في ظل هذه الأحداث التي يشهدها العالم في هذه المرحلة يسعدنا أن نلتقي رجلاً من رجالات لبنان المشهود لهم والذين يعتد برأيهم في الأزمات والملمات التي تلم بعالمنا العربي والإسلامي.. رجلاً يحمل القضية الفلسطينية في عقله وقلبه وفي فكره، إنه سماحة العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله، هذا الرجل الذي نكنّ له كفلسطينيين كل الاحترام والتقدير ونحن إذ نبدأ هذا الحوار حول مختلف القضايا التي تشهدها الساحة الفلسطينية والعربية، فإننا نرتكز إلى ثقافته الواسعة إلى نظرته الثاقبة الصائبة إلى سعة اطّلاعه..
أمريكا تستهدف السيطرة العالمية
س : ومن هنا نبدأ، سؤالنا حول سيف الإرهاب، هذا السيف الذي شهرته الولايات المتحدة وفي هذه المرحلة لتسلطه على رقاب الشعوب، فتغير الكثير من المعادلات وتكشف الكثير من المكنونات أيضاً.. فكيف تقيمون سماحتكم ما يجري في العالم في هذه المرحلة؟
ج : لو أردنا أن ندرس طبيعة المرحلة العالمية عشية أحداث الحادي عشر من أيلول، فإننا نجد أن أمريكا كانت مثقلة بالأزمات العالمية، بفعل مواجهة أكثر من شعب لسياستها التي تمثل مصادرة مصالح الشعوب لحساب مصالحها، وذلك بالطريقة التي لا ترتكز على أية قاعدة إنسانية وعلى أي منطلق في مسألة حقوق الإنسان أو الحرية التي اعتبرتها شعارها في تمثال الحرية. لقد كانت أمريكا تعيش أكثر من أزمة وكانت تواجه أكثر من موقف يتحدى عنفوانها في أكثر من موقع بقطع النظر عن الخطأ والصواب في هذا الأسلوب أو ذلك، ولكنه يعطي نتيجة واحدة في أن هذا الاحتقان النفسي الذي يتحرك في وجدان الشعوب يعبر عن نفسه بوسائل قد تكون حضارية وقد تكون بدائية.
وكانت أمريكا تتحرك من أجل أن تبحث عن القوى الكامنة وراء ذلك، ولكن من دون أن تصل إلى نتيجة حاسمة، لأن المسألة تماماً كانت تعيش في أوضاع ضبابية لا تجد هناك أية فرصة للإضاءة عليها أمنياْ أو سياسياً. وهكذا رأينا كيف كانت التفجيرات في نيروبي أو في دار السلام، وكيف كانت التفجيرات في اليمن وما إلى ذلك من الأزمات الكبيرة والصغيرة هنا وهناك.. وكانت مشكلة أمريكا أنها لا تتساءل لماذا حدث ما حدث، بل كانت تحمّل الجهات التي كانت تقوم بذلك كل المسؤولية كما لو أنها ارتكبت جريمة كبيرة، فالولايات المتحدة ومن موقع قوتها الدولية ليست مستعدة أن تحاسب نفسها وتعيد النظر في سياستها أو تشعر بأن هناك شعوباً تحتاج إلى أن تنفتح وتتقدم وتتحسس إنسانيتها في كل علاقاتها الدولية.. وكان السؤال الذي يلحّ على الأمريكيين هو: لماذا تكرههم الشعوب.
وكانوا يتحدثون عن عقدة دينية هنا وعقدة قومية هناك من دون أن يتحدثوا عن العقدة السياسية أو الاقتصادية أو الأمنية التي تقف وراء ذلك، وهكذا تحركت السياسة الأمريكية في داخل الأزمات المتلاحقة وبدأت المحاور الدولية الأخرى ولا سيما الاتحاد الأوروبي تبحث عن ثغرة تنفذ منها في الجدار الأمريكي المنصوب في العالم لتأخذ فرصة في هذا الموقع وفرصة في ذاك الموقع على حساب الولايات المتحدة التي تحركت لتفرض غطرستها لتحاصر دولة هنا ودولة هناك.. ما انعكس سلباً على اقتصادها لأنها حرمت من مكاسب هذه الدولة أو تلك.. وجاء الزلزال حينما حدثت التفجيرات في أمريكا وكانت الصدمة كبيرة، لأن أمريكا كانت تعيش في أمن واستقرار كبير جداً.. حيث كانت تشعر بأن كل العالم يمكن أن يتعرض إلى تحديات أو اعتداءات دون أن تتعرض هي لأي اهتزاز.. وكان الشعب الأمريكي يعيش حالة استرخاء أمني، وكما لو كانت أمريكا هي جنة الله. وفجأة حدث ما حدث وعاشت أمريكا في بضع ساعات حالة انعدام الوزن فلم يشعر العالم أن هناك قيادة سياسية أو أمنية أو عسكرية في واشنطن خلال الساعات الأولى.. وأفاقت أمريكا من هول الصدمة وفكرت أن تعالج هذه المشكلة الجديدة وأن تضرب ألف عصفور بحجر واحد.
