الإسلام وتحديات العصر

الإسلام وتحديات العصر

لقد أجرت صحيفة "المجد" الأسبوعية حواراً متنوعاً مع سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله تناول العديد من القضايا السياسية والفكرية والفقهية، معتبراً أن الإسلام يمتلك حيوية ثقافية في مواجهة كل التحديات التي تناقض فكره. وكان ذلك في 3/4/2000 ،الموافق: 29/ذي الحجة/1421هـ. وقد جاء في الحوار:

ـ سماحة العلامة السيد محمد حسين فضل الله، عالم دين كبير، ورجل فكر وحوار وانفتاح.. غني عن التعريف، فهو أحد كبار مراجع ومؤسسي الفكر الإسلامي الحركي الراهن، باعتبار الإسلام ـ بفكره وثقافته الغنية والأصيلة والمنفتحة ـ هو القاعدة العملية للفكر والروح والحياة.

حول عدد من قضايا الساعة، وشؤون الدين والدنيا، كان "للمجد" مع سماحة هذا العلامة المجاهد الكبير، حوار ثري ومطول:

المحور الأول: الإسلام والتحديات المعاصرة

س: ماذا يعني مصطلح "تحديات العصر" بالنسبة للفكر الإسلامي المعاصر؟! وما هي طبيعة العلاقة التي يمكن أن تقوم بين الإسلام (كنص مقدّس قرآناً وسنةً) وبين العصر الحالي؟! ثم هل يجب على الإسلام والمسلمين أن ينتظروا قدوم متغيرات جديدة حتى يستجيبوا لها بما يتناسب مع قيمهم ومفاهيمهم الإسلامية؟! أي لماذا لا يوجد ضمن الفكر الإسلامي نفسه قوى محركة ذاتية تشتغل على فهم وحل الإشكاليات الراهنة التي تفرضها مسألة "وعي الواقع والاستجابة لتحدياته"؟!

ج: عندما نطلق كلمة "تحديات العصر للإسلام"، فإننا نستحضر أمامنا أن الإسلام ـ بعقيدته وشريعته ومفاهيمه ومناهجه ـ يملك تصوراً للكون وللإنسان والحياة بحسب كيانه المعرفي والحركي، وأن هناك ـ في هذا العصر ـ أفكاراً وأوضاعاً ومتغيرات عما ألِفه المسلمون في العصور السابقة، مما يفرض على الفكر الإسلامي أن يواجه ذلك كله بالأصول الإسلامية المعرفية وبالحركية الإسلامية في الواقع.

إن المسألة ليست هي أن ينتظر المسلمون حتى يؤسسوا فكراً يواجه المتغيرات أو التحديات، بل إن المسألة هي أن لا يبقى الإسلام الفكري والحركي في منأى عن الواقع، أن لا يهرب من ساحة الصراع، أن لا يواجه المتغيرات ـ التي قد تتحول إلى تحديات بحسب اختلافها مع الخطوط الفكرية الإسلامية ـ أن لا يواجهها بطريقة اللامبالاة.

ونحن نؤكد أن الإسلام يملك من خلال قواعده الثقافية ـ بكل تنوعاتها ـ أن يواجه الفكرة المضادة التي ربما جاء بها العصر، أو أن يقف من المتغيرات موقف الباحث الذي يدرس كل مفردة من مفرداتها بطريقة موضوعية يتعرف من خلالها ما ينسجم منها مع الفكر الإسلامي فيلتقي به، وما يتنافى مع هذا الفكر فيناقشه.

إننا نعتقد أن الإسلام يملك حيوية ثقافية في مواجهة كل التحديات الفكرية التي تناقض فكره، أو تناقش فكره، أو تنحرف بالواقع عن مسار فكره. ليست المسألة أننا ننتظر أن يأتي الآخرون لننتج فكراً جديداً، بل أن نحرك ما لدينا من فكر في مواجهة كل التحديات.

وليس معنى أن يكون النص مقدساً ـ كما هو مقدس في الكتاب والسنة ـ أن يتجمد الفكر في داخل النص، لأن ثبات النص ككلمة لا يعني جمود المفهوم عند ثبات الكلمة. فللمفهوم عالم واسع متحرك يمكن أن يجتهد فيه المجتهدون. ليفهم مجتهد منه شيئاً ويفهم مجتهد آخر منه شيئاً. الكلمة ثابتة ولكن المفهوم متحرك، ونحن من خلال حركية المفهوم ننطلق لنستوحي إسلاماً يبقى متحركاً مع الحياة. لأن الكلمة قد تأتي في موقع، ولكن الموقع يمثل النموذج الذي يتسع لكل النماذج المماثلة في حركية الحياة.

س: يعيش المسلمون حالياً هواجس عديدة على المستوى الإنساني والكوني.. فهم بدأوا يتفاعلون مؤخراً مع قضايا عصرية مستجدة، بدأت تفرض نفسها بقوة على واقعهم.. كالعولمة، والهويات الثقافية، ومجتمع الثورة المعلوماتية، والحداثة.. برأيكم: ما هو الموقف الحقيقي للإسلام ـ كدين إنساني يعمل على أن يُدخل الآخرين إلى داخل منظومته الفكرية والعقائدية ـ من هذه التحديات المعاصرة؟!

ج: إن هذه العناوين التي فرضها الواقع المعاصر تمثل تطويراً للواقع الذي عرفه الإنسان من قبل ذلك في علاقة الشعوب مع بعضها البعض على مستوى الثقافات، والاقتصاد، والسياسة، والأمن، نحن عندما نلتقي مع مفهوم العولمة فإن للعولمة دائرتين. الدائرة الأولى هي الدائرة السياسية الاقتصادية التي أريد لها أن تتحرك لتهدم كل الحواجز المنصوبة أمام الاستكبار العالمي (لا سيما الاستكبار الامريكي) الذي كانت العولمة منطلقة من خلفياته باعتبار أن الذين أطلقوها أرادوا أن تتحرك الشركات الامريكية في كل العالم من دون حواجز نفسية، أو دينية، أو اقتصادية تمنعها من احتواء الواقع الاقتصادي للشعوب، ومن خلاله الواقع السياسي للشعوب.

إن هذه الدائرة تتصل بحركة المسألة السياسية في مواجهة الاستكبار العالمي كوسيلة من وسائل التحرك ضد الاستكبار العالمي في حماية الشعوب المستضعفة من سيطرة الاقتصاد الكبير، والسياسة المهيمنة في حماية الشعوب من ذلك كله.

وبذلك، فإن المسألة تتصل بالحركة السياسية والاقتصادية أكثر مما تتصل بالحركة الثقافية من ناحية الواقع. ولكننا عندما نريد أن نبتعد ـ في هذين العنوانين (الاقتصادي والسياسي) ـ عن الخلفية التي أطلقت مسألة العولمة، فإننا من الممكن أن نفكر في دائرة علاقة الشعوب مع بعضها البعض لنجد أن تكامل الشعوب مع بعضها البعض ـ في البعد الإنساني ـ يمكن أن يعطي هناك نتائج كبيرة على أساس أن الحواجز الوطنية، أو الحواجز القومية، أو الحواجز الدينية في المجتمع قد لا تكون مصلحة للجانب الاقتصادي أو السياسي لهذا الشعب في انفصاله عن شعب آخر. لأن من الممكن للشعوب أن تتكامل فيما تنتجه أو فيما تستهلكه ـ في هذا المجال ـ مما يجعل من العولمة إذا استطعنا أن نطورها طريقة تهدم الحواجز ولكن بشرط أن لا تظلم الواقع.

وهكذا في المسألة السياسية، فنحن لا نمانع من أن تلتقي الشعوب على مستوى الوحدات السياسية، أو على مستوى التنسيق السياسي، او على مستوى التكامل السياسي بما يحقق مصلحة الشعوب.

أما الدائرة الثانية للعولمة وهي الدائرة الثقافية، فإن علينا أن ندرس ماذا تعني العولمة الثقافية؟! هل تعني أن يلتقي العالم على الأبعاد الإنسانية الثقافية التي ترصد الجانب الإنساني في كل ثقافة ليمتد في كل مواقع الشعوب الأخرى، بحيث تلتقي الشعوب ـ في الجانب الثقافي ـ بالأبعاد الإنسانية التي تلتقي عليها ثقافاتها، فهذا أمر نرحب به، ونعتبر أنفسنا ـ كمسلمين ـ معنيين بذلك، لأننا نرى في الثقافة الإسلامية البعد الإنساني المنفتح على كل الإنسان في العالم، باعتبار إنسانية الإسلام في دعوته الشاملة للعالم كله.

ولذلك، فإن أية فرصة لانفتاح العالم على البعد الإنساني في ثقافات الشعوب يمنحنا فرصة إطلاق الإسلام في بعده الإنساني ليتعرف عليه كل العالم ليجدوا فيه الخلاص من كل المشاكل، وكل الأوضاع السلبية التي يعيشونها. وتبقى لكل شعب من الشعوب خصوصياته التي تتصل ببعض أوضاعه أو بعض مفرداته الواقعية.

ونحن نعتقد أن هذه الخصوصيات يمكن أن تتعارف الشعوب عليها. لأن كل شعب يحاول أن يتعرف على ما عند الشعب الآخر من ثقافات خاصة ليجد فيها بعض الغنى لثقافته، وليدرس إمكانيات فهم واقع الشعب، وطريقة التعامل معه، ولعل هذا هو ما أكده الله في القرآن الكريم في قوله تعالى: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا} فإن كل شعب يرصد ما لدى الشعب الآخر ليتعرف عليه، ليكون ذلك هو سبيل التعارف بين الشعوب من خلال معرف الفكرة والتجربة وما إلى ذلك.

لهذا، فنحن عندما نقف أمام العولمة كطرح جديد في العلاقات العامة فيما بين الشعوب ـ على مستوى العالم ـ فإن الموقف منه يختلف تبعاً لحركة العولمة فيما يضر الناس، وفيما ينفعهم.

أما مسألة الثورة المعلوماتية، فنحن نرحب بها بكل دقة وعمق وانفتاح. لأن الثورة المعلوماتية تغني تجربتنا المعرفية بكل ما تقدمه للإنسان من مفردات العلم والمعرفة مما كان في الماضي، ومما هو في المستقبل.

أما الحداثة فإنها تمثل منهجاً في فهم القضايا والأشياء، ولعلها تختلف في خطوطها.. فهناك الحداثة التي تنطلق من فلسفة مادية تلغي معنى الله في حركة العالم، وفي حركة الإنسان. وهناك حداثة لا تتنكر لله، ولكنها تنفتح على المنهج باعتبار أن العقل هو الذي يمكن أن يواجه قضايا الإنسان ليؤصلها، وينظمها، ويحركها في الاتجاه الصحيح.

أما نحن، فمن الطبيعي أننا ننكر على الحداثة أن تكون مادية في فلسفتها. ولكننا نلتقي مع الحداثة في المنهج العقلي، وفي الأسلوب، والطريقة الموضوعية لمواجهة الأشياء. لأن الإسلام يؤمن بالعقل، ويعتبر العقل أساساً في العقيدة بالله، والعقيدة بالنبوة، والعقيدة باليوم الآخر، حتى أن الإيمان بالغيب لا بد أن يرتكز على عقل ـ على مستوى القاعدة ـ ليكون الغيب في مفرداته حقيقة بإدراك العقل. وإن لم يستطع العقل أن ينفذ إلى خطوطه ومفرداته.

لذلك، نحن مع الحداثة التي تطوّر المعرفة الإنسانية، ونستحدث لها أشكالاً جديدة، وأساليب جديدة. ولذلك، فنحن لا نتعقد من الحداثة في التجربة الشعرية، أو التجربة الأدبية النثرية، أو في المسرح، أو في السينما، أو في القصة، أو في ما إلى ذلك. كما أننا لا نتعقد من الحداثة عندما تواجه الأمور بعقلانية موضوعية دقيقة.

ومن الطبيعي أننا عندما نطلق العقل فلا بد أن نفرق بين العقل الفطري الذي يلتقي عليه الناس جميعاً، وبين العقل الثقافي الذي ينطلق من خلال حالة ثقافية محددة.. فإن من الطبيعي أن أي عقل ينطلق من ثقافة معينة، قيمته بقيمه تلك الثقافة، ولا يمكن أن تفرضه على الإنسان كله.

س: توجد في الواقع الثقافي والكلامي الإسلامي بعض المصطلحات المميزة كالعقل والشرع مثلاً، هل نستطيع أن نقول بأنهما متكاملان في بُعدهما العملي؟!

ج: إن العقل لا يبتعد عن الشرع. ونحن نقول إن "كل ما حكَمَ به العقل" عندما يطلع العقل على الأسس التي ارتكز عليها الشرع في مفرداته. ولكن العقل قد لا يستطيع أن يدرك بعض منطلقات الشرع، أو لا يملك الوسائل لمعرفتها. ونحن نعتبر أن العقل هو حجة الله على الناس، وقد ورد في بعض الكلمات المأثورة أن "العقل رسول من داخل، كما أن الرسول عقل من خارج".

س: إذا كنا نريد للإسلام أن يفصح عن استجاباته الحية والمتحركة على تلك التحديات.. فكيف يمكن أن تظهر تلك الاستجابات؟! هل تتجلى على شكل إعادة دراسة مباني وأصول الفقه الإسلامي القديم، وإحداث نقلة نوعية في مبناه ومعناه من خلال بناء قواعد وأصول جديدة تهدف إلى زيادة الثروة الفقهية كلها، أم على شكل استنباط أحكام شرعية جديدة من دون (هتك) حرمة أصول التراث الفقهي (المقدس في نظر الكثيرين)، أم على شكل وضع برامج مرحلية تنفذ إلى عمق التحديات الراهنة، وتعمل على مواجهتها والاستجابة الفاعلة لها؟!

ج: نحن لا نعيد النظر في القواعد الإسلامية، سواء على مستوى التراث الفقهي، أو الكلامي، أو المنهجي، لأن هناك تحديات واجهت هذا التراث بطريقة نقدية، أو بأسلوب سلبي. فنحن لا نستعير ثقتنا بالإسلام من خلال نظرة الآخرين إليه، بل نعتقد أن الإسلام يملك كياناً مستقلاً يتأصل من خلال قواعده الأساسية، بقطع النظر عما يقوله الآخرون أو يحكمون به.

إن مسألة التراث هي مسألة لا قداسة فيها بعيداً عن النص المقدس. فكل تراث العلماء الفقهي والكلامي والتفسيري (بما هو تفسير القرآن) هو تراث نحترمه في إطار الظروف الموضوعية التي أحاطت بالذين أنتجوه في ثقافتهم، في مفردات الواقع المحيط بهم، في أسلوبهم في فهم النص، في المؤثرات التي أثرت في اجتهادهم، وما إلى ذلك.

ولهذا، فإننا لا نعطي التراث البشري قداسة، بل نقول إنه اجتهاد نحترم جهد أصحابه في إنتاجه، ولكننا نقول: إن من الممكن أن نناقشهم فيه على الأسس العلمية الإسلامية في مناقشة الفكر، وفي فهم النص، وفي وسيلة الاستنباط، لذلك فإننا عندما نلتقي ببعض التحديات، فقد تفتح لنا هذه التحديات على نافذة في التفكير، أو على ثغرة في الفكرة الاجتهادية، بحيث تغرينا بتفكير جديد، وبمناقشة جديدة. وربما تأتي هذه التحديات من خلال أن هناك أحداثاً في العصر لم يكن للمجتهدين سابق عهد بها، وأن هناك قضايا مستجدة لم يصدر حكم شرعي تفصيلي فيها. لذلك من الطبيعي جداً أن ينطلق المجتهدون الإسلاميون ليناقشوا ما صدر من اجتهادات من الفقهاء، وليعطوا لكل قضية جديدة حكمها على أساس الكتاب والسنة، وليهدموا كثيراً من الأحكام الاجتهادية التي ثبت خطأها، وأنها لا تمثل الرأي الإسلامي الأصيل، ويستوعب العصر كله.

نحن لا ننتج الفقه الذي ينفتح على أحكام الواقع من خلال أن الآخرين لا يوافقون على ذلك. بل إن القضية هل توافق القواعد الإسلامية الأصيلة على ذلك، أو لا توافق؟! نحن لا نسقط تحت تأثير النظرة السلبية من قِبَل الآخرين، بل إننا ننفتح على أساس العناصر الإيجابية فيما نملك من قاعدة للفقه، وللفكر، وللحياة.

س: يعني هل نستطيع أن نعتبر هنا ـ سماحة السيد ـ أن هذه القواعد التي تحكم طبيعة التفكير الفقهي مقدسة؟!

ج: إن المقدس هو الكتاب والسنة، أما فهم الكتاب والسنة من قِبَل العلماء الآخرين (فليس مقدساً)، إن فهم النبي(ص) ـ ومن هم في صراط المقدس ـ إن فهمهم للكتاب والسنة مقدس. ولكن فهم العلماء الذين جاؤوا بعدهم ليس مقدساً، بل هم مجتهدون يخطئون ويصيبون وكم ترك الأول للآخر.

س: ليست كل تحديات العصر إيجابية، يمكن أن تعود بالفائدة على مسيرة الإنسان في الحياة.. فهناك كثير من التحديات الراهنة التي تأتينا مبطنة بالانحرافات الفكرية والسياسية والعملية.. خصوصاً وأننا نشهد حالياً ـ مع بداية الألفية الثالثة ـ هيمنة العقل المادي التكنولوجي المجرد والخالي من القلب والروح والمشاعر الإنسانية، والذي ليس له هم سوى تحقيق المزيد من الفعالية النفعية والربحية الخاصة، وتراكم رأس المال إلى ما لا نهاية. طبعاً حتى لو أدى ذلك إلى سحق الفكر والعقل الإنساني، وتشيؤ الوجود، وتدجين البشر، ومعاملتهم ـ كما هو واقع حالياً ـ كالقطيع.. ألسنا في حاجة ماسة إلى نقد هذا العقل الغربي (المتورط في ممارسات القوة، والهيمنة، والتسلط، وإلغاء الآخر) الوافد إلينا بصور زاهية وبهية، وإظهار نقائصه، وتناقضاته، وفضله في قيادة مسيرة البشرية؟! ما هو رأي سماحتكم بهذا الموضوع؟!

