عن الإرهاب

عن الإرهاب

بيروت ـ عصمت طوقان

كان العلاّمة السيد محمد حسين فضل الله، كما هو معروف، أول من دان واستنكر الهجمات ضد الولايات المتحدة في 11 (سبتمبر ـ أيلول) الماضي، واعتبرها انتحاراً وليس استشهاداً، وعلى رغم ذلك يقال الآن إن الولايات المتحدة ربما أدرجت اسم هذا العلاّمة البارز على رأس لائحة المطلوبين بتهم الإرهاب.

لماذا، وما حقيقة التهم الموجهة إليه؟ وفي حال كان ثمة توجه لإدانته ومحاكمته على المستوى الدولي، هل يمكن أن يقبل العلامة المثول أمام محكمة لاهاي؟

«الزمن» حملت هذه التساؤلات ووضعتها مباشرة على طاولة العلامة في مقر إقامته في ضاحية بيروت الجنوبية.

س:هناك  سباق محموم مع الوقت حول مكافحة الإرهاب، وقد أصدر مجلس الأمن قراره الرقم 1373 الخاص بمكافحة الإرهاب وأناط مهمة وضع آلية تنفيذه بلجنة دولية برئاسة بريطانيا، وعلى أن تنجز مهمتها قبل 13 الجاري. كيف يصدر هذا القرار في نظركم من دون تعريف محدد للإرهاب، علماً أن بند التدابير للقضاء على الإرهاب مدرج على جدول أعمال الجمعية العمومية للأمم المتحدة منذ سنة 1972 ؟

ج:  إن مشكلة قرارات مجلس الأمن منذ وقت غير بعيد تخضع بدرجة كبيرة لخط السياسة الأميركية تحت تأثير وضع سياسي وأمني محموم ونتيجة لاعتبارات المصالح التي تربط الولايات المتحدة بدول مجلس الأمن لا سيما الدول التي تملك حق الفيتو. ما يجعل هذه القرارات بعيدة عن الدقة، أو أنها لا تدرس الأمور بالطريقة الواسعة التي ترتبط بمصالح شعوب العالم.

وإذا أردنا أن نأتي إلى هذا القرار فإننا نجد أن مجلس الأمن قد أعطى هذا القرار شرعيته الدولية من دون أي تحديد يفرضه الخلاف في مفهوم الإرهاب، لأن مفهوم الإرهاب الأميركي يجعل المقاومة في فلسطين وفي لبنان عملاً إرهابياً باعتباره عدواناً على دولة شرعية معترف بها من الأمم المتحدة، متجاوزة مسألة الاحتلال وشرعية المقاومة، فهذا القرار من خلال الجو الانفعالي المحموم الذي اجتاح أميركا والعالم نتيجة الموقف الأميركي المندرج تحت شعار کمن لم يكن معنا فهو مع الآخرين» هذا القرار هو قرار أميركي تبنته الأمم المتحدة وليس قرار الأمم المتحدة الدولي الشرعي.

إن الفكرة التي خرج بها الكثيرون من المتابعين للأحداث الجارية في العالم هي: إذاما كانت أميركا معرضة للاعتداء، فليعلن العالم الحرب على الجهات التي تقوم بهذا الاعتداء وعلى أي دولة كانت حتى لو كانت دولة أوروبية لا تتفق مصالحها مع مصالح أميركا. لذلك لا نعتقد أن الخصوصية في هذه المسألة هي خصوصية الإرهاب كمحور يهدد العالم، ولكن القضية هي خصوصية الإرهاب الموجه ضد أميركا بالذات. وهذا ما لا ينسجم مع النظرة الموضوعية للمسألة.

السي. آي. ايه حاولت اغتيالي وحصدت 80 ضحية وأكثر من 200 جريح

هنا نسأل أميركا، التي بقيت تحاكم المسؤول عن تفجير أوكلاهوما ثلاث سنوات، لماذا استعجلت الاتهام من دون عمل مسح شامل للجهات المستفيدة من هذاالحدث؟ ولماذا عملت على إصدار الحكم وعلى تنفيذه من دون أن تدقق في الاتهام، قالت إنها اقتنعت بعلاقة تنظيم «القاعدة» ورئيسه أسامة بن لادن فقط، ولا يكفي لإصدار الحكم وتنفيذه أن يقتنع المدعي فقط.

إننا نتساءل لماذا أعلنت أميركا الحرب على أفغانستان وعلى حكومة طالبان؟ هل يبرر الحرب على حكومة طالبان أن تسقط أميركا كل البنية العسكرية والتحتية لدولة أفغانستان وتعتدي على المدنيين؟ إننا نتصور أن دولة تعتبر نفسها في موقع المدعي العام والحاكم المنفذ على كل المواقع المؤاتية، تحول المسألة إلى شريعة غاب، وإلى فوضى في كثير من القضايا.