لقد أرادت في البداية بأن تنفس هذا الاحتقان الذي تعرض له الشعب الأمريكي، بعد أن بدأ يشعر بأنه لا يملك صلابة في الأرض التي يعيش فيها.. وأن من الممكن أن يقصف كما يقصف أي بلد آخر... وانتبهت أمريكا إلى أن هناك شخصية استهلكها الإعلام في عالم الإرهاب وهو ابن لادن.. وتنظيم القاعدة، ثم اتخذت ذلك ذريعة لتطالب بتسليمه، ثم مارست حرباً نفسية مع نظام طالبان بطريقة عرفت أنه من خلالها سيرفض تسليم ابن لادن، تماماً كما تعاملت مع العراق عندما كانت تحاوره خلال حرب الخليج الثانية، وهي تعرف بحسب الأساليب النفسية أنه سيرفض لأن الطلب لم يكن طلباً دبلوماسياً، إنما كان طلباً للخضوع للتيار الأمريكي، وهكذا هيّأت كل ظروف حرب أفغانستان، سيما بعد أن أحاطت بضغوطها على باكستان الضعيفة ذاتياً.. والأمريكية تاريخياً. وبعد ذلك أقنعت الاتحاد الأوروبي وروسيا مستغلة التعقيدات السياسية والمصالح المتبادلة في هذا المجال، لتكون الحرب حرباً عالمية تتحرك في خطوط تنطلق من الدول الكبرى، ثم تنطلق تفصيلاتها في الدول الصغيرة التي واجهتها واشنطن بالتهديدات الحاسمة في ظل شعار: "إما أن تكونوا معنا أو ضدنا، وعليكم أن تتحملوا مسؤولية ذلك".
وجاءت حرب أفغانستان لتعالج الحالة النفسية للشعب الأمريكي، بهدف إقناعه بأن أمريكا لا تزال هي القوة التي تستطيع أن تعاقب كل من يعتدي عليها بأية وسيلة كانت.. وكانت هذه المظاهرة العالمية التي انتصر لها الاتحاد الأوروبي مع روسيا والصين واليابان، ومع كل دول الغرب وكل دول العالم بطريقة خجولة أو بطريقة خاضعة خضوعاً مطلقاً، وشعرت أمريكا أنها قادرة على أن تقود العالم بما تريد من دون أن يناقشها أحد في عدالة هذه الحرب، وفي الاثباتات القضائية لمعطيات هذه الحرب، علماً بأن بعض دول أوروبا، وبعد الحدث، أخذت تسجل تحفظاتها وتدعو إلى الدقة، ولكنها تخلّت عنها بفعل بعض التطورات أو تبادل المصالح.
لقد خاضت أمريكا حرباً عالمية ضد أضعف دولة في العالم، وذلك بتضخيم قوة تلك الدولة وتضخيم قدرة الشخص المطلوب حتى يكون في مستوى أمريكا، بحيث حولته إلى بطل أسطوري، ما جعل الصورة تبدو وكأنها حرباً عالمية ضد شخص، وبذلك أعطت الشخص ضخامته على مستوى العالم الإسلامي الذي كان يبحث عن بطل، أي بطل في غياب البطولات الاستعراضية، وكان "ابن لادن" هو البطل، ثم لاحظنا إلى جانب ذلك، أن أمريكا استفادت من هذا المناخ لتنفذ كل خططها المعدة للسيطرة في ذلك الجزء من العالم، لأن الذين كانوا يعترضون سابقاً لا يملكون أن يعترضوا الآن، باعتبار أن سيف الإرهاب مسلط عليهم، في الوقت الذي لم تسمح أمريكا لأي بلد عربي أو إسلامي أو أوروبي أن يناقش في مفهوم الإرهاب، تحت شعار أنه ليس هناك إرهاب جيد وإرهاب سيّء، إنما الإرهاب شرّ كله حتى لو مارست العنف من أجل تحرير بلدك.
