أجرت مجلة "السياسة الكويتية" في عددها الصادر بتاريخ:4 شوال 1423هـ 8/12/2002 حواراً شاملاً مع سماحة السيد، وجاء في المقابلة:
أجرى الحوار: محمد سعيد الرز وعمر البردان.
كثيرة هي الحوارات مع علماء الدين.. وخاصة مع البعض المتزمّت الذي ينهج طريق التطرف كوسيلة للإثارة، ولكن العلامة والمرجع السيد محمد حسين فضل الله ليس من قماشة علماء التطرف ولا الإفراط.. وهو في الوقت نفسه "ثوري" في اجتهاده إلى حدود الاستغراب للوهلة الأولى، لكن سرعان ما يعمل العقل على تقبل ما يقول كونه مصحوباً بالأدلة والبراهين، والعلامة فضل الله يملك رؤية قوية وواضحة وشمولية للتطورات الدولية والإقليمية، فهو في السياسة متمرس وفي الدين متفقه وفي المعاملات مرجع تقصده الآلاف لتقف على رأيه ولتقلده ولا تخفي أوساطه أنه طالما تعرض للأذى والحصار والتضييق والاتهامات الباطلة لا لشيء إلا لأنه عالم دين مسلم شيعي وعربي في الوقت نفسه.
السياسة، التقت العلاّمة فضل الله في هذا الحوار الواسع الذي شمل الأوضاع على الساحة الممتدة بين واشنطن وبيروت وفيما يلي وقائعه:
الولايات المتحدة والعاصفة المرتقبة
* تحدثتم مراراً وحذرتم ونبهتم إلى العاصفة المقبلة على المنطقة من جانب الولايات المتحدة الأميركية.. ما تصوركم لحدود هذه العاصفة؟
ـ في الدراسة الدقيقة الموضوعية للسياسة الأميركية في العالم وفي المنطقة، فإن أميركا في عمق استراتيجيها أن تؤكد قيادتها المطلقة للعالم، وهي تتحرك في تحالفاتها الدولية لممارسة الضغوط الخفيفة والقوية على هذا المحور الدولي أو ذاك تبعاً لحجمه وموقعه، وهذا ما لاحظناه في تعاملها الظاهر مع الاتحاد الأوروبي أو مع الاتحاد الروسي، وتحركها في اجتذاب الصين بطريقة العصا والجزرة مع السيطرة المطلقة على مجلس الأمن والأمم المتحدة.
أما بالنسبة إلى المنطقة سواء العالم العربي أو العالم الإسلامي أو العالم الثالث، فإنها البقرة الحلوب في النظرة الأميركية، وقد عملت السياسة الأميركية منذ أوائل القرن الماضي على السيطرة على بترول العالم وعلى كثير من الدول الإقليمية لتحجيم نفوذ الدول الكبرى المنافسة، وعندما ندرس حركتها في المنطقة نرى أنها تخطط للسيطرة على النفط، ولا سيما نفط العراق بعد أن نجحت في السيطرة المطلقة على نفط الخليج من خلال حرب تحرير الكويت، كذلك فإنها تعمل مستقبلاً للسيطرة على نفط إيران، وربما نلاحظ أن الدخول المباشر على خط السودان في المرحلة الحاضرة قد يوحي بعلاقته بالثروة البترولية لهذا البلد الذي يعد باحتياط هائل في المستقبل.
لهذا، فإن اختيار الولايات المتحدة للعراق لا ينطلق من امتلاك هذا البلد لأسلحة الدمار الشامل، لأن أميركا في الحرب العراقية ـ الإيرانية التي خططت لها لم تعترض عليها، بل رعت استخدام العراق لأسلحة الدمار الشامل ضد شعبه في حلبجة، ومرّت الأيام منذ الحرب العراقية الإيرانية إلى حرب تحرير الكويت من دون أن تتحدث أميركا عن أسلحة الدمار الشامل، التي كان النظام العراق يملكها، ما يعني أن مسألة أسلحة الدمار ليست هي المشكلة في هذا الموقف الأميركي ضد النظام العراقي، لا سيما إذا عرفنا أن هذا النظام هو إفراز من إفرازات السياسة الأميركية التي أرادت له أن يواجه القومية العربية التي أطلقها عبد الناصر، وحتى أننا نتصور بحسب معلوماتنا أن حرب العراق ضد الكويت كانت استجابة لخطة أميركية، ما جعل أميركا تعطي النظام العراقي ضوءاً أخضر للكويت وضوءاً أحمر للسعودية.
ومن خلال ذلك كله، نعرف أن مسألة أسلحة الدمار الشامل ليست هي القضية، بل القضية هي مسألة السيطرة على العراق لا بالطريقة التي يمكن أن يقدمها النظام العراقي في تنازلاته لأميركا بحسب رغبته برضى هذه الأخيرة عليه، ولكن على أساس أن تمسك بالعراق من جميع مفاصله، ثم أن هناك مسألتين فرعيتين:
الأولى: هي إكمال الحصار على إيران التي تحاصر بالدول التابعة لأميركا، والعراق هو المكمل لهذا الحصار، تمّ لإكمال السيطرة على الخليج بشكل أكثر قوة، لا سيما بعدما برزت بعض الظواهر "البنلادينية" المؤيدة لأسامة بن لادن والمعارضة للسياسة الأميركية وللقواعد الأميركية في المنطقة. الثانية: تحقيق نقطة استراتيجية في السياسة الأميركية، وهي أن الولايات المتحدة قررت أن تكون إسرائيل هي الأقوى في المنطقة، ما يعني ضرب أي دولة تملك القابلية في ثروتها البترولية وفي حجمها الشعبي لأن تكون قوة موازنة لإسرائيل، ولعلّ العراق هو أكثر الدول العربية، بقطع النظر عن النظام الذي يحكمه، الذي يمكن له بناء قوة موازية للقوة الإسرائيلية. ولهذا فإن التركيز الأميركي على النظام العراقي يتصل بالاستراتيجية الأميركية التي تطل على الموقف الأميركي في المسألة الإسرائيلية وعلى المصالح الأميركية في المنطقة كلها.
وهناك ملاحظة مهمة وهي أن أميركا كانت قادرة على إسقاط النظام العراقي بالطرق الأمنية، وكان يمكن استثمار الانتفاضة الشعبية الواسعة في العراق بعد حرب الكويت، حين فقد النظام سلطته على أكثر مواقعه.
والسؤال الذي يطرح نفسه هو: لماذا كان التصريح بالصوت العالي من قِبَل كل المسؤولين الأميركيين، إننا لا نريد إسقاط النظام العراقي، هذا النظام الذي أدخل المنطقة في حربين أفقرتا المنطقة وأربكتاها وفتكتا بها، وكان صدام في ذلك الوقت مالكاً لأسلحة الدمار الشامل.
وهذا يدل على أن المطلوب أميركياً هو أن يستكمل هذا النظام العراقي إرباك المنطقة العربية، وتخويف الخليج من هجوم ثانٍ وثالث عراقي من أجل إعطاء الذرائع لإبقاء القواعد العسكرية في الخليج التي تضمن مصالح أميركا في المنطقة كلها، لذلك نحن نعتقد أن أميركا أثارت كل هذه الهيستيريا العالمية وكل هذا الجدل والإرباك بين معارضٍ وموالٍ من أجل أن تجعل من العراق ومن خلال نظامه بعبعاً يكاد يأكل العالم، مع أن هذا الاتجاه الإعلامي يمثل سخرية ولا أقوى في هذا المجال، هذا مع الإشارة إلى ملاحظة لها دور في الاستراتيجية الأميركية في مفاعيل أثاره على العراق، وهي مسألة إبعاد القضية الفلسطينية عن دائرة الضوء، لأن العالم شُغل، لا سيما الاتحاد الأوروبي والروسي، بالمجازر التي ارتكبتها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني، وقد بدت أميركا محرجة أمام ذلك.
ولهذا فقد عملت على تطويق هذا الاتجاه المتعاطف مع الشعب الفلسطيني، بإنشاء اللجنة الرباعية التي تملك السيطرة على الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة والاتحاد الروسي، تحت عنوان أننا نريد أن نحل المشكلة الفلسطينية من دون خطوط تفصيلية بالطريقة التي لا يبدو أن ضوء في نهاية الأفق، وإشغال العالم عن القضية الفلسطينية على مستوى الرأي العام العالمي بالمسألة العراقية كما أنه علينا الإشارة هنا بأن الولايات المتحدة الأميركية لاحظت بأن حربها ضد ما تسميه الإرهاب بدأت تضعف في وجدان العالم، حتى أن هناك جدلاً كبيراً دار بين أكثر من بلد شرقي أو غربي حول هذا الموضوع وحول الحديث عن إرهاب الدولة أو الغرب، ولا سيما أن الولايات المتحدة لم تنجح أخيراً في منح أفغانستان استقراراً جيداً في مواجهة الإرهاب، لذلك أرادت أميركا أن تلوح بالعصا الغليظة لكل من يهمه الأمر في مسألة الإرهاب، سواء الذين بردت حماستهم للتحالف معها أو المعنيين بالمسألة الإرهابية، بأنها ستضرب الضربة الأقوى لبلد قوي كالعراق، كرسالة إلى كل الذين يعنيهم الأمر، وذلك للانضواء تحت لواء القيادة الأميركية للعالم.^^
تدجين العالم الإسلامي
* ماذا تقولون عن استهداف الثقافة والهوية العربية؟
ـ من الطبيعي أن أميركا منذ أحداث 11 سبتمبر تشعر بأن العالم الإسلامي الذي كان يدخل بشكل أو بآخر في حركية العنف ضد السياسة الأميركية في المنطقة، لأسباب بعضها يتصل بالانفعالات التي يعيشها بقدر ما يتعلق الأمر بالقضية الفلسطينية. ولكنه من خلال بعض الأحداث التي حصلت ضد بعض السفارات الأميركية كما في تنـزانيا، وتوجّت في أحداث 11سبتمبر، شعرت أميركا بأن هناك قاعدة ثقافية إسلامية تعمل على أساس إيجاد ذهنية إسلامية على مستوى العالم الإسلامي كله، وبحسب اللغة الأميركية، العالم الإسلامي السني تحديداً، باعتبار أنهم دائماً يتحدثون عن السنة والشيعة، وفي رأيها أن ما قام به أسامة بن لادن وأتباعه الذين يمثّلون امتداداً واسعاً في العالم الإسلامي، انطلق من هذه القاعدة.
لذلك حاولت أميركا، في نطاق حربها ضد الإرهاب على الدول الإسلامية، أن تتدخل في المسألة التربوية والثقافية، وطرحت مفاهيم السلام بدل الجهاد والحرب، لإصدار الفتاوى ضد العمليات الاستشهادية وما إلى ذلك، باعتبار أن هذه المسالة تمثل نسفاً للقاعدة التي يرتكز عليها ما تسميه الإرهاب. وفي مشروعها أن تحوّل العالم الإسلامي من خلال الأجيال الجديدة إلى عالم مهذب مطواع، لا يواجه بالعنف أي سياسة أميركية أو غير أميركية، ما يؤدي إلى حماية المصالح الدولية الكبرى للاستكبار العالمي.
لذلك فنحن نعتقد أن هذه السياسة الأميركية منضمة إلى سياسة حلف الأطلسي، تخطط منذ الآن للإطباق على كل مواقع المسألة الثقافية والاقتصادية والسياسية والأمنية في العالم الإسلامي، الذي لا يزال هو البقرة الحلوب لرخاء الدول الكبرى، ولا سيما الغربية منها، والمطلوب في هذا المجال هو تدجين العالم الإسلامي عن أن يتحرك بقوة، لا سيما القوة المستمدة من مناخ إسلامي يوحي بالقداسة من خلال عناوين الجهاد والاستشهاد والتقرب إلى الله سبحانه وتعالى وإنكار المنكر ومواجهة الظالمين. إن المطلوب من العالم الإسلامي هو أن يقبل بكل ما يقدم إليه ليرضى بالفتات الذي يبقى من المائدة الاستكبارية التي يراد للعالم أن يأكل منها.^^
سحب الأموال.. لماذا؟
* دعوتكم للعالم الإسلامي والعالم العربي إلى سحب أمواله من الولايات المتحدة فُهمت على أنها لا يمكن أن يكون للولايات المتحدة صديق وحليف عربي أو إسلامي مهما كانت هذه الصداقة، هل تتصورون أنّ الولايات المتحدة الأميركية قد تقدم على تغيير أنظمة في المنطقة والتخلي عن الصداقات معها؟
ـ إن هذه الدعوة انطلقت من دراسة واقعية في حركية القوانين الأميركية الجديدة من جهة ومن طبيعة السلوك الأميركي الاقتصادي مع الدول التي تختلف معها، ففي المراحل السابقة نلاحظ أن أميركا قد جمدت الكثير من الأرصدة المودعة عندها كأمانة لبعض الدول، لا سيما في مقدمها إيران بعد الانقلاب على الشاه، كما أنها تعمل على التحرك من خلال البنك الدولي للضغط على أكثر من بلد هنا أو هناك لخلق الأزمات في داخله باسم الاقتصاد، مع تأييدها للأنظمة التي تسرق شعوبها وتصادر أموالها، ثم لاحظنا كيف أن أميركا بعد أحداث 11 سبتمبر عملت على تجميد الكثير من أرصدة الجمعيات الخيرية الإسلامية التي لم تحقق أميركا بشكل قضائي وموضوعي في علاقتها بما تسميه بالإرهاب، أو علاقتها بالمنظمات الفلسطينية التي تتهمها أميركا بالإرهاب، ما أدى إلى إيجاد حال من المصادرة لكل المساعدات الخيرية المتعلقة بمستضعفين في بلاد الإسلام، باسم أن هذه منظمات تساعد الإرهاب.
أضف إلى ذلك أن القانون الأميركي الأخير الذي أعطى للمتضررين من أي عمل إرهابي أو عنفي في أي دولة من الدول شرعية الحصول على تعويضات قد لا تكون معقولة، ومن خلال أحكام قضائية أميركية خاضعة للمحلفين الخاضعين للإعلام والأجواء الضاغطة، مما لا يجعل أي أساس للعدالة في الأحكام التي قد تصدر.
إن هذا يعني أن كل الأرصدة الخاصة بالعالم الإسلامي في أي دولة من الدول هي في موقع الخطر مع ملاحظة أخرى وهي أنه ربما يحدث هناك عنف ضد أميركي هنا أو أميركي هناك من دون أن يكون لدولةٍ ما دور فيه أو من خلال منظمة معينة لا صلة لها بذلك، فما هو المبرر لمصادرة أرصدة تلك الدولة وهي أرصدة الشعب الذي لا علاقة له بعملية عنف هنا أو عملة عنفٍ هناك.
إن أميركا لم تعد أمينة على الأرصدة المودعة في مصارفها، ولهذا فإننا أطلقنا هذه الفتوى على أساس الحفاظ على الأموال الإسلامية من عملية اللصوصية القانونية الأميركية، لأن أميركا أصبحت تضع القوانين على قياس سياستها، وعلى قياس المصالح الإسرائيلية.
إن من الممكن جداً أن ينقل العرب ثرواتهم من الدولار إلى اليورو ومن الممكن جداً أن يوظفوا ودائعهم في مناطقهم لتتحرك الاستثمارات العربية لتغذية الاقتصاد العربي أو الإسلامي، وهنا نحن ندعو إلى وعي عربي إسلامي اقتصادي يعيش التخطيط للحذر من كل سلب لهذه الثروات.
أما قضية أن تتحرك أميركا لإسقاط أنظمة عربية، فإنني لا أتصور ذلك، لأن أغلب الأنظمة العربية والأنظمة الإسلامية تابعة لأميركا، ولذلك لا مشكل عندها في هذا الموضوع، وهي عندما تسقط نظاماً فإنها تسقطه لأنه استهلك ولم يعد ذا فائدة، كما هو ا لحال الآن مع النظام العراقي بعد أن استنفدت كل ما تحتاجه منه.^^
الكويت ضحيـة
* هناك من ينتقد إيران ويقول إنها أبرمت صفقات مع الولايات المتحدة بالنسبة لأمن المنطقة، وهناك من ينتقد الكويت ويقول إن الكويت أصبحت قاعدة أميركية ما ردّك؟
ـ بالنسبة لإيران، قد قرأت نفياً للمسؤولين الإيرانيين لكل ما تحدث عنه الإعلام من صفقة أميركية ـ إيرانية، لأنهم يتحدثون عن أمر غير معقول كما يقولون، وإنني أتصور أن هذا التوضيح قد يكون له نصيب من الصحة، لأنني أعرف أن مرشد الجمهورية الإسلامية الإيرانية آية الله السيد علي خامنئي قد وضع ضوابط استراتيجية لمسألة العلاقة مع أميركا بشكل حاسم جداً، ولكن لا يمنع أن إيران كدولة تحاول أن تحافظ على أمنها واستقرارها ومصالحها لأنه لا يمكن لأي دولة أن تنعزل عن النظام الدولي.
إن هذا شيء وقضية عقد صفقة على حساب المنطقة شيء آخر، أما مسألة الكويت، فإنني أعتقد أن الكويت هي ضحية للنظام العراقي الذي فرض عليها هذا الواقع، وأعتقد أن الواقع الذي تحولت فيه الكويت إلى قاعدة أميركية هو أمر لا تملك الكويت تغييره من خلال الظروف الدقيقة الضاغطة التي تحيط بها.
تحريم التدخين وتحديد شهر رمضان
* إذا سمحت لنا لنأتي، ونحن في رحاب شهر رمضان المبارك، إلى "ثوروية" السيد محمد حسين فضل الله في المواقف والشرع وفي عدد من الفتاوى التي أصدرها، والتي يمكن أن تلقى الرضى الواسع عند قسم كبير من جيل الشباب، أما عند بعض المتحجرين فقد تجده حائطاً سميكاً من الصد، ولا سيما بالنسبة إلى فتواكم بالنسبة إلى التدخين في شهر رمضان وموضوع تحديد العيد وموضوع الشهادة لعلي بالولاية في الأذان؟
ـ بالنسبة إلى التدخين في شهر رمضان فقد اطلعت على بعض التعليقات لبعض العلماء الكويتيين واستغربتها إذ إنني لاحظت أنهم لم يقرأوا جيداً هذه الفتاوى، فالكثير منهم كانوا يتحدثون عن أن الدخان من الخبائث وأن الله قد حرّم الخبائث وأنا قد حرصت على القول في مقابلة لي مع إحدى صحف الكويت بأنني أحرم التدخين مطلقاً لأنه مضر والإضرار بالجسد حرام، ولا سيما إذا كان يؤدي إلى التهلكة ولو مستقبلاً، ونحن نعرف أن العلم اعتبر التدخين مسؤولاً عن قابلية الجسم للسرطان بنسبة كبيرة.
ثم إنني عقبت بعد ذلك بالقول بحرمة التدخين في شهر رمضان، لأنه يؤدي إلى الإساءة إلى حرمة الشهر باعتبار أن صورة التدخين تمثّل شكلاً من أشكال الإفطار، وقد أكدت تحريمه، واعتراض بعض العلماء عليّ بأن التدخين حرام وأنه من الخبائث فهذا لم أنكره بل أثبته بشكل فوق العادة، وعلى أساس اجتهادي، ما يعني أنهم لم يقرأوا الفتوى التي أصدرتها، ولكن هذا شيء وقضية المفطرية شيء آخر، نحن نعتقد أنه لا تلازم بين المفطرية وبين الحرمة، فالغيبة حرام والسرقة حرام وكل عمل من الأعمال التي حرمها الله حرام، ولكنها لا تفطر وإنما تسيء إلى روحية الصوم، ولكنها لا تسيء إلى جسم الصوم.
إننا نقرأ في النصوص الإسلامية أن الصائم لا بدّ أن يمتنع عن الطعام وعن الشراب وعن الجنس كعناوين أساسية للمفطرات ويضيف بعض الفقهاء أشياء أخرى، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هل الدخان أكل أو شرب؟ من الواضح أنه ليس أكلاً، كما أنه ليس شرباً، لأن المراد من الشرب شرب الماء عمداً، أما الأكل فالتدخين بمثابة الهواء ولا يصدق عليه عنوان الأكل أو الشرب، وأما الحديث عن أن فيه أجزاء دقيقة تدخل فيه فهذا أمر وجداني وليس علمياً، وإلا لحرّم علينا التنفس في الهواء، لأن الهواء يشتمل على جزيئات لا ترى بالعين المجردة، كذلك شم دخان الحريق الذي يشتمل على بعض الأجزاء الدقيقة التي لا ترى بالعين المجردة، وأيضاً البخار ما يعني أن على الإنسان ألا يدخل الحمام المليء بالبخار في شهر رمضان، لأن البخار يشتمل على أجزاء مائية دقيقة.
الدخان ليس أكلاً ولا شرباً، وهو قياس مع الفارق إذا أردنا أن نأخذ بالقياس، لذلك فإن الفتوى انطلقت من أنه لم يرد هناك نص شرعي في مفطرية الدخان، ولكننا استوحينا من النصوص الشرعية حرمة التدخين في هذا المجال، أما قضية ما ذكره بعض العلماء في ردودهم عليّ في بعض الصحف الكويتية من أن العلماء أفتوا بذلك، فإننا نقول لهم إن لكل مجتهد طرقه الشرعية في استنباط الحكم، وإن فتاوى العلماء لا تمثل شيئاً مقدساً وإنما المقدس هو الكتاب والسنة وليس في الكتاب والسنة ما يؤكد هذه المفطرية، ولذلك أنا أدعوهم إلى أن يقرأوا الفتوى من جديد.
كما أنني أحب أن أؤكد على نقطة لبعض الناس مفادها أن أغلب علماء الشيعة لا يفتون بالمفطرية، ولكنهم يحتاطون فيها احتياطاً من جهة استبشاعها وما إلى ذلك من بعض الأمور التي لا تمثل قاعدة فقهية اجتهادية، ولو قلنا بالقياس في العملية الاجتهادية، فهو قياس مع الفارق، أما مسألة الهلال فإننا نلاحظ كما لاحظ أستاذنا السيد أبو القاسم الخوئي رحمه الله بأن مسألة الشهر في النظام الكوني الزمني هو ظاهرة كونية، فالشهر ينتهي عند دخول القمر في المحاق ويبدأ عند خروجه من المحاق من دون دخل لأن يراه أحد، أو لا يراه أحد تماماً كما هو موضوع الشمس، ذلك أن شروق القمر وغيابه تماماً كشروق الشمس وغيابها.
إن الحديث الشريف "صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته"، يؤكد على كون الرؤية تمثل أساساً إحدى وسائل المعرفة، ولذلك لو فرضنا أننا لم نرَ الشهر نتيجة وجود غيم، فإننا نحسب ثلاثين يوماً، وإن لم نره فإن الرؤية في الاستعمال العام والشائع بين الناس ما هي إلا وسيلة من وسائل المعرفة إلى جانب الوسائل الأخرى، وأضرب مثلاً شعبياً هنا، لو أن إنساناً قال لنا إذا رأيت فلاناً فأخبرني، ولكنني لم أر فلاناً بل إنه اتصل بي هاتفياً فهل أخبره أو لا أخبره، من الطبيعي هنا أن أخبره، لأنني أفهم من كلمة إذا رأيت فلاناً يعني إذا عرفت بوجوده في البلد فأخبرني وهكذا.
ولذلك، فإننا نعتبر أن الهلال كظاهرة كونية تخضع لقانون كوني هو مسألة الدخول في المحاق والخروج من المحاق، فإذا أخبرنا الفلكيون وهم ليسوا من المنجمين على قاعدة "كذب المنجمون ولو صدقوا"، بل هم علماء وصلت الدقة عندهم إلى المستوى الذي أصبحت الحسابات الفلكية تشبه المعادلة الرياضية، وهذا ما نلاحظه عندما يستعد العالم لاستقبال كسوف الشمس الذي حدد موعده منذ خمسين سنة، كما حدث في السنة الماضية أو فيما يتحدث به العلماء الآن في حدث كسوف للشمس سيقع في يوم 4 ديسمبر، ونحن نجد أن العالم يقبل ذلك من دون أي مناقشة.
إذاً إن مسألة التوليد هي من المسائل التي يؤكد فيها أهل الخبرة أنه لم يحدث هناك أي خطأ فيها منذ أكثر من مئة عام، ولذلك فإننا نعتمد على العلم في هذه المسألة فإذا أخبرنا الفلكيون الثقاة بالتوليد وأضفنا إلى ذلك نقطة اجتهادية تؤكد على مرور زمن يختزل فيه القمر كمية من الضوء الذي يستمده من الشمس، بما يسمح برؤيته، فإذا أخبرنا بذلك عرفنا بوجود الهلال في الأفق بنحو يمكن رؤيته.
ونضيف إلى ذلك رأينا الموافق لرأي أستاذنا السيد الخوئي وهو وحدة الأفق في كل البلدان التي نلتقي معها بجزء من الليل، فإذا ثبت لنا إمكانية الرؤية في بلد نلتقي فيه بجزء من الليل فإننا نحكم بالهلال قبل حدوثه بسنين، ولذلك فإن المسألة تنطلق من فهم شرعي ومن تدقيق علمي، لأن موضوع الصوم هو عنوان شهر رمضان وشهرية الشهر هي مسألة علمية والحديث عن الرؤية مسألة تنطلق من اعتبار الرؤية وسيلة للمعرفة، وقد ورد في بعض الأحاديث "اليقين لا يدخله الشك، صم لرؤيته وافطر لرؤيته" ما يعني أن اليقين هو الأساس.
أما بالنسبة إلى المسألة الثالثة وهي قضية الشهادة لعلي(ع) بالولاية، فقد ذكر أحد علمائا الكبار، هو زين الدين العاملي المعروف بالشهيد الثاني في كتاب "اللمعة" الذي يدرسه كل طلاب الحوزات في النجف وقم وغيرهما أن الشهادة لعلي عليه السلام بالولاية من حقائق الإيمان وليست من فصول الأذان ويجمع العلماء المعاصرون والسابقون بأنه لا يجوز الإتيان بها كجزء من الأذان، بل لأنه تشريع محرم وأن الذين يأتون بها فإنما يأتون بها على أساس استحباب الكلمة في نفسها، تماماً إذا ما قلنا أشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
أما أن يؤتى بها كجزء من الأذان فهو تشريع محرم ولا يجوز التشريع لا في العبادات ولا في غير العبادات وهذا ما نقول به.^^
حول خلافات السنة والشيعة
* بالنسبة للمسلمين الشيعة هل هناك ممثل وحيد للشيعة وهل هناك خوف حقيقي من إعادة بعث الصراع الشيعي السني؟
ـ أما أن يكون ممثل وحيد للشيعة فهذا ليس موجوداً وليس واقعياً، فمن المسلّم به أن التاريخ الشيعي على المستوى الفقهي هو تاريخ المرجعيات المتعددة المتنوعة، وعلى المستوى السياسي فليست هناك مرجعية سياسية واحدة للشيعة في العالم، بل إن الشيعة يختلفون حسب مناطقهم واتجاهاتهم في هذا الموقع القيادي أو ذاك، أما في مسألة الخلافات السنية الشيعية، فإنني أجد أن هناك عملاً مخابراتياً عالمياً يعمل على أساس توسيع الهوة بين السنة والشيعة ولا تزال هناك دعوات التكفير سائدة بين السنة والشيعة، وهناك من لا يستحل ذبيحة الشيعي ولا يستحل بالزواج من الشيعة وبالعكس.
لا شك أن هذه التركة الثقيلة ناشئة من التخلف في فهم الإسلام وفي فهم الأصول الأساسية للإسلام، ولذلك فإننا عندما نقوم بعملية مسح ميداني لكل المناطق الشيعية في العالم فلن نجد أي قرآن يشتمل على ضمة زائدة أو فتحة زائدة غير هذا القرآن وقد سمعت الموضوع من الشيخ محمد الغزالي المعروف عندما كان يقول لمجموعة من علماء السنة، "آتوني بأي نسخة من القرآن في أي مكتبة من مكاتب العالم حتى لدى الذين يتحدثون عن روايات التحريف، فلن تروا أثراً لسورة أو آية أو كلمة إضافية، وهو ما يثيره بعض المغرضين عن وجود سورة الولاية أو غيرها من الآيات والكلمات.
أما ما يتحدث فيه بعض الناس من أن الشيعة يتحدثون عن التقية في المقام، فإن التقية هي موجودة وممارسة عند الشيعة والسنة والملحدين ولكل الناس، ولذلك نؤكد أننا لا نقول بتحريف الكتاب وأن الله هو الذي تكفل بحفظه، لأن الله يقول: {إنا نحن نزّلنا الذكر وإنا له لحافظون}، وإننا نلاحظ هذه الأيام أن هناك بعض القنوات التلفزيونية تحاول أن تثير هذه المسألة بأساليب غير علمية، بل إنها تتعمد الإثارة والإساءة إلى هذا المذهب أو ذاك مما لا يقبله عقلاء المسلمين.
* الأميركيون راهنوا في الفترة السابقة على السنة العرب فظهر لهم بن لادن وعدد من الحركات الأصولية التي انقلبت عليهم، لذلك هم الآن يحاولون أن يراهنوا على الشيعة العرب؟
ـ أنا أتصور أنهم لا يستطيعون الرهان على الشيعة العرب لسبب بسيط، لأنهم يتهمون بعض الشيعة وهم حزب الله "المقاومة الإسلامية في لبنان" بالإرهاب ويتحدثون عن إيران بأنها دولة محور الشر الداعمة للإرهاب، ولذلك فإن المسألة ليست سنية أو شيعية، بل المسألة هي معارضة السياسة الأمريكية، ولذلك قال رئيس الاستخبارات الأميركية بأن لا فرق بين الإرهاب السني والإرهاب الشيعي.
* هل تتوقع أن تقوم أميركا بتنفيذ تهديداتها بضرب حزب الله؟
ـ أنا لا أتصور أن المسألة بهذه السهولة والواقعية في هذا المجال، وقد انطلق هذا الحديث من الكونغرس الأميركي، ولكنني لا أعتقد أن السياسة الأميركية تملك الظروف السياسية أو الواقعية في المنطقة للقيام بهذا العمل.
* هل تعتقد أن الوضع اللبناني مهيّأ لمواجهة المرحلة المقبلة؟
ـ إنني أتصور أن لبنان تجاوز مرحلة الخطر التي دخل فيها، لأنه الرئة التي تتنفس فيها مشكلات المنطقة، وفي تصوري أن لبنان سيمتص ما يحدث في المنطقة من تطورات، لأن لبنان لا يزال حاجة للمنطقة لأكثر من اعتبار، فالعالم يحتاج إلى لبنان الذي ينسجم مع كل مزاج، ولهذا فإنني أتصور أن لبنان ممنوع من الانهيار كما هو ممنوع من العافية، ولعلنا عندما نتذكر "باريس2" نعرف أنه جاء ليمنع الانهيار وليجمد اللبنانيين في غرفة النقاهة.^^