... وأنت الخصم والحكم

س: لكن من يحاكم أميركا إذا كان مجلس الأمن يخضع لقراراتها؟

ج: هنا تكمن المشكلة. إن القوي لا يملك أحد أن يحاكمه، لأن المصالح الدولية بين الدول الكبرى تجعلها تقف مع أميركا، حقاً كانت دعواها أو باطلة، القانون الدولي لا ينفذ أي حكم ضد أي مجرم إلا بعد الرجوع للقضاء، فلماذا بادر حلف الأطلسي إلى تنفيذ المادة الخامسة باعتبار إن الاعتداء على أميركا كان عدواناً خارجياً ولا بد من مساعدتها في تنفيذ ردها بحسب ظن الحلف الأطلسي؟

إننا نسأل كل دول حلف الأطلسي، هل جرت محاكمة بن لادن وتنظيم «القاعدة» بينما حكومة طالبان طالبت وما زالت تطالب بأن تقدم إليها المعطيات التي تثبت علاقة بن لادن وقاعدته بهذه التفجيرات، واقترحت إجراء محاكمة إسلامية حيادية عادلة؟ ولماذا لم تقدم هذه المعطيات؟ ما هو إذا أساس القانون الحضاري؟ هل يمكن للدول المستضعفة أن يتحدى أحد فيها الدول المستكبرة؟

هذا أمر لا تملك الشعوب حقاً فيه، ولكن تملك الدول المستكبرة كل الحق في الاعتداء على شعوب العالم. وقديماً قال المتنبي:

 کيا أعدل الناس إلا في معاملتي فيك الخصام وأنت الخصم والحكم».

كايسي حاول اغتيالي

س: يقال إن الولايات المتحدة أدرجت اسم سماحتكم في لائحة المطلوبين. ما صحة هذا النبأ؟ وإذا صدر فعلاً على المستوى الدولي من الأمم المتحدة ما موقف العلامة منه؟

ج: لم يصدر حسب معلوماتي شيء في هذا المجال. وإذا كانت أميركا تتهمني بعمل إرهابي فإني أقول بكل شجاعة «هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين»، ولكن أنا اتهم أميركا بالإرهاب، لأن مدير المخابرات المركزية الأميركية، وليم كايسي، اعترف في مذكراته بأنه خطط لعملية اغتيالي بمتفجرة بئر العبد التي حصدت 80 قتيلاً وأكثر من مئتي جريح من الأطفال والنساء والرجال في العام 1985، ألا يعتبر هذا عملاً إرهابياً؟ وقد نشرت ذلك «الواشنطن بوست» نقلاً عن الكاتب الصحافي الأميركي الشهير، بوب وود وارد في كتابه «الحجاب».

إن أميركا قد تتهمني بأنني وراء تفجير مقر المارينز سنة 1982، ولكن نحن نعرف أن أميركا أخذت هذا الاتهام من المخابرات الكتائبية في لبنان ولم تستطع أن تثبت أي  شيء. وقد علمت هذا في وقتها، ولكن لم أرد عليه لأنني وجدت من السخف الرد، لأنها لا تملك أي اثبات لعناصر الاجرام على مستوى القضاء على الأقل. لهذا لا أخاف من ذلك لأنني أتصور انه من المطلوب أن تقدم أميركا الذين خططوا لهذا العمل الإرهابي في لبنان للحكومة اللبنانية لتحاكمهم.

س: هل يتوجه العلاّمة إلى محكمة لاهاي للدفاع عن نفسه ازاء الاتهامات المنسوبة إليه إذا طلب منه ذلك؟

ج: أنا لا اعتبر نفسي في موقع الاتهام، أرى نفسي فوق الاتهام لأنني أحترم كل الناس المدنيين ولا أتصور إنني ساهمت بالإساءة إلى نملة. ولكن كأي إنسان يعيش مسؤولية أمته، أقف ضد كل الذين يحتلون بلادي وبلدان العرب والمسلمين وبذلك اعتقد بأنني فوق هذا الاتهام ولا مشكلة عندي في ذلك ولا أظن أن محكمة لاهاي مختصة في مثل هذه الأمور.

الاستشهاديون ليسوا مسلمين فقط

س: يقول بعض المحللين النفسيين بأن الشباب الذين يقومون بالعمليات الاستشهادية يعانون من مشاكل نفسية؟

ج: إن مثل هؤلاء يقيسون بالمقاييس الغربية التي تتحرك فيها التجارب النفسية. إننا ندرس حركة هؤلاء الشباب الذين تتنوع أعراقهم وثقافتهم وامكاناتهم، فنجد أن بعضهم ولد وفي فمه ملعقة من ذهب. وليست لديه أي مشكلة اقتصادية أو عاطفية ولا أي مشاكل نفسية، ولكنه يؤمن بقضية وبفكر. أي فرق بين هؤلاء الشباب وبين الجندي الذي يعيش رسالة جنديته وينطلق إلى الحرب وهو في ظنه انه سيقتل بنسبة كبيرة أو بنسبة مئوية. هل هؤلاء الجنود يخضعون لحالة نفسية؟ أي فرق بين من يقاتل عدوه بتفجير نفسه وبين من يقاتل عدوه بأن يبرز إليه ليقتله بنفسه؟ إن المسألة هي كفاح وجهاد ونضال من أجل الاضرار بالعدو وما تحتاجه المعركة كما في العمليات التقليدية.

س: المشكلة ليست في الإرهاب بل في خصوصية الإرهاب الموجه ضد أميركا

ج: كما أن هذه العمليات ليست مختصة بالمسلمين. فنحن نعرف في حرب السويس كيف أن الضابط السوري جول جمال قام بعملية انتحارية بتفجير زورق الطوربيد الذي يقوده بحمولته من المتفجرات ضد سفينة من سفن الحلفاء آنذاك. كيف نفسر ذلك؟ وكيف نفسر أيضاً عمليات اليابانيين الانتحارية (كاميكازي)؟ إننا لا نفرق بين الذين يقومون بالعمليات الاستشهادية وبين الذين يدخلون المعركة بروحية المعركة.

أي فرق بين أن تقتل العدو وأن تكون قنبلة متفجرة أو تعرض نفسك للعدو ليقتلك بقنبلة متفجرة؟

اسلوب شرعي للقتال

س: لكن هل العمليات الاستشهادية هي من المسلمات في العقيدة الإسلامية، وما هي المعايير المستندة إليها؟

ج: إذا ما اردنا أن ندرس المسألة بعقل بارد فإننا نجد أن العمليات الاستشهادية هي وسيلة من وسائل الحرب، لأن الحرب إذا وقعت فإنها تبرر كل الوسائل المشروعة في القتال. ولذلك فإن نظرة الإسلام إلى العمليات الاستشهادية، إذا كانت ضرورية للانتصار في المعركة أو لاسقاط موقع مهم، أو للحصول على نتائج حيوية، فإنها تعتبر إحدى أسلحة المعركة. لذلك لا تحتاج إلى فتوى خاصة إلا من خلال دراسة عناصرها التي تجعل منها سلاحاً نافعاً مفيداً، مثلما تدرس أي خطة في المعركة من أجل تحقيق الانتصار لأنها جزء من حركية المعركة. ولذلك كل الأدلة الفقهية التي تتحدث وتفتي بشرعية المعركة تفتي بشرعية هذه الأساليب إذا كانت المعركة تحتاجها بشكل حيوي وضروري. وهناك مسألة مماثلة في تحفظاتها الفقهية وهي إذا كان هناك حرب بين المسلمين والكفار وتمترس الكفار بأسرى مسلمين وتوقف النصر على قتل أسرى المسلمين، فإن الفتوى الفقهية التي أجمع عليها المسلمون تجيز قتل أسرى المسلمين بيد المسلمين من أجل إزالة الحاجز عن تحقيق الانتصار للمعركة.

بعض الناس يقولون إن الانتحار حرام، لأن الله يقول کلا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة» لكن هذا لا يشمل ساحة المعركة، لأن كل الجنود الذين يذهبون إلى المعركة يعرضون أنفسهم للتهلكة.

قانا وصبرا وشاتيلا

س: هل إذا ثبتت مسؤولية اسامة بن لادن عن ضربة الحادي عشر من (سبتمبر ـ أيلول) الماضي يعتبر في هذه الحالة مجرم حرب؟

ج: من الطبيعي أن يحاكم كما يحاكم شارون. لقد قلنا بأن من فعل ذلك في قتل الأبرياء سواء بن لادن أو غيره وان كان مسلماً أو غير مسلم فإنه قد ارتكب جريمتين: قتل الأبرياء وتحويل الطائرات إلى قنابل متفجرة وهذا جرم لا ريب فيه.

ولكن نتساءل لماذا لم يحاكم شمعون بيريز كمجرم حرب في مجزرة «قانا» وشاون في مجزرة «صبرا وشاتيلا»؟ إن أميركا منعت مناقشة مجزرة قانا وعندما أصر بطرس غالي، الأمين العام للأمم المتحدة آنذاك، على طرح التقرير عوقب بمنعه من تجديد ولايته. لهذا نقول لا يمكن أن يكون هناك صيف وشتاء تحت سقف واحد.

إننا قلنا منذ البداية إذا كان بن لادن متهماً فلابد أن يخضع لمحكمة إسلامية محايدة ونزيهة وتقدم أميركا كأي مدع كل أدلتها.

س: بعد ضربة 11 (سبتمبر ـ أيلول) الماضي انكب العالم الغربي والأميركي على قراءة التعاليم الإسلامية لماذا برأيكم؟

ج: ربما أن تأثير الصدمة وحركة الإعلام المضاد للإسلام من جهة أخرى دفع الكثير من الناس إلى التساؤل عما هو الإسلام وهل أن الإسلام يشجع الإرهاب، ولماذا يتحرك هؤلاء لتفجير أنفسهم؟

إن الأغلبية من الغربيين لا يقرأون الإسلام إلا من خلال الإعلام المنحاز ضد الإسلام، عندما تقدم إليهم مشاهد من مواجهة الفلسطينيين لإسرائيل وما يقوم به بعض الناس في الجزائر أو ما أشبه ذلك. نعتقد أن هذا الاقبال على دراسة الإسلام هو أمر طبيعي لأن الإسلام فرض نفسه على الذهنية العامة من الناحية السلبية أو الايجابية. ونحن نعتبر أنها ايجابية لهذا الحدث لأن الإسلام يملك العناصر الحضارية التي تتفتح على مصلحة الإنسان ولا تتحرك بالطرق الإرهابية وبالطرق التي تدمر البشرية.

ليست حرب حضارات بل حرب سياسات وأميركا هي الخصم والحكم

س: هل برأيكم ضربة 11 (سبتمبر ـ أيلول) الماضي هي الشرارة التي سينطلق منها لهيب حرب الحضارات؟

ج: نحن لا نتصور أن للحضارات دوراً في هذه الحرب بل ان المسألة هي في حرب السياسات. هناك عالم رأسمالي مستغل للشعوب الفقيرة وهي تبحث في زاوية هنا وزاوية هناك أمام العجز الذي فرض عليها. هذا ما لاحظناه في الشعوب الغربية أيضاً عندما قامت المظاهرات العنيفة في جنوى (إيطاليا) رداً على الكبار الذين اجتمعوا في مؤتمر العولمة لأننا نعتبر أن الشعوب التي تعيش في الغرب لا تملك الثروات التي تملكها دولها. هناك الكثيرون من المسحوقين الذي يرون أن مشروع العولمة يقضي على حقوقهم ويجعلهم في أعلى درجات التوتر النفسي الذي يفرضه الواقع الاقتصادي. لذلك فإن تحرك بعض الناس من الذين يعيشون هذا التوتر يدفعهم إلى أعلى درجة من الحرارة ضد مصالح أميركية داخل أميركا أو خارجها.

نحن نتساءل لماذا لم تكن هناك أي حركة إرهابية ضد أي دولة أوروبية؟ إن هذا الحدث، على رغم فظاعته ووحشيته، ينبغي أن يدفع المسؤولين الأميركيين في الإدارة الأميركية وكل الذين يملكون الفكر السياسي في الجامعات وغيرها إلى دراسة مسببات هذا الحدث. ولكن المشكلة أن أميركا تحاول أن تفرض عنفوانها على العالم وليست مستعدة أن تفكر في الأسباب ولكنها تلاحق النتائج ونحن نعرف أن الطريقة التي تعالج فيها هذا الحدث سوف تخلق ألف سبب وسبب لأعمال مماثلة لأن الضغط بحسب القانون العلمي لابد أن يولد الانفجار.

لا تغيير للأنظمة

س: الحرب ستغير أجواء المناخ الدولي، من تغيير للأنظمة إلى رسم خريطة جديدة لدول العالم. ما توقعاتكم؟

ج: نتصور أن هذه الحرب قد تساهم في ارباك الكثير من الأنظمة بفعل الضغط أو ضغط التحالف الدولي على الأقل من خلال مجلس الأمن ومن خلال دول الأطلسي باعتبار الضغوط التي تستهدف هذه الدول في تسليم من يراد تسليمه،  مما سيخلق وضعاً سياسياً مضاداً من هنا وهناك أو تغيراً على القوانين الاقتصادية.

لذا نحن نعتقد أنها ستخلق حالة تشبه الفوضى في دول عربية وإسلامية ربما تمتد إلى أكثر من ذلك، ولكن من الصعب جداً تغيير الأنظمة لأن تغير الأنظمة في العالم يحتاج إلى قرار دولي يرتبط بالمصالح الحيوية للدول الكبرى التي تصنع القرار. ولا أظن أن هناك أي مصلحة لأي دولة من الدول التي تسمى بأنها من صاحبة القرار تسمح بتغيير أنظمة الدول.

نص الحوار التي أجرته مجلة الزمن مع العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله في عددها الصادر بتاريخ 10/شعبان/1422 الموافق:27/10/2001م

بيروت ـ عصمت طوقان

كان العلاّمة السيد محمد حسين فضل الله، كما هو معروف، أول من دان واستنكر الهجمات ضد الولايات المتحدة في 11 (سبتمبر ـ أيلول) الماضي، واعتبرها انتحاراً وليس استشهاداً، وعلى رغم ذلك يقال الآن إن الولايات المتحدة ربما أدرجت اسم هذا العلاّمة البارز على رأس لائحة المطلوبين بتهم الإرهاب.

لماذا، وما حقيقة التهم الموجهة إليه؟ وفي حال كان ثمة توجه لإدانته ومحاكمته على المستوى الدولي، هل يمكن أن يقبل العلامة المثول أمام محكمة لاهاي؟

«الزمن» حملت هذه التساؤلات ووضعتها مباشرة على طاولة العلامة في مقر إقامته في ضاحية بيروت الجنوبية.

س:هناك  سباق محموم مع الوقت حول مكافحة الإرهاب، وقد أصدر مجلس الأمن قراره الرقم 1373 الخاص بمكافحة الإرهاب وأناط مهمة وضع آلية تنفيذه بلجنة دولية برئاسة بريطانيا، وعلى أن تنجز مهمتها قبل 13 الجاري. كيف يصدر هذا القرار في نظركم من دون تعريف محدد للإرهاب، علماً أن بند التدابير للقضاء على الإرهاب مدرج على جدول أعمال الجمعية العمومية للأمم المتحدة منذ سنة 1972 ؟

ج:  إن مشكلة قرارات مجلس الأمن منذ وقت غير بعيد تخضع بدرجة كبيرة لخط السياسة الأميركية تحت تأثير وضع سياسي وأمني محموم ونتيجة لاعتبارات المصالح التي تربط الولايات المتحدة بدول مجلس الأمن لا سيما الدول التي تملك حق الفيتو. ما يجعل هذه القرارات بعيدة عن الدقة، أو أنها لا تدرس الأمور بالطريقة الواسعة التي ترتبط بمصالح شعوب العالم.

وإذا أردنا أن نأتي إلى هذا القرار فإننا نجد أن مجلس الأمن قد أعطى هذا القرار شرعيته الدولية من دون أي تحديد يفرضه الخلاف في مفهوم الإرهاب، لأن مفهوم الإرهاب الأميركي يجعل المقاومة في فلسطين وفي لبنان عملاً إرهابياً باعتباره عدواناً على دولة شرعية معترف بها من الأمم المتحدة، متجاوزة مسألة الاحتلال وشرعية المقاومة، فهذا القرار من خلال الجو الانفعالي المحموم الذي اجتاح أميركا والعالم نتيجة الموقف الأميركي المندرج تحت شعار کمن لم يكن معنا فهو مع الآخرين» هذا القرار هو قرار أميركي تبنته الأمم المتحدة وليس قرار الأمم المتحدة الدولي الشرعي.

إن الفكرة التي خرج بها الكثيرون من المتابعين للأحداث الجارية في العالم هي: إذاما كانت أميركا معرضة للاعتداء، فليعلن العالم الحرب على الجهات التي تقوم بهذا الاعتداء وعلى أي دولة كانت حتى لو كانت دولة أوروبية لا تتفق مصالحها مع مصالح أميركا. لذلك لا نعتقد أن الخصوصية في هذه المسألة هي خصوصية الإرهاب كمحور يهدد العالم، ولكن القضية هي خصوصية الإرهاب الموجه ضد أميركا بالذات. وهذا ما لا ينسجم مع النظرة الموضوعية للمسألة.

السي. آي. ايه حاولت اغتيالي وحصدت 80 ضحية وأكثر من 200 جريح

هنا نسأل أميركا، التي بقيت تحاكم المسؤول عن تفجير أوكلاهوما ثلاث سنوات، لماذا استعجلت الاتهام من دون عمل مسح شامل للجهات المستفيدة من هذاالحدث؟ ولماذا عملت على إصدار الحكم وعلى تنفيذه من دون أن تدقق في الاتهام، قالت إنها اقتنعت بعلاقة تنظيم «القاعدة» ورئيسه أسامة بن لادن فقط، ولا يكفي لإصدار الحكم وتنفيذه أن يقتنع المدعي فقط.

إننا نتساءل لماذا أعلنت أميركا الحرب على أفغانستان وعلى حكومة طالبان؟ هل يبرر الحرب على حكومة طالبان أن تسقط أميركا كل البنية العسكرية والتحتية لدولة أفغانستان وتعتدي على المدنيين؟ إننا نتصور أن دولة تعتبر نفسها في موقع المدعي العام والحاكم المنفذ على كل المواقع المؤاتية، تحول المسألة إلى شريعة غاب، وإلى فوضى في كثير من القضايا.

