أجرت مجلة " بلا حدود" حواراً صحفياً مع العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله ونشرته في عددها الخامس الصادر في سنة 2002 الميلادية، وهذا نص الحوار:
تقديم:
لا تتصور روعة لقائه حتى تلتقي به.. تقف إجلالاً واحتراماً لهيبته المشرقة. وجه نوراني أكسبته نقاوة الإيمان وطهارة النفس روحانية عظيمة تجعلك منبهراً إذا نظرت لسماحته.
سمعنا منه، ونهلنا من بحر علمه الذي لا ينضب وسبرنا أغوار حياته لنتعلم من طفولته كيف نربي أطفالنا، ومن شبابه كيف نثقف شبابنا. ومن حكمة سنه تعلمنا فقه الحياة فكان سماحة العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله، دام ظله الشريف، معلمنا الأول الذي ينفتح قلبه لأوسع من محيط..
مرحلة الطفولة:
* بداية سألناه ما هي السمات الرئيسية التي ميزت طفولة السيد؟
لعل الذي ميز طفولتي الأولى هو أنني عشت في بيت علمي بالمعنى الحوزوي، في ظل ظروف بؤس من الناحية الاقتصادية بحيث لم نكن كعائلة نشعر بالحياة الطبيعية من الناحية الغذائية وما يلحقها من ألبسة وغير ذلك. لقد ولدت في النجف الأشرف، البلد التقي الذي يعيش على كتف مقبرة هي "دار السلام" التي تشكّل أكبر المقابر في العراق وفي العالم، حيث يدفن العراقيون موتاهم، في هذا المكان تأتي أيضاً من سائر أنحاء العالم جنائز الذين يوصون بأن يدفنوا في هذه المقبرة التي تقع إلى جانب قبر الإمام علي (ع). ولذلك كنا نشاهد في طفولتنا كل يوم مناظر الجنائز التي يؤتى بها من الخارج، فتولد لدينا حالة من الشعور بالموت. من الطبيعي أيضاً أن الأجواء الدينية بمناسبة عاشوراء كانت تترك تأثيراً مأساوياً في النفس. وبما أن النجف بلد الشعر، فقد كانت المناسبات الدينية والتأبينية تزخر بالقصائد التي يقرأها الشعراء ما ترك في نفسي تأثيراً أدبياً، وجعلني منذ البداية شديد الإهتمام بالقراءة وقد كتبت الشعر مبكراً في العاشرة من عمري، ضمن تطلعات حديثة ومعاصرة. وطبعاً أنا بدأت الدراسة بالحوزة في العاشرة من عمري، ولبست العمامة في الثانية عشرة باعتبار أنها كانت الزي لطلاب العلم، بقطع النظر عن المرحلة التي يبلغها الطالب، لأنها لم تكن تمثل مستوى علمياً.
من الطبيعي أن كل هذه التراكمات تركت تأثيراً في نفسي، وفي نفس الوقت كان المرحوم الوالد منفتحاً على أولاده، بحيث لا يعنف معهم بل كان ينفتح عليهم، هذا أعانني كثيراً على الانفتاح وعلى أن أستقبل الحياة بنظرة متفائلة وليست متشائمة.
قلق المعرفة:
* هل تميزت مرحلة الشباب عند السيد بطابع خاص؟
وهل كان مختلفاً عن بقية أقرانه؟
كان القلق الذي أعيشه في نفسي حيال الدخول في العصر، يمنحني إحساساً شبابياً بما يشبه الضباب، الضباب الذي لا يعرف الإنسان فيه ما يريد ولكنه يحاول أن ينتفع. وربما كانت قراءاتي الأدبية، قراءة القصص المترجمة عن الفرنسية والشعر المترجم عن الفرنسية، أيضاً المجلات التي كنت أقرأها في بدايات الشباب لا سيما مجلة الكاتب المصري لطه حسين ومجلة الرسالة والثقافة وقصائد الشعراء المصريين هي التي جعلتني أعيش في عالم أوسع من العالم الذي أعيش فيه، وكنت إلى جانب أصدقاء عراقيين وخليجيين من الأدباء في النجف، كنا أسسنا أسرة الأدب اليقظ، وهي أسرة أدبية تنفتح على الأدب الحديث، حتى كنا نحن أوائل الذين كتبوا الشعر الحر في أوائل الخمسينات في النجف الأشرف، لذلك كنت معاصراً منذ البداية ولم أكن تقليدياً مع الاحتفاظ بالخطوط الإسلامية في السلوك العام.
لقد زرت لبنان لأول مرة وكنت في السادسة عشرة من عمري، ودخلت لبنان من الباب الواسع، لأنني شاركت في قصيدة في رثاء المرحوم العلامة السيد محسن الأمين، في حفل جماهيري ثقافي كبير في بيروت في منطقة قصقص، ضم شخصيات كبيرة مثل الدكتور مصطفى السباعي، وتعرضت في القصيدة إلى الوحدة الإسلامية والواقع الاستعماري السياسي في المنطقة. وكنت في تلك الفترة أرعى الكثير من الندوات والحوارات في بنت جبيل وفي أماكن أخرى مع الشباب الحزبي والمثقف آنذاك..
تنشئة منفتحة:
* سماحة السيد نحن نعلم أن توجهك إلى الدين والدراسة الحوزوية كانت بفضل الوالد رحمه الله وكان له التأثير الأكبر على حياتك. هلا حدثتنا عنه وعن معاملته؟
لعل المرحوم الوالد كان من الشخصيات النادرة التي امتلكت رحابة الصدر في الحوار، فلم يكن يتعامل معي كأب يفرض نفس على ولده ويفرض عليه رأيه. لم أذكر أنه ضربني مرة واحدة، بل كان يعتمد طريقة الصمت إزاء ما لا يرضيه فكان تأثير ذلك أكبر من تأثير الضرب. كنت أحاوره في القضايا العلمية والحوزوية ونحن على مائدة العشاء أو الغداء، وكنت أناقشه فيما لا يمكن النقاش فيه، إذ كنت أحدثه حول القضايا التي لا يتقبل المحيط أن يناقش فيها وقد تكون من المحرمات الفكرية، وكان صدره يتسع لذلك ويناقشني وأناقشه. وقد استمرت حياتي الفكرية الحوارية معه في مختلف القضايا إلى الليلة الأخيرة التي توفي فيها. لقد كان الإنسان الذي يعيش روحانية المؤمن التي ترتفع إلى مستوى القداسة، بحيث كان كل الذين يجلسون إليه يشعرون بأن الروحانية تفيض من وجهه، حيث كانوا يتميزونها وهم ينظرون إليه حتى ولو لم يكن يتحدث. وإذا كنت أملك شيئاً من الروحانية فقد تعلمت ذلك منه، وهكذا علمني كيف أحب وكيف يتسع صدري لمن أختلف معه ولمن أتفق معه، ولذلك أعتبر أن تأثيره علي كان كبيراً جداً.
التربية الإيجابية:
* ولكن هل ما زال تأثير الوالدين على أولادهم بنفس النسبة؟ وعلى من تقع مسؤولية تربية الشباب في هذا العصر؟
في عقيدتي أن الإنسان يبقى إنساناً سواء كان طفلاً أو شاباً. المشكلة الموجودة عند كثير من الأهل أنهم لا يفهمون أولادهم، لذلك يتحركون مع الولد من خلال أفكار مسبقة عن طريقة تربية الولد، أو ربما يختزنون في ذاتهم طريقة آبائهم في التربية، لأنهم يعتبرونها النموذج في تربية أطفالهم في هذا العصر، أو يتقمصوا شخصية مستبدة قد تعيشها بعض المجتمعات في سيطرة الأب على الأبناء. ولعلنا نسمع الكثيرين من الآباء الذين يصرخون على أبنائهم وبناتهم وحتى زوجاتهم باعتبار أن الكلمة لهم في البيت وأنه ليس لأحد أن يعترض أو يناقش. وقد تحدثت في أكثر من مداخلة فكرية أننا نربي أولادنا على أن يتقبلوا الاستعمار وأن يخضعوا للظالم، لأن الأب يحكم أولاده بطريقة التي لا تسمح لهم بالحرية في أن يتكلموا كلاماً معارضاً أو أن يناقشوا أو أن يحاوروا أو أن يبدوا رأيهم. المسألة هي أن الأب تارة وربما الأم تارة أخرى يتدخلان حتى في عواطف أولادهم وفي مشاعرهم وفي رسم الخطوط العريضة والطويلة لحياتهم، هؤلاء يصنعون من أولادهم أناساً يخضعون للقوي، لذا فإننا قد نتربى في بيوتنا وفي مجتمعاتنا وفقاً لما يريده رئيس المنطقة أو العشيرة، قد نتربى على قبول الاستعمار بحيث يصبح الإنسان يخاف من أن يكون حراً في بعض الحالات. أنني أعتقد أن الأب والأم إذا كانا حكيمين فإنهما يستطيعان التأثير عليهم بطريقة إيجابية. لكن علينا أن نعرف أن للبيئة تأثيرها سواء بيئة المدرسة أو الرفاق أو المناخ العام لأن أولادنا ليسوا أولادنا فحسب بل هم أبناء المجتمع، ولكني أعتقد أن للبيت دوراً كبيراً إذا أحسن فهم شخصية الأولاد، ولذلك علينا منذ البداية أن نعود أولادنا أن يفكروا بحرية وأن نسمح لهم بأن يفكروا ويخطئوا، فنربي أولادنا على الاعتماد على النفس وعلى أن يستطيعوا أن يفكروا بحرية، لتنمو هذه الحرية الفكرية في نفوسهم، ما يجعل من الولد إنساناً حراً في المستقبل في فكره أو في مواجهته الآخر بأفكاره أو بأوضاعه.
تربية الذات:
* هل الشاب الذي يدرس دراسة حوزوية يكون مختلفاً ثقافياً مع الشاب الذي يدرس دراسة أكاديمية؟
لا أتصور أن الدراسة الحوزوية يمكن أن تجعل الإنسان مختلفاً، بل أنها دراسة غنية ان في موضوعات اللغة العربية والفقه والأصول. ولكن المسألة قد تختلف من خلال البيئة التي يعيشها الطالب، لأن الحوزة عادة تمثل منطقة مغلقة من الناحية الفكرية المنفتحة على العصر، وربما يعيش بعض الناس، ممن لا يملكون رحابة الأفق، الإحساس بالفوقية باعتبار أن الطالب الحوزوي يتهيأ ليكون عالماً دينياً، فقد يشعر بطريقة خفية بأنه فوق الآخرين وبأن عليهم أن يقدسوه وأن يقبلوا يده وأن يضعوه في الموقع الأعلى. ربما إذا لم يحصل على تربية أخلاقية دينية روحانية، ينشأ ويتصور نفسه بطريقة أشبه بالفوقية. إن قضية الأخلاقية والانفتاح والحرية هي مسائل لا تنطلق من خلال الجو التربوي الذي يحيط بالإنسان ويخلق تأثيرات عليه، ما يعين ان عليه أن يربي نفسه على هذه المبادئ.
مشكلات شبابية:
* ما هي المشاكل التي يتعرض لها الشباب وما هي أسباب وعوامل هذه المشاكل؟
من الطبيعي جداً أن الشباب في سن المراهقة ذكوراً أو إناثاً يتعرضون للمشكلة الجنسية، وذلك بسبب طبيعة الإحساس الغريزي الذي يضج بالجسد. وعندما يتقدمون للحياة يتعرضون للمشاكل الاقتصادية الخانقة فلا يجدون فرصة للعمل، فيضطرون للهجرة وترك أوطانهم للبحث عن عمل، وهكذا بالنسبة إلى المشاكل التي تعترض الشباب في دراسته من ناحية علاقة الجانب الدراسي بالجانب الاقتصادي أو مثلاً يصطدم بطبيعة المستوى الدراسي في جامعة معينة أمام جامعة أخرى! وكذلك يواجه الشباب الأوضاع السياسية الصعبة التي يعيشها العالم الثالث ولا سيما العالم العربي والإسلامي.
ان كل هذه المشاكل تواجه الشاب والشابة في مقتبل حياتهما عندما تضغط عليهما كل هذه الأوضاع لتربك حياتهما ولتحاصرهما بطريقة أو بأخرى. ومن الطبيعي أن على الإنسان الذي يملك عقلاً وإرادة وتطلعاً إلى الحياة أن يأخذ بأسباب الصبر باعتبار أن هذه المشاكل طبيعية كما يواجه حالة المرض أو الخوف. فلا بد للإنسان أن يوحي لنفسه بالقوة وأن يعيش التجربة وأن يفكر أن فشل التجربة لا يعني فشل الفكرة، بل عليه أن يواصل تجربته في الحياة لينتصر ويتمرد على مشكلة هنا ومشكلة هناك، وإذا كان لا يستطيع أن يحل المشكلة فإن عليه أن يتعايش معها ريثما يجد الحل، وعليه أن لا يسقط تحت تأثيرها لأن الإنسان لا بد أن يعيش الأمل في المستقبل. ان الحياة تنتظر الشباب الذين يقتحمون مشاكلها وضغوطها من أجل أن يفتحوا في كل مرحلة أفقاً جديداً للأجيال القادمة.
التفاعل الثقافي:
* الشباب هذا اليوم يتبنون الأفكار الغربية التي لا تمت لمجتمعنا بصلة، هل تتعرض لغزو ثقافي علماً أن البعض يرفض ذلك على أساس أن الغرب يعرض ثقافته ونحن نطلبها، وهذا ما لا يتفق مع مفهوم الغزو؟ وكيف يمكننا إعادته إلى المفاهيم الأصيلة التي تعتبر الأساس في تحصين مجتمعنا الشرقي؟
أنا لا أعتقد أن للثقافة وطناً، فالثقافة لا تدخل في وزارة الاقتصاد لنتحدث عن ثقافة مستوردة وثقافة مصدرة، الثقافة إنسانية ومن الطبيعي أن نختلف، فتختلف الثقافات في انفتاح الإنسان عليها أو انغلاقه، لذلك نحن نعتقد أننا لا نجلس في غرفة مقفلة النوافذ والأبواب، بل نحن نتحرك ونعيش في أرض لا سقف لها ولا حدود. فعندما تهب الرياح الثقافية من هنا وهناك لا بد أن تصل إلينا، المسألة هي كيف نؤصل ثقافتنا وكيف نقويها، وكيف نفهم ثقافة الآخرين ولا نسقط أمام التهاويل التي يثيرونها أمامنا ويوحون إلينا أنهم في القمة ونحن السفلة. علينا أن نعرف أنه يجب أن نركز ثقافتنا في العمق وبالامتداد والتأصيل، ثم ندرس المقارنة بين ثقافتنا وثقافة الغرب لنختار من الغرب ما ينسجم مع خطوطنا الثقافية ونرفض ما لا ينسجم، كما أنهم قد يأخذون منا شيئاً ويرفضون منا شيئاً لأن التاريخ الثقافي هو عملية تفاعل بين الحضارات والثقافات. المشكلة هي أن الشعوب التي تشعر بالدونية أمام الشعوب الأقوى قد تفقد الثقة بتاريخها وثقافتها وتعتبر أن ثقافة الأقوى هي الأكثر تقدماً والأكثر وعياً. ولكن القضية ليست كذلك فنحن نعرف أن الغرب في بداية تطوره أخذ من الثقافة العربية من خلال الأندلس، كما أن كتب المثقفين كابن سينا كانت تقرأ في الغرب، فاستطاع المسلمون أن يمنحوا الغرب التجربة كعنصر من عناصر المعرفة إلى جانب التأمل. وهذا الذي أدى بالغرب إلى التقدم لأنه اعتمد على التجربة بالإضافة إلى التأمل كمصدر من مصادر المعرفة. ولهذا علينا أن لا نسقط أمام قوة الآخرين بل نتوازن في فهم ما عندنا وما عند الآخرين حتى نستطيع أن نؤصل ما عندنا ونفهم ما عند الآخرين.
الحرية المسؤولة:
* نسمع البعض ينادون بالحرية وخاصة الشابات في هذا المجتمع، فما رأيكم في هذا الموضوع؟
نحن نعتبر بأن الإنسان حر وبأن الحرية أصيلة في حياة الإنسان والله خلق الإنسان حر العقل، فلم يضع أمام عقله أي حاجز، فللعقل أن يطوف في كل آفاق الفكر، وليس هناك مقدسات في التفكير ولا في الحوار. ومن حق الإنسان أن يفكر في أي شيء وأن يحاور في أي شيء، لأن الحقيقة هي بنت الحوار. ولكن لا بد للحرية أن تكون مسؤولة، ومعنى المسؤولية يعني أن لا ينطلق الإنسان بطريقة مزاجية بل بطريقة أن التفكير سوف يقود إلى الإيمان، والإيمان يقود إلى الانتماء والانتماء يقود إلى الحركة في الحياة، ولذلك لا بد للإنسان من أن يضمن بحركته الفكرية الآليات والأدوات والعناصر التي تؤصل فكره ولا تجعله مختلطا بحالة ذاتية مزاجية أي بطريقة المؤثرات البيئية وما أشبه ذلك التي تجعله يقلد هذا وذاك.
وهكذا عندما يتحرك الإنسان في الحوار، فالحوار لا بد أن ينطلق من خلال الرؤية العقلية لما يتحاور به الطرفان والثقافة العلمية لهذا وذاك. وهذا ما عبر عنه القرآن الكريم بقوله تعالى: {ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم}.
أما في الحياة العامة فمن الطبيعي أن حرية الشاب وحرية الفتاة تنطلق من خلال الخط الفكري الذي يؤمنان به، ومن الطبيعي أن يكون لكل خط فكري ديني أو غير ديني خطوط تفصيلية في مسألة السلوك والعلاقات وما إلى ذلك، ولهذا لا بد أن تكون الحرية مسؤولة. والمشكلة التي نعيشها في واقعنا الإسلامي هي أننا أخذنا من الإسلام شيئاً وأخذنا من الغرب شيئاً آخر، فأصبحت حياتنا تعيش الازدواجية، تماما كالإنسان الذي يخلط في الهندسة بين الديكور الشرقي والغربي، فلا يكون شرقياً ولا غربياً. إننا نؤمن بأصالة الانتماء والقاعدة التي تتحرك فيها الحرية، فلا يجوز أن نخلط بين حرية سلوكية تنطلق من قاعدة فلسفية معينة وحرية سلوكية تنطلق من قاعدة فلسفية أخرى. مثلاً في الغرب هناك قاعدة للحرية تقول أن الإنسان حر في جسده، فلا مشكلة من العري ولا مشكلة من الحرية الجنسية وما أشبه ذلك، بينما الإسلام لا يجد الإنسان حراً في أن يضر نفسه أو أن يدمر حياته لأن الإنسان عبد الله وملك الله، فلا يجوز أن يتصرف بجسده إلا فيما يرضاه الله، والله لا يرضى إلا لما يصلح حياة الإنسان على المستوى المادي والروحي.
الزواج باعث على الإطمئنان:
*لماذا كان الزواج إكمالاً لنصف الدين؟ وهل يكون الأصلح للشاب أن يتزوج باكراًً، (ولكن كيف في ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة)؟
إننا نعتقد أن القضية الجنسية هي من القضايا التي تعيش في كيان الإنسان سواء كان رجلاً أو امرأة لأنها تعيش في داخل تكوينه ومشاعره التي تضغط عليه، ولذلك اعتبر الإسلام أن من تزوج فقد أحرز نصف دينه وفي رواية أخرى ثلثي دينه، لأنه عندما يعيش الاكتفاء الجنسي فإنه يشعر بالإطمئنان والراحة والهدوء ليتفرغ إلى أمور أخرى في حياته. نحن نشجع الزواج المبكر، أما الحديث عن أن الزواج لا بد أن يكون بعد نضوج الشاب والفتاة وبعد استقلالهما المادي وما إلى ذلك، فإننا لا نوافق على ذلك، لأن من الممكن جدا للشاب والفتاة اللذين يتزوجان زواجا مبكرا أن يعيشا في داخل العائلة، وأن ينموا في رعاية الأهل، حتى انني كنت أطرح كان قد طرحها أحد المفكرين البريطانيين (برتراند راسل) عندما تحدث عن مشاكل الشباب الجنسية في الجامعة، وعن أن علاجها يمكن من خلال الزواج وهم في الجامعة، إذ ليس من الضروري أن يكون هناك شقة كبيرة، كاملة الأثاث وفخمة، لأن الشاب لا يستطيع تحصيل ذلك إلا في الثلاثين أو الأربعين، يمكن لغرفة أن تكفي، وقصة الأولاد يمكن أن تحدد بتنظيم النسل بشكل شرعي. وكذلك هناك الزواج المؤقت الذي لا بد أن يخضع لضوابط وليس بالشكل الفوضوي الذي يمارسه البعض، لذلك من الممكن جداً أن نؤكد بشكل أساسي على إمكانية حل الكثير من المشاكل التي تعترض الشباب.
على أن المشكلة تتمثل في التقاليد التي جعلت للزواج تهاويل معينة وتقاليد وعادات وأوضاعاً أثقلت موضوع الزواج وجعلته شديد الصعوبة. أن من الممكن للزواج أن يتحرك بشكل طبيعي، فيتعاون الشاب والفتاة على بناء حياتهما منذ البداية، فيصبرا على شظف العيش كما صبرا في بيت العائلة الفقيرة، حتى أن التشريع الإسلامي لا يمانع أن تطلب الفتاة من أهلها أو من المجتمع أن تتزوج وهذا ليس مألوفاً عندنا، فتأخير سن الزوج للفتيات يحول أكثرهن إلى عوانس بسبب ثقل العادات والتقاليد، كذلك فإن شؤم المرأة غلاء مهرها.
الفكر البشري غير معصوم:
*سياسة الحوار والانفتاح هي ما عُرفتَ وتُعرفْ به على المستويين الداخلي والخارجي، وما زلت تنادي بهذه الدعوة على الرغم من الانتقادات اللاذعة التي وجهت إليك، فما هو جوهر هذه الدعوة العظيمة، لدرجة أنها لم يستوعبها البعض؟
إنني أتصور أن أي فكر إنما ينمو ويتبلور ويبدع ويتأصل في كيان الإنسان على مستوى الحاضر والمستقبل عندما يبسط في الهواء الطلق حيث يتنفس ولا يتعفن، وعندها يتحرك الفكر الإنساني حتى ينمو و يتطور، لذلك فانني أعتقد أن الفكر بما فيه الفكر الديني الذي هو صنعة رجال ونساء، أي صنعة الإنسان في فهمه لكلام الله أو كلام الرسول (ص) أو كلام الأئمة (ع)، إننا نعتبر أن كلام الله هو كلام معصوم مقدس وكلام الرسول وكل المعصومين. ولكن المسألة هي أن فهمنا لكلام الله هو فهم بشري، قد نخطىء فيه وقد نصيب، ولذلك اختلف المفسرون في تفسير كلام الله، وفهمنا أيضاً لكلام الرسول أو توثيقنا لما روي عن الرسول والأئمة، هو فهم بشري وتوثيق بشري قد نخطىء فيه وقد نصيب، وقد يخطىء الأولون ويصيب المتأخرون أو بالعكس. لذلك طرحنا فكرة أن كل شيء قابل للحوار ولا مقدسات في الحوار، وعلينا أن نتحاور في كل شيء وأن نهيىء وسائل الحوار وآلياته ومفرداته من خلال الفكر المرتكز على علم وعلى برهان وعلى حجة. ونعتقد إن الذين يخافون من الحوار هم الذين لا يملكون اقتناعاً بما عندهم لأنهم يخافون من أن يكشف لهم الآخرون من خلال الحوار خطأهم في الفكر، وبعض الناس يحبون أن يجمدوا على ما ألفوه لأن الإنسان عندما يبتعد عما ألفه يشعر بالغربة على حد قول المتنبي:
خلقت ألوفاً لو رجعت إلى الصبا لفارقت شيبي موجع القلب باكيا
هكذا نحن نعتقد أننا لا نستطيع أن نؤصل أي فكر سواء كان دينياً إلا إذا فتحنا أعماقه ليتنفس الهواء ويعيش تحت أشعة الشمس حتى لا يتعفن ولا يموت. ومن الطبيعي أن الذين يحملون أصالة الفكر لا بد لهم أن يرجموا بالحجارة من الذين يعيشون التخلف ويعيشون على الهامش.
الشباب طليعة الأمة:
* سماحة السيد في نهاية حديثنا بماذا تحب أن تتوجه للشباب ككلمة أخيرة؟
نقول للشباب إنكم تمثلون زاد المستقبل وتمثلون الطليعة التي تصنع مستقبل الأمة، وعليكم أن تنطلقوا من خلال الفكر الذي يؤصل للإنسان إيمانه وانتماءه وحركته. لأن عليكم أمام كل هذه الجبال من التحديات والمشاكل والضغوط القاسية التي تتحرك في الجانب الاقتصادي والأمني والسياسي والثقافي أيضاً، عليكم أن تنفتحوا على الإيمان بالله الذي يجعل الإنسان يعيش الأمل حيث لا أمل،{ ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه}،{ان الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا}. كونوا واقعيين ولا تكونوا خياليين، لا تسقطوا أمام المشكلة ولكن اقتحموها في الداخل حتى تعرفوا عناصرها ثم تفكروا في الحل بعد ذلك. لا تعتبروا أن فشلكم في التجربة هو فشل الفكرة، فإذا فشلت ألف تجربة فيمكن أن تجرب تجربة واحدة بعد الألف فقد تلتقي بأصالة الفكر فيها.
واجهوا الحياة على أساس أنكم مسؤولون لتتحملوا مسؤولياتكم في الحياة ولتواجهوا حساب المسؤولية أمام الله يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها. إن شبابكم أمانة لله عندكم اتجاه أنفسكم واتجاه المجتمع كله، كونوا في مستوى المسؤولية والله يوفقكم.
قصيدة: من صور الشباب
ومن قصيدة لسماحة السيد محمد حسين فضل الله، كتبها في النجف الأشرف وهو في سن التاسعة وصف فيها الشباب وهذا مطلعها:
هذا الشباب: الطالع النشوان.. من خمر الحياة
الظامىء الصادي إلى فيض الهوى بين الشفاه
يجري ولا يدري المصير.. وأين منه أن يراه
ويهيب بالدنيا نداه لتسمع الدنيا نداه
هيا إلى سبل الهناء فما الحياة سوى الرفاه
والكون.. ان الكون روض.. فلنمتع في رؤاه
.. ويعود صفر الكف يذوي كالهشيم على ثراه
ماذا ترى صنع الشباب مع الحياة وما جناه
هذا الشباب يسير دون هدى، فيخدعه السراب
ودروبه.. مغبرة الأرجاء يغمرها الضباب
وحياته.. حلم يموت.. يغور في عمق التراب
ورؤى من الدنيا.. تغشيها غيوم من عذاب
وهواجس تطغى عليه، تموج في القلب المذاب
ما بين حب خافت النجوى وشك وارتياب
خنقته ثائرة الحوادث بين أحلام عذاب
وظلام دنيا راعها، أن ينجلي فجر الشباب
حاوره: غادة نجم/ نوال طهماز/ حسن حسون