الوحدة الفلسطينية تفشل الحرب القائمة
وبذلك دخلت المسألة الفلسطينية في هذه الدائرة، ونحن نعرف أن أمريكا تعمل ولا تزال بطريقة تستخدم فيها كل أساليب النفاق السياسي.. على أن تحقق للصهيونية كل المكاسب في الحاضر والمستقبل، ولهذا كانت اللعبة الأمريكية مترافقة مع اللعبة الإسرائيلية. وإذا كان قد بدا أنها عرضت أمام الفلسطينيين كل الفرص، إلا أنها حركت كل اللعبة السياسية الدولية لتضع كل الحواجز وبطريقة خفية لإفشالها، أو عبر تحريك بعض الأوضاع السياسية والأمنية.. وهذا ما لاحظناه عندما كانت المفاوضات تتحرك بعنوان عريض، ولكنها كانت تصطدم بالحائط المسدود من خلال تفصيل هنا وتفصيل هناك، ومن خلال اللغة الخجولة التي قد توجّه لانتقاد سلوك هنا أو عمل هناك، بينما تكون العصا الأمريكية موجهة لرأس الشعب الفلسطيني والقيادة الفلسطينية.
ولتغطية هذه السياسة الأمريكية، كانت اللعبة أن يعلن الرئيس الأمريكي قبوله بالدولة الفلسطينية، فرمى الطعم الذي يجتذب كل الأسماك الصغيرة، سواء كانت هذه الأسماك عربية أو إسلامية، وصفق الجميع للدولة الفلسطينية، الغامضة الضبابية التي قد تلتقي مع كل ما يريده شارون، ولكنها قد توحي لكل الواقع العربي والإسلامي بما يحبون أن يفهموه، وإن لم تكن هناك أية قاعدة لما يمكن أن يفهموه. وهكذا انطلقت اللعبة في تصريح هنا وتشجيع وتصريح هناك، ثم تتراجع المواقف، وبعدها حُرك مشروع ميتشل واقتراحات تينيت، وضاعت القضية الفلسطينية، وبدأ الجميع يلهثون حول التفاصيل التي لا تجد الكثير من الإصغاء.. لقد تمكّنت السياسة الأمريكية التي تختبىء خلفها السياسة الإسرائيلية في استغلال حدث11 أيلول وفي تمييع القضية الفلسطينية، وإيجاد ظروف صعبة قاسية ضاغطة ضد الفلسطينيين عندما اعتبرت أن الانتفاضة عنف وأن عليهم أن يوقفوا هذا العنف، وأن الانتفاضة إرهاب وأن عليهم أن يحاربوا هذا الإرهاب، وأن الإسرائيليين ضحايا ذلك.
وتحركت التعقيدات أمام الانتفاضة هنا وهناك، والتي صنعتها الغطرسة الصهيونية بهدف تحقيق الإبادة الشاملة للشعب الفلسطيني الذي لم يجد لنفسه أي منفذ إلا الإيحاء للصهاينة بأن الأمن الإسرائيلي لا يمكن أن يتحقق حتى في داخل المناطق المحتلة عام 1948 ما دام الأمن الفلسطيني لا تتوفر له شروطه الطبيعية.
وكنا نقول إن الفلسطينيين المجاهدين لا يستهدفون المدنيين، ولكنهم يستهدفون قتل الأمن الإسرائيلي باعتبار أن إسرائيل قتلت الأمن الفلسطيني.. وعندما نريد أن نستهدف هدفاً عسكرياً فمن الطبيعي أن يسقط المدنيون تماماً كما تبرر إسرائيل وأمريكا معها قتل المدنيين الفلسطينيين باعتبار أن ضرب الأهداف العسكرية قد يحتم ذلك، ودخلت اللعبة في موقع جديد عندما أرادت أمريكا ومعها إسرائيل أن تعطي الساحة الفلسطينية كل عناوين الساحة الأفغانية، فالطالبان حوربوا لأنهم آووا الإرهاب، والسلطة الفلسطينية لا بد أن تُحارَب لأنها آوت "الإرهاب" المتمثل بأكثر من منظمة فلسطينية جهادية بما فيها المنظمات غير الإسلامية، حتى منظمة فتح والجبهة الشعبية وما إلى ذلك، وأصبحت المسألة أن تدخل السلطة الفلسطينية في مشروع الحرب على "الإرهاب" لتخلق واقعاً فلسطينياً يحارب فيه الفلسطينيون بعضهم بعضاً، بقطع النظر عن مفردات الخطأ والصواب في هذا الموضوع، لأن المطلوب ضرب وحدة الشعب الفلسطيني التي شكّلت المأزق الذي واجهه الإسرائيليون في كل حركة الانتفاضة، لذلك فإن هذا السلاح القوي، الذي يمثل صلابة الأرض هناك بالرغم من كل عمليات الجرف ومن كل عمليات القتل، لا بد أن يسقط.
ولا تزال اللعبة متحركة ونشعر أن أمريكا هي المسؤولة، وقد اجتذبت لهذه اللعبة الجديدة الاتحاد الأوروبي وروسيا واجتذبت في الخفاء أكثر من دولة عربية وإسلامية من خلال أكثر من حالة ضعف وأكثر من حالة عجز وأكثر من مصلحة دولية، وتحوّلت الحرب إلى ما يشبه الحرب العالمية ضد الشعب الفلسطيني، على قاعدة إما أن تقتلوا بعضكم بعضاً وأن تضطهدوا المجاهدين وإلا فإن العالم سوف يقف مع إسرائيل (الضحية) التي تدافع عن نفسها. وسقطت كل الكلمات، وبكل اللغات السياسية من خلال هذه اللعبة.
إن العالم في هذه المرحلة، يُراد له أن يعيش في حالة انقلاب أمريكي لمصلحة أمريكا، ولكني أتصور أنها فترة انتقال قد تُمكِّن العالم الآخر، الذي يملك مصالح تختلف عن المصالح الأمريكية، ليعيد النظر بأكثر من خط من خطوط سياسته، وإذا كانت أمريكا تتحرك ضد ما يسمى بالإرهاب في العالم، فإن ما سينتج عنه هو توسيع الدائرة، أي إرهاباً جديداً لن يكون في دائرة حزبٍ أو منظمة ولكن في دائرة كل شخص يشعر بالقهر.
بالصمود نواجه الابتزاز الإسرائيلي
س : استناداً إلى ما تفضلتم به، هل نستطيع القول إن شاورن الذي يشن المعركة ويرتكب المجازر بقرار دولي، وهذا القرار الدولي مستند أيضاً إلى العقدة الدينية التي ألمح إليها (الرئيس الأمريكي) في يوم من الأيام واعتبرها زلة لسان؟
ج : قد لا تكون هناك حالة انسجام دولي مع شارون، ولكنها الإرادة الأمريكية.. نحن نعرف أن الاتحاد الأوروبي يرفض شارون جملةً وتفصيلاً وأن روسيا تنسجم مع الاتحاد، لكن الخطة الأمريكية الجديدة والمسماة بالحرب على الإرهاب استطاعت توظيف هذه القوى في معركتها، ومساندتها في سياستها الملتزمة بالأمن الإسرائيلي بالمطلق، وكانت أمريكا قد أعلنت بأنها ستدخل حرباً عالمية لمصلحة الأمن الإسرائيلي إذا تعرض للإهتزاز أو السقوط.. وهذا ما فعلته إبان حرب تشرين عام 1973 عندما أقامت جسراً جوياً لإسرائيل ولوّحت بضربة عسكرية فوق العادة لمصر أو للعالم العربي من أجل حماية إسرائيل.
إن العمليات الأخيرة التي تتابعت من أكثر من جهة في منطقة1948 والتي تعتبر رسمياً "منطقة إسرائيل"، وصولاً إلى اغتيال وزير السياحة الصهيوني جعل واشنطن تقتنع بأن هذه العمليات إذا تتابعت فستسقط كل الأمن الإسرائيلي، لأن ألف فلسطيني يقوم بألف عملية استشهادية بتلك المناطق سوف تسقط أكبر أحجار الهيكل الإسرائيلي، ما يجعل مشاعر الرعب تنفذ إلى عمق الإنسان الصهيوني هناك، فيشعر بأنه لا أمن هناك، وبذلك تحدث الهجرة المضادة ويهتز الاقتصاد الإسرائيلي.. الأمر الذي يؤدي إلى إسقاط الساحة الإسرائيلية.
إن أمريكا بدأت تشعر بأن هذه العمليات تتحدى في حماية استراتيجيتها الأمن الإسرائيلي، ومن هنا كان العنف الأمريكي ومن هنا كانت الحركة الدولية تجاه أمريكا، لأن الاتحاد الأوروبي وروسيا يلتزمان مع أمريكا في الحفاظ على الأمن الإسرائيلي.. ولا تقبل أن يصيبه الاهتزاز. إنها تتحدث في بعض الحالات عن الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، ولكن بشرط أن لا يكون ذلك على حساب إسرائيل.
هذا هو عمق اللعبة الدولية والخطة الغربية بشكل عام وغير الغربية التي قد تلتقي مع اليابان أو روسيا أو الصين وما إلى ذلك، وهو ما يفسر هذه القسوة في الموقف، وهذا الخروج عن كل الأدبيات السياسية للاتحاد الأوروبي وروسيا وغيرها، ولهذا فإن خطورة المسألة تنبع من أن أمريكا وربما كان معها أيضاً فريقها السياسي في مرحلة (الحرب على الإرهاب) قد ارتضوا ما يقوم به شارون من تصعيد، فنحن نرى أن السلطة جادة في وقف إطلاق النار، في تحقيق بعض ما طلب منها، ولذلك فإنها كلما تقدمت خطوة طالبوها بخطوة إضافية، ما يعني أننا في مرحلة ابتزاز للشعب الفلسطيني حتى يتخلى عن أي تفكير بالانتفاضة، بمعنى أن يبرز الشعب الفلسطيني عارياً من كل ثيابه في المفاوضات وحتى لا يأخذ منها إلا ما تعطيه إسرائي ل، أو بعض التحسينات الشكلية التي تمنحها له أمريكا..
هذا هو الهدف الأخير، لذا فإن إسرائيل لن توقف عدوانها على الشعب الفلسطيني وعلى المنطقة، ولن تتحول إلى دولة من دول المنطقة إلا إذا حصلت على أكبر قدر من المكاسب السياسية والأمنية والاقتصادية في داخل فلسطين وفي العالم العربي، ولذلك فإن كل هذه المظاهرة الأمريكية والدولية من أجل أن يعطوا الدعم لهذا الطفل المدلل (شارون) الذي لا يقبل بما يقدم إليه من أنواع الألعاب إلا ما يريده في نهاية المطاف..
والمطلوب هو أن يتحول الشعب الفلسطيني إلى لعبة من اللعب التي تلعبها إسرائيل، لكن هذا الطفل المدلل الإرهابي الصهيوني، لا يمثل القدر لأن الله في قضايا الحريات وفي قضايانا الإنسانية أراد لنا أن نصنع قضاءنا وقدرنا بأنفسنا.. حيث قال جل من قائل: {إن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم}.. وأن على الشعوب المستضعفة أن لا تنظر إلى أمريكا ولا سيما في هذه المرحلة كمثل القضاء والقدر، أو أن "المكتوب ما منو مهروب".
الحوار الداخلي يحفظ المقاومة
س : من الملاحظ سماحة العلامة أن الكثير من الدول العربية والإسلامية، كما تفضلت في هذه المرحلة، سعت إلى حماية رأسها وهي ترى سيف الإرهاب يصول ويجول في المنطقة.. هذا عامل، وعامل آخر أن شاورن ارتكب كل هذه الجرائم والمجازر من بيت ريما وغيرها وإلىكل مدينة وقرية حتى قتل الأطفال والجرحى.. ورغم كل هذا فإن شعبية شارون تتصاعد من خلال استطلاعات الرأي.. مردّ ذلك للفكرة التي تفضلتم بها.. وهي أن الأمريكان قد سوقوا فكرة أن وجود إسرائيل أصبح في خطر الآن، وهو الذي شكل هذا الضغط الهائل على السلطة الوطنية والقيادة الفلسطينية؟
ج : إنني أتصور فيما طرحه السؤال بالنسبة للعالم العربي والإسلامي، أن مشكلة هذا العالم بشكل عام ـ ولا نريد أن ندخل بالتفاصيل ـ هو أنه خاضع منذ زمن بعيد للسياسة الأمريكية، فنحن نعرف بدون توزيع الاتهامات أن أغلب هذه الأنظمة قد جرى توظيفها للقيام بمهام معينة، إن لتجميد كل حركة التحرر العربي أو لمصادرة كل حركة سياسية تتطلع إلى أن يكون لهذه الأمة مستقبل تملك فيه أمرها بيدها. والهدف أن لا نتوصل إلى الاكتفاء الذاتي في التصنيع، وفي المكننة الزراعية، وفي تفجير الطاقات العلمية من خلال الحفاظ على كل علماء هذه الأمة في داخل البلاد. الهدف أن لا تعيش الأمة موقع الدولة أو المحور العالمي الذي يحرك كل طاقاته وكل مواقع قوته.
إن المطلوب هو مجموعة من الموظفين تنحسر مهماتهم في حراسة كل نقاط الضعف، وضرب كل نقاط القوة تحت أكثر من عنوان وعنوان، ولهذا فإننا لاحظنا في هذه المرحلة وما قبلها أن المطلوب هو تدجين الشعب الفلسطيني وأن يقبل بما يطرح عليه، ونحن نعرف كيف كانت الضغوط العربية وبعض الضغوط الإسلامية في أثناء المفاوضات تزداد حتى يقبل الفلسطينيون بما يقدم إليهم، بحجة أنهم لن يحصلوا إلا على ذلك.
نعم، هناك واقع العجز العربي والعجز الإسلامي، لكن هناك واقع أخطر يراد صنعه من خلال دفع هؤلاء العاجزين إلى أن يكونوا في موقع القدرة ضد شعوبهم وضد الشعب الفلسطيني بالذات. لقد تعب العرب من القضية الفلسطينية وبدأوا يخافون من تفاعلاتها على أكثر من واقع سياسي في المستقبل، لأن هذا التناغم بين الشعوب العربية والإسلامية وبين انتفاضة الشعب الفلسطيني قد يخلق حالة جنينية في المستقبل تربك كثيراً من القوى. أما بالنسبة إلى ما ذكرناه فإننا نتصور أن الانتفاضة قد استطاعت تحت أنظار كل العالم، أن تُدخل إسرائيل في المأزق الذي وقعت فيه، ولو بنسبة معينة، سيما عندما أخذت الأرض تهتز تحت أقدامها، وهذا ما جعل نتنياهو في أول الانتفاضة يصرح بأنني أشعر لأول مرة بالخطر على إسرائيل، وهذا هو الذي جعل أكثر من مسؤول إسرائيلي يصرح بأن هذه الحرب هي حرب استكمال لما يسمونه "حرب التحرير" مما يعني أنها حرب الكيان تماماً كما كانت حرب1948 حرب الكيان.
وهذا هو الذي دفع بالولايات المتحدة ولا سيما في إدارتها الحالية أن تتحرك بهذه الطريقة، ولم تعد المسألة الآن تتصل بشارون فحسب.. بل أصبحت المسألة هي مسألة وجود الكيان اليهودي داخل فلسطين.. لأنه شعر بأنه هو المحاصر بكل هذا العالم العربي وشعر أن قوته الضاربة التي أريد لها أن تكون أقوى قوة في المنطقة لم تستطع أن تحميه من مجاهدي الشعب الفلسطيني..
لهذا أنا أعتقد أنهم يشعرون في هذه المرحلة بما لم يشعروا به فيما سبق من المراحل، وهذا ما يجعلنا نفكر، وقد لا نملك صورة تفصيلية لذلك، بأن خلاص الشعب الفلسطيني هو باستمرار الانتفاضة.. ولكننا في الوقت نفسه ندعو، كما أطلقنا في خطبة يوم الجمعة إلى أن يدور هناك حوار جدي موضوعي هادىء وراء الكواليس لتوزيع الأدوار، بما يحفظ حق المقاومة للاحتلال.
المعركة بين الأصيل الفلسطيني والبديل الصهيوني
س : سماحة العلامة، إذا تواصلت حالة الصمت والتفرج التي شاهدناها ولمسناها عندما كان القصف الأمريكي يطال الشعب الأفغاني من أطفال ونساء ومدنيين، إذا انسحبت هذه الحالة إلى الأراضي الفلسطينية وإلى الشعب الفلسطيني.. وترك ياسر عرفات والقيادة الفلسطينية والشعب الفلسطيني لوحدهم في مثل هذه الحالة فإلى أين نحن سائرون؟
ج : أنا لا أعتقد أننا يمكن أن نشبّه الحالة الأفغانية بالحالة الفلسطينية لسبب واحد، وهو أن الحالة الأفغانية لم تتجذر في وجدان العالم وضميره بشكل عميق، لأن المسألة الأفغانية تحركت من حالة طارئة أطلقها حدث معين في مرحلة معينة، وعرف العالم أن هذا النظام سواء كان نظام طالبان أو القاعدة يرتكز على دولة اسمها باكستان وعلى الامداد الأمريكي الخفي، فعندما زال ذلك زال كل شيء.. أما القضية الفلسطينية فهي قضية متجذرة في وجدان العالم الذي تقتحمه من وقت إلى آخر لتثير كل آلامه وآماله وكل مشاعره الإنسانية، لذلك هناك فرق بين المسألة الأفغانية والمسألة الفلسطينية، لأن المسألة الأفغانية عندما انطلقت لم تنطلق من خلال واقع ضاغط من المعتدين.. بينما المسألة الفلسطينية لا تزال تعيش حالة رفض نفسي لكل السياسة الملتزمة بإسرائيل.
إنني أتصور أن كل الرهان الآن هو البحث عن قيادة بديلة وعن شخصيات سياسية في الساحة الفلسطينية تملك إسرائيل الحوار معها بطريقة أفضل مما تملكه مع السلطة الوطنية الفلسطينية الحالية.. إنها تراهن على أن تجد في الشعب الفلسطيني، وفي الكوادر الفلسطينية، شخصيات تهادنها وتقبل بشروطها، ولذلك فإن الكرة الآن في ملعب الشعب الفلسطيني، وهذا الشعب يجب أن يقطع الطريق على كل الطامحين ويمنعهم من أن يكونوا البديل لإسرائيل لا البديل الفلسطيني، الكرة في ملعب الشعب الفلسطيني الآن، لأننا نسمع من وقت لآخر شارون وغير شارون يتحدث عن أن هناك قيادة فلسطينية يمكن أن تحاورنا بطريقة أخرى، هذا هو المقتل، وعلى الشعب الفلسطيني أن يدرك ذلك.
ما ضاع حق وراءه مطالب
س : على الرغم من هذه الحساسية للوضع الفلسطيني وللقضية الفلسطينية الجوهرية، نرى حالة الصمت العربية والإسلامية، ألا تثير هذه الحالة شهوة شارون ليوسع عدوانه على الشعب الفلسطيني؟
ج : نعم، من الطبيعي أن نعتقد أن الصمت العربي والإسلامي الذي مثّل نُطقُه شيئاً أبشع من الصمت، قد شجع أمريكا وحتى الدول الأخرى السائرة في الفلك الأمريكي، وشجع إسرائيل على أن تأخذ حريتها في صنع المأساة. ولكني أعتقد أن استمرار الشعب الفلسطيني وصموده في الساحة سوف يكون هو أكبر نُطقٍ للقضية، أنا لا أتحدث عن أحلام ولا أتحدث عن مثاليات، لكني أعرف أن الشعوب عندما تصرّ على مطالبها، فإنها لا بد أن تبلغها، لا سيما عندما تكون المسألة مسألة شعب بقي وحده تحت الاحتلال في كل هذا العالم، وقد أثبت الشعب الفلسطيني أنه الشعب الذي استطاع أن يتمرد على كل الضغوط حتى التي هي من مستوى الجبال التي تطبق على الأرض.
المسألة هي أن الذي يضحك هو الذي يضحك أخيراً.. الرهان هو كيف يمكن أن تتحرك هذه الظروف الدولية لتدجّن الشعب الفلسطيني لتسقط انتفاضته ولتسقط حلمه بعد أن عملوا على تقليص الحلم عنده كما تقلّص حلم فلسطين من النهر إلى البحر؟.. ليسقط حلمه في القدس والضفة الغربية وغزة ليكون على مستوى42% من الضفة الغربية وأكثر غزة.
س : سماحة العلامة.. ما هي ملاحظاتكم على الأداء السياسي الفلسطيني في هذه الأزمة، وما هي توجيهاتكم؟
ج : إنني أعتقد أن هناك ضغوطاً سياسية كبيرة على القيادة الفلسطينية وهي بحجم الجبال. لقد عرفوا أن الحركة الفلسطينية السياسية بلعبتها الذكية قد تجاوزت كل الضغوط، ولذلك جاء الحصار رداً على ذلك. المسألة هي الآن كيف نستطيع أن نجدد قواعد اللعبة السياسية وكيف يمكن أن نتجاوز الكثير من الدهاليز التي يفتحونها بين وقت وآخر؟ وأعتقد أن التجارب التاريخية التي عاشتها القضية الفلسطينية في حركتها القيادية والشعبية جعلتها تملك تجربة هائلة كبيرة، لذا علينا أن نوظّف الماضي بالحاضر ليتعاونا في صنع المستقبل، وما ضاع حق وراءه مطالب.
حقاً إنكم شعب الجبارين
س : ماذا يقول سماحة الإمام المرجع محمد حسين فضل الله في كلمته الأخيرة لشعبنا وانتفاضته الباسلة لشبابنا ورجالنا.. لأخواننا وأمهاتنا.. لطفلنا الذي يقاوم بالحجر هذه الغطرسة الإسرائيلية؟
ج : إنني أقول لكل أهلنا في فلسطين، أهلنا الذين صنعوا لنا تاريخاً ربما لا نجد الكثير في مسيرة التاريخ مثله في هذا الوعي العربي والإسلامي والسياسي والإنساني، الذي نشعر فيه أن الطفل الفلسطيني يحرك حجارة واعية تعرف كيف تنطلق إلى هدفها. وأن المرأة الفلسطينية تطلق زغاريدها في جنازات الشهداء لتقول للعالم أن الشهادة تمثل الفرح في الروح الفلسطينية بدلاً من أن تمثل الحزن، وأن الشعب الفلسطيني كلما ازدادت جراحه أكثر وكلما سقط شهداؤه أكثر كلما ازداد صلابة وتمرداً وصموداً وجبروتاً ضد المحتل. وأن شيوخنا في فلسطين الذين لا يزالون يحملون القضية الفلسطينية التي انطلقت طفولتهم الأولى مع أحلامها، ما يزالون يعيشون ذلك ليسقط الشهداء منهم في الساحة. يا أهلنا ويا أحباءنا ربما نخجل عندما نقول إننا معكم، لأن كل الحدود التي فرضت علينا، وكل الحواجز التي نصبت أمام الشعوب في الداخل والخارج، منعتنا من أن نكون معكم، دماؤنا دماؤكم وجراحنا مع جراحكم، وأرضنا مع أرضكم، لكننا نأخذ منكم في كل يوم درساً، ولكننا نعيش معكم في كل يوم حلمنا، وإننا نبصر من خلال عيونكم كل معاني الأمل، ومن خلال جراحكم التي تنـزف كل جراحات الأمة. لقد صنعتم لنا تاريخاً جديداً، والمسألة هي كيف نكمل معاً هذا التاريخ ليكون تاريخ الانتصار الكبير، لأن القضية الفلسطينية اختصرت كل تاريخ المرحلة وهي التي تمتد منها كل مفاصل المرحلة.
تذكروا والعالم يتهددكم، العالم المستكبر، تذكروا قوله تعالى: {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء فاتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم}، {إنما ذلكم الشيطان} الأمريكي وغير الأمريكي {يخوّف أولياءه}.. {فلا تخافوهم وخافوني إن كنتم مؤمنين} إن الإرادة سياسة رحمانية، أيها الأخوة.. أيها الأحبة تذكروا قول الله تعالى دائماً عندما تعيشون الآلام والجراح، {إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون} {إن يمسسكم قرحٌ فقد مسّ القوم قرحٌ مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس} {ولينصرنّ الله من ينصره}، وقد نصرتم الله عندما نصرتم إنسانيتكم وحريتكم وعزتكم وكرامتكم وهذا ما يحبه الله، {إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم} {ولينصرنّ الله من ينصره إن الله لقوي عزيز}.
لكم كل المحبة، لكم كل الروح، لكم كل شمس المستقبل، لا تدخلوا في زنازين خلافاتكم الحزبية ولا الشخصانية.. ابقوا في الهواء الطلق، هواء الحرية وانفتحوا على الشمس في كل صباح حتى ينبثق فجر التحرير.
وشكراً جزيلاً لسماحة العلامة محمد حسين فضل الله على هذه الفرصة الثمينة التي أتاحها لنا لكي ننهل من عمق فكره ومن وعيه السياسي على أمل أن نلتقي إن شاء الله سوياً قريباً وأن نصلي في المسجد الأقصى.. وشكراً..
المصدر: مجلة القدس/لبنان، عدد:114 أول كانون ثاني/2002