... وأنت الخصم والحكم

س: لكن من يحاكم أميركا إذا كان مجلس الأمن يخضع لقراراتها؟

ج: هنا تكمن المشكلة. إن القوي لا يملك أحد أن يحاكمه، لأن المصالح الدولية بين الدول الكبرى تجعلها تقف مع أميركا، حقاً كانت دعواها أو باطلة، القانون الدولي لا ينفذ أي حكم ضد أي مجرم إلا بعد الرجوع للقضاء، فلماذا بادر حلف الأطلسي إلى تنفيذ المادة الخامسة باعتبار إن الاعتداء على أميركا كان عدواناً خارجياً ولا بد من مساعدتها في تنفيذ ردها بحسب ظن الحلف الأطلسي؟

إننا نسأل كل دول حلف الأطلسي، هل جرت محاكمة بن لادن وتنظيم «القاعدة» بينما حكومة طالبان طالبت وما زالت تطالب بأن تقدم إليها المعطيات التي تثبت علاقة بن لادن وقاعدته بهذه التفجيرات، واقترحت إجراء محاكمة إسلامية حيادية عادلة؟ ولماذا لم تقدم هذه المعطيات؟ ما هو إذا أساس القانون الحضاري؟ هل يمكن للدول المستضعفة أن يتحدى أحد فيها الدول المستكبرة؟

هذا أمر لا تملك الشعوب حقاً فيه، ولكن تملك الدول المستكبرة كل الحق في الاعتداء على شعوب العالم. وقديماً قال المتنبي:

 کيا أعدل الناس إلا في معاملتي فيك الخصام وأنت الخصم والحكم».

كايسي حاول اغتيالي

س: يقال إن الولايات المتحدة أدرجت اسم سماحتكم في لائحة المطلوبين. ما صحة هذا النبأ؟ وإذا صدر فعلاً على المستوى الدولي من الأمم المتحدة ما موقف العلامة منه؟

ج: لم يصدر حسب معلوماتي شيء في هذا المجال. وإذا كانت أميركا تتهمني بعمل إرهابي فإني أقول بكل شجاعة «هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين»، ولكن أنا اتهم أميركا بالإرهاب، لأن مدير المخابرات المركزية الأميركية، وليم كايسي، اعترف في مذكراته بأنه خطط لعملية اغتيالي بمتفجرة بئر العبد التي حصدت 80 قتيلاً وأكثر من مئتي جريح من الأطفال والنساء والرجال في العام 1985، ألا يعتبر هذا عملاً إرهابياً؟ وقد نشرت ذلك «الواشنطن بوست» نقلاً عن الكاتب الصحافي الأميركي الشهير، بوب وود وارد في كتابه «الحجاب».

إن أميركا قد تتهمني بأنني وراء تفجير مقر المارينز سنة 1982، ولكن نحن نعرف أن أميركا أخذت هذا الاتهام من المخابرات الكتائبية في لبنان ولم تستطع أن تثبت أي  شيء. وقد علمت هذا في وقتها، ولكن لم أرد عليه لأنني وجدت من السخف الرد، لأنها لا تملك أي اثبات لعناصر الاجرام على مستوى القضاء على الأقل. لهذا لا أخاف من ذلك لأنني أتصور انه من المطلوب أن تقدم أميركا الذين خططوا لهذا العمل الإرهابي في لبنان للحكومة اللبنانية لتحاكمهم.

س: هل يتوجه العلاّمة إلى محكمة لاهاي للدفاع عن نفسه ازاء الاتهامات المنسوبة إليه إذا طلب منه ذلك؟

ج: أنا لا اعتبر نفسي في موقع الاتهام، أرى نفسي فوق الاتهام لأنني أحترم كل الناس المدنيين ولا أتصور إنني ساهمت بالإساءة إلى نملة. ولكن كأي إنسان يعيش مسؤولية أمته، أقف ضد كل الذين يحتلون بلادي وبلدان العرب والمسلمين وبذلك اعتقد بأنني فوق هذا الاتهام ولا مشكلة عندي في ذلك ولا أظن أن محكمة لاهاي مختصة في مثل هذه الأمور.

الاستشهاديون ليسوا مسلمين فقط

س: يقول بعض المحللين النفسيين بأن الشباب الذين يقومون بالعمليات الاستشهادية يعانون من مشاكل نفسية؟

ج: إن مثل هؤلاء يقيسون بالمقاييس الغربية التي تتحرك فيها التجارب النفسية. إننا ندرس حركة هؤلاء الشباب الذين تتنوع أعراقهم وثقافتهم وامكاناتهم، فنجد أن بعضهم ولد وفي فمه ملعقة من ذهب. وليست لديه أي مشكلة اقتصادية أو عاطفية ولا أي مشاكل نفسية، ولكنه يؤمن بقضية وبفكر. أي فرق بين هؤلاء الشباب وبين الجندي الذي يعيش رسالة جنديته وينطلق إلى الحرب وهو في ظنه انه سيقتل بنسبة كبيرة أو بنسبة مئوية. هل هؤلاء الجنود يخضعون لحالة نفسية؟ أي فرق بين من يقاتل عدوه بتفجير نفسه وبين من يقاتل عدوه بأن يبرز إليه ليقتله بنفسه؟ إن المسألة هي كفاح وجهاد ونضال من أجل الاضرار بالعدو وما تحتاجه المعركة كما في العمليات التقليدية.

س: المشكلة ليست في الإرهاب بل في خصوصية الإرهاب الموجه ضد أميركا

ج: كما أن هذه العمليات ليست مختصة بالمسلمين. فنحن نعرف في حرب السويس كيف أن الضابط السوري جول جمال قام بعملية انتحارية بتفجير زورق الطوربيد الذي يقوده بحمولته من المتفجرات ضد سفينة من سفن الحلفاء آنذاك. كيف نفسر ذلك؟ وكيف نفسر أيضاً عمليات اليابانيين الانتحارية (كاميكازي)؟ إننا لا نفرق بين الذين يقومون بالعمليات الاستشهادية وبين الذين يدخلون المعركة بروحية المعركة.

أي فرق بين أن تقتل العدو وأن تكون قنبلة متفجرة أو تعرض نفسك للعدو ليقتلك بقنبلة متفجرة؟

اسلوب شرعي للقتال

س: لكن هل العمليات الاستشهادية هي من المسلمات في العقيدة الإسلامية، وما هي المعايير المستندة إليها؟

ج: إذا ما اردنا أن ندرس المسألة بعقل بارد فإننا نجد أن العمليات الاستشهادية هي وسيلة من وسائل الحرب، لأن الحرب إذا وقعت فإنها تبرر كل الوسائل المشروعة في القتال. ولذلك فإن نظرة الإسلام إلى العمليات الاستشهادية، إذا كانت ضرورية للانتصار في المعركة أو لاسقاط موقع مهم، أو للحصول على نتائج حيوية، فإنها تعتبر إحدى أسلحة المعركة. لذلك لا تحتاج إلى فتوى خاصة إلا من خلال دراسة عناصرها التي تجعل منها سلاحاً نافعاً مفيداً، مثلما تدرس أي خطة في المعركة من أجل تحقيق الانتصار لأنها جزء من حركية المعركة. ولذلك كل الأدلة الفقهية التي تتحدث وتفتي بشرعية المعركة تفتي بشرعية هذه الأساليب إذا كانت المعركة تحتاجها بشكل حيوي وضروري. وهناك مسألة مماثلة في تحفظاتها الفقهية وهي إذا كان هناك حرب بين المسلمين والكفار وتمترس الكفار بأسرى مسلمين وتوقف النصر على قتل أسرى المسلمين، فإن الفتوى الفقهية التي أجمع عليها المسلمون تجيز قتل أسرى المسلمين بيد المسلمين من أجل إزالة الحاجز عن تحقيق الانتصار للمعركة.

بعض الناس يقولون إن الانتحار حرام، لأن الله يقول کلا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة» لكن هذا لا يشمل ساحة المعركة، لأن كل الجنود الذين يذهبون إلى المعركة يعرضون أنفسهم للتهلكة.

قانا وصبرا وشاتيلا

س: هل إذا ثبتت مسؤولية اسامة بن لادن عن ضربة الحادي عشر من (سبتمبر ـ أيلول) الماضي يعتبر في هذه الحالة مجرم حرب؟

ج: من الطبيعي أن يحاكم كما يحاكم شارون. لقد قلنا بأن من فعل ذلك في قتل الأبرياء سواء بن لادن أو غيره وان كان مسلماً أو غير مسلم فإنه قد ارتكب جريمتين: قتل الأبرياء وتحويل الطائرات إلى قنابل متفجرة وهذا جرم لا ريب فيه.

ولكن نتساءل لماذا لم يحاكم شمعون بيريز كمجرم حرب في مجزرة «قانا» وشاون في مجزرة «صبرا وشاتيلا»؟ إن أميركا منعت مناقشة مجزرة قانا وعندما أصر بطرس غالي، الأمين العام للأمم المتحدة آنذاك، على طرح التقرير عوقب بمنعه من تجديد ولايته. لهذا نقول لا يمكن أن يكون هناك صيف وشتاء تحت سقف واحد.

إننا قلنا منذ البداية إذا كان بن لادن متهماً فلابد أن يخضع لمحكمة إسلامية محايدة ونزيهة وتقدم أميركا كأي مدع كل أدلتها.

س: بعد ضربة 11 (سبتمبر ـ أيلول) الماضي انكب العالم الغربي والأميركي على قراءة التعاليم الإسلامية لماذا برأيكم؟

ج: ربما أن تأثير الصدمة وحركة الإعلام المضاد للإسلام من جهة أخرى دفع الكثير من الناس إلى التساؤل عما هو الإسلام وهل أن الإسلام يشجع الإرهاب، ولماذا يتحرك هؤلاء لتفجير أنفسهم؟

إن الأغلبية من الغربيين لا يقرأون الإسلام إلا من خلال الإعلام المنحاز ضد الإسلام، عندما تقدم إليهم مشاهد من مواجهة الفلسطينيين لإسرائيل وما يقوم به بعض الناس في الجزائر أو ما أشبه ذلك. نعتقد أن هذا الاقبال على دراسة الإسلام هو أمر طبيعي لأن الإسلام فرض نفسه على الذهنية العامة من الناحية السلبية أو الايجابية. ونحن نعتبر أنها ايجابية لهذا الحدث لأن الإسلام يملك العناصر الحضارية التي تتفتح على مصلحة الإنسان ولا تتحرك بالطرق الإرهابية وبالطرق التي تدمر البشرية.

ليست حرب حضارات بل حرب سياسات وأميركا هي الخصم والحكم

س: هل برأيكم ضربة 11 (سبتمبر ـ أيلول) الماضي هي الشرارة التي سينطلق منها لهيب حرب الحضارات؟

ج: نحن لا نتصور أن للحضارات دوراً في هذه الحرب بل ان المسألة هي في حرب السياسات. هناك عالم رأسمالي مستغل للشعوب الفقيرة وهي تبحث في زاوية هنا وزاوية هناك أمام العجز الذي فرض عليها. هذا ما لاحظناه في الشعوب الغربية أيضاً عندما قامت المظاهرات العنيفة في جنوى (إيطاليا) رداً على الكبار الذين اجتمعوا في مؤتمر العولمة لأننا نعتبر أن الشعوب التي تعيش في الغرب لا تملك الثروات التي تملكها دولها. هناك الكثيرون من المسحوقين الذي يرون أن مشروع العولمة يقضي على حقوقهم ويجعلهم في أعلى درجات التوتر النفسي الذي يفرضه الواقع الاقتصادي. لذلك فإن تحرك بعض الناس من الذين يعيشون هذا التوتر يدفعهم إلى أعلى درجة من الحرارة ضد مصالح أميركية داخل أميركا أو خارجها.

نحن نتساءل لماذا لم تكن هناك أي حركة إرهابية ضد أي دولة أوروبية؟ إن هذا الحدث، على رغم فظاعته ووحشيته، ينبغي أن يدفع المسؤولين الأميركيين في الإدارة الأميركية وكل الذين يملكون الفكر السياسي في الجامعات وغيرها إلى دراسة مسببات هذا الحدث. ولكن المشكلة أن أميركا تحاول أن تفرض عنفوانها على العالم وليست مستعدة أن تفكر في الأسباب ولكنها تلاحق النتائج ونحن نعرف أن الطريقة التي تعالج فيها هذا الحدث سوف تخلق ألف سبب وسبب لأعمال مماثلة لأن الضغط بحسب القانون العلمي لابد أن يولد الانفجار.

لا تغيير للأنظمة

س: الحرب ستغير أجواء المناخ الدولي، من تغيير للأنظمة إلى رسم خريطة جديدة لدول العالم. ما توقعاتكم؟

ج: نتصور أن هذه الحرب قد تساهم في ارباك الكثير من الأنظمة بفعل الضغط أو ضغط التحالف الدولي على الأقل من خلال مجلس الأمن ومن خلال دول الأطلسي باعتبار الضغوط التي تستهدف هذه الدول في تسليم من يراد تسليمه،  مما سيخلق وضعاً سياسياً مضاداً من هنا وهناك أو تغيراً على القوانين الاقتصادية.

لذا نحن نعتقد أنها ستخلق حالة تشبه الفوضى في دول عربية وإسلامية ربما تمتد إلى أكثر من ذلك، ولكن من الصعب جداً تغيير الأنظمة لأن تغير الأنظمة في العالم يحتاج إلى قرار دولي يرتبط بالمصالح الحيوية للدول الكبرى التي تصنع القرار. ولا أظن أن هناك أي مصلحة لأي دولة من الدول التي تسمى بأنها من صاحبة القرار تسمح بتغيير أنظمة الدول.

نص الحوار التي أجرته مجلة الزمن مع العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله في عددها الصادر بتاريخ 10/شعبان/1422 الموافق:27/10/2001م

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية