوع، ودليل ذلك أن الشعب العراقي بعد انتهاء حرب الكويت قام بانتفاضة شعبية عفوية جعلت النظام لا يملك إلا القليل القليل، ولكن التدخل الأمريكي هو الذي أجهض هذه الانتفاضة... وأنا أعرف حجم السجن الكبير الذي تعيش فيه الشعوب العربية، ولكن المسألة هي أن الشعوب لو تحركت من تلقاء نفسها ولم تضغط عليها الدول الكبرى التي توظّف هؤلاء الذين يشرفون على الأنظمة لحراسة مصالحها، هذه الشعوب قادرة على ذلك، ولكن الشعوب محاصرة من الداخل لحساب الخارج ومحاصرة من الخارج لحساب مصالحه في هذا المجال...
لو تركت الشعوب الإسلامية والعربية، كما لو أن أمريكا تركت الشعب العراقي في انتفاضته سنة 1991، لسقط النظام العراقي، وأنا أملك معلومات، أنّ أمريكا بمخابراتها كانت تعطي النظام العراقي المعلومات لما كانت تخطط له المعارصة في داخل العراق لاغتياله أو القيام بانتفاضة عليه... فالمخابرات الأمريكية كانت تحرس صدّام حسين عندما كان حاجةً لها.. فهو حارب إيران بالوكالة عن أمريكا، وحارب وغزا الكويت بضوء أصفر يختلط فيه الأخضر من أمريكا، ولذلك نجد أنّ السفيرة الأمريكية غلاسبي، والتي قالت للعراقيين قبل الاجتياح هذه أمور داخلية بينكم كعرب ولا نتدخل، ووضعت خطاً أحمر على السعودية ولم تضع خطاً أحمر على الكويت ، نجد أن أمريكا كانت منذ الثمانينات تشرعن وتحاول أن تشرعن قواعدها العسكرية في الخليج وكان احتلال الكويت الذي أعقب حرب الخليج الثانية مدعاة تصفيق لأمريكا جعل الخليجيين يتصورون أن أمريكا هي المنقذ. صحيح أنها أنقذت الكويت من صدام الذي وظفته لاحتلال الكويت، ولكنها ربحت أيضاً كلّ القواعد العسكرية التي كانت تريدها في الخليج.
* لا أريد أن أسطّح الأمور، ولكن سماحة السيد، هناك بعض من يتحدّث اليوم عن دور أمريكي معيّن في إخراج صدّام حسين من بغداد وتهريبه إلى الخارج؟
ـ لا أتصور وجود إثبات على هذا الادعاء.
* تحدثتم عن التغيير بواسطة الشعوب من الداخل، ولكن من يقود هذه الشعوب، أليست على سبيل المثال الحركات الأصولية الإسلامية البديل عن الأنظمة؟
ـ إنني أتصوّر أنه ليس هناك أيّ حركة معيّنة، سواء كانت أصولية أو قومية أو وطنية، تملك الاستمرار على مستوى القضاء والقدر، بل إن مسألة نموّ الحركات الإسلامية القومية الوطنية يخضع للظروف الموضوعية التي تحيط بهذا البلد أو ذاك البلد، ولهذا ليس من الضروري دائماً أن تكون المسألة مسألة الأصولية بالطريقة التي يتحدث العالم بها الان... نحنُ نلاحظ مثلاً أنّه في الانقلاب المصري الذي قام به الضباط الأحرار، وفي مقدّمهم جمال عبد الناصر، انطلق على أساس الثورة، وكانت الثورة أو الحركة وطنية في البداية، ثم تحولت إلى قومية، ثم امتدّت امتداداً واسعاً في العالم العربي، لأن الظروف الموضوعية للعالم العربي انذاك وللخطة المحيطة بسياسة العالم العربي كانت تفرض أن يفسح في المجال لهذه الفكرة، وهكذا نجد في أكثر من موقع من المواقع، أنه ليس من الضروري أن تكون هناك أصولية... ثم إن كلمة الأصولية صارت من الكلمات الضبابية، فنحن نقول إننا لسنا أصوليين بمعنى مصادرة الاخر وعدم الاعتراف به أو اعتبار العنف هو وسيلة التغيير، ولكننا أصوليون بانتمائنا للإسلام ونهج رسول الله(ص).
مقابلة العلاّمة المرجع السيد فضل الله مع قناة L.B.C بتاريخ 22 صفر 1424هـ / 24-4-2003م
عودة الى الملف الرئيسي
العودة إلى النجف:
* سؤال مركزي لدينا: مرجعية الشيعة من قم إلى النجف، وهل سيعود محمد حسين فضل الله إلى النجف وهل استعراض القوى الشيعية في كربلاء رسالة وباتجاه مَنْ؟ هل ستعودون إلى النجف؟
ـ إنني أحبّ العودة إلى النجف في أي وقت، لأنها مسقط رأسي وملاعب طفولتي وحركية شبابي، وهي التي عشت في داخلها ونواديها وحوزاتها كلّ عناصر شخصيتي، ولكن ليس لديَّ مخطط الان للعودة بالرغم من أن كثيراً من الأصدقاء والمقلّدين يلحُّون عليَّ في ذلك، ولكني قلت إني أتابع الظروف الموضوعية، ولكن لا يمكن لي العودة والعراق تحت الهيمنة الأمريكية..
* إذاً قد يكون عليكم الانتظار طويلاً سماحة السيد؟
ـ لي ثقة بالشعب العراقي أنه سيجعل بقاء المحتل في العراق صعباً ومزعجاً.
* إذاً قد تتكرّر مشهديّة المقاومة الشيعية كما في جنوب لبنان في جنوب العراق؟
ـ أنا لا أتصور أن المسألة هي مسألة المقاومة الشيعية بخصوصيتها الطائفية، وإن كان هذا التاريخ الدامي الذي عاش فيه الشيعة في أجيالهم الظلام قد عمَّق الإحساس بالظلم، بحيث جعل لديهم حساسية ضد كل ظلم وظالم في الداخل والخارج، ولكن أتصور أن الشعب العراقي بشكل عام هو شعب لا يطيق الاحتلال، وهذا ما لاحظناه زمن الاحتلال البريطاني، حيث إن الشعب العراقي انطلق بأكثر من تجربة حتى أجبر الاستعمار البريطاني على الخروج.