ج: من الطبيعي أن أية حالة انحرافية عما هو مصلحة الإنسان في أبعاده الإنسانية التي يحترم فيها الإنسان الإنسان، والتي ينفتح فيها الإنسان على مساحات واسعة من الحرية في حركة الفكر والواقع.. إن هذا أمر طبيعي جداً، ولذلك فإن ما نواجهه الآن من ثورة التكنولوجيا هو خير في بعده العلمي الذي يلبي حاجة الإنسان في اكتشاف أسرار الكون، وفي النفاذ إلى خارج مدار الأرض من أجل معرفة آيات الله في الكون، والانفتاح على العوالم الجديدة التي لا عهد لنا بها، وفي تسهيل حاجات الإنسان من خلال الاكتشافات التي تجعلنا نفهم طبيعة الأشياء، وتسهّل علينا عملية التعامل بها في كل مفردات حياتنا مما يجعل الحياة أسهل، وأغنى، وأكثر انفتاحاً.

إن من الطبيعي أن الإسلام ينفتح على العلم بكل أبعاده، وهو الذي اعتبر العلم قيمة فوق القيم، ورأى أن "قيمة كل امرىء ما يحسنه" كما جاء عن الإمام علي(ع)، وكما جاء في القرآن: {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} وكما جاء في القرآن: {وقل ربّ زدني علماً}. لذلك فإننا ننفتح على كل حركية العلم التي تعطي الإنسان معرفة أوسع، وأكثر، وأغنى. ولكن المسألة هي أن العلم لا قلب له. وبذلك فإنه قد يتجه إلى تدمير الإنسان عندما يكون سلاحاً ذا حدين.

لهذا، فإن دور الإسلام في بُعده الروحي الذي يربط الحياة كلها بالله، والذي يريد للعلم أن يتواضع أمام الله باعتبار أن العلم ينتج ما أنتج من خلال هذا العقل الذي خلقه الله في الإنسان، وأن العلم عندما ينفتح على أسرار الكون، فإنه يتعرّف إلى أسرار خلق الله، وبالتالي إلى أسرار الكون كله. وكلما انكشف له أفق جديد من الكون انفتح له أفق من الإحساس بالجهل، لأن هناك آفاقاً أخرى كثيرة.

لذلك، نحن نريد أن نضع الله في قلب العلم، وفي قلب التكنولوجيا، حتى إذا سارت التكنولوجيا ـ وسار العلم في كل أبعاده مع الله ـ جعله يشعر أن عليه ألا يبتعد عن إرادة الله، في احترام إنسانية الإنسان، وفي المحافظة على السلام في الكون كله. وعلى حماية كل شيء في الكون بما فيه بيئة الحيوان، وبيئة الإنسان. ومن هنا يتحول العلم إلى حالة يتعبد فيها العالم لله في المصنع، وفي المختبر. لأنه يتحرك في كل ذلك في عالم الله من خلال حركته في معرفة أسراره في الخلق.

س: تجري الآن على الساحة المحلية والدولية مفاوضات تسوية بين العرب وإسرائيل برعاية الولايات المتحدة، والواضح أن هناك تصميماً لدى كل الأطراف ـ المعنية بهذا الموضوع ـ لإنجاح العملية التفاوضية.. أين هو مكان الإسلاميين في هذه الأجواء الضاغطة التي أدخلت المشروع الإسلامي في انتكاسة (مؤقتة أو دائمة) كما أكدتم سابقاً؟! وكيف ستواجهون تعقيدات المرحلة المقبلة؟!

ج: من الطبيعي أن عملية التسوية تنطلق من قاعدة خطأ، لأنها قاعدة ترتكز على ظلم شعب لشعب، لأن المسألة اليهودية في فلسطين هي مسألة ترتكز على أسطورة أو على مسألة تاريخية تستغرق في آلاف السنين. يعتبرون إن الله جعل فلسطين لليهود، ووهبها لهم، واعتبرها أرض الميعاد، وأن كل فئة من البشر تأخذ منهم هذه الأرض هي فئة ظالمة محتلة. وما إلى ذلك.

ونحن نعرف أن الفكرة خاطئة من الأساس، فليس هناك نص ديني مقدس يعالج هذه المسألة بهذه القضية. فالله قال لبني إسرائيل من خلال موسى: (اسكنوا في هذه الأرض) في البعد الذي كان يعيشه بنو إسرائيل في ذلك الوقت. ولم يقل إن هذه الأرض هي ملك لهم على مستوى الزمن. ولذلك فإن فلسطين كغيرها من الأرض التي تتداولها الشعوب، فيسكن شعب في مكان، ويهاجر بعد ذلك إلى مكان آخر.. وهكذا. ولهذا، فإن الواقع الفلسطيني كان واقع العرب الذين عاشوا فيها منذ مئات السنين. والتي كان اليهود ـ الذين استعربوا ـ يمثلون أقلية فيها. ولذلك فإن اللعبة الصهيونية ـ المتحالفة مع اللعبة الدولية ـ عملت على طرد هذا الشعب من أرضه ـ وما تزال ـ ومنعه عن العودة إلى أرضه ليأتي اليهود من سائر أنحاء العالم إلى فلسطين لينشئوا عليها دولة إسرائيل.

إن المسألة انطلقت من موقع الظلم، والظلم لا يمكن أن يكون له شرعية. ولذلك، فإن التسوية المرتكزة على تشريع هذا الظلم هي تسوية ظالمة، ومن هنا فلا شرعية لها. ولكن من الطبيعي أن موازين القوى ليست في ميادين المظلومين في الوقت الحاضر، والإسلام يقف مع المظلومين. ويرى بأن الأمر الواقع ـ في مسألة الظلم ـ لا يمكن أن يعطى شرعية. ولهذا فإن الإسلاميين يظلون يرفضون شرعية إسرائيل حتى لو نجحت التسوية، وحتى لو اعترف العالم بما في ذلك الفلسطينيون، لأن الفلسطينيين لا يملكون أن يعترفوا بأي شرعية للظلم الواقع عليهم. ونحن نعرف أن الفلسطينيين لا يعترفون عن رضى، بل يعترفون تحت تأثير الضغوط الهائلة التي تطلق عليهم لتقول لهم: إما أن لا تحصلوا على شيء كلية، أو تحصلوا على شيء بسيط. ومن هنا فإن التوقيعات ـ لو كان الذين يوقعون يملكون شرعية التوقيع ـ فإنها تتم بفعل الضغط والإكراه، ونحن نعرف أنه لا شرعية للإكراه، لا من ناحية حقوقية، ولا من ناحية إنسانية.

لذلك، نحن نبقى نثير الفكرة على مستوى الزمن كله، لأننا نقول: "إن الحاضر إذا ضاق ببعض النتائج فإن المستقبل لن يضيق بذلك"..

س: ..أيضاً على مستوى الأمة سماحة السيد..

ج: ولذلك، فإننا نعتبر أن من نقاط الضعف التي وقعت فيها القضية الفلسطينية هي أنها أخذت بعداً فطرياً وإقليمياً، ولم تأخذ البعد الإسلامي كله، ونحن نستذكر كلمة الصحابي الجليل عمار بن ياسر في معركة صفين، عندما هزم جيش علي في بعض الجولات، قال: لو هزمونا حتى يبلغوا بنا سعفات هجر لعلمنا أننا على الحق، وأنهم على الباطل.

المحـور الثاني: معالم وأبعاد المشروع الحضاري الإسلامي

س: لا يزال المشروع الحضاري الإسلامي حبيس النصوص والكتب ـ بالرغم من وجود الكثير من العناصر والصور الإيجابية في هذا المجال ـ ولم يتحول إلى برنامج عملي تأخذ به الحركات الإسلامية المعاصرة على تنوعها، وتفرعها، واختلاف وعيها، وتعاملها مع ظروف ومستجدات الواقع.. السؤال: ما هي أسس ومعالم هذا المشروع على المستوى الفكري والإنساني والحضاري؟! ثم ما هي العوامل التي يمكن أن تساعد على إنجازه، وتلك التي تعيق تقدمه، وتحوله إلى واقع عملي حي وملموس؟!

ج: إننا نتصور أن المشروع الإسلامي قد تجاوز مفردات النصوص إلى مستوى النظرية. فهناك تجارب ثقافية فكرية مهدت للتخطيط للاقتصاد الإسلامي على مستوى النظرية ليبرز كاقتصاد يملك شخصيته المستقلة في مقابل الاقتصاد الرأسمالي والماركسي.

وهناك تجربة ثقافية في الجانب القانوني، في ما هي الخطوط الفقهية العامة التي تقنن الفقه الإسلامي لتقدمه كقانون يملك أن يحقق للإنسان الكثير من النتائج الإيجابية في حل مشاكله المتحركة في نطاق الدولة. ولعل التجربة الإسلامية في إيران تعطي صورة من ذلك. كما أن هناك تخطيطاً للمناهج التربوية الإسلامية، والمناهج الاجتماعية، وما إلى ذلك، هناك تجارب إسلامية متحركة منذ عصر النهضة وحتى الآن، مما حفل به الواقع الإسلامي المعرفي في أكثر من جانب.

أما لماذا لم تستطع الحركات الإسلامية أن تمنهج هذا في حركة الواقع فلأن التحديات الأمنية والسياسية ـ التي واجهت الحركات الإسلامية هنا وهناك، وحاصرتها في دوائرها الإقليمية أو في مواقعها المحلية ـ منعتها من أن تتحرك بعيداً على مستوى تحريك المنهج في الواقع، وشغلتها بنفسها حتى أنها عملت على تقطيع أوصالها، فأصبحت كل حركة تعيش مشاكلها وظروفها الخاصة في دائرة موقعها المحلي لتحافظ على وجودها.

إننا نعتقد أن الإسلام يملك الكثير من الإمكانات في إنتاج المشروع الحضاري المتكامل، ولكن هناك مشكلة يواجهها الإسلام في هذه المرحلة المعاصرة وهي أن الحملة الظالمة التي يقوم بها الاستكبار العالمي ـ المتحالف مع الكفر العالمي ـ تمنع الإسلام غالباً من أن يتحول إلى دولة، وبالتالي من أن يحوّل مناهجه ومشروعه الحضاري إلى واقع. ونحن نعرف أن المشروع الحضاري إذا لم يتحول إلى واقع، فإنه لا يستطيع أن يعبر عن ذاته، وعن خصائصه الأصيلة.

تلك هي مشكلة الإسلام في هذا العصر. مثلاً إن هناك نظرية اقتصادية على مستوى المذهب الاقتصادي في الإسلام، ولكن لن نستطيع أن نعرف قيمة هذه النظرية إذا لم نحوّل هذا المذهب الاقتصادي إلى حركية في عالم الاقتصاد الإنساني الموجود في العالم.

س: يعاني المسلمون حالياً من أزمات داخلية مقيمة، يؤكد الإسلاميون أن الإسلام ليس مسؤولاً عنها، ولا دخل له فيها.. استكمالاً للسؤال السابق، وطالما أن الإسلام طرح نفسه كبديل حضاري عن الأنظمة والايديولوجيات السائدة.. فلماذا لا يطرح حلوله العملية في هذا المجال؟!

ج: لقد أشرنا في الحديث السابق أنك عندما تطرح الحلول العملية فلا بد لك أن تمسك بمفاصل العمل في الواقع، لأنك لن تستطيع أن تؤصل الحل العملي إذا لم يكن الواقع تحت يديك، وإذا لم تستكمل كل ظروف الواقع في حركتك نحو تحصين الواقع، أو نحو إنتاج الحل للواقع. ولهذا من الصعب أن نتحدث عن حلول عملية في غياب إمكانات انفتاحنا على الواقع.

ونحن نلاحظ في المجالات الإسلامية المحدودة ـ ولعلنا نقدم إيران كتجربة ـ هناك محاولات ناجحة في بعض التجارب لطرح البديل عن الحلول غير الإسلامية في الواقع الإسلامي.

س: هل يمكن الحديث هنا عن ضرورة وجود مركب (حامل) اجتماعي حضاري (خاص) بالإسلام؟! وما هي العناصر المكونة لهذا المركب؟!

ج: من الطبيعي أنك عندما تريد أن تطلق المشروع الحضاري، فإنك لا بدّ أن تطلق النظرية والأسلوب، والحركية الواقعية، وأن تفتح المجال لأن يتحرك الإنسان بكل أبعاده في المعرفة، وفي الإنتاج وفي مواجهة الخطوط الإنسانية التي ترتفع بالواقع، وترتفع بالإنسان.

س: ثمة إشكالية طاغية على ساحة العمل الإسلامي حالياً.. ترتبط بخصوصيات المرجعية الدينية للمشروع الحضاري الإسلامي.. إذ تتنوع هذه المرجعيات، ويتوزع فيها الجهد الإسلامي وفعله على طيف واسع من الإسلاميين الذين يمارسون ذلك الجهد بقناعات متنوعة أيضاً. وهذا يؤدي بدوره إلى تشتيت الجمهور الإسلامي العريض، وبعثرة طاقاته، وإصابته بالحيرة والارتباك جراء توزع وتلون وتنوع تلك المرجعيات. وتتزايد وتائر تلك الإشكالية في ظل غياب مرجعية عليا موحدة.. كيف يمكن تجاوز هذه الإشكالية المعقدة؟!

ج: من الصعب جداً أمام تعدد المذهبيات في الفقه الإسلامي، وفي الكلام الإسلامي، وتعدد الاجتهادات في المذهب الواحد، وتعدد القيادات الإسلامية في الواقع الحركي، أن نتحدث عن مرجعية واحدة على مستوى الواقع. ولكننا ـ في الوقت الذي نؤكد فيه على السلبية في افتقادنا لوحدة المرجعية التي تنتج رأياً إسلامياً واحداً، وحركة إسلامية واحدة، بحيث تقدم للعالم المفهوم الإسلامي الموحد ـ نجد أن هذه التعددية تحمل الكثير من الإيجابيات عندما ينطلق التنوع ليعطي الفكر الإسلامي غنى، وليعطي الأساليب الإسلامية ـ في تحريك هذا الفكر، وفي إنتاجه ـ غنى آخر.

س: ونحن نتحدث عن معالم المركب الحضاري الإسلامي لا بد أن نمر على فكرة المجتمع المدني بصيغة مجتمع مدني إسلامي الهوية، والطرح، والانتماء.. هل توافقون على هذا الطرح؟! وما هو تصوركم الموضوعي عنه؟!

ج: عندما نطلق كلمة "المجتمع المدني الإسلامي" في داخل الإسلام، فإننا نريد منه المجتمع الذي يحكمه القانون، والذي لا تسيطر عليه قيادة تحكم بذاتها، أو بقداستها الشخصية. لأننا نعتقد أن القانون ـ الذي يمثله الإسلام في كل تشريعاته ـ هو الذي يحكم المسلمين، حتى أنه هو الذي يحكم النبي في مرحلته، ويحكم الإمام في مرحلته.. فنحن نقرأ نصاً عن رسول الله(ص) أنه وقف في حياته ليخاطب المسلمين، ويقول لهم: "إنكم لا تمسكون عليّ بشيء، إني ما أحللت إلا ما أحلّ القرآن، وما حرمت إلا ما حرم القرآن"، إنه يؤكد لهم أنه انطلق في خط القانون، ولم ينطلق في خط الذات، في الوقت الذي نعرف فيه أن ذات النبي(ص) هي القانون، لأن النبي يجسد الإسلام كله، فهو القرآن الناطق، إذا كان القرآن هو الكتاب الصامت.

وهكذا نجد (هناك) نصاً للإمام علي(ع) في خلافته، إنه يقول: "لا تكلموني بما تكلمون به الجبابرة، ولا تتحفظوا مني بما يتحفظ به عند أهل البادرة، ولا تظنوا بي استثقالاً لحق قيل لي أو لعدل يعرض عليّ، فإن من استثقل الحق أن يُقال له، والعدل أن يُعرض عليه كان العمل بهما عليه أثقل". فإذن هو يطلب من الناس أن يراقبوه، وهو المعصوم في عقيدتنا في هذا المجال.

لذلك، نحن نفهم من المجتمع المدني، إنه المجتمع الذي يعطي فيه الشعب حقه في الحريات والحقوق التي يكفلها له القانون. وليس لأية سلطة ـ مهما كانت كبيرة في الدولة ـ أن تفرض نفسها على الشعب خارج نطاق القانون. وعلى الشعب أن يعزلها إذا قامت بمثل ذلك.

المحور الثالث: الإسلام والسياسة.. تعاضد أم تعارض

س: هناك إشكالية دائمة ـ يمكن أن تكون مصطنعة أو واقعية ـ بين الديني والسياسي، خصوصاً في عصرنا الحالي الذي تتصاعد فيه الحملات المحلية والدولية (بمختلف أشكالها السياسية، والأمنية، والثقافية، والإعلامية..) ضد الإسلام والمسلمين تحت ستار محاربة الأصولية، ومواجهة التطرف والعنف.. وهناك توصيف للإسلام ـ جاء على لسان بعض المثقفين والسياسيين في الغرب ـ بأنه (أي الإسلام) العدو المقبل الحتمي للغرب.. كيف تنظرون إلى طبيعة تلك الإشكالية التي جاءت لتشكل محوراً أساسياً من محاور هجوم كثير من النخب العلمانية المحلية على الدين الإسلامي، واتهامهم له بأبشع النعوت والصفات؟! ثم ما هي فلسفة الإسلام السياسية؟!