موقع المرجعية:
* وأنتم تتحدثون حالياً عن نيّتكم البقاء حالياً في لبنان، كأنكم توحون أن المرجعية ليست فقط في النجف، فقد تكون في قم وفي النجف وفي لبنان ، هل هذا صحيح؟!
ـ أساساً، عندما ندرس المرجعية في تاريخها، نجد أنها لا تملك موقعاً رسمياً لإقامة المرجعية، بل إن الموقع يتبع المرجع ولذلك نجدُ أن هناك مرجعيات في أكثر من بلدٍ، حتى في العراق، فقد كانت الحلة موقعاً للمرجعية كما كانت النجف، وكانت في قم بطريقة غير واسعة، وحتى في مناطق إيران كأصفهان وغيرها كانت هناك حوزات علمية ربّما يبرز فيها مرجع معين، وحتى في لبنان كان المرحوم السيد محسن الأمين مرجع تقليد، وهو لبناني من الجنوب وسكن في دمشق... أتصور أن مسألة المرجعية في الواقع الإسلامي الشيعي لا تملك موقعاً محدداً، ولكن ربما تملك بعض المواقع، ميزة خاصة، مثل النجف الأشرف الذي يمتد إلى التاريخ البعيد، فالنجف بجامعتها العلمية، أي الحوزة، تمتد إلى أحد عشر قرناً، ففيها قبر أمير المؤمنين علي(ع) الذي يمثل القيمة العليا لدى المسلمين.. ولهذا فإنها كانت المركز الذي يجتذب الطلاب الشيعة الذين يتخصصون بالفقه من سائر أنحاء العالم نتيجة قداستها في الموقع الجغرافي ولامتدادها العلمي وغناها العلمي والأدبي ، حتى إن الناس من إيران كانوا يأتون إلى النجف، وأغلب مراجع النجف كانوا من إيران، ولكنّ هذا النظام هجّر أكثر الطلاب والعلماء حين مجيئه، فكان من الطبيعي أن يبحث الناس عن مرجعية يمارسونها بحرية، ويمارسون فيها الحرية.
* الان عادت الأمور إلى موقعها الطبيعي سماحة السيد؟
ـ إنني أعتقد أن النجف سوف تزدهر، ولكن ذلك لا يمنع بقاء قم في موقع متقدّم.
* مقاطعاً: وبقاء لبنان كذلك؟
ـ وكذلك في لبنان وفي أي موقع يمكن أن ينطلق فيه شخص يتميز بالكفاءة.
* هناك سؤال أرجو قبوله برحابة صدركم كما عوّدتمونا سماحة السيد: هناك من يعتبر أن القائد الأعلى للجمهورية الإسلامية الإيرانية هو أيضاً الزعيم الروحي للشيعة في العالم، هل هذا صحيح؟
ـ في تصوري أن هناك نقطة تفصيلية، وهي أن نظرية ولاية الفقيه بحسب بعدها الفقهي لدى الذين يؤمنون بها، من ناحية فقهية، تعتبر الفقيه ولياً للمسلمين، ولذا فإن من ألقاب الولي الفقيه، ولي أمور المسلمين، باعتبار أن طبيعة موقعه، على حسب المعطيات الفقهية تفرض على المسلمين أن يأخذوا بولايته، ولكن نظرية ولاية الفقيه هي من النظريات الفقهية المختلف فيها، فهناك من لا يرى أن للفقيه ولاية عامة تتصل بالحكم والسياسة وغيره... بل يرى أن الفقيه يمارس مسألة الفتوى وبعض الأمور المتعلقة بالحاجات الإنسانية الطبيعية ممّا يسمى بالأمور الحسبيّة، ولذلك فليس هناك إجماع في الفقه الشيعي على ولاية الفقيه العامة، بل يعتبر أي شخص فقيه روحياً للشيعة بالمعنى الواقعي.
* تحدثتم في بداية هذه الحلقة عن استبعاد ذهابكم إلى النجف، ولكن مجلة "الشراع" تقول إنه نظراً لوجود فراغ قيادي على مستوى التيار الصدري وعلى المستوى العراقي بشكل عام ، يشكل السيد محمد حسين فضل الله مرجعية سياسية إلى جانب مرجعيته الدينية فهل....؟
ـ إنني أعتقد أن طبيعة الأوضاع في العراق مع تعدّد الأطياف في المرجعية أو في الواقع المرتبك سياسياً حتى الان مع وجود الاحتلال الأجنبي للعراق، لا يسمح بأي دور بهذا المستوى الذي تتحدث عنه المجلة؟!
* ما هو الدور الذي يمكن لرجال الدين الشيعة القيام به؟ هل يتوجب عليهم البقاء بحوزاتهم والاكتفاء بأداء دورهم الديني، أم أن عليهم اتباع التقليد الذي أرساه الإمام الخميني في إيران وتبني زمام العمل السياسي؟
ـ في مدى تاريخ المرجعيات الشيعية أو فقهاء الشيعة هناك بالنظر إلى هذا الموضوع نظريتان النظرية التقليدية التي تقول ان دور المرجع هو أن يقوم بإعطاء الفتاوى وتنظيم الأمور الدينية للشيعة بشكل أو بآخر، وهذا هو الدور الرسمي إذا صح التعبير، أي أن يقوم بإعطاء الفتاوى وتنظيم الأمور.
وهناك اتجاه اخر أو دائرة أخرى لبعض الأشخاص، كالإمام الخميني ومن قبله أيضاً السيد محمد باقر الصدر الذي كان يتحرك نحو المرجعية التي تتداخل فيها قضايا السياسة والدين... فالمسألة التقليدية التي تطبع الواقع الشيعي في العالم هي مسألة المرجعية التقليدية الرسمية، والتي قد تأخذ في بعض الحالات ببعض الأمور السياسية التي ربّما ترى أنّ من واجبها أن تقوم بها ولواستثنائياً، ولكن الصنف الثاني من المراجع ربّما يدرسون الظروف الموضوعية التي تجعلهم يتحولون إلى قيادات سياسية، وربما يتحولون إلى قيادات رسمية على مستوى الدولة .
المرجعية المؤسسة:
* سماحة السيد ، ما هو المطلوب من المرجعية الشيعية في النجف لتكون على مستوى التحدي الراهن؟
ـ إنّ المطلوب من المرجعية، سواء في النجف أو غير النجف، أمام التطورات الثقافية والسياسية والأمنيةوالاجتماعية في العالم، أن ترتفع إلى مستوى تحديات العصر..
* كيف؟
ـ أن تتصدى المرجعية من موقع ثقافتها الإسلامية لدورٍ قيادي، بحيث تتطلّع إلى واقع الإنسان المعاصر الذي تعمل على أن تقوده في كلّ تطلعاته الثقافية والسياسية والاجتماعية...
* مقاطعاً: وسط كل هذه التناقضات والوحول الداخلية في العراق سماحة السيد؟
ـ أنا لا أتحدث عن خصوصية، بل عن طبيعة دور المرجعية كما أتصوره، وأن تخرج المرجعية من الدور الشخصي إلى الدور المؤسسي..
* كيف تخرج؟
ـ حيث يكون المرجع منتخباً من المجتهدين والفقهاء، وتنشأ مؤسسة تقدم لهذا المرجع دراسات واقتراحات وقرارات وتوصيات، لأن طبيعة التطور الذي وصل إليه الإنسان المعاصر تفرض هذا البعد العالمي، لا سيما أن الإسلام وحركة التشيع في داخل الإسلام لم تكن في هذا المدى الواسع في العالم، ولم تكن التطورات قد دخلت إلى العالم الإسلامي، التطورات الثقافية والسياسية، ونحن نتصور أن المرجعية لا ينبغي أن تبقى شخصاً واحداً..
* ولكن هذا سيثير جدلاً سماحة السيد؟
ـ من الطبيعي أنني أطلقت هذا المشروع وسميناه المرجعية المؤسسة قبل أكثر من عشر سنوات وأثار إشكالات، ولا نزال نعمل على اثارة النقاش حولها، لأن الفكرة إنما تنفتح وتتطوّر وتأخذ مكانها عندما يكثر الصراخ حولها وتدخل في دائرة الصراع.
* في حديثكم عن هذا الصراع، طبعاً تتحدثون عن صراع يتعلق باجتهادات معينة في ما يتعلق بالعمل المؤسساتي للمرجعية كما تتحدثون، ولكن الواقع على الأرض اليوم أن هناك تناقضات في الصف الشيعي في العراق، خصوصاً التناقضات الفعلية التي يحكى عنها، فما هي حقيقتها؟ وما هو الدور الذي تلعبه ـ سماحتكم ـ إزاء هذه التناقضات؟ هل ستستخدمون سلطتكم المعنوية على سبيل المثال؟
ـ إنني أتصور أن الإعلام مع كل الاحترام ولا أتحدث عن إعلام عربي أو غيره، الإعلام في العالم أعطى القضية ضخامة .
* أية قضية، هل هي قضية الشيعة في العراق؟
ـ ما حصل في النجف، أو قضية التناقضات الشيعية أو قضية زيارة الأربعين، أعطاها الإعلام بعداً أكثر من الواقع بكثير... فما حدث في النجف في قضية اغتيال السيد عبد المجيد الخوئي هي مسألة اختلط فيها الحابل بالنابل، وكانت تتحرك في دائرة الغوغاء التي انطلقت بطريقة غرائزية، وربما لم يكن هو المستهدف كما يُؤكد الكثيرون...
* ولكن قد يكون استعجل في المجيء باكراً إلى النجف؟
ـ هذه جهة أخرى، فنحن لسنا في مقام تقويم المسألة وما حدث، القضية انتهت في وقتها وإن تركت اثاراً مأساوية ..
* ولكن قضية السيد السيستاني؟
ـ إن قضية السيد السيستاني لم تأخد بعداً كبيراً، لأن الناس الذين كانوا موضع اتهام شعروا أن الموقف ليس معهم، وهم لا يملكون القيام بأي شيء، ولهذا انتهت في اليوم الثاني..
وكنت من أوائل المصدرين لبيان الاحتجاج عليهم، وأعتقد أن الذين انطلقوا للدفاع انطلقوا من أجل حماية المرجعية وقائياً...
أما مسألة التناقضات ،فإنني لا أتصور أن هناك تناقضات بالمعنى الواسع، إن الشيعة كالعراقيين الآخرين يملكون تنظيمات متعددة، إسلامية وعلمانية ووطنية وما بين إسلامية وعلمانية.. فما يحدث هو ما يحدث في كل شعب من الشعوب في هذا المجال، وليس الشيعة بدعاً في هذا الموضوع، فإن السنة أيضاً يملكون التناقضات كهذه، فهناك الإسلاميون والقوميون والشيوعيون والديمقراطيون.. ليست هناك تناقضات بالمعنى الذي يذكره الإعلام... وإنني أخشى أن تكون هناك خطة، لا أستطيع أن أحدد إن كانت أمريكية أم غير أمريكية، ممّن يصطادون في الماء العكر في الخارج، تعمل على أساس تضخيم دور الشيعة، وتصويرهم كمشكلة في العراق من أجل ما يأتي عندما يُراد للعراق أن يأخذ صيغة محددة في النظام.
إنني أُبصر وراء كلّ هذه الضجة الإعلامية التي تتحرك في المجال الإعلامي، أنها قد تحمل في خلفياتها بُعداً سياسياً يتعلق بالخطة المتصلة بتنظيم العراق، والصورة الأخيرة، التي ستستقر عليها الدولة، لأن هناك من يتحدث عن أن الشيعة سوف يحكمون العراق باعتبارهم الأكثرية وأن هناك دولاً عربية لا تقبل بذلك...
* فلنكن صريحين سماحة السيد: هل من مصلحة عربية ليحكم الشيعة العراق اليوم؟ واستطراداً، لماذا توقيت كلام من مرجعيات شيعية داخل السعودية حول استفادة معينة مما حصل مع الشيعة في العراق ليستفيد منه شيعة السعودية؟
ـ أولاً لم يفكر شيعة العراق منذ التاريخ وحتى الان، بأن يسيطروا على الشعب العراقي ليكونوا هم الدولة ويكون الاخرون هم الأتباع لهم... فالشيعة في العراق منذُ كانوا وحتى الان يريدون عراقاً يتساوى فيه المواطنون، ويأخذ الشيعة والأكراد والتركمان والسنة حقوقهم في العراق ليتحملوا واجباتهم في الوطن، وقد صرّح أكثر الشخصيات الشيعية السياسية والدينية بأننا لا نوافق على تقسيم العراق وبأن يكون هناك دولة شيعية في الجنوب، حتى إن الفدرالية عندما طرحت لدى المعارضة كانت تنظر إلى المسألة الكردية ولم تنظر إلى المسألة الشيعية والسنية في هذا المجال...
* ولكن إذا سنحت لهم الفرصة؟
ـ هناك فرق بين أن تسنح لهم الفرصة على أساس ديمقراطي، فلو فرضت أن العراق مثلاً لا يحمل تقسيماً لنظام طائفي كلبنان، بل كانت شخصية المواطن العراقي هي التي تحدد له حقوقه وواجباته، وأوصلت شيعياً أو سنياً إلى الحكم... فليست المسألة مسألة من يصل إلى رئاسة الجمهورية أو الحكومة، بل من يعطي الشعب حقوقه؟! فالشيعة في كل المجالات، سواء في العراق أو في لبنان أو السعودية أو البحرين أو في كل مكان، يشتكون من التمييز المذهبي والتمييز في الحقوق والواجبات، ولذلك فإنهم يقولون إننا ندعو إلى أن نكون مواطنين كبقية المواطنين لنا حقوقهم وعلينا واجباتهم.
* إذاً أنتم مع كلام الصفّار من السعودية؟
ـ من الطبيعي جداً أن نكون مع كلّ صوتٍ يدعو إلى العدل، ونحن نعتقد أنّ الإسلام قائم على أساس العدل، والدين يقوم على العدل، سواء كان إسلاماً أو مسيحية، فإنه يرتكز على العدل.
* أليس من المخجل الاستفادة من الاحتلال الأميركي للعراق حتى ينطلق البعض للمناداة بذلك؟ وأعتذر عن بعض الكلمات .
ـ طبعاً، أنا لا أريد التعليق على تصريحات الاخرين كما هي عادتي، ولكنَّ هناك فرقاً بين أن يتحدث إنسان في المناخ العام الذي يُتَحدث فيه عن الحقوق وإعادة الحقوق لأصحابها، وبين أن يقول أعيدوا لنا حقوقنا في الوقت الذين يرفض فيه الاحتلال في كل مكان.
توقعات في غير محلها:
* سماحة السيد، هناك الكثير من التوقعات أن الأمريكيين سيعتمدون على الشيعة في المرحلة المقبلة ضمن سياسة "فرق تسدْ"، هذا ما قاله في محاضرة له السفير الأمريكي السابق في إسرائيل مارتن أنديك، إنّنا سنحكم العراق ضمن سياسة فرّق تسد، كيف يمكن للشيعة أن يكونوا أداة لممارسة نوع من الضغط على السنّة والأكراد وباقي المجموعات في العراق؟
ـ إنني لا أتصور أنّ هناك أساساً عميقاً في علاقة الشيعة بالسنة وعلاقة السنة بالشيعة، يمكن أن يُستند إليه، لتحويل هذه العلاقة إلى فتنة، لأن تاريخ العراق في تنوعاته المذهبية، كما في نزعاته العرقية، لم يشهد حرباً أهلية، لا سيما على المستوى السني والشيعي، بل كانت مسألة الوحدة الإسلامية في بعدها السياسي الشعار المطروح على عقلاء الشيعة والسنة وعلمائهم... نحن لا ننكر أن هناك حساسيات لا بدّ أن تحدث أمام أي تنوع من تنوعات أي شعب، ولكنها لم تصل إلى حد الفتنة، وأكاد أقول لن تصل في العراق إلى فتنة سنية شيعية، وسيفشل هؤلاء الذين قالوا بأنهم سوف يعملون على أساس الفتنة بين السنة والشيعة، من الممكن حدوث بعض النـزاعات الحزبية أو السياسية، ولكنها لن تصل إلى مستوى ما يتمناه المراهنون على الفتنة، خاصة إذا لم تحصل ظروف ساحقة تحول المسألة إلى مستوى المجزرة والفوضى، كما حدث في أثناء حكم عبد الكريم قاسم، عندما حدثت المجازر في العراق وكان المتهم فيها هم الشيوعيون بطريقة وبأخرى، لأن طبيعة الظروف السياسية والخارجية حينها، ومعها بعض الظروف الداخلية وبعض الأخطاء التي قامت بها بعض الأحزاب فرضت هذا التطور المأساوي.
أما في غير هذا التاريخ وهذه المرحلة، فإني في كل المرحلة التي عشتها أو قرأتها، لا أجد فرصة لأية ظروف كالتي عاشها لبنان على الأقل. من الصعب جداً أن يتلبنن العراق...
* لماذا سماحة السيد؟ ولماذا يختلف الشعب العراقي عن غيره من الشعوب، وعن الشعب اللبناني، أو الطوائف اللبنانية؟
ـ هناك كلمة كنت أرددها منذ عشرين سنة وهي أن لبنان لم يصنع ليكون وطناً لبنيه، إنما صنع ليكون رئة تتنفس فيها مشاكل المنطقة، وليكون هو المحرقة التي يقدم فيها اللبنانيون كحطب بحسب غرائزهم الطائفية، ولا أقول إن اللبنانيين بأجمعهم قد خضعوا لذلك ولكن النظام الطائفي اللبناني أسس لذلك ولا أقول تعدّد الطوائف، هناك فرق بين التعدد الطائفي الذي يحمل في داخله تعدداً في النظرة الروحية والبعد الثقافي والانفتاح على العالم الذي قد لا يملكه شعب آخر من الشعوب العربية وبين النظام الطائفي الذي جعل كلّ طائفة دولة مستقلة وجعلنا ولايات غير متحدة، لأن الولايات المتحدة تخضع لدولة الاتحاد، ونحن نلاحظ أن دولة الاتحاد طائفة من نفس الطوائف، وهي نوع من أنواع التجميع المشوَّه للتنوع الطائفي.
إن النظام الطائفي هو الأساس من خلال الثغرات التي ينفذ منها الاخرون على هذا الأساس، فالعراق عاش في كل تاريخه الحكم الوطني.
* يعني لا تتوقعون سماحة السيد أن يستغل الأمريكيون ويعمدوا إلى إحداث فتن طائفية، أو إثنية بين المجموعات العراقية؟
ـ حسب المعطيات التي بين يدي ولا أتحدث عن الغيب ولا أتحدث عن المطلق إن ما بين يدي من المعطيات تقول بأن من الصعب جداً إيجاد فتنة سنية شيعية في العراق.
* في الحج الماضي قلتم إن العراق سوف يحتل من الأمريكيين، وإن المعارضة التي تسير معهم، وخاصة الإسلامية، لن تحصل على شيء... كيف تنظرون اليوم للشيعة المتضامنين مع الأمريكيين في المرحلة المقبلة وحتى إلى بقية العراقيين المتعاملين مع أمريكا؟
ـ الذين يتعاملون مع الأمريكيين يقولون نحن نتحاور ونتباحث في الأمر العراقي، وقد يناقشهم البعض في ذلك... ونحن نتصور أن هناك عقدة لدى الأمريكيين تتعلق بسياسة المنطقة وبالسياسة الإيرانية بالذات، وهي أنهم لا يشجعون أي فريق يعتبرونه صديقاً أو حليفاً أو تابعاً لإيران، ولذلك فإنني لا أزال أرى أنه من الصعب جداً أن يفسح الأمريكيون "أصحاب الأمر" للجهات التي ربما تملك علاقات معينة بالسياسة الإيرانية بلعب دور رئيس في العراق، وفي تصوري أنه عندما يملك الشعب العراقي أمره بيده فإنه يملك حرية الاختيار ليدرس من هو الأصلح والأكثر ضمانةً لتطوره وعزه وحريته واستقلاله.
مقابلة العلاّمة المرجع السيد فضل الله مع قناة L.B.C بتاريخ 22 صفر 1424هـ/ 24-4-2003م
عودة الى الملف الرئيسي
خطر على حدود إيران:
* كيف تقرأون الدور الإيراني في عراق ما بعد صدام حسين؟
ـ من الطبيعي أن إيران تشعر بخطر الوجود الأمريكي على حدودها، باعتبار أن ذلك يمثل خطراً مباشراً، ولا سيما عندما بدأ الأمريكيون ينسّقون مع مجاهدي خلق الذين كانوا يعتبرونهم من المنظمات الإرهابية باعتبار ما سيأتي من حاجتها إليهم لإزعاج الجمهورية الإسلامية في إيران، ولهذا فإن من مصلحة الجمهورية الإسلامية، وبوسائلها الخاصة، وليس من الضروري بشكل مباشر، أن تعمل سياسياً أو أمنياً على أساس عدم جعل الوجود الأمريكي في العراق وجوداً مريحاً، وقد شعرت أمريكا بهذا المعنى عندما بدأت تتهم إيران بالوقوف وراء المظاهرات التي انطلقت في كربلاء وبغداد والناصرية، فهي لا تريد أن تعترف أن الشعب العراقي يرفض احتلالها وبقاءها في العراق، وقد بدأت تثير الضباب حول إيران بطريقة وأخرى، حتى تحدثت عن دخول "فيلق بدر" أو قسم منه إلى العراق، وتتهم أمريكا هذا الفيلق بأنه تلقى تدريباً في إيران وأنه يمثل حالة إيرانية، مع أنه مجموعة عراقية مئة بالمئة.
* بالنسبة للوضع الإيراني والعلاقة مع واشنطن في المرحلة المقبلة، هل ترون ملامح تغيير في السياسة الإيرانية اتجاه أمريكا؟
ـ إن السياسة الإيرانية هي سياسة واقعية وليست سياسة مغامرة، إنها تحاول بطريقة وأخرى حفظ أمنها، وأن تبعد الأخطار عنها، وأن تتحرك بحجم الوسائل المتاحة عندها لتحقيق ذلك الهدف، مع إبقاء استراتيجيتها بعدم إعادة العلاقات مع أمريكا إلا على أساس شروط معينة تكفل لها التوازن في سياستها واقتصادها بطريقة وأخرى.
* ما هي هذه الشروط التي ينصحون بها؟
ـ أنا لا أتحدث عن نصيحة، لأن القوم يملكون رشداً سياسياً في هذا المجال، لكنهم يتحدثون عن أن تكف أمريكا عن تحركها بشكل عدائي ضد إيران...
* مقاطعاً: وهذا ما تفعله أمريكا الان؟
ـ وأن تعمل أيضاً على أساس الإفراج عن الأرصدة الإيرانية، وغيرها من شروط قد يكون بعضها واقعياً وبعضها الاخر غير واقعي.
* إذاً ترون الأمور لصالح تحسّن العلاقات الإيرانية الأمريكية في الفترة المقبلة، وهو ما يفسّر الحياد الإيراني من الحرب على العراق؟
ـ لقد صرّّح مرشد الثورة أننا حياديون في الحرب القائمة على أساس اصطدام ظالم بظالم، ولكننا لسنا حياديين أمام الشعب العراقي.
الدور السوري:
* سماحة السيد، إيران تشعر بالخطر في هذه الأيام، خصوصاً أنها وسط الحصار الكبير، وبالنسبة لسوريا نفس القضية... هل التهديدات الأمريكية لسوريا هدف سياسي أم عسكري؟
ـ تابعت التهديدات بعمق ودقة، ورأيت أنها تهديدات وقائية واستباقية، لأنه كما أن إيران وسوريا تحذران من وجود أمريكا على حدودهما بشكل مباشر، فإن أمريكا تحذر من وجود سوريا وإيران على حدود احتلالها بشكل مباشر، فالخوف متبادل بين الفريقين، ولذلك فإن أمريكا تشعر بأن سوريا تملك أن تربك الوضع في العراق، كما أنها تتهمها بأنها ساهمت في بعض الإرباكات أثناء الحرب، مع ملاحظة أخرى، وهي القضية الفلسطينية. إن أمريكا التي تحاول حلّ القضية الفلسطينية صدقاً أو كذباً من خلال مشروع "خارطة الطريق"، تخشى من أن تتحرّك سوريا من خلال نفوذها في كلّ هذه الدائرة الفلسطينية، وربما اللبنانية، لإرباك خطة "خارطة الطريق".
* مقاطعاً: هل سوريا في هذا الوارد؟
ـ ربما تكون في هذا الوارد لسبب وهو أن طبيعة موقعها العربي، وخصوصاً من خلال المواقف التي وقفها الرئيس بشار الأسد في مؤتمر القمة، تثبت بقاء سوريا على موقفها المبدئي من القضية الفلسطينية، ثمّ علينا أن لا ننسى أراضي الجولان باعتبارها جزءاً من قضية الشرق الأوسط، والتي ربما ستصادرها أمريكا أو تفرض فيها الحل.
لذلك في عقيدتي إن سوريا لا تملك من خلال مستقبلها أن تعطي كلّ الأوراق لأمريكا، ولكن المسألة هي أن العلاقات الأمريكية السورية بالرغم من ما اعتراها من بعض التعقيدات والمشاكل لن تتأثّر كثيراً.
* إذاً الأمور سائرة باتجاه إيجابي لمصلحة العلاقة الأمريكية السورية؟
ـ فوق العادة، لسبب أن سوريا تمثّل في موقعها العربي وتأثيراتها التي قد لا تملكها دولة عربية أخرى، حاجة لأمريكا بطريقة وبأخرى.
* ولكن مع الوقت قد تفقد سوريا كل هذه الأوراق سماحةالسيد؟ خصوصاً أن المواجهة مع أمريكا تمّ تجاوزها من ناحية السوريين، ولكن إلى متى؟
ـ صحيح أن أمريكا تتصرف بطريقة أشبه بالهستيريا، ولكن المصالح الأمريكية تبقى هي التي تفرض طبيعة العلاقات السياسية بين العنف والرفق... لهذا أعتقد أن حرب العراق ليست القاعدة، بل إن أمريكا بإعلامها والإعلام المنبطح أمامها والخائف منها، صوّر أن أمريكا الان عندما اشعلت الحرب في العراق فإنها أصبحت كالقائل: "أنا ضرّاب السيوف ومن لا يصدّق فليأت ونشوف". ليست المسألة كذلك، إن هناك عقلاً أمريكياً مراعياً لمصالح الشركات الاحتكارية البترولية وشركات السلاح والمصانع الأمريكية، هذا هو الذي يحدّد للسياسة الأمريكية مسارها في العالم العربي والإسلامي، وهؤلاء يعرفون أن حرب سوريا سوف يكون لها من المفاعيل السلبية ما لا يمكن أن يقاس به ضرب العراق أو غيره...
* هل يمكن أن يكون لبنان هو ثمن هذه العلاقة السورية الأمريكية فوق العادة، التلزيم الأمريكي لسوريا من جديد في الورقة اللبنانية؟
ـ إنني أتصور أن الدور السوري في لبنان لم يكن ثمناً ولن يكون ثمناً، لأنه داخل في السياسة الأمريكية ... هذا أحد تفاصيل الوضع الدولي في التخطيط للواقع اللبناني.
* بالتنسيق مع السوريين؟
ـ قد يكون في بعض الحالات بالتنسيق مع السوريين كما كان في وقت ما بالتنسيق مع دول عربية أخرى، فنحن نعرف أن هناك دولاً عربية قبل الحرب وخلال الحرب كانت لها أدوار معينة... ولهذا نقول إن مسألة السياسة لا تحوي صداقات دائمة ولا عداوات دائمة، فمشكلتنا مع اللبنانيين أنهم يتصورون أن العالم يعيش في حالة طوارئ مع بعض القضايا اللبنانية الجزئية، حتى في الانتخابات لهذا أو ذاك...
المقاومة من تفاصيل المنطقة:
* إني مضطر لطرح هذا السؤال، انطلاقاً من ذلك: المقاومة في لبنان في دائرة الاستهداف العسكري المباشر، فهل تعتقدون وجود إمكانية للمواجهة في ظل الانهيار في المنطقة، أم عملياً ستكون المواجهة سلمية مع العلاقة السورية ـ الأميركية؟
ـ إني أتصور أن المقاومة بحسب البعد السياسي في المنطقة هي من تفاصيل المشكلة الفلسطينية، ولن يحدث للمقاومة حسب المعطيات أيّ حالة سلبية ضاغطة فوق العادة، ما دامت القضية الفلسطينية لم تحل.
العراق لا يحتاج إلى وصاية:
* سماحة السيد، بالنسبة لمستقبل العراق، عملياً من سيحكم العراق ؟وهل صحيح أن العراق المقبل هو عراق بلا قيادة؟
ـ إن الشعب العراقي بما يختزن من كفاءات علمية وسياسية أبعدها النظام عن دائرة الضوء، ليس من البلدان التي تحتاج إلى وصاية الاخرين... ولذلك أتصور أن الحديث الأمريكي وحديث بعض العراقيين المحسوبين على أمريكا بأن العراق بحاجة إلى عامين أو خمسة لإجراء انتخابات عراقية حرّة وحكومة عراقية مستقلة، إن هذا يتضمن إهانة للشعب العراقي. صحيح ليست هناك قيادات بالمعنى المميز الذي يملك فيه العنصر القيادي الواقع الشعبي كله، بحيث ينطلق الشعب معه لإيمانه بأنه قادر على أن يسير به إلى شاطئ السلامة، ولكن أعتقد أن الظروف ليست بعيدة عن ولادة قيادات جديدة .
* كيف؟
ـ عندما يعطى الشعب العراقي حريته ويقوم بعملية انتخابات حكومة حرة، ليس حرية الكلمة بل تقرير المصير. فمن البديهيات في السياسة أن أي قرار لأي بلدٍ يصدر تحت حراب المحتل لا يمكن اعتباره قراراً شعبياً.
* ألا ترون أيّ تقسيم للعراق في المرحلة المقبلة سماحة السيد؟
ـ أنا أعتقد أن العراق خارج نطاق الفدرالية التي ربما تتحرك في الدائرة الكردية فقط. ليس هناك أي مشروع للتقسيم في العراق بقدر ما يتعلق الموضوع بالشعب العراقي، ولا أظن أن هناك ظروفاً سياسية دولية تخطط لذلك.
ليس استعراضاً للقوة:
* سؤال استيضاحي بالنسبة لزيارة الأربعين هذا العام، فطبيعي أنها جاءت بعد سنوات طويلة كاستعراض كبير للقوة الشيعية في كربلاء، فهل هذا رسالة من الشيعة لإظهار حقّهم المشروع في أن تكون لهم الأرجحية في النظام السياسي الجديد؟
ـ إني أتحفظ على العنوان الذي أعطي لهذه الزيارة بهذا الشكل، لأن زيارة الأربعين حتى في عهد النظام كانت موجودة بهذا الحجم أو أقل منه قليلاً، ولكن من دون حرية الشعار والمواكب وغير ذلك...
ربما كانت هذه الزيارة تتميز بأن الشعب العراقي الذي كان يخرج قبل نظام صدام حسين بمواكب وأهازيج سياسية ودينية... بحيث كانت المواكب الحسينية والتي تتحرّك في الأربعين تمثل مظاهرات سياسية ينطلق فيها كلّ تيار سياسي ليعبّر عن قضاياه ، ولكن هذا النوع من الاجتماع موجود في كلّ الزيارات التي يزورها الشيعة للإمام الحسين(ع). الجديد في مسألة الشعارات في هذه الزيارة أنها تهتف لا للاحتلال نعم للوحدة، لا لصدام ولا لأمريكا ولا للتفرقة بين السنة والشيعة ... ولا اعتقد أن المسألة مسألة استعراض للقوة، لأن طبيعة الواقع الشيعي في العراق هو واقع قوّة إذا أريد بالقوة القوة العددية...
خارطة الطريق:
* أبديتم خشيتكم على فلسطين بفعل تطورات الحرب العراقية، فهل تلمحون إعلاناً دولياً بالحرب على الفلسطينيين قادماً تحت عنوان خارطة الطريق؟
ـ إن مسألة العراق هي جزء من الحرب لمصلحة إسرائيل، وقد قلت في حديث سابق إن أمريكا تخوض حروب إسرائيل في المنطقة، لأن الاستراتيجية الأمريكية هي أن لا يبقى أي موقع للقوة في المنطقة مقابل إسرائيل، ولعلنا قرأنا جميعاً أو سمعنا تصريح المسؤول الصهيوني أنّ حرب العراق استطاعت أن تزيل خطراً من أمام إسرائيل، وأنّ بعض المسؤولين الأمريكيين يقولون بأننا أزلنا خطراً على الأمن الإسرائيلي في هذا المجال. لهذا أتصور أن أمريكا تخوض حروب إسرائيل في المنطقة كلها، الحروب السياسية والأمنية، والتي تلتقي مع سياسة الإدارة الأمريكية.
وأمّا بالنسبة إلى خارطة الطريق، فإني أتصور أنها لا تمثّل طموحات الشعب الفلسطيني، ولأني أشك أن تنجح في إيجاد الحل الذي تشرف عليه أمريكا.
وقد كان من الملفت سماعي لوزير الخارجية الأمريكية يقول إن خارطة الطريق سوف يقرأها الطرفان ويجتمعان ويتفاوضان بإشراف أمريكي وبعض الدول، ولم يأتِ على اللجنة الدولية الرباعية، ما يوحي بأن الحل هو أمريكي إسرائيلي، ولعلّ الضغوط التي مورست في قضية تشكيل الحكومة الفلسطينية أو غيرها تشير إلى ذلك...
الموقف المسيحي الإيجابي:
* كيف ترون الموقف المسيحي العالمي اتجاه ما جرى في المنطقة؟ وهل يؤسس هذا الموقف إلى علاقة ذات قواعد يمكن التعاون من خلالها لمواجهة قضايا عالمية قادمة؟
ـ إنني أعتقد أننا عندما ندرس المسيحية والإسلام في قيمهما الإنسانية المنفتحة على الروح والخلق والحياة تحت رعاية الله، فإننا نجد أنهما ليستا بحاجة إلى أي وضع طارئ للتعبير عن هذه الوحدة الروحية، التي وإن تنوّعت في اللاهوت، ولكنها تتفق في حركة الإنسان بشكل عام، لكن موقف المسيحية العالمية ضد الاستكبار الأمريكي خيَّب امال الذين يصطادون في الماء العكر ليحولوا المسألة إلى حرب بين المسلمين والمسيحيين ، وواقع المسألة بأنها ليست حرباً صليبية أو مسيحية إسلامية، بل هي حرب المصالح الاستكبارية والاستعمارية ضد المسيحيين والمسلمين معاً.
* كيف يمكن استثمار مثل هذا الموقف سماحة السيد؟
ـ إنني أعتقد أن استثمار هذا الموقف هو في أن نقدم تجربة واقعية لمواجهة الواقع بعيداً عن مسألة التنظير، وأن المسيحية والإسلام يقفان معاً ضد كل الذين يضطهدون الشعوب ويحاولون الهيمنة عليها.
موقف العالم العربي من الاستراتيجية الأمريكية:
* إن أمريكا تعمل على ترجمة استراتيجتها التي تخطط لها ولخمسين سنة، أين العالم العربي والإسلامي من هذه الاستراتيجية؟ وما هو المطلوب من هذا العالم لتلافي وقوع كارثة عليه مستقبلاً؟
ـ إنني أخشى أن الغالب من الدول العربية والإسلامية ليس في مستوى مواجهة هذا التحدي، لأنهم لا يملكون بحسب دورهم ومواقعهم التي وظفوا فيها، أن يقوموا بأية عملية ضغط أو بأية عملية ممانعة، فنحن كنا نسمع الأمريكيين عندما نصدر القرارات من هذه القمة العربية أو الإسلامية ،يعلقون بأن ما يتكلمون به معنا في السر يختلف عمّا يتكلمون به في العلن، وأنّ هذه القرارات للاستهلاك الشعبي وليست للمواقف.
مع الأسف، إن الأنظمة العربية بشكل عام ودون الدخول في التفاصيل لا تستمع إلى صوت شعوبها، وتحاول أن تدجِّن شعوبها وتهول عليها القوة الأمريكية وغيرها تحت عناوين محاربة الأصولية والإرهاب... إن مشكلة الأنظمة العربية أنها تصادر شعوبها، ولذلك فإن شعوبها تتجمّد بفعل كل هذه الوسائل والأساليب، ولهذا نجد أن شعوب أغلب البلدان العربية وربما الإسلامية تعيش خارج أوطانها.
* كأنكم تدعون الشعوب العربية إلى اليأس؟
ـ إنني لم أفقد الثقة بالشعوب، ولكني أفكر وأدعو دائماً أنّ على الشعوب ألا تنفعل ولا ترتجل، بل تخطط وتدرس، لأن العالم يدرس ويخطط، إن مقاتلنا في أغلب المراحل التي مرّت فيها الانقلابات والثورات هي في أن الاخرين يصنعون لنا انفعالاتنا ثم يقتلوننا من داخل هذه الانفعالات.
المقدّس وغير المقدّس:
* سماحة السيد، في حديث "للنهار" في 25 اذار 2003 مع رضوان عقيل وإبراهيم بيرم، دعوتم إلى تنزيه التاريخ وتنقية الفكر من سمات التخلف وأوهام الخرافة ومتاهات التعصب والانغلاق... ما هو الإطار العملي لذلك عند سماحتكم؟
ـ الدراسة الموضوعية العقلانية والبعد عن التقديس لغير المقدّس.
* ومن يحدد ويحكم المقدس وغير المقدّس؟
ـ يكفي أن يثور الجدل حول هذا الموضوع، لأن الصراع الفكري هو الذي يؤدي إلى أن تظهر الحقيقة من بين ركام الصراعات.
* هنا تكمن المشكلة وهذا ما واجهتموه؟
ـ ليست المشكلة في أن يهاجم فكرك، بل إن الذين يهاجمون فكرك سوف يُساهمون في تنمية هذا الفكر وإلفات الناس إليه. إن الذين يسبّونك ويشتمونك ويتهمونك ويكفرونك يوحون للناس بأن هناك شيئاً جديداً لا بدّ أن يلاحقوه، إمّا بالتهليل والتكبير، وإمّا باللعنات، وفي كلا الحالين يفرض الفكر نفسه لأنك لا تستطيع أن تقمع فكراً.
* ولكن أليس من مجال هنا لبعض الخوف والتردد من مسألة معينة وظرف معيّن، من حادث جسدي لا سمح الله بأمر من تكفير معين؟
ـ إنني أقول إنّ عليك عندما تملك فكراً تزعم بأنه الفكر الذي يعطي الحقيقة بعدها الفاعل في حياة الناس، أن تعيش روح الشهادة... ولا أزال أعيش هذه الروح.
* سماحة السيد، في محتويات قصر عُديّ صدام حسين كتب عن الشيعة، وعن محمد حسين فضل الله؟ فهل كنت تعرف أنه معجب بك؟
ـ أنا لا أظنّ أنه معجب بي، لأني تعرضت لأكثر من محاولة اغتيال من النظام العراقي، ولذلك فهو ربما كان يريد دراسة أفكاري ليعرف كيف يمكن أن يقوم بعملية اغتيال جديدة في مستقبل جديد...
نداء إلى الشعب العراقي:
* أتمنى على سماحتكم أن تتكرموا بكلمة أخيرة للشعب العراقي، هذا الشعب الذي عانى كثيراً ولا بدّ له من أن يعيش مرحلة جديدة؟
ـ أيها الشعب العراقي الجريح الطيب الذي عاش المأساة كما لم يعشها شعب من الشعوب في المنطقة وخارجها، فلو كشف التاريخ ما معنى نظام الطاغية، لوجدت الكثير من وحشية هذا النظام لم تكشف للناس.
أيها الشعب الذي عاش الحضارة في كلّ تنوعاتها، واستطاع إغناء الحضارة الإنسانية والعلمية بكل أبعادها... أيها الشعب الذي يعتبر في مستواه العلمي والثقافي وفي علمائه الذين يمثلونه ممن شردهم النظام أو ممن بقوا في الداخل، الشعوب العربية من أغنى بعلمائه ومثقفيه...
أيها الشعب الذي عاش الحرية بعد أن تحمل الكثير من الالام، واستطاع أن يُسْقِطَ أكثر من استعمار واحتلال، لا تصدقوا أنكم قاصرون وأنكم تحتاجون إلى ولاية الأمريكي على أساس أنه يريد أن يؤمن لكم إدارتكم ويخطط لكم لحكومتكم ولمستقبلكم. إنهم لا يريدن لكم الحرية، ولكنها تمثل بالنسبة إليهم الخديعة التي سمعتموها من الفاتح البريطاني عندما قال جئناكم محرّرين... اللغة هي اللغة والمستقبل هو المستقبل...
كونوا أحراراً كما كنتم أحراراً في الماضي، كونوا المستقبليين ادرسوا ما معنى الاحتلال وادرسوا ما معنى حركة سياسة أمريكا في الشعوب... ادرسوا الجراحات الفلسطينية التي لا تزال تنزف.... ادرسوا كلّ حركة أميركا في المنطقة لحساب إسرائيل، فأخشى أن تخطط أمريكا عراقاً لحساب إسرائيل، ولذلك لنا كلّ الثقة بكم أن تخرجوا الاحتلال من أرضكم... فنحن لا نطرح عليكم صيغة معيّنة، ولكن المسألة هي أن تبحثوا عن أفضل السّبل بواقعية، ولكن بصبر وتصميم .. إنّ العالم ينتظر منكم الأعاجيب، فاصنعوا أعجوبة الحرية والاستقلال والحضارة من أجل أن تعيشوا المستقبل، لتكونوا النموذج في المنطقة لا على أساس الطريقة الأمريكية، ولكن على أساس الطريقة الحضارية الإنسانية الإسلامية. فلكم كلّ محبّتي ودعائي وتقديري... فحذارِ حذارِ من تصفية الحسابات، وحذارِ حذارِ من الذين يصنعون الفتنة... إنّكم بحاجة إلى كلّ الطاقات، فلا تشغلوا أنفسكم بتصفية الحسابات، بل اشغلوا أنفسكم بتجميع الحسابات، والوحدة الوحدة الوحدة إلى نهاية المطاف... مع كل محبتي ودعائي لكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
شكراً سماحة المرجع الديني العلامة السيد محمد حسين فضل الله على هذا اللقاء النيّر المشرق كما عوّدتمونا دائماً عبر لقاءات أخرى عبر "كلام الناس"، فأشكركم من كلّ القلب وباسم أسرة البرنامج على إطلالتكم، وهي إطلالة المرجعية الدينية العليا بعد حرب العراق.
مقابلة العلاّمة المرجع السيد فضل الله مع قناة L.B.C بتاريخ 22 صفر 1424هـ/ 24-4-2003م