ج: نبدأ من آخر نقطة لننفتح على النقاط الأخرى، باعتبار أن هذه النقطة تمثل القاعدة التي تفسر كل الخطوط التي تنفتح بها النقطة الأولى.

إن فلسفة الإسلام السياسية تتلخص في كلمة واحدة ركزتها آية قرآنية وهي "إقامة العدل"، أن يعيش الإنسان في حياته مع الإنسان الآخر على أساس أن يعطي كل إنسان للإنسان الآخر حقه في كل جانب من جوانب الحياة، سواء كانت فردية أو اجتماعية، في المجال الاقتصادي، أو السياسي، أو الأمني. وهذه هي الآية الكريمة في سورة الحديد.. يقول الله سبحانه وتعالى: {لقد أرسلنا رسلنا البينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط}. فالقيام (قيام الناس بالقسط) هي الكلمة التي تختصر كل حركة الديانات منذ أول رسالة مع أول رسول إلى آخر رسالة مع آخر رسول. وعندما نستنطق كلمة (قيام الناس بالقسط) أي (العدل) فإننا نعرف أن قيام الناس بالقسط بحاجة إلى قانون يؤكد للناس حقوقهم، وإلى دين يحمّل الناس مسؤولية حركية هذه الحقوق في الجانب التنفيذي، وحكم يُشرف ويَفرُض تحقيق هذا الهدف. ومن الطبيعي أن هذين العنصرين (القانون، والحكم) بحاجة إلى هيئات ومؤسسات تخطط لذلك من الجوانب التشريعية والجوانب التنفيذية.

إذاً، أن تحقق العدل في الناس، أن تحرك السياسة في كل مفرداتها، ابتداءً من الحكم إلى أصغر وظيفة في المجتمع. وعلى ضوء هذا نستطيع أن نؤكد أن الإسلام يختزن السياسة في مضمونه باعتبار أنه أكد على العدل في قاعدته. وعندما ندرس التاريخ الإسلامي فإننا ندرس أنه كان متحركاً في خط الحكم والسياسة. وكذلك عندما ندرس السيرة النبوية الشريفة نرى هناك حركة سياسية بحسب ما تتحمله المرحلة آنذاك..

وإذا تركنا المرحلة النبوية إلى المراحل الأخرى، فإننا نجد أن الواقع الإسلامي كان واقع السياسة المتحركة بكل قوة، والتي أنتجت الكثير من الصراعات ومن التعقيدات وما إلى ذلك، بين سياسة مستقيمة وسياسة منحرفة. ولكن كان المجتمع الإسلامي لا يُبعد السياسة عن الدين، ولا يعتبر أن الحركية السياسية تمثل انحرافاً عن الإسلام، بل كانوا يرون أنها تمثل عمق الخط الإسلامي، وإن كانوا ينتقدون هذا لأنه سار في الخط المستقيم.

إذن، عندما ندرس المسألة من خلال القاعدة الإسلامية، فإننا نرى أن القاعدة التي ارتكز عليها الإسلام ـ وهي العدل ـ تجتذب السياسة بكل مؤسساتها. وعندما ندرس التاريخ الإسلامي ـ والذهنية التي عاشها المسلمون في كل مواقع هذا التاريخ ـ نرى أن السياسة لم تكن بعيدة عن ذهنيتهم، بحيث كانوا لا يرونها ابتعاداً عن الدين، بل يرونها انفتاحاً على المسؤوليات الدينية فيأن يكون هناك خليفة، وأن يتحرك الخليفة بمؤسساته في تنفيذ شرع الله وما إلى ذلك.

س: ..حتى أن هذه الإشكالية ـ إشكالية الديني والسياسي ـ لم تكن موجودة أساساً..

ج: .. ولذلك فإن هذه المسألة لم تكن مطروحة في مدى التاريخ الإسلامي، ولا في مدى الثقافة الإسلامية انطلقت على أساس أن مسألة الحكم ـ وعلاقة الحاكم بالشعب.. علاقة الشعب بالحاكم ـ من المسائل الطبيعية جداً في المعنى الذي يختزنه الدين الإسلامي.

أما قضية ابتعاد الدين عن السياسة فإن هذه المقولة جاءت ضمن مقولات استوردها المسلمون من الغرب كمقولة "مناقضة الدين للعلم"، و"مناقضة الدين للسياسة"، و"ابتعاد الدين عن حركية الحياة". وما إلى ذلك.. ونحن نعرف أن هذه المقولات انطلقت من التجربة الدينية التي عاشها الغرب، وليس من الضروري أن تكون تلك التجربة منطلقة من عمق معنى الدين في المسيحية. ولكنها قد تكون منطلقة من خلال الممارسات السلبية التي عاشها بعض علماء الدين في تلك المرحلة.

إذاً، نستطيع أن نقول إن هناك ارتباطاً بين الدين والسياسة بالمعنى العضوي للارتباط تماماً، كما قال بعض علماء إيران الذين استوحت منهم الثورة الإسلامية بعض خطوطهم: "سياستنا دين وديننا سياسة". إن السياسة في المفهوم الديني تمثل الوسيلة التي تعمل على تدبير أمور الناس من أجل تحقيق العدل فيما بينهم.

أما المفردات الأخرى التي تحدث عنها السؤال، فننطلق من المفردة الأولى وهي مفردة "الأصولية"، إننا نعتقد أن الأصولية في المفهوم الغربي تبتعد عن الأصولية في المفهوم الإسلامي. فالأصولية في المفهوم الغربي تتمخض في دائرتين، الدائرة الأولى: إلغاء الآخر وعدم الاعتراف به. والدائرة الثانية: هي اعتبار العنف الوسيلة الوحيدة للتغيير. وهذان أمران رفضهما الإسلام منذ البداية. ويرفضهما الخط الإسلامي حتى الآن. أما منذ البداية، فنحن نقرأ القرآن الكريم، فنقرأ قوله تعالى: {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله}. ونقرأ قوله تعالى: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون} ونقرأ في قوله تعالى: {ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون}.

إن الآخر ـ الذي كان يحمل فكراً قد يتميز في مفرداته عن الإسلام ـ هم أهل الكتاب، لأن الإسلام لا يعتبر الشرك تياراً فكرياً، بل إنه يعتبره يختزن التخلف والسقوط الفكري في واقع الإنسان، باعتبار أن مسألة "عبادة حجر" تمثل تحجّر الفكر الإنساني، وتمثل سقوط المعنى الإنساني في الفكر. وقد لاحظنا كيف أن القرآن دعا أهل الكتاب إلى "كلمة سواء"، أي أنه اعترف بهم. ولذلك قبلهم في مجتمعه، وأراد لهم أن ينسّقوا علاقتهم بالمجتمع الإسلامي إما من خلال عقد "أهل الذمة"، أو من خلال عقد "المعاهدة". ونحن نلاحظ أن النبي محمد(ص) عندما هاجر إلى المدينة أصدر وثيقة يؤكد فيها المعاهدة بين اليهود وبين المسلمين، كما يؤكد المعاهدة بين القبائل والعشائر هناك. مما يعني أن الإسلام يعترف بالآخر، ويتعاقد معه، ويتعاهد معه. ولعل التجربة التاريخية تؤكد ذلك. فنحن نجد أن اليهود، والنصارى، والمجوس كانوا ولا يزالون موجودين في البلاد الإسلامية من دون أن يقوم المسلمون بإلغائهم، أو بتصفيتهم، أو بطردهم، أو بإكراههم على الدخول في الدين.

أما الدائرة الثانية، وهي دائرة "اعتبار العنف الوسيلة الوحيدة للتغيير" فإن القرآن الكريم أكد أن الوسيلة المثلى هي الرفق لا العنف. وهذا ما نقرأه في قوله تعالى: {ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم} حاول أن تتبع الطريقة الأحسن، والأسلوب الأفضل الذي يحول أعداءك إلى أصدقاء. وهذا أيضاً ما نقرأه في الحديث النبوي الشريف: "إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف" و"إن الرفق ما وُضِع على شيء إلا زانه، ولا رُفع عن شيء إلا شانه".

وهكذا، نلاحظ أن العنف إنما يصار إليه في الإسلام في موقع "الدفاع عن النفس"، أو في موقع "الوقاية" {وقاتلوا في سبيل الله والمستضعفين}.. و{قاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم}. إن العنف في الإسلام ـ في الحرب الإسلامية ـ هو عنف دفاعي، أو عنف وقائي، وليس عنفاً هجومياً، وهذا الأمر تعترف به كل الحضارات، وكل الأديان.

إذن، لا أصولية في الإسلامية بهذا المعنى الغربي. نعم، نحن أصوليون بحيث ننطلق من القاعدة التي انطلق منها الإسلام. ونحن نعرف أن الإسلام فتح للإنسان ـ الذي يرتكز على أصوله من التوحيد، والنبوة، والإيمان باليوم الآخر، والإيمان بالخطوط العامة للشريعة، ولعبادة الله ـ فتح للإنسان الباب للتطور العلمي، الثقافي، والواقعي، والاجتماعي، وما إلى ذلك. ولكن في حدود الخطوط الأساسية في هذا المجال. فليس معنى أن نكون أصوليين أن نتجمد عند الأسلوب الذي كان يعيشه المسلمون آنذاك، بل أن نرتكز على القاعدة الإسلامية التي تفرض علينا أن نتحمّل مسؤولية الحياة بحسب ظروف الحياة عندنا من دون أن ننحرف عن الخط. وذلك هو قوله تعالى، وهو يحدثنا عن حركة التأريخ في خط المسؤولية: {تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تُسألون عما كانوا يعملون}، ونحن نلاحظ أن الإسلام يدعونا إلى التقدم {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} {وقل ربّ زدني علماً} إلى آخر ما هنالك.

أما المسألة الأخرى وهي أن "الإسلام يعادي الغرب"، الواقع أن الإسلام لا يعادي الغرب المثقف، ولا يعادي الغرب العلمي، ولا يعادي الغرب الإنساني، إنما يعادي الغرب الاستعمار. نحن لسنا أعداء الغرب، كما لسنا أعداء كل الشعوب، بل إننا نقرأ في الآية التي تلوناها أن الإسلام يريدنا أن ننفتح على الآخرين الذين (هم) يقفون في موقف العداوة لنحولهم إلى أصدقاء.

نحن لسنا ضد الشعوب الغربية، ولكن ضد الإدارات الغربية السياسية التي تريد أن تصادر اقتصادنا، وسياستنا، وأمننا، وثقافتنا لحساب اقتصادها، وأمنها، وسياستها، وثقافتها وما إلى ذلك.

نحن نؤكد الحوار مع الغرب في كل القضايا. كما نؤكد الحوار مع كل الشعوب. لنا حضارتنا ولهم حضارتهم. وهناك مواقع الالتقاء الحضاري بيننا وبينهم. فنحن ندعوهم إلى اللقاء عليها، وهناك خلاف بيننا فندعوهم إلى الحوار حوله.

وإذا كانوا يعتبرون حركتنا من أجل الاستقلال. ومن أجل الحرية، ومن أجل تحصيل الاكتفاء الذاتي، ومن أجل تحريك ثرواتنا، من أجل تنظيم اقتصادنا وازدهاره، فإننا خطر على كل اضطهاد، وخطر على استكبار واستعمار، كما كانوا (هم) خطراً على الذين استعمروه واستكبروهم في كل تاريخهم.

س: سماحة السيد: هناك تساؤل دائم حول كلمة أو مصطلح "أهل الذمة" أو "أهل المعاهدة".. هل هناك مجال معين في الفقه الإسلامي (أو هل يعطينا هذا الفقه الامكانية اللازمة) لاستبدال هذا المصطلح الذي يشكل هاجساً سلبياً قوياً لدى الآخر بمصطلح ومبدأ آخر "كالمواطنة" مثلاً؟!

ج: أولاً، نحن نقول: إن مصطلح أهل الذمة ليس مصطلحاً مسيئاً لإنسانية الإنسان، لأن معنى ذلك أن الأكثرية تحترم الأقلية فلا تدفعها إلى أن تحارب من هو على دينها عندما تدخل الأكثرية في حرب مع أناس يدينون بدين الأقلية. ولذلك لا تفرض عليها الانتماء للجيش، وثانياً أنها لا تفرض عليها الضرائب التي تُفرض على المسلمين الآخرين. وإنما ضريبة أهل الذمة هي ضريبة محدودة من أجل الحماية. ولكننا في الوقت نفسه نقول: إن من الممكن أن نحول المسألة إلى مواطنة مع بعض الشروط التفصيلية للحقوق العامة بلحاظ الأكثرية والأقلية. وهذا ما عاشته التجربة الإسلامية في إيران. فإن اليهود، والنصارى، والمجوس، والزرادشتيين الذين يعيشون هناك يتمتعون بكل حقوق المواطنة ما عدا الموقع القيادي. لأن الموقع القيادي للأمة لا بد فيه من أن يؤمن القادة بالأساس الذي ترتكز عليه الأكثرية في هذا المقام. ولذلك فإن الجمهورية الإسلامية قبلت النصارى في الجيش. وعندما خاضت الحرب ضد العراق سقط هناك قتلى من النصارى، وكما أن النصارى الآن لهم ممثلون في مجلس الشورى، واليهود لهم ممثلون، وكذلك الزرادشتيون.

س: كيف تنظرون ـ كمرجع إسلامي مؤسس للإسلام الحركي ـ إلى مسألة العلمنة في المجتمعات العربية والإسلامية؟! هل يمكن للعلمانية أن تكون هي البديل الطبيعي والطرح العقلاني الذي يستطيع استنهاض همم وطاقات الأمة، ومن ثم تحريكها باتجاه عملية التغيير المطلوب، على مستوى إنجاز تطلعات الأمة وأهدافها العالية في إقامة مجتمع متقدم ومقتدر في كل مواقعه وامتداداته؟! وهل هناك إمكانية للتوفيق بين العلمنة والإسلام من أجل تجاوز عصر الهزائم والنكبات التي لا تزال تتلاحق فصولها على مسرح الأحداث العربية والإسلامية الراهنة؟!

ج: نحن عندما نتحدث عن الإسلام، عن الدين في الموقع الإسلامي فإن العلمنة تضاد الإسلام، ولا نقصد بذلك أن العلمنة إلحادية، لأن العلمنة على قسمين: هناك علمنة إلحادية وهي المتمثلة بالماركسية، وأمثالها من الاتجاهات المرتكزة على الفلسفة المادية. ولكن هناك علمنة غير إلحادية، ربما تتمثل بالعلمنة الغربية. فإن الغرب لا يضاد الدين. وإنما أقصد ـ بمضادة الإسلام للعلمنة ـ هو أن العلمنة تنطلق من قاعدة فكرية وهي أن الدين لا علاقة له بالحياة. فالدين هو علاقة بين الإنسان وربه، يمكن أن يمارسه الإنسان في أخلاقياته الخاصة في نفسه. وفي بيته، ويمكن أن يمارسه في المسجد أو في الكنيسة. أما الحياة فلا علاقة للدين بها. فلا يجوز ـ من وجهة نظر العلمانية ـ أن ندخل الدين في القانون، بحيث نخضع القانون للتشريعات الدينية. وهذا ما نلاحظه في الحملة العلمانية (أو الصليبية) على فكرة "أسلمة القانون" أو "تطبيق الشريعة الإسلامية". وهذا ما نعيشه حتى في الدول التي تقول عن نفسها أنها إسلامية، ولكنها تعتبر الدعوة إلى تطبيق الشريعة جريمة يعاقب عليها القانون.

وهكذا ترى العلمنة أن على الدين ألا يتدخل بالسياسة. حتى أن بعض العلمانات ـ إذا صح التعبير ـ تمنع الحرية على المتدينين حتى في اللباس. فنحن نجد في فرنسا أنهم يمنعون الطالبة المسلمة أن تلبس الحجاب في المدارس.

س: .. وحتى في تركيا أيضاً..

ج: وفي تركيا البلد الذي يقول عن نفسه أنه بلد إسلامي، فإنهم يمنعون الفتاة من الدخول إلى الجامعة أو إلى مجلس البرلمان إذا كانت محجبة، كما حدث في الآونة الأخيرة. لذلك فإن أوضح نموذج لهذه المضادة بين الإسلام والعلمنة ـ بالشكل الإعلامي الواضح الذي يتحرك في أسلوب الحرب ـ هو ما انطلقت به تركيا التي تحولت من الإسلام إلى العلمنة. واعتبرت أن العلمنة تفرض عزل الإسلام عن الحياة تماماً، وإبقائه في الدائرة الذاتية العبادية. حتى أنهم يُجبرون الأحزاب الإسلامية على الاعتراف بالعلمانية، وهذا ما فعله أربكان عندما تسلم رئاسة الوزراء حيث صرح بالتزامه بالعلمانية.

لذلك، فنحن نقول: إن العلمانية تمثل مشكلة، وليست حلاً بالنسبة للمجتمع الإسلامي، لأن المجتمع الإسلامي يطمح إلى أن لا يعيش الازدواجية بين الإسلام وبين القانون، باعتبار أن الإسلام يمثل شريعة شاملة من خلال الفقه الإسلامي ممتدة إلى كل مفردات حياة الإنسان العامة والخاصة. ولذلك فإن عزل هذا القانون عن الواقع والإتيان بقانون علماني ينطلق من الاستعارة من القوانين الغربية، أو من تصويت نواب البرلمان هنا على خلاف القوانين الإسلامية، هذا يُدخل المسلمين في مشكلة كما هم الآن يعيشون هذه المشكلة في الازدواجية بين ما هو الإسلام الذي يفرض عليهم أن يلتزموا قانونه، وبين ما هو القانون العلماني الذي يفرض عليهم أن يطبقوه على حياتهم الخاصة والعامة. وتكون النتيجة أن المسلمين لا يمكن أن ينفتحوا على الحكم الذي يتنكر لمعتقداتهم في هذا المقام،وهذا مما يمنع الاستقرار في المجتمع، ويعطل إمكانيات الابداع فيه.

س: سماحة السيد: هل ساهمتم من موقعكم في الحد من غلو الطرح العلماني والإسلامي من أجل إقامة بعض التحالفات المرحلية الواعية بين الطرفين، تأخذ بعين الاعتبار ضرورات الواقع وضغوطاته؟!

ج: لقد كنت منذ البداية أؤكد على أسلمة المجتمع حتى في أسلمة العلم. وكنا نؤكد على أن من الضروري أن يكون الإسلام قاعدة للفكر والعاطفة والحياة. ولكننا ـ في الوقت نفسه ـ كنا نؤكد على "الكلمة السواء"، وأن من الممكن في القضايا المشتركة بيننا وبين العلمانيين ـ على مستوى الواقع السياسي، والاجتماعي، والأمني ـ أن ندخل في لقاءات للتعاون فيما بيننا في هذا الاتجاه.

س: يأخذ الإسلاميون على العلمانيين أنهم استلموا مفاصل الحكم والسلطة والإدارة في معظم البلدان العربية والإسلامية، ولم يحققوا للأمة إلا النـزر اليسير من تطلعاتها وأهدافها.. ما هي الإمكانات التي يمتلكها الإسلاميون للنهوض بواقع الأمة؟!

ج: إن المشكلة التي يعيشها الإسلاميون ليست أنهم لا يملكون البرنامج العملي الذي يمكن أن يحل مشكلة الأمة، بل أن التحديات المحيطة بهم على المستوى الاقتصادي الذي يُمسك مفاصله العلمانيون، أو المستوى السياسي أو الأمني الذي يملكه العلمانيون. وهكذا على الصعيد الإعلامي وما إلى ذلك، مما يمنع المسلمين من أن تكون لهم الحرية في تنفيذ برنامجهم الذي تحيط به أذرع الأخطبوط الاستكباري من كل مكان. ولعلّ هذا هو الذي يفسر فشل بعض المسلمين في إيصال المجتمع إلى الحلول التي يتصورونها، ويخططون لها، لأن المسألة ليست هي مسألة النظرية، بل هي مسألة الواقع الميداني. فإذا كنت تملك مذهباً اقتصادياً يمكن له من أن يحل المشكلة الاقتصادية، ولكنك لا تملك الإمكانات الاقتصادية التي تستطيع من خلالها تحريك المذهب في حركة الواقع ـ فمن الطبيعي أن المشكلة لن تكون في الخط الذي تؤمن به، ولكن المشكلة في الواقع الذي يمنعك ـ في تحدياته ـ من الوصول إلى النتائج الكبرى.

إننا نجد أن الثروات التي يملكها المسلمون (مثل البترول وأمثاله) لا يمكن أن تتحرك إلا من خلال السياسة التسويقية التي يخطط لها الاستكبار العالمي من جهة، وهكذا في كل العمليات الاقتصادية، لهذا فإن المشكلة ليست مشكلة النظرية ولكنها مشكلة التطبيق.

س: .. سماحة السيد: كلامكم صحيح.. ولكن لماذا نشتكي دائماً من الواقع، ومن تحدياته وضغوطاته؟! ثم ما هو دور العلماء والمثقفين وأهل الرأي والخبرة في المجتمع، وهم الذين يشكلون ثقلاً نوعياً في داخل الأمة؟!

ج: إن دورنا هو أن نغيّر الواقع بقدر إمكاناتنا {لا يكلّف الله نفساً إلاّ وسعها} وعلينا أن نكون واقعيين، فنعترف بالحقائق التي تنتصب أمامنا كحواجز تمنعنا من استكمال الطريق. ونحن لا نريد أن نتجمد أمام هذه الحواجز، بل نحاول إزالتها بالمزيد من المواجهة والجهاد، وما إلى ذلك. ولكن من الطبيعي أن هذا الأمر يحتاج إلى زمن طويل وإلى جهد طويل.

س: إن المشكلة في الفكر السياسي الإسلامي المعاصر لا تكمن في التأكيد على أهمية ارتباط الدين بالسياسة ـ في المقدمة والنتيجة ـ بقدر ما تكمن في رؤية هذا الفكر، وتصوره الخاص والعام لطبيعة العمل السياسي، وأهدافه، ومعطياته، وأبعاده الإجرائية، وإطاراته الشرعية. أي عن ماهية إدخال السياسة في الإسلام من حيث قبولها أو رفضها لنموذج معين ثابت في الحكم وتنظيم ممارسة السلطة، وبالتالي تمثل الحزب الديني السياسي لمنطق العمل السياسي ومتطلباته وضروراته العملية التي أملتها مسألة احترام قواعد المشاركة السياسية، ووضع الترتيبات القانونية والمؤسسية لمراقبة سلوك الحاكمين، وتحسين وسائل ممارسة السلطة، وتوسيع دائرة المشاركة الاجتماعي.. و..الخ. هل هذا التحليل صحيح برأيكم؟! وإذا كان كذلك، ألا نستطيع أن نعتبره تجديداً حقيقياً وجريئاً في الفكر الحركي الإسلامي المعاصر، وأنتم من رواده ومراجعه؟!

ج: إننا نعتبر أن هذه الأطروحة التي يطرحها السؤال أو المحور هي أطروحة لا تتنافى مع الإسلام، ولكن هناك نقطة في مسألة العمل السياسي، أن لا يُسمح للعمل السياسي الذي يُخطط لإسقاط الإسلام. نحن الآن نؤكد على أن تكون هناك مشاركة اجتماعية أو سياسية، وأن يكون هناك نقد للحكم وللحاكم، وملاحقة لهما، وأن لا يكون هناك شخص فوق القانون، وأن لا تكون هناك امتيازات ذاتية أو طبقية لأي فئة على حساب فئة في الإسلام. وأن يتحرك الخط السياسي على أساس العدل لجميع الناس سواء كانوا مسلمين أم غير مسلمين، وأن تكون العلاقات السياسية مع الآخرين من غير المسلمين قائمة على أساس الوفاء بالمعاهدات، وبالعقود، وبالالتزامات التي يلتزمها المسلمون مع الآخرين، كل هذا أساسي في حركة الواقع السياسي الإسلامي، ولكن مع المحافظة على الإسلام في الحكم، وفي الواقع، ولذلك نحن نتحفظ في إعطاء الحرية للحركات التي تستهدف إسقاط الحكم الإسلامي.

س: سماحة السيد: ضمن هذا الإطار، ما هو رأيكم بمسألة الحزبية الحركية الإسلامية، خصوصاً وأننا أصبحنا نعيش الآن ـ في ظل هذه التحديات الداخلية والخارجية ـ الفشل الواقعي للصيغة السياسية الحزبية العربية بشكل عام؟!

ج: لعل مشكلة الحزبية العربية، أو الحزبية الشرقية، أنها ـ في أغلب تجاربها ـ انطلقت من ثقافة الحزبية الماركسية في أسلوبها في العمل، وفي العنف الذي تختزنه ضد الآخر، وفي العصبية العمياء التي تحركت من خلال هذا الطوق الحديدي الذي يحيط بالحزب في الفكر الماركسي من جهة، وهذه العصبية التي تعيش في الواقع الشرقي من جهة ثانية. لذلك فإن هذه التجربة الحزبية سقطت، وأسقطت إشراقة الطرح الإسلامي في نفوس الناس لأنها انطلقت من خلال إلغاء الآخر حتى المسلم، فقد أصبحنا نواجه بعض الطروحات التي تتحدث أن من يكون داخل الحزب فهو المسلم الواعي، ومن يكون خارج الحزب فهو المسلم التقليدي الذي قد لا يستحق أن نطلق عليه اسم الإسلام وما إلى ذلك.

نحن، لسنا ضد الحركية الإسلامية، ولكننا ضد التعصب الإسلامي، التعصب في الحركة الإسلامية، وأيضاً نحن ضد الأساليب التي جاءتنا من الآخرين.

إن للإسلام أسلوبه في العمل السياسي والثقافي والاجتماعي، وعلينا أن نستهدي الإسلام في ذلك كله، ولعل أبلغ كلمة تمثل هذا النوع من التحرك الإنساني ـ في الدائرة التي تتميز بخصوصيتها في علاقتها بالإنسان ـ هي الكلمة التي جاءت عن الإمام علي بن الحسين زين العابدين(ع): "إن العصبية التي يأثم عليها صاحبها أن يرى الرجل شرار قومه، ولكن أن يُعين قومه على الظلم".

س: .. ولكن سماحة السيد هناك كثير من المثقفين وعلماء الدين (حتى الكبار منهم) يتعقدون من المسألة الحركية الإسلامية مع العلم أننا نشهد لها نجاحات واسعة وباهرة في المنطقة خصوصاً تجربة المقاومة الإسلامية في لبنان..

ج: إننا نختلف مع هؤلاء لأنهم ربما ينطلقون من سوء فهم للمعنى الحركي في المعنى الحزبي في نتائجه العملية على مستوى تثقيف الأمة، وربطها بفكر واحد، وتنظيم خطواتها نحو الهدف. ولعلهم يركزون على الجانب العصبي، ولعل من المفارقات أن بعض هؤلاء ـ في الوقت الذي يرفضون فيه الحزبية في الخط الإسلامي ـ يؤكدون فيها الحزبية للشخص، على مستوى عبادة الشخص. عندما تكون القضية مرتبطة بأشخاصهم. وربما نجد أن بعضهم يشير إلى السلبيات التي قد تحصل لدى التجربة الحركية الحزبية، ولكنهم لا يؤكدون على الإيجابيات، في الوقت الذي يتحدثون فيه عن إيجابيات الفردانية الشخصانية، ولا يتحدثون عن السلبيات هناك. هذه هي المشكلة في الإنسان الذي ينظر إلى القضايا من وجه واحد، ولا ينظر إليها من جميع وجوهها.

س: اعتبر بعض المفكرين أن العلمانية قد جاءتنا على ظهر دبابة، وبقيت تحت حمايتها ووصايتها.. هل هذا التوصيف صحيح برأيكم؟!

ج: ربما كان صحيحاً في البداية، ولكن العلمانية انطلقت في الواقع الذي نعيشه من خلال التيارات الثقافية والفكرية التي يعيشها الناس في الجامعات، وفي الكثير من الكتب والمواقع الثقافية الأخرى.

المحور الرابع: إشكالية العلاقة بين الإسلام والغرب

س: كيف تنظرون إلى العلاقة بين الإسلام والغرب؟! وما هي عناصر وأبعاد العلاقة الصحيحة السليمة والمتوازنة التي يمكن أن تؤسس لمراحل جديدة مثمرة ومنتجة من تلك العلاقة؟!

ج: هناك نوعان من العلاقة، هناك العلاقة العملانية وهي أننا بحاجة إلى الغرب من ناحية ما يملكه من الخبرة المعرفية في المواقع العلمية، وفي التكنولوجيا، وفي كثير مما تمثله حاجاتنا الحياتية، كما أن الغرب بحاجة إلى ما نملكه من الثروات الطبيعية الموجودة في أرضنا، ولذلك، فالمسألة من ناحية المبدأ أن من الممكن جداً أن يكون هناك تعامل وتعاون مع الغرب على مستوى مسألة الاستيراد والتصدير ـ إذا صحّ التعبير ـ العلاقات الاقتصادية والعلمية، والجانب الثاني، أو الدائرة الثانية هي مسألة الحوار بيننا وبين الغرب فيما نختلف فيه، ولكن المشكلة ـ في الدائرتين معاً ـ هي اختلال ميزان القوى بيننا وبين الغرب، فنحن لا نملك القوة في إدارة ثرواتنا، كما أننا لا نملك الحرية في أن نأخذ من الغرب ما نحتاجه منه، لأن الغرب لا يعطينا الكثير من الخيرات العلمية والتكنولوجية التي يحتفظ بها لنفسه حتى نبقى في حاجة لمستشفياته، ومصانعه، وصناعاته وما إلى ذلك. كما أن مسألة الحوار الغربي الإسلامي لم يصل إلى المستوى الذي يمكن فيه أن يكون هناك حوار بين تيار وتيار، إنه يتم الآن بشكل فردي بين مثقف غربي ومثقف إسلامي، أو في مؤتمرات صغيرة بين المسلمين والغرب.

لذلك، نحن لا مشكلة عندنا في التعاون مع الغرب ـ فيما نحتاجه منه، أو فيما يحتاجه منا ـ وفي الحوار مع الغرب، ولكننا نعتقد أن الشروط في كِلتا الدائرتين ليست متوفرة على مستوى التوازن.

س: لماذا يجد الغرب عموماً صعوبة في التعامل مع عالم إسلامي يحكمه الإسلام الحركي (وغالباً حتى الإسلام التقليدي) هل السبب أيديولوجي فكري أم أنه سياسي واقعي؟!

ج: إنني لا أعتقد أن الغرب يهتم بالايديولوجيا في واقعه المعاصر، بل إنه يهتم بالمصالح، ولعل عقدة الغرب هي أن الإسلام خرج من القمقم، وبدأ يؤكد على المسلمين أن يعيشوا هويتهم الإسلامية التي ترتفع إلى مستوى التحدي لكل الذي يريد أن يفرض استكباره على المسلمين في اقتصادهم، وسياستهم، وأمنهم.

س: ..يعني هل أنتم متفائلون بأن هذا الإسلام لن يعود مرة أخرى إلى ما كان عليه؟!

ج: إنني متفائل بأنه لن يعود إلى القمقم، ولكني أعتقد أنه سيبقى مثخناً بالجراح إلى وقت طويل.

س: يؤكد كثير من المثقفين على أن الغرب عندما اندفع بكل قوته وآلته العسكرية والأمنية باتجاه العالم الشرقي (تحديداً الإسلامي) قد جلب معه النموذج المعروف المشوه للدولة، وعمل على توطيد دعائمها الغربية في بيئتنا الإسلامية، فتحولت تلك الدولة إلى دولة استعمارية بامتياز، وأعملت في مجتمعاتنا الخراب والدمار الروحي والمفاهيمي الذي لا تزال نشهد صوره وتلاوينه المتنوعة حتى الآن؟! والسؤال: ما هي الأسباب التي ساهمت في نمو بذرة الدولة الاستبدادية في أمتنا الإسلامية؟! ثم ما هو الحل في نظركم للخلاص من أزمتها الواقعة؟! وهل تعتبرون أن القيام بمهمة الحسم التغييري على المستوى الداخلي ـ كما تلح عليه بعض الحركات الإسلامية والعلمائية ـ هو بداية الحل الموضوعي لدفع المجتمع ـ بعد ذلك ـ باتجاه تحقيق النهوض الذاتي المستقل عن الإدارات السياسية الغربية، وامتداداتها (العميلة) في المنطقة؟!

ج: إنني أتصور أن الغرب قد فرض علينا قسماً من الدولة لم يعطها إيجابياته، بل أعطاها سلبياته. وعمل على أن يؤكد الاستبداد فيها من أجل حماية مصالحه التي قد يخاف عليها من هذه الحريات الشعبية التي سوف تقلب السحر على الساحر. ولذلك، فقد استمرت هذه الدول باعتبار أن الذين يشرفون عليها موظفون لدى الأجهزة الاستكبارية بشكل مباشر أو غير مباشر، وحتى أننا نعرف أن بعض المواقع العليا في أكثر من دولة إسلامية ـ وليس في الدول العربية فحسب ـ هم موظفون لدى إدارة الاستخبارات الامريكية. ولذلك فإن هذه الأنظمة التي تتمثل في أكثر من دولة إسلامية ـ أو دولة من دول العالم الثالث ـ أنها تمثل الحراس لمصالح الاستكبار العالمي في هذا المجال.

ولذلك، فإن القوة الاستكبارية تعمل على حماية هذه الأنظمة، حتى في الوقت الذي تسجّل عليها انتقادات لحفظ ماء الوجه بالنسبة لحقوق الإنسان. ولكن عندما تنطلق ثورة داخلية ضد هذا النظام أو ذاك النظام فإن الغرب يتدخل من أجل حمايته.

إننا لا نعتقد أن المسألة مستحيلة، لأن تطور الشعوب، وتحرك المفاهيم الإنسانية في العالم يمكن أن يفسح المجال للمستقبل لتغيير أسلوب الدولة، وتحويلها من دولة استبدادية إلى دولة إنسانية، أو شعبية، أو ما إلى ذلك.

س: .. سؤالنا الأخير ـ سماحة السيد ـ من خارج هذه المحاور وهو: مرّت علينا مؤخراً أجواء الحدث الانتخابي الإيراني (انتخابات مجلس الشورى في إيران) التي فاز بها التيار الإصلاحي. فما هو رأيكم بما جرى؟!

ج: إنني أتصور أن قيمة هذا الحدث إسلامياً هو أنه أثبت للعالم أن النظام الإسلامي عندما يفرض نفسه على أي واقع، فإنه يمنح الحرية للشعب أن يُعبر عن رأيه بكل استقلالية حتى لو كانت آراؤه ضد سياسة القائمين على النظام. فإننا عندما ندرس الأصوات التي حصل عليها أحد أعمدة النظام (وهو الشيخ هاشمي رفسنجاني) والتي جاءت في المرتبة الأخيرة من انتخابات طهران، نجد أن النظام لم يتدخل لحماية رمز من أعلى رموزه، ومن الذين ساهموا في تأسيس الجمهورية الإسلامية في هذا المقام. لهذا فإن مدلول هذه الانتخابات هو هذه الحرية (المنطقة) الكبيرة جداً التي يكفلها النظام، ويحميها للشعب لكي يقول كلمته مهما كانت طبيعة تلك الكلمة.

ومن ناحية ثانية، فإننا نلاحظ أن الدعوات التي انطلقت من رأس النظام (وهو آية الله السيد علي خامنئي) ومن رئيس الجمهورية لتطلب من الشعب أن يصوّت على أساس المسؤولية الشرعية، جعلت الشعب يقوم بعملية التصويت بنسبة(85%) على أساس التكليف الشرعي، مما يوحي بأن المسألة الشرعية تستطيع أن تؤصّل المسألة السياسية في خط المسؤولية التي يعيشها الناس..

والنقطة الثالثة، هي أن الخطوط مهما اختلفت فإنها خطوط داخل النظام، وليست خطوطاً في مواجهته. إن لكل تيار تفسيره للإسلام، ولكن هذين التيارين الكبيرين لم يطرحا المسألة على أساس إسلام أو لا إسلام، ولكنهما طرحا المسألة على أن هناك تفسيراً للإسلام بشكل محافظ، أو تفسير للإسلام بشكل آخر.

س: ..يعني هل أنتم متفائلون بشأن المستقبل الإسلامي في إيران، والمبادىء الإسلامية الأصيلة..؟!

ج: إنني لست متشائماً.

وأخيراً نشكركم ـ سماحة السيد ـ على هذا اللقاء الحواري والحضور الفكري الغني، وإلى اللقاء في ندوات ثقافية (حوارية) مقبلة.

 

حوار: نبيل علي صالح

لقد أجرت صحيفة "المجد" الأسبوعية حواراً متنوعاً مع سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله تناول العديد من القضايا السياسية والفكرية والفقهية، معتبراً أن الإسلام يمتلك حيوية ثقافية في مواجهة كل التحديات التي تناقض فكره. وكان ذلك في 3/4/2000 ،الموافق: 29/ذي الحجة/1421هـ. وقد جاء في الحوار:

ـ سماحة العلامة السيد محمد حسين فضل الله، عالم دين كبير، ورجل فكر وحوار وانفتاح.. غني عن التعريف، فهو أحد كبار مراجع ومؤسسي الفكر الإسلامي الحركي الراهن، باعتبار الإسلام ـ بفكره وثقافته الغنية والأصيلة والمنفتحة ـ هو القاعدة العملية للفكر والروح والحياة.

حول عدد من قضايا الساعة، وشؤون الدين والدنيا، كان "للمجد" مع سماحة هذا العلامة المجاهد الكبير، حوار ثري ومطول:

المحور الأول: الإسلام والتحديات المعاصرة

س: ماذا يعني مصطلح "تحديات العصر" بالنسبة للفكر الإسلامي المعاصر؟! وما هي طبيعة العلاقة التي يمكن أن تقوم بين الإسلام (كنص مقدّس قرآناً وسنةً) وبين العصر الحالي؟! ثم هل يجب على الإسلام والمسلمين أن ينتظروا قدوم متغيرات جديدة حتى يستجيبوا لها بما يتناسب مع قيمهم ومفاهيمهم الإسلامية؟! أي لماذا لا يوجد ضمن الفكر الإسلامي نفسه قوى محركة ذاتية تشتغل على فهم وحل الإشكاليات الراهنة التي تفرضها مسألة "وعي الواقع والاستجابة لتحدياته"؟!

ج: عندما نطلق كلمة "تحديات العصر للإسلام"، فإننا نستحضر أمامنا أن الإسلام ـ بعقيدته وشريعته ومفاهيمه ومناهجه ـ يملك تصوراً للكون وللإنسان والحياة بحسب كيانه المعرفي والحركي، وأن هناك ـ في هذا العصر ـ أفكاراً وأوضاعاً ومتغيرات عما ألِفه المسلمون في العصور السابقة، مما يفرض على الفكر الإسلامي أن يواجه ذلك كله بالأصول الإسلامية المعرفية وبالحركية الإسلامية في الواقع.

إن المسألة ليست هي أن ينتظر المسلمون حتى يؤسسوا فكراً يواجه المتغيرات أو التحديات، بل إن المسألة هي أن لا يبقى الإسلام الفكري والحركي في منأى عن الواقع، أن لا يهرب من ساحة الصراع، أن لا يواجه المتغيرات ـ التي قد تتحول إلى تحديات بحسب اختلافها مع الخطوط الفكرية الإسلامية ـ أن لا يواجهها بطريقة اللامبالاة.

ونحن نؤكد أن الإسلام يملك من خلال قواعده الثقافية ـ بكل تنوعاتها ـ أن يواجه الفكرة المضادة التي ربما جاء بها العصر، أو أن يقف من المتغيرات موقف الباحث الذي يدرس كل مفردة من مفرداتها بطريقة موضوعية يتعرف من خلالها ما ينسجم منها مع الفكر الإسلامي فيلتقي به، وما يتنافى مع هذا الفكر فيناقشه.

إننا نعتقد أن الإسلام يملك حيوية ثقافية في مواجهة كل التحديات الفكرية التي تناقض فكره، أو تناقش فكره، أو تنحرف بالواقع عن مسار فكره. ليست المسألة أننا ننتظر أن يأتي الآخرون لننتج فكراً جديداً، بل أن نحرك ما لدينا من فكر في مواجهة كل التحديات.

وليس معنى أن يكون النص مقدساً ـ كما هو مقدس في الكتاب والسنة ـ أن يتجمد الفكر في داخل النص، لأن ثبات النص ككلمة لا يعني جمود المفهوم عند ثبات الكلمة. فللمفهوم عالم واسع متحرك يمكن أن يجتهد فيه المجتهدون. ليفهم مجتهد منه شيئاً ويفهم مجتهد آخر منه شيئاً. الكلمة ثابتة ولكن المفهوم متحرك، ونحن من خلال حركية المفهوم ننطلق لنستوحي إسلاماً يبقى متحركاً مع الحياة. لأن الكلمة قد تأتي في موقع، ولكن الموقع يمثل النموذج الذي يتسع لكل النماذج المماثلة في حركية الحياة.

س: يعيش المسلمون حالياً هواجس عديدة على المستوى الإنساني والكوني.. فهم بدأوا يتفاعلون مؤخراً مع قضايا عصرية مستجدة، بدأت تفرض نفسها بقوة على واقعهم.. كالعولمة، والهويات الثقافية، ومجتمع الثورة المعلوماتية، والحداثة.. برأيكم: ما هو الموقف الحقيقي للإسلام ـ كدين إنساني يعمل على أن يُدخل الآخرين إلى داخل منظومته الفكرية والعقائدية ـ من هذه التحديات المعاصرة؟!

ج: إن هذه العناوين التي فرضها الواقع المعاصر تمثل تطويراً للواقع الذي عرفه الإنسان من قبل ذلك في علاقة الشعوب مع بعضها البعض على مستوى الثقافات، والاقتصاد، والسياسة، والأمن، نحن عندما نلتقي مع مفهوم العولمة فإن للعولمة دائرتين. الدائرة الأولى هي الدائرة السياسية الاقتصادية التي أريد لها أن تتحرك لتهدم كل الحواجز المنصوبة أمام الاستكبار العالمي (لا سيما الاستكبار الامريكي) الذي كانت العولمة منطلقة من خلفياته باعتبار أن الذين أطلقوها أرادوا أن تتحرك الشركات الامريكية في كل العالم من دون حواجز نفسية، أو دينية، أو اقتصادية تمنعها من احتواء الواقع الاقتصادي للشعوب، ومن خلاله الواقع السياسي للشعوب.

إن هذه الدائرة تتصل بحركة المسألة السياسية في مواجهة الاستكبار العالمي كوسيلة من وسائل التحرك ضد الاستكبار العالمي في حماية الشعوب المستضعفة من سيطرة الاقتصاد الكبير، والسياسة المهيمنة في حماية الشعوب من ذلك كله.

وبذلك، فإن المسألة تتصل بالحركة السياسية والاقتصادية أكثر مما تتصل بالحركة الثقافية من ناحية الواقع. ولكننا عندما نريد أن نبتعد ـ في هذين العنوانين (الاقتصادي والسياسي) ـ عن الخلفية التي أطلقت مسألة العولمة، فإننا من الممكن أن نفكر في دائرة علاقة الشعوب مع بعضها البعض لنجد أن تكامل الشعوب مع بعضها البعض ـ في البعد الإنساني ـ يمكن أن يعطي هناك نتائج كبيرة على أساس أن الحواجز الوطنية، أو الحواجز القومية، أو الحواجز الدينية في المجتمع قد لا تكون مصلحة للجانب الاقتصادي أو السياسي لهذا الشعب في انفصاله عن شعب آخر. لأن من الممكن للشعوب أن تتكامل فيما تنتجه أو فيما تستهلكه ـ في هذا المجال ـ مما يجعل من العولمة إذا استطعنا أن نطورها طريقة تهدم الحواجز ولكن بشرط أن لا تظلم الواقع.

وهكذا في المسألة السياسية، فنحن لا نمانع من أن تلتقي الشعوب على مستوى الوحدات السياسية، أو على مستوى التنسيق السياسي، او على مستوى التكامل السياسي بما يحقق مصلحة الشعوب.

أما الدائرة الثانية للعولمة وهي الدائرة الثقافية، فإن علينا أن ندرس ماذا تعني العولمة الثقافية؟! هل تعني أن يلتقي العالم على الأبعاد الإنسانية الثقافية التي ترصد الجانب الإنساني في كل ثقافة ليمتد في كل مواقع الشعوب الأخرى، بحيث تلتقي الشعوب ـ في الجانب الثقافي ـ بالأبعاد الإنسانية التي تلتقي عليها ثقافاتها، فهذا أمر نرحب به، ونعتبر أنفسنا ـ كمسلمين ـ معنيين بذلك، لأننا نرى في الثقافة الإسلامية البعد الإنساني المنفتح على كل الإنسان في العالم، باعتبار إنسانية الإسلام في دعوته الشاملة للعالم كله.

ولذلك، فإن أية فرصة لانفتاح العالم على البعد الإنساني في ثقافات الشعوب يمنحنا فرصة إطلاق الإسلام في بعده الإنساني ليتعرف عليه كل العالم ليجدوا فيه الخلاص من كل المشاكل، وكل الأوضاع السلبية التي يعيشونها. وتبقى لكل شعب من الشعوب خصوصياته التي تتصل ببعض أوضاعه أو بعض مفرداته الواقعية.

ونحن نعتقد أن هذه الخصوصيات يمكن أن تتعارف الشعوب عليها. لأن كل شعب يحاول أن يتعرف على ما عند الشعب الآخر من ثقافات خاصة ليجد فيها بعض الغنى لثقافته، وليدرس إمكانيات فهم واقع الشعب، وطريقة التعامل معه، ولعل هذا هو ما أكده الله في القرآن الكريم في قوله تعالى: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا} فإن كل شعب يرصد ما لدى الشعب الآخر ليتعرف عليه، ليكون ذلك هو سبيل التعارف بين الشعوب من خلال معرف الفكرة والتجربة وما إلى ذلك.

لهذا، فنحن عندما نقف أمام العولمة كطرح جديد في العلاقات العامة فيما بين الشعوب ـ على مستوى العالم ـ فإن الموقف منه يختلف تبعاً لحركة العولمة فيما يضر الناس، وفيما ينفعهم.

أما مسألة الثورة المعلوماتية، فنحن نرحب بها بكل دقة وعمق وانفتاح. لأن الثورة المعلوماتية تغني تجربتنا المعرفية بكل ما تقدمه للإنسان من مفردات العلم والمعرفة مما كان في الماضي، ومما هو في المستقبل.

أما الحداثة فإنها تمثل منهجاً في فهم القضايا والأشياء، ولعلها تختلف في خطوطها.. فهناك الحداثة التي تنطلق من فلسفة مادية تلغي معنى الله في حركة العالم، وفي حركة الإنسان. وهناك حداثة لا تتنكر لله، ولكنها تنفتح على المنهج باعتبار أن العقل هو الذي يمكن أن يواجه قضايا الإنسان ليؤصلها، وينظمها، ويحركها في الاتجاه الصحيح.

أما نحن، فمن الطبيعي أننا ننكر على الحداثة أن تكون مادية في فلسفتها. ولكننا نلتقي مع الحداثة في المنهج العقلي، وفي الأسلوب، والطريقة الموضوعية لمواجهة الأشياء. لأن الإسلام يؤمن بالعقل، ويعتبر العقل أساساً في العقيدة بالله، والعقيدة بالنبوة، والعقيدة باليوم الآخر، حتى أن الإيمان بالغيب لا بد أن يرتكز على عقل ـ على مستوى القاعدة ـ ليكون الغيب في مفرداته حقيقة بإدراك العقل. وإن لم يستطع العقل أن ينفذ إلى خطوطه ومفرداته.

لذلك، نحن مع الحداثة التي تطوّر المعرفة الإنسانية، ونستحدث لها أشكالاً جديدة، وأساليب جديدة. ولذلك، فنحن لا نتعقد من الحداثة في التجربة الشعرية، أو التجربة الأدبية النثرية، أو في المسرح، أو في السينما، أو في القصة، أو في ما إلى ذلك. كما أننا لا نتعقد من الحداثة عندما تواجه الأمور بعقلانية موضوعية دقيقة.

ومن الطبيعي أننا عندما نطلق العقل فلا بد أن نفرق بين العقل الفطري الذي يلتقي عليه الناس جميعاً، وبين العقل الثقافي الذي ينطلق من خلال حالة ثقافية محددة.. فإن من الطبيعي أن أي عقل ينطلق من ثقافة معينة، قيمته بقيمه تلك الثقافة، ولا يمكن أن تفرضه على الإنسان كله.

س: توجد في الواقع الثقافي والكلامي الإسلامي بعض المصطلحات المميزة كالعقل والشرع مثلاً، هل نستطيع أن نقول بأنهما متكاملان في بُعدهما العملي؟!

ج: إن العقل لا يبتعد عن الشرع. ونحن نقول إن "كل ما حكَمَ به العقل" عندما يطلع العقل على الأسس التي ارتكز عليها الشرع في مفرداته. ولكن العقل قد لا يستطيع أن يدرك بعض منطلقات الشرع، أو لا يملك الوسائل لمعرفتها. ونحن نعتبر أن العقل هو حجة الله على الناس، وقد ورد في بعض الكلمات المأثورة أن "العقل رسول من داخل، كما أن الرسول عقل من خارج".

س: إذا كنا نريد للإسلام أن يفصح عن استجاباته الحية والمتحركة على تلك التحديات.. فكيف يمكن أن تظهر تلك الاستجابات؟! هل تتجلى على شكل إعادة دراسة مباني وأصول الفقه الإسلامي القديم، وإحداث نقلة نوعية في مبناه ومعناه من خلال بناء قواعد وأصول جديدة تهدف إلى زيادة الثروة الفقهية كلها، أم على شكل استنباط أحكام شرعية جديدة من دون (هتك) حرمة أصول التراث الفقهي (المقدس في نظر الكثيرين)، أم على شكل وضع برامج مرحلية تنفذ إلى عمق التحديات الراهنة، وتعمل على مواجهتها والاستجابة الفاعلة لها؟!

ج: نحن لا نعيد النظر في القواعد الإسلامية، سواء على مستوى التراث الفقهي، أو الكلامي، أو المنهجي، لأن هناك تحديات واجهت هذا التراث بطريقة نقدية، أو بأسلوب سلبي. فنحن لا نستعير ثقتنا بالإسلام من خلال نظرة الآخرين إليه، بل نعتقد أن الإسلام يملك كياناً مستقلاً يتأصل من خلال قواعده الأساسية، بقطع النظر عما يقوله الآخرون أو يحكمون به.

إن مسألة التراث هي مسألة لا قداسة فيها بعيداً عن النص المقدس. فكل تراث العلماء الفقهي والكلامي والتفسيري (بما هو تفسير القرآن) هو تراث نحترمه في إطار الظروف الموضوعية التي أحاطت بالذين أنتجوه في ثقافتهم، في مفردات الواقع المحيط بهم، في أسلوبهم في فهم النص، في المؤثرات التي أثرت في اجتهادهم، وما إلى ذلك.

ولهذا، فإننا لا نعطي التراث البشري قداسة، بل نقول إنه اجتهاد نحترم جهد أصحابه في إنتاجه، ولكننا نقول: إن من الممكن أن نناقشهم فيه على الأسس العلمية الإسلامية في مناقشة الفكر، وفي فهم النص، وفي وسيلة الاستنباط، لذلك فإننا عندما نلتقي ببعض التحديات، فقد تفتح لنا هذه التحديات على نافذة في التفكير، أو على ثغرة في الفكرة الاجتهادية، بحيث تغرينا بتفكير جديد، وبمناقشة جديدة. وربما تأتي هذه التحديات من خلال أن هناك أحداثاً في العصر لم يكن للمجتهدين سابق عهد بها، وأن هناك قضايا مستجدة لم يصدر حكم شرعي تفصيلي فيها. لذلك من الطبيعي جداً أن ينطلق المجتهدون الإسلاميون ليناقشوا ما صدر من اجتهادات من الفقهاء، وليعطوا لكل قضية جديدة حكمها على أساس الكتاب والسنة، وليهدموا كثيراً من الأحكام الاجتهادية التي ثبت خطأها، وأنها لا تمثل الرأي الإسلامي الأصيل، ويستوعب العصر كله.

نحن لا ننتج الفقه الذي ينفتح على أحكام الواقع من خلال أن الآخرين لا يوافقون على ذلك. بل إن القضية هل توافق القواعد الإسلامية الأصيلة على ذلك، أو لا توافق؟! نحن لا نسقط تحت تأثير النظرة السلبية من قِبَل الآخرين، بل إننا ننفتح على أساس العناصر الإيجابية فيما نملك من قاعدة للفقه، وللفكر، وللحياة.

س: يعني هل نستطيع أن نعتبر هنا ـ سماحة السيد ـ أن هذه القواعد التي تحكم طبيعة التفكير الفقهي مقدسة؟!

ج: إن المقدس هو الكتاب والسنة، أما فهم الكتاب والسنة من قِبَل العلماء الآخرين (فليس مقدساً)، إن فهم النبي(ص) ـ ومن هم في صراط المقدس ـ إن فهمهم للكتاب والسنة مقدس. ولكن فهم العلماء الذين جاؤوا بعدهم ليس مقدساً، بل هم مجتهدون يخطئون ويصيبون وكم ترك الأول للآخر.

س: ليست كل تحديات العصر إيجابية، يمكن أن تعود بالفائدة على مسيرة الإنسان في الحياة.. فهناك كثير من التحديات الراهنة التي تأتينا مبطنة بالانحرافات الفكرية والسياسية والعملية.. خصوصاً وأننا نشهد حالياً ـ مع بداية الألفية الثالثة ـ هيمنة العقل المادي التكنولوجي المجرد والخالي من القلب والروح والمشاعر الإنسانية، والذي ليس له هم سوى تحقيق المزيد من الفعالية النفعية والربحية الخاصة، وتراكم رأس المال إلى ما لا نهاية. طبعاً حتى لو أدى ذلك إلى سحق الفكر والعقل الإنساني، وتشيؤ الوجود، وتدجين البشر، ومعاملتهم ـ كما هو واقع حالياً ـ كالقطيع.. ألسنا في حاجة ماسة إلى نقد هذا العقل الغربي (المتورط في ممارسات القوة، والهيمنة، والتسلط، وإلغاء الآخر) الوافد إلينا بصور زاهية وبهية، وإظهار نقائصه، وتناقضاته، وفضله في قيادة مسيرة البشرية؟! ما هو رأي سماحتكم بهذا الموضوع؟!

ج: من الطبيعي أن أية حالة انحرافية عما هو مصلحة الإنسان في أبعاده الإنسانية التي يحترم فيها الإنسان الإنسان، والتي ينفتح فيها الإنسان على مساحات واسعة من الحرية في حركة الفكر والواقع.. إن هذا أمر طبيعي جداً، ولذلك فإن ما نواجهه الآن من ثورة التكنولوجيا هو خير في بعده العلمي الذي يلبي حاجة الإنسان في اكتشاف أسرار الكون، وفي النفاذ إلى خارج مدار الأرض من أجل معرفة آيات الله في الكون، والانفتاح على العوالم الجديدة التي لا عهد لنا بها، وفي تسهيل حاجات الإنسان من خلال الاكتشافات التي تجعلنا نفهم طبيعة الأشياء، وتسهّل علينا عملية التعامل بها في كل مفردات حياتنا مما يجعل الحياة أسهل، وأغنى، وأكثر انفتاحاً.

إن من الطبيعي أن الإسلام ينفتح على العلم بكل أبعاده، وهو الذي اعتبر العلم قيمة فوق القيم، ورأى أن "قيمة كل امرىء ما يحسنه" كما جاء عن الإمام علي(ع)، وكما جاء في القرآن: {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} وكما جاء في القرآن: {وقل ربّ زدني علماً}. لذلك فإننا ننفتح على كل حركية العلم التي تعطي الإنسان معرفة أوسع، وأكثر، وأغنى. ولكن المسألة هي أن العلم لا قلب له. وبذلك فإنه قد يتجه إلى تدمير الإنسان عندما يكون سلاحاً ذا حدين.

لهذا، فإن دور الإسلام في بُعده الروحي الذي يربط الحياة كلها بالله، والذي يريد للعلم أن يتواضع أمام الله باعتبار أن العلم ينتج ما أنتج من خلال هذا العقل الذي خلقه الله في الإنسان، وأن العلم عندما ينفتح على أسرار الكون، فإنه يتعرّف إلى أسرار خلق الله، وبالتالي إلى أسرار الكون كله. وكلما انكشف له أفق جديد من الكون انفتح له أفق من الإحساس بالجهل، لأن هناك آفاقاً أخرى كثيرة.

لذلك، نحن نريد أن نضع الله في قلب العلم، وفي قلب التكنولوجيا، حتى إذا سارت التكنولوجيا ـ وسار العلم في كل أبعاده مع الله ـ جعله يشعر أن عليه ألا يبتعد عن إرادة الله، في احترام إنسانية الإنسان، وفي المحافظة على السلام في الكون كله. وعلى حماية كل شيء في الكون بما فيه بيئة الحيوان، وبيئة الإنسان. ومن هنا يتحول العلم إلى حالة يتعبد فيها العالم لله في المصنع، وفي المختبر. لأنه يتحرك في كل ذلك في عالم الله من خلال حركته في معرفة أسراره في الخلق.

س: تجري الآن على الساحة المحلية والدولية مفاوضات تسوية بين العرب وإسرائيل برعاية الولايات المتحدة، والواضح أن هناك تصميماً لدى كل الأطراف ـ المعنية بهذا الموضوع ـ لإنجاح العملية التفاوضية.. أين هو مكان الإسلاميين في هذه الأجواء الضاغطة التي أدخلت المشروع الإسلامي في انتكاسة (مؤقتة أو دائمة) كما أكدتم سابقاً؟! وكيف ستواجهون تعقيدات المرحلة المقبلة؟!

ج: من الطبيعي أن عملية التسوية تنطلق من قاعدة خطأ، لأنها قاعدة ترتكز على ظلم شعب لشعب، لأن المسألة اليهودية في فلسطين هي مسألة ترتكز على أسطورة أو على مسألة تاريخية تستغرق في آلاف السنين. يعتبرون إن الله جعل فلسطين لليهود، ووهبها لهم، واعتبرها أرض الميعاد، وأن كل فئة من البشر تأخذ منهم هذه الأرض هي فئة ظالمة محتلة. وما إلى ذلك.

ونحن نعرف أن الفكرة خاطئة من الأساس، فليس هناك نص ديني مقدس يعالج هذه المسألة بهذه القضية. فالله قال لبني إسرائيل من خلال موسى: (اسكنوا في هذه الأرض) في البعد الذي كان يعيشه بنو إسرائيل في ذلك الوقت. ولم يقل إن هذه الأرض هي ملك لهم على مستوى الزمن. ولذلك فإن فلسطين كغيرها من الأرض التي تتداولها الشعوب، فيسكن شعب في مكان، ويهاجر بعد ذلك إلى مكان آخر.. وهكذا. ولهذا، فإن الواقع الفلسطيني كان واقع العرب الذين عاشوا فيها منذ مئات السنين. والتي كان اليهود ـ الذين استعربوا ـ يمثلون أقلية فيها. ولذلك فإن اللعبة الصهيونية ـ المتحالفة مع اللعبة الدولية ـ عملت على طرد هذا الشعب من أرضه ـ وما تزال ـ ومنعه عن العودة إلى أرضه ليأتي اليهود من سائر أنحاء العالم إلى فلسطين لينشئوا عليها دولة إسرائيل.

إن المسألة انطلقت من موقع الظلم، والظلم لا يمكن أن يكون له شرعية. ولذلك، فإن التسوية المرتكزة على تشريع هذا الظلم هي تسوية ظالمة، ومن هنا فلا شرعية لها. ولكن من الطبيعي أن موازين القوى ليست في ميادين المظلومين في الوقت الحاضر، والإسلام يقف مع المظلومين. ويرى بأن الأمر الواقع ـ في مسألة الظلم ـ لا يمكن أن يعطى شرعية. ولهذا فإن الإسلاميين يظلون يرفضون شرعية إسرائيل حتى لو نجحت التسوية، وحتى لو اعترف العالم بما في ذلك الفلسطينيون، لأن الفلسطينيين لا يملكون أن يعترفوا بأي شرعية للظلم الواقع عليهم. ونحن نعرف أن الفلسطينيين لا يعترفون عن رضى، بل يعترفون تحت تأثير الضغوط الهائلة التي تطلق عليهم لتقول لهم: إما أن لا تحصلوا على شيء كلية، أو تحصلوا على شيء بسيط. ومن هنا فإن التوقيعات ـ لو كان الذين يوقعون يملكون شرعية التوقيع ـ فإنها تتم بفعل الضغط والإكراه، ونحن نعرف أنه لا شرعية للإكراه، لا من ناحية حقوقية، ولا من ناحية إنسانية.

لذلك، نحن نبقى نثير الفكرة على مستوى الزمن كله، لأننا نقول: "إن الحاضر إذا ضاق ببعض النتائج فإن المستقبل لن يضيق بذلك"..

س: ..أيضاً على مستوى الأمة سماحة السيد..

ج: ولذلك، فإننا نعتبر أن من نقاط الضعف التي وقعت فيها القضية الفلسطينية هي أنها أخذت بعداً فطرياً وإقليمياً، ولم تأخذ البعد الإسلامي كله، ونحن نستذكر كلمة الصحابي الجليل عمار بن ياسر في معركة صفين، عندما هزم جيش علي في بعض الجولات، قال: لو هزمونا حتى يبلغوا بنا سعفات هجر لعلمنا أننا على الحق، وأنهم على الباطل.

المحـور الثاني: معالم وأبعاد المشروع الحضاري الإسلامي

س: لا يزال المشروع الحضاري الإسلامي حبيس النصوص والكتب ـ بالرغم من وجود الكثير من العناصر والصور الإيجابية في هذا المجال ـ ولم يتحول إلى برنامج عملي تأخذ به الحركات الإسلامية المعاصرة على تنوعها، وتفرعها، واختلاف وعيها، وتعاملها مع ظروف ومستجدات الواقع.. السؤال: ما هي أسس ومعالم هذا المشروع على المستوى الفكري والإنساني والحضاري؟! ثم ما هي العوامل التي يمكن أن تساعد على إنجازه، وتلك التي تعيق تقدمه، وتحوله إلى واقع عملي حي وملموس؟!

ج: إننا نتصور أن المشروع الإسلامي قد تجاوز مفردات النصوص إلى مستوى النظرية. فهناك تجارب ثقافية فكرية مهدت للتخطيط للاقتصاد الإسلامي على مستوى النظرية ليبرز كاقتصاد يملك شخصيته المستقلة في مقابل الاقتصاد الرأسمالي والماركسي.

وهناك تجربة ثقافية في الجانب القانوني، في ما هي الخطوط الفقهية العامة التي تقنن الفقه الإسلامي لتقدمه كقانون يملك أن يحقق للإنسان الكثير من النتائج الإيجابية في حل مشاكله المتحركة في نطاق الدولة. ولعل التجربة الإسلامية في إيران تعطي صورة من ذلك. كما أن هناك تخطيطاً للمناهج التربوية الإسلامية، والمناهج الاجتماعية، وما إلى ذلك، هناك تجارب إسلامية متحركة منذ عصر النهضة وحتى الآن، مما حفل به الواقع الإسلامي المعرفي في أكثر من جانب.

أما لماذا لم تستطع الحركات الإسلامية أن تمنهج هذا في حركة الواقع فلأن التحديات الأمنية والسياسية ـ التي واجهت الحركات الإسلامية هنا وهناك، وحاصرتها في دوائرها الإقليمية أو في مواقعها المحلية ـ منعتها من أن تتحرك بعيداً على مستوى تحريك المنهج في الواقع، وشغلتها بنفسها حتى أنها عملت على تقطيع أوصالها، فأصبحت كل حركة تعيش مشاكلها وظروفها الخاصة في دائرة موقعها المحلي لتحافظ على وجودها.

إننا نعتقد أن الإسلام يملك الكثير من الإمكانات في إنتاج المشروع الحضاري المتكامل، ولكن هناك مشكلة يواجهها الإسلام في هذه المرحلة المعاصرة وهي أن الحملة الظالمة التي يقوم بها الاستكبار العالمي ـ المتحالف مع الكفر العالمي ـ تمنع الإسلام غالباً من أن يتحول إلى دولة، وبالتالي من أن يحوّل مناهجه ومشروعه الحضاري إلى واقع. ونحن نعرف أن المشروع الحضاري إذا لم يتحول إلى واقع، فإنه لا يستطيع أن يعبر عن ذاته، وعن خصائصه الأصيلة.

تلك هي مشكلة الإسلام في هذا العصر. مثلاً إن هناك نظرية اقتصادية على مستوى المذهب الاقتصادي في الإسلام، ولكن لن نستطيع أن نعرف قيمة هذه النظرية إذا لم نحوّل هذا المذهب الاقتصادي إلى حركية في عالم الاقتصاد الإنساني الموجود في العالم.

س: يعاني المسلمون حالياً من أزمات داخلية مقيمة، يؤكد الإسلاميون أن الإسلام ليس مسؤولاً عنها، ولا دخل له فيها.. استكمالاً للسؤال السابق، وطالما أن الإسلام طرح نفسه كبديل حضاري عن الأنظمة والايديولوجيات السائدة.. فلماذا لا يطرح حلوله العملية في هذا المجال؟!

ج: لقد أشرنا في الحديث السابق أنك عندما تطرح الحلول العملية فلا بد لك أن تمسك بمفاصل العمل في الواقع، لأنك لن تستطيع أن تؤصل الحل العملي إذا لم يكن الواقع تحت يديك، وإذا لم تستكمل كل ظروف الواقع في حركتك نحو تحصين الواقع، أو نحو إنتاج الحل للواقع. ولهذا من الصعب أن نتحدث عن حلول عملية في غياب إمكانات انفتاحنا على الواقع.

ونحن نلاحظ في المجالات الإسلامية المحدودة ـ ولعلنا نقدم إيران كتجربة ـ هناك محاولات ناجحة في بعض التجارب لطرح البديل عن الحلول غير الإسلامية في الواقع الإسلامي.

س: هل يمكن الحديث هنا عن ضرورة وجود مركب (حامل) اجتماعي حضاري (خاص) بالإسلام؟! وما هي العناصر المكونة لهذا المركب؟!

ج: من الطبيعي أنك عندما تريد أن تطلق المشروع الحضاري، فإنك لا بدّ أن تطلق النظرية والأسلوب، والحركية الواقعية، وأن تفتح المجال لأن يتحرك الإنسان بكل أبعاده في المعرفة، وفي الإنتاج وفي مواجهة الخطوط الإنسانية التي ترتفع بالواقع، وترتفع بالإنسان.

س: ثمة إشكالية طاغية على ساحة العمل الإسلامي حالياً.. ترتبط بخصوصيات المرجعية الدينية للمشروع الحضاري الإسلامي.. إذ تتنوع هذه المرجعيات، ويتوزع فيها الجهد الإسلامي وفعله على طيف واسع من الإسلاميين الذين يمارسون ذلك الجهد بقناعات متنوعة أيضاً. وهذا يؤدي بدوره إلى تشتيت الجمهور الإسلامي العريض، وبعثرة طاقاته، وإصابته بالحيرة والارتباك جراء توزع وتلون وتنوع تلك المرجعيات. وتتزايد وتائر تلك الإشكالية في ظل غياب مرجعية عليا موحدة.. كيف يمكن تجاوز هذه الإشكالية المعقدة؟!

ج: من الصعب جداً أمام تعدد المذهبيات في الفقه الإسلامي، وفي الكلام الإسلامي، وتعدد الاجتهادات في المذهب الواحد، وتعدد القيادات الإسلامية في الواقع الحركي، أن نتحدث عن مرجعية واحدة على مستوى الواقع. ولكننا ـ في الوقت الذي نؤكد فيه على السلبية في افتقادنا لوحدة المرجعية التي تنتج رأياً إسلامياً واحداً، وحركة إسلامية واحدة، بحيث تقدم للعالم المفهوم الإسلامي الموحد ـ نجد أن هذه التعددية تحمل الكثير من الإيجابيات عندما ينطلق التنوع ليعطي الفكر الإسلامي غنى، وليعطي الأساليب الإسلامية ـ في تحريك هذا الفكر، وفي إنتاجه ـ غنى آخر.

س: ونحن نتحدث عن معالم المركب الحضاري الإسلامي لا بد أن نمر على فكرة المجتمع المدني بصيغة مجتمع مدني إسلامي الهوية، والطرح، والانتماء.. هل توافقون على هذا الطرح؟! وما هو تصوركم الموضوعي عنه؟!

ج: عندما نطلق كلمة "المجتمع المدني الإسلامي" في داخل الإسلام، فإننا نريد منه المجتمع الذي يحكمه القانون، والذي لا تسيطر عليه قيادة تحكم بذاتها، أو بقداستها الشخصية. لأننا نعتقد أن القانون ـ الذي يمثله الإسلام في كل تشريعاته ـ هو الذي يحكم المسلمين، حتى أنه هو الذي يحكم النبي في مرحلته، ويحكم الإمام في مرحلته.. فنحن نقرأ نصاً عن رسول الله(ص) أنه وقف في حياته ليخاطب المسلمين، ويقول لهم: "إنكم لا تمسكون عليّ بشيء، إني ما أحللت إلا ما أحلّ القرآن، وما حرمت إلا ما حرم القرآن"، إنه يؤكد لهم أنه انطلق في خط القانون، ولم ينطلق في خط الذات، في الوقت الذي نعرف فيه أن ذات النبي(ص) هي القانون، لأن النبي يجسد الإسلام كله، فهو القرآن الناطق، إذا كان القرآن هو الكتاب الصامت.

وهكذا نجد (هناك) نصاً للإمام علي(ع) في خلافته، إنه يقول: "لا تكلموني بما تكلمون به الجبابرة، ولا تتحفظوا مني بما يتحفظ به عند أهل البادرة، ولا تظنوا بي استثقالاً لحق قيل لي أو لعدل يعرض عليّ، فإن من استثقل الحق أن يُقال له، والعدل أن يُعرض عليه كان العمل بهما عليه أثقل". فإذن هو يطلب من الناس أن يراقبوه، وهو المعصوم في عقيدتنا في هذا المجال.

لذلك، نحن نفهم من المجتمع المدني، إنه المجتمع الذي يعطي فيه الشعب حقه في الحريات والحقوق التي يكفلها له القانون. وليس لأية سلطة ـ مهما كانت كبيرة في الدولة ـ أن تفرض نفسها على الشعب خارج نطاق القانون. وعلى الشعب أن يعزلها إذا قامت بمثل ذلك.

المحور الثالث: الإسلام والسياسة.. تعاضد أم تعارض

س: هناك إشكالية دائمة ـ يمكن أن تكون مصطنعة أو واقعية ـ بين الديني والسياسي، خصوصاً في عصرنا الحالي الذي تتصاعد فيه الحملات المحلية والدولية (بمختلف أشكالها السياسية، والأمنية، والثقافية، والإعلامية..) ضد الإسلام والمسلمين تحت ستار محاربة الأصولية، ومواجهة التطرف والعنف.. وهناك توصيف للإسلام ـ جاء على لسان بعض المثقفين والسياسيين في الغرب ـ بأنه (أي الإسلام) العدو المقبل الحتمي للغرب.. كيف تنظرون إلى طبيعة تلك الإشكالية التي جاءت لتشكل محوراً أساسياً من محاور هجوم كثير من النخب العلمانية المحلية على الدين الإسلامي، واتهامهم له بأبشع النعوت والصفات؟! ثم ما هي فلسفة الإسلام السياسية؟!

ج: نبدأ من آخر نقطة لننفتح على النقاط الأخرى، باعتبار أن هذه النقطة تمثل القاعدة التي تفسر كل الخطوط التي تنفتح بها النقطة الأولى.

إن فلسفة الإسلام السياسية تتلخص في كلمة واحدة ركزتها آية قرآنية وهي "إقامة العدل"، أن يعيش الإنسان في حياته مع الإنسان الآخر على أساس أن يعطي كل إنسان للإنسان الآخر حقه في كل جانب من جوانب الحياة، سواء كانت فردية أو اجتماعية، في المجال الاقتصادي، أو السياسي، أو الأمني. وهذه هي الآية الكريمة في سورة الحديد.. يقول الله سبحانه وتعالى: {لقد أرسلنا رسلنا البينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط}. فالقيام (قيام الناس بالقسط) هي الكلمة التي تختصر كل حركة الديانات منذ أول رسالة مع أول رسول إلى آخر رسالة مع آخر رسول. وعندما نستنطق كلمة (قيام الناس بالقسط) أي (العدل) فإننا نعرف أن قيام الناس بالقسط بحاجة إلى قانون يؤكد للناس حقوقهم، وإلى دين يحمّل الناس مسؤولية حركية هذه الحقوق في الجانب التنفيذي، وحكم يُشرف ويَفرُض تحقيق هذا الهدف. ومن الطبيعي أن هذين العنصرين (القانون، والحكم) بحاجة إلى هيئات ومؤسسات تخطط لذلك من الجوانب التشريعية والجوانب التنفيذية.

إذاً، أن تحقق العدل في الناس، أن تحرك السياسة في كل مفرداتها، ابتداءً من الحكم إلى أصغر وظيفة في المجتمع. وعلى ضوء هذا نستطيع أن نؤكد أن الإسلام يختزن السياسة في مضمونه باعتبار أنه أكد على العدل في قاعدته. وعندما ندرس التاريخ الإسلامي فإننا ندرس أنه كان متحركاً في خط الحكم والسياسة. وكذلك عندما ندرس السيرة النبوية الشريفة نرى هناك حركة سياسية بحسب ما تتحمله المرحلة آنذاك..

وإذا تركنا المرحلة النبوية إلى المراحل الأخرى، فإننا نجد أن الواقع الإسلامي كان واقع السياسة المتحركة بكل قوة، والتي أنتجت الكثير من الصراعات ومن التعقيدات وما إلى ذلك، بين سياسة مستقيمة وسياسة منحرفة. ولكن كان المجتمع الإسلامي لا يُبعد السياسة عن الدين، ولا يعتبر أن الحركية السياسية تمثل انحرافاً عن الإسلام، بل كانوا يرون أنها تمثل عمق الخط الإسلامي، وإن كانوا ينتقدون هذا لأنه سار في الخط المستقيم.

إذن، عندما ندرس المسألة من خلال القاعدة الإسلامية، فإننا نرى أن القاعدة التي ارتكز عليها الإسلام ـ وهي العدل ـ تجتذب السياسة بكل مؤسساتها. وعندما ندرس التاريخ الإسلامي ـ والذهنية التي عاشها المسلمون في كل مواقع هذا التاريخ ـ نرى أن السياسة لم تكن بعيدة عن ذهنيتهم، بحيث كانوا لا يرونها ابتعاداً عن الدين، بل يرونها انفتاحاً على المسؤوليات الدينية فيأن يكون هناك خليفة، وأن يتحرك الخليفة بمؤسساته في تنفيذ شرع الله وما إلى ذلك.

س: ..حتى أن هذه الإشكالية ـ إشكالية الديني والسياسي ـ لم تكن موجودة أساساً..

ج: .. ولذلك فإن هذه المسألة لم تكن مطروحة في مدى التاريخ الإسلامي، ولا في مدى الثقافة الإسلامية انطلقت على أساس أن مسألة الحكم ـ وعلاقة الحاكم بالشعب.. علاقة الشعب بالحاكم ـ من المسائل الطبيعية جداً في المعنى الذي يختزنه الدين الإسلامي.

أما قضية ابتعاد الدين عن السياسة فإن هذه المقولة جاءت ضمن مقولات استوردها المسلمون من الغرب كمقولة "مناقضة الدين للعلم"، و"مناقضة الدين للسياسة"، و"ابتعاد الدين عن حركية الحياة". وما إلى ذلك.. ونحن نعرف أن هذه المقولات انطلقت من التجربة الدينية التي عاشها الغرب، وليس من الضروري أن تكون تلك التجربة منطلقة من عمق معنى الدين في المسيحية. ولكنها قد تكون منطلقة من خلال الممارسات السلبية التي عاشها بعض علماء الدين في تلك المرحلة.

إذاً، نستطيع أن نقول إن هناك ارتباطاً بين الدين والسياسة بالمعنى العضوي للارتباط تماماً، كما قال بعض علماء إيران الذين استوحت منهم الثورة الإسلامية بعض خطوطهم: "سياستنا دين وديننا سياسة". إن السياسة في المفهوم الديني تمثل الوسيلة التي تعمل على تدبير أمور الناس من أجل تحقيق العدل فيما بينهم.

أما المفردات الأخرى التي تحدث عنها السؤال، فننطلق من المفردة الأولى وهي مفردة "الأصولية"، إننا نعتقد أن الأصولية في المفهوم الغربي تبتعد عن الأصولية في المفهوم الإسلامي. فالأصولية في المفهوم الغربي تتمخض في دائرتين، الدائرة الأولى: إلغاء الآخر وعدم الاعتراف به. والدائرة الثانية: هي اعتبار العنف الوسيلة الوحيدة للتغيير. وهذان أمران رفضهما الإسلام منذ البداية. ويرفضهما الخط الإسلامي حتى الآن. أما منذ البداية، فنحن نقرأ القرآن الكريم، فنقرأ قوله تعالى: {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله}. ونقرأ قوله تعالى: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون} ونقرأ في قوله تعالى: {ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون}.

إن الآخر ـ الذي كان يحمل فكراً قد يتميز في مفرداته عن الإسلام ـ هم أهل الكتاب، لأن الإسلام لا يعتبر الشرك تياراً فكرياً، بل إنه يعتبره يختزن التخلف والسقوط الفكري في واقع الإنسان، باعتبار أن مسألة "عبادة حجر" تمثل تحجّر الفكر الإنساني، وتمثل سقوط المعنى الإنساني في الفكر. وقد لاحظنا كيف أن القرآن دعا أهل الكتاب إلى "كلمة سواء"، أي أنه اعترف بهم. ولذلك قبلهم في مجتمعه، وأراد لهم أن ينسّقوا علاقتهم بالمجتمع الإسلامي إما من خلال عقد "أهل الذمة"، أو من خلال عقد "المعاهدة". ونحن نلاحظ أن النبي محمد(ص) عندما هاجر إلى المدينة أصدر وثيقة يؤكد فيها المعاهدة بين اليهود وبين المسلمين، كما يؤكد المعاهدة بين القبائل والعشائر هناك. مما يعني أن الإسلام يعترف بالآخر، ويتعاقد معه، ويتعاهد معه. ولعل التجربة التاريخية تؤكد ذلك. فنحن نجد أن اليهود، والنصارى، والمجوس كانوا ولا يزالون موجودين في البلاد الإسلامية من دون أن يقوم المسلمون بإلغائهم، أو بتصفيتهم، أو بطردهم، أو بإكراههم على الدخول في الدين.

أما الدائرة الثانية، وهي دائرة "اعتبار العنف الوسيلة الوحيدة للتغيير" فإن القرآن الكريم أكد أن الوسيلة المثلى هي الرفق لا العنف. وهذا ما نقرأه في قوله تعالى: {ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم} حاول أن تتبع الطريقة الأحسن، والأسلوب الأفضل الذي يحول أعداءك إلى أصدقاء. وهذا أيضاً ما نقرأه في الحديث النبوي الشريف: "إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف" و"إن الرفق ما وُضِع على شيء إلا زانه، ولا رُفع عن شيء إلا شانه".

وهكذا، نلاحظ أن العنف إنما يصار إليه في الإسلام في موقع "الدفاع عن النفس"، أو في موقع "الوقاية" {وقاتلوا في سبيل الله والمستضعفين}.. و{قاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم}. إن العنف في الإسلام ـ في الحرب الإسلامية ـ هو عنف دفاعي، أو عنف وقائي، وليس عنفاً هجومياً، وهذا الأمر تعترف به كل الحضارات، وكل الأديان.

إذن، لا أصولية في الإسلامية بهذا المعنى الغربي. نعم، نحن أصوليون بحيث ننطلق من القاعدة التي انطلق منها الإسلام. ونحن نعرف أن الإسلام فتح للإنسان ـ الذي يرتكز على أصوله من التوحيد، والنبوة، والإيمان باليوم الآخر، والإيمان بالخطوط العامة للشريعة، ولعبادة الله ـ فتح للإنسان الباب للتطور العلمي، الثقافي، والواقعي، والاجتماعي، وما إلى ذلك. ولكن في حدود الخطوط الأساسية في هذا المجال. فليس معنى أن نكون أصوليين أن نتجمد عند الأسلوب الذي كان يعيشه المسلمون آنذاك، بل أن نرتكز على القاعدة الإسلامية التي تفرض علينا أن نتحمّل مسؤولية الحياة بحسب ظروف الحياة عندنا من دون أن ننحرف عن الخط. وذلك هو قوله تعالى، وهو يحدثنا عن حركة التأريخ في خط المسؤولية: {تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تُسألون عما كانوا يعملون}، ونحن نلاحظ أن الإسلام يدعونا إلى التقدم {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} {وقل ربّ زدني علماً} إلى آخر ما هنالك.

أما المسألة الأخرى وهي أن "الإسلام يعادي الغرب"، الواقع أن الإسلام لا يعادي الغرب المثقف، ولا يعادي الغرب العلمي، ولا يعادي الغرب الإنساني، إنما يعادي الغرب الاستعمار. نحن لسنا أعداء الغرب، كما لسنا أعداء كل الشعوب، بل إننا نقرأ في الآية التي تلوناها أن الإسلام يريدنا أن ننفتح على الآخرين الذين (هم) يقفون في موقف العداوة لنحولهم إلى أصدقاء.

نحن لسنا ضد الشعوب الغربية، ولكن ضد الإدارات الغربية السياسية التي تريد أن تصادر اقتصادنا، وسياستنا، وأمننا، وثقافتنا لحساب اقتصادها، وأمنها، وسياستها، وثقافتها وما إلى ذلك.

نحن نؤكد الحوار مع الغرب في كل القضايا. كما نؤكد الحوار مع كل الشعوب. لنا حضارتنا ولهم حضارتهم. وهناك مواقع الالتقاء الحضاري بيننا وبينهم. فنحن ندعوهم إلى اللقاء عليها، وهناك خلاف بيننا فندعوهم إلى الحوار حوله.

وإذا كانوا يعتبرون حركتنا من أجل الاستقلال. ومن أجل الحرية، ومن أجل تحصيل الاكتفاء الذاتي، ومن أجل تحريك ثرواتنا، من أجل تنظيم اقتصادنا وازدهاره، فإننا خطر على كل اضطهاد، وخطر على استكبار واستعمار، كما كانوا (هم) خطراً على الذين استعمروه واستكبروهم في كل تاريخهم.

س: سماحة السيد: هناك تساؤل دائم حول كلمة أو مصطلح "أهل الذمة" أو "أهل المعاهدة".. هل هناك مجال معين في الفقه الإسلامي (أو هل يعطينا هذا الفقه الامكانية اللازمة) لاستبدال هذا المصطلح الذي يشكل هاجساً سلبياً قوياً لدى الآخر بمصطلح ومبدأ آخر "كالمواطنة" مثلاً؟!

ج: أولاً، نحن نقول: إن مصطلح أهل الذمة ليس مصطلحاً مسيئاً لإنسانية الإنسان، لأن معنى ذلك أن الأكثرية تحترم الأقلية فلا تدفعها إلى أن تحارب من هو على دينها عندما تدخل الأكثرية في حرب مع أناس يدينون بدين الأقلية. ولذلك لا تفرض عليها الانتماء للجيش، وثانياً أنها لا تفرض عليها الضرائب التي تُفرض على المسلمين الآخرين. وإنما ضريبة أهل الذمة هي ضريبة محدودة من أجل الحماية. ولكننا في الوقت نفسه نقول: إن من الممكن أن نحول المسألة إلى مواطنة مع بعض الشروط التفصيلية للحقوق العامة بلحاظ الأكثرية والأقلية. وهذا ما عاشته التجربة الإسلامية في إيران. فإن اليهود، والنصارى، والمجوس، والزرادشتيين الذين يعيشون هناك يتمتعون بكل حقوق المواطنة ما عدا الموقع القيادي. لأن الموقع القيادي للأمة لا بد فيه من أن يؤمن القادة بالأساس الذي ترتكز عليه الأكثرية في هذا المقام. ولذلك فإن الجمهورية الإسلامية قبلت النصارى في الجيش. وعندما خاضت الحرب ضد العراق سقط هناك قتلى من النصارى، وكما أن النصارى الآن لهم ممثلون في مجلس الشورى، واليهود لهم ممثلون، وكذلك الزرادشتيون.

س: كيف تنظرون ـ كمرجع إسلامي مؤسس للإسلام الحركي ـ إلى مسألة العلمنة في المجتمعات العربية والإسلامية؟! هل يمكن للعلمانية أن تكون هي البديل الطبيعي والطرح العقلاني الذي يستطيع استنهاض همم وطاقات الأمة، ومن ثم تحريكها باتجاه عملية التغيير المطلوب، على مستوى إنجاز تطلعات الأمة وأهدافها العالية في إقامة مجتمع متقدم ومقتدر في كل مواقعه وامتداداته؟! وهل هناك إمكانية للتوفيق بين العلمنة والإسلام من أجل تجاوز عصر الهزائم والنكبات التي لا تزال تتلاحق فصولها على مسرح الأحداث العربية والإسلامية الراهنة؟!

ج: نحن عندما نتحدث عن الإسلام، عن الدين في الموقع الإسلامي فإن العلمنة تضاد الإسلام، ولا نقصد بذلك أن العلمنة إلحادية، لأن العلمنة على قسمين: هناك علمنة إلحادية وهي المتمثلة بالماركسية، وأمثالها من الاتجاهات المرتكزة على الفلسفة المادية. ولكن هناك علمنة غير إلحادية، ربما تتمثل بالعلمنة الغربية. فإن الغرب لا يضاد الدين. وإنما أقصد ـ بمضادة الإسلام للعلمنة ـ هو أن العلمنة تنطلق من قاعدة فكرية وهي أن الدين لا علاقة له بالحياة. فالدين هو علاقة بين الإنسان وربه، يمكن أن يمارسه الإنسان في أخلاقياته الخاصة في نفسه. وفي بيته، ويمكن أن يمارسه في المسجد أو في الكنيسة. أما الحياة فلا علاقة للدين بها. فلا يجوز ـ من وجهة نظر العلمانية ـ أن ندخل الدين في القانون، بحيث نخضع القانون للتشريعات الدينية. وهذا ما نلاحظه في الحملة العلمانية (أو الصليبية) على فكرة "أسلمة القانون" أو "تطبيق الشريعة الإسلامية". وهذا ما نعيشه حتى في الدول التي تقول عن نفسها أنها إسلامية، ولكنها تعتبر الدعوة إلى تطبيق الشريعة جريمة يعاقب عليها القانون.

وهكذا ترى العلمنة أن على الدين ألا يتدخل بالسياسة. حتى أن بعض العلمانات ـ إذا صح التعبير ـ تمنع الحرية على المتدينين حتى في اللباس. فنحن نجد في فرنسا أنهم يمنعون الطالبة المسلمة أن تلبس الحجاب في المدارس.

س: .. وحتى في تركيا أيضاً..

ج: وفي تركيا البلد الذي يقول عن نفسه أنه بلد إسلامي، فإنهم يمنعون الفتاة من الدخول إلى الجامعة أو إلى مجلس البرلمان إذا كانت محجبة، كما حدث في الآونة الأخيرة. لذلك فإن أوضح نموذج لهذه المضادة بين الإسلام والعلمنة ـ بالشكل الإعلامي الواضح الذي يتحرك في أسلوب الحرب ـ هو ما انطلقت به تركيا التي تحولت من الإسلام إلى العلمنة. واعتبرت أن العلمنة تفرض عزل الإسلام عن الحياة تماماً، وإبقائه في الدائرة الذاتية العبادية. حتى أنهم يُجبرون الأحزاب الإسلامية على الاعتراف بالعلمانية، وهذا ما فعله أربكان عندما تسلم رئاسة الوزراء حيث صرح بالتزامه بالعلمانية.

لذلك، فنحن نقول: إن العلمانية تمثل مشكلة، وليست حلاً بالنسبة للمجتمع الإسلامي، لأن المجتمع الإسلامي يطمح إلى أن لا يعيش الازدواجية بين الإسلام وبين القانون، باعتبار أن الإسلام يمثل شريعة شاملة من خلال الفقه الإسلامي ممتدة إلى كل مفردات حياة الإنسان العامة والخاصة. ولذلك فإن عزل هذا القانون عن الواقع والإتيان بقانون علماني ينطلق من الاستعارة من القوانين الغربية، أو من تصويت نواب البرلمان هنا على خلاف القوانين الإسلامية، هذا يُدخل المسلمين في مشكلة كما هم الآن يعيشون هذه المشكلة في الازدواجية بين ما هو الإسلام الذي يفرض عليهم أن يلتزموا قانونه، وبين ما هو القانون العلماني الذي يفرض عليهم أن يطبقوه على حياتهم الخاصة والعامة. وتكون النتيجة أن المسلمين لا يمكن أن ينفتحوا على الحكم الذي يتنكر لمعتقداتهم في هذا المقام،وهذا مما يمنع الاستقرار في المجتمع، ويعطل إمكانيات الابداع فيه.

س: سماحة السيد: هل ساهمتم من موقعكم في الحد من غلو الطرح العلماني والإسلامي من أجل إقامة بعض التحالفات المرحلية الواعية بين الطرفين، تأخذ بعين الاعتبار ضرورات الواقع وضغوطاته؟!

ج: لقد كنت منذ البداية أؤكد على أسلمة المجتمع حتى في أسلمة العلم. وكنا نؤكد على أن من الضروري أن يكون الإسلام قاعدة للفكر والعاطفة والحياة. ولكننا ـ في الوقت نفسه ـ كنا نؤكد على "الكلمة السواء"، وأن من الممكن في القضايا المشتركة بيننا وبين العلمانيين ـ على مستوى الواقع السياسي، والاجتماعي، والأمني ـ أن ندخل في لقاءات للتعاون فيما بيننا في هذا الاتجاه.

س: يأخذ الإسلاميون على العلمانيين أنهم استلموا مفاصل الحكم والسلطة والإدارة في معظم البلدان العربية والإسلامية، ولم يحققوا للأمة إلا النـزر اليسير من تطلعاتها وأهدافها.. ما هي الإمكانات التي يمتلكها الإسلاميون للنهوض بواقع الأمة؟!

ج: إن المشكلة التي يعيشها الإسلاميون ليست أنهم لا يملكون البرنامج العملي الذي يمكن أن يحل مشكلة الأمة، بل أن التحديات المحيطة بهم على المستوى الاقتصادي الذي يُمسك مفاصله العلمانيون، أو المستوى السياسي أو الأمني الذي يملكه العلمانيون. وهكذا على الصعيد الإعلامي وما إلى ذلك، مما يمنع المسلمين من أن تكون لهم الحرية في تنفيذ برنامجهم الذي تحيط به أذرع الأخطبوط الاستكباري من كل مكان. ولعلّ هذا هو الذي يفسر فشل بعض المسلمين في إيصال المجتمع إلى الحلول التي يتصورونها، ويخططون لها، لأن المسألة ليست هي مسألة النظرية، بل هي مسألة الواقع الميداني. فإذا كنت تملك مذهباً اقتصادياً يمكن له من أن يحل المشكلة الاقتصادية، ولكنك لا تملك الإمكانات الاقتصادية التي تستطيع من خلالها تحريك المذهب في حركة الواقع ـ فمن الطبيعي أن المشكلة لن تكون في الخط الذي تؤمن به، ولكن المشكلة في الواقع الذي يمنعك ـ في تحدياته ـ من الوصول إلى النتائج الكبرى.

إننا نجد أن الثروات التي يملكها المسلمون (مثل البترول وأمثاله) لا يمكن أن تتحرك إلا من خلال السياسة التسويقية التي يخطط لها الاستكبار العالمي من جهة، وهكذا في كل العمليات الاقتصادية، لهذا فإن المشكلة ليست مشكلة النظرية ولكنها مشكلة التطبيق.

س: .. سماحة السيد: كلامكم صحيح.. ولكن لماذا نشتكي دائماً من الواقع، ومن تحدياته وضغوطاته؟! ثم ما هو دور العلماء والمثقفين وأهل الرأي والخبرة في المجتمع، وهم الذين يشكلون ثقلاً نوعياً في داخل الأمة؟!

ج: إن دورنا هو أن نغيّر الواقع بقدر إمكاناتنا {لا يكلّف الله نفساً إلاّ وسعها} وعلينا أن نكون واقعيين، فنعترف بالحقائق التي تنتصب أمامنا كحواجز تمنعنا من استكمال الطريق. ونحن لا نريد أن نتجمد أمام هذه الحواجز، بل نحاول إزالتها بالمزيد من المواجهة والجهاد، وما إلى ذلك. ولكن من الطبيعي أن هذا الأمر يحتاج إلى زمن طويل وإلى جهد طويل.

س: إن المشكلة في الفكر السياسي الإسلامي المعاصر لا تكمن في التأكيد على أهمية ارتباط الدين بالسياسة ـ في المقدمة والنتيجة ـ بقدر ما تكمن في رؤية هذا الفكر، وتصوره الخاص والعام لطبيعة العمل السياسي، وأهدافه، ومعطياته، وأبعاده الإجرائية، وإطاراته الشرعية. أي عن ماهية إدخال السياسة في الإسلام من حيث قبولها أو رفضها لنموذج معين ثابت في الحكم وتنظيم ممارسة السلطة، وبالتالي تمثل الحزب الديني السياسي لمنطق العمل السياسي ومتطلباته وضروراته العملية التي أملتها مسألة احترام قواعد المشاركة السياسية، ووضع الترتيبات القانونية والمؤسسية لمراقبة سلوك الحاكمين، وتحسين وسائل ممارسة السلطة، وتوسيع دائرة المشاركة الاجتماعي.. و..الخ. هل هذا التحليل صحيح برأيكم؟! وإذا كان كذلك، ألا نستطيع أن نعتبره تجديداً حقيقياً وجريئاً في الفكر الحركي الإسلامي المعاصر، وأنتم من رواده ومراجعه؟!

ج: إننا نعتبر أن هذه الأطروحة التي يطرحها السؤال أو المحور هي أطروحة لا تتنافى مع الإسلام، ولكن هناك نقطة في مسألة العمل السياسي، أن لا يُسمح للعمل السياسي الذي يُخطط لإسقاط الإسلام. نحن الآن نؤكد على أن تكون هناك مشاركة اجتماعية أو سياسية، وأن يكون هناك نقد للحكم وللحاكم، وملاحقة لهما، وأن لا يكون هناك شخص فوق القانون، وأن لا تكون هناك امتيازات ذاتية أو طبقية لأي فئة على حساب فئة في الإسلام. وأن يتحرك الخط السياسي على أساس العدل لجميع الناس سواء كانوا مسلمين أم غير مسلمين، وأن تكون العلاقات السياسية مع الآخرين من غير المسلمين قائمة على أساس الوفاء بالمعاهدات، وبالعقود، وبالالتزامات التي يلتزمها المسلمون مع الآخرين، كل هذا أساسي في حركة الواقع السياسي الإسلامي، ولكن مع المحافظة على الإسلام في الحكم، وفي الواقع، ولذلك نحن نتحفظ في إعطاء الحرية للحركات التي تستهدف إسقاط الحكم الإسلامي.

س: سماحة السيد: ضمن هذا الإطار، ما هو رأيكم بمسألة الحزبية الحركية الإسلامية، خصوصاً وأننا أصبحنا نعيش الآن ـ في ظل هذه التحديات الداخلية والخارجية ـ الفشل الواقعي للصيغة السياسية الحزبية العربية بشكل عام؟!

ج: لعل مشكلة الحزبية العربية، أو الحزبية الشرقية، أنها ـ في أغلب تجاربها ـ انطلقت من ثقافة الحزبية الماركسية في أسلوبها في العمل، وفي العنف الذي تختزنه ضد الآخر، وفي العصبية العمياء التي تحركت من خلال هذا الطوق الحديدي الذي يحيط بالحزب في الفكر الماركسي من جهة، وهذه العصبية التي تعيش في الواقع الشرقي من جهة ثانية. لذلك فإن هذه التجربة الحزبية سقطت، وأسقطت إشراقة الطرح الإسلامي في نفوس الناس لأنها انطلقت من خلال إلغاء الآخر حتى المسلم، فقد أصبحنا نواجه بعض الطروحات التي تتحدث أن من يكون داخل الحزب فهو المسلم الواعي، ومن يكون خارج الحزب فهو المسلم التقليدي الذي قد لا يستحق أن نطلق عليه اسم الإسلام وما إلى ذلك.

نحن، لسنا ضد الحركية الإسلامية، ولكننا ضد التعصب الإسلامي، التعصب في الحركة الإسلامية، وأيضاً نحن ضد الأساليب التي جاءتنا من الآخرين.

إن للإسلام أسلوبه في العمل السياسي والثقافي والاجتماعي، وعلينا أن نستهدي الإسلام في ذلك كله، ولعل أبلغ كلمة تمثل هذا النوع من التحرك الإنساني ـ في الدائرة التي تتميز بخصوصيتها في علاقتها بالإنسان ـ هي الكلمة التي جاءت عن الإمام علي بن الحسين زين العابدين(ع): "إن العصبية التي يأثم عليها صاحبها أن يرى الرجل شرار قومه، ولكن أن يُعين قومه على الظلم".

س: .. ولكن سماحة السيد هناك كثير من المثقفين وعلماء الدين (حتى الكبار منهم) يتعقدون من المسألة الحركية الإسلامية مع العلم أننا نشهد لها نجاحات واسعة وباهرة في المنطقة خصوصاً تجربة المقاومة الإسلامية في لبنان..

ج: إننا نختلف مع هؤلاء لأنهم ربما ينطلقون من سوء فهم للمعنى الحركي في المعنى الحزبي في نتائجه العملية على مستوى تثقيف الأمة، وربطها بفكر واحد، وتنظيم خطواتها نحو الهدف. ولعلهم يركزون على الجانب العصبي، ولعل من المفارقات أن بعض هؤلاء ـ في الوقت الذي يرفضون فيه الحزبية في الخط الإسلامي ـ يؤكدون فيها الحزبية للشخص، على مستوى عبادة الشخص. عندما تكون القضية مرتبطة بأشخاصهم. وربما نجد أن بعضهم يشير إلى السلبيات التي قد تحصل لدى التجربة الحركية الحزبية، ولكنهم لا يؤكدون على الإيجابيات، في الوقت الذي يتحدثون فيه عن إيجابيات الفردانية الشخصانية، ولا يتحدثون عن السلبيات هناك. هذه هي المشكلة في الإنسان الذي ينظر إلى القضايا من وجه واحد، ولا ينظر إليها من جميع وجوهها.

س: اعتبر بعض المفكرين أن العلمانية قد جاءتنا على ظهر دبابة، وبقيت تحت حمايتها ووصايتها.. هل هذا التوصيف صحيح برأيكم؟!

ج: ربما كان صحيحاً في البداية، ولكن العلمانية انطلقت في الواقع الذي نعيشه من خلال التيارات الثقافية والفكرية التي يعيشها الناس في الجامعات، وفي الكثير من الكتب والمواقع الثقافية الأخرى.

المحور الرابع: إشكالية العلاقة بين الإسلام والغرب

س: كيف تنظرون إلى العلاقة بين الإسلام والغرب؟! وما هي عناصر وأبعاد العلاقة الصحيحة السليمة والمتوازنة التي يمكن أن تؤسس لمراحل جديدة مثمرة ومنتجة من تلك العلاقة؟!

ج: هناك نوعان من العلاقة، هناك العلاقة العملانية وهي أننا بحاجة إلى الغرب من ناحية ما يملكه من الخبرة المعرفية في المواقع العلمية، وفي التكنولوجيا، وفي كثير مما تمثله حاجاتنا الحياتية، كما أن الغرب بحاجة إلى ما نملكه من الثروات الطبيعية الموجودة في أرضنا، ولذلك، فالمسألة من ناحية المبدأ أن من الممكن جداً أن يكون هناك تعامل وتعاون مع الغرب على مستوى مسألة الاستيراد والتصدير ـ إذا صحّ التعبير ـ العلاقات الاقتصادية والعلمية، والجانب الثاني، أو الدائرة الثانية هي مسألة الحوار بيننا وبين الغرب فيما نختلف فيه، ولكن المشكلة ـ في الدائرتين معاً ـ هي اختلال ميزان القوى بيننا وبين الغرب، فنحن لا نملك القوة في إدارة ثرواتنا، كما أننا لا نملك الحرية في أن نأخذ من الغرب ما نحتاجه منه، لأن الغرب لا يعطينا الكثير من الخيرات العلمية والتكنولوجية التي يحتفظ بها لنفسه حتى نبقى في حاجة لمستشفياته، ومصانعه، وصناعاته وما إلى ذلك. كما أن مسألة الحوار الغربي الإسلامي لم يصل إلى المستوى الذي يمكن فيه أن يكون هناك حوار بين تيار وتيار، إنه يتم الآن بشكل فردي بين مثقف غربي ومثقف إسلامي، أو في مؤتمرات صغيرة بين المسلمين والغرب.

لذلك، نحن لا مشكلة عندنا في التعاون مع الغرب ـ فيما نحتاجه منه، أو فيما يحتاجه منا ـ وفي الحوار مع الغرب، ولكننا نعتقد أن الشروط في كِلتا الدائرتين ليست متوفرة على مستوى التوازن.

س: لماذا يجد الغرب عموماً صعوبة في التعامل مع عالم إسلامي يحكمه الإسلام الحركي (وغالباً حتى الإسلام التقليدي) هل السبب أيديولوجي فكري أم أنه سياسي واقعي؟!

ج: إنني لا أعتقد أن الغرب يهتم بالايديولوجيا في واقعه المعاصر، بل إنه يهتم بالمصالح، ولعل عقدة الغرب هي أن الإسلام خرج من القمقم، وبدأ يؤكد على المسلمين أن يعيشوا هويتهم الإسلامية التي ترتفع إلى مستوى التحدي لكل الذي يريد أن يفرض استكباره على المسلمين في اقتصادهم، وسياستهم، وأمنهم.

س: ..يعني هل أنتم متفائلون بأن هذا الإسلام لن يعود مرة أخرى إلى ما كان عليه؟!

ج: إنني متفائل بأنه لن يعود إلى القمقم، ولكني أعتقد أنه سيبقى مثخناً بالجراح إلى وقت طويل.

س: يؤكد كثير من المثقفين على أن الغرب عندما اندفع بكل قوته وآلته العسكرية والأمنية باتجاه العالم الشرقي (تحديداً الإسلامي) قد جلب معه النموذج المعروف المشوه للدولة، وعمل على توطيد دعائمها الغربية في بيئتنا الإسلامية، فتحولت تلك الدولة إلى دولة استعمارية بامتياز، وأعملت في مجتمعاتنا الخراب والدمار الروحي والمفاهيمي الذي لا تزال نشهد صوره وتلاوينه المتنوعة حتى الآن؟! والسؤال: ما هي الأسباب التي ساهمت في نمو بذرة الدولة الاستبدادية في أمتنا الإسلامية؟! ثم ما هو الحل في نظركم للخلاص من أزمتها الواقعة؟! وهل تعتبرون أن القيام بمهمة الحسم التغييري على المستوى الداخلي ـ كما تلح عليه بعض الحركات الإسلامية والعلمائية ـ هو بداية الحل الموضوعي لدفع المجتمع ـ بعد ذلك ـ باتجاه تحقيق النهوض الذاتي المستقل عن الإدارات السياسية الغربية، وامتداداتها (العميلة) في المنطقة؟!

ج: إنني أتصور أن الغرب قد فرض علينا قسماً من الدولة لم يعطها إيجابياته، بل أعطاها سلبياته. وعمل على أن يؤكد الاستبداد فيها من أجل حماية مصالحه التي قد يخاف عليها من هذه الحريات الشعبية التي سوف تقلب السحر على الساحر. ولذلك، فقد استمرت هذه الدول باعتبار أن الذين يشرفون عليها موظفون لدى الأجهزة الاستكبارية بشكل مباشر أو غير مباشر، وحتى أننا نعرف أن بعض المواقع العليا في أكثر من دولة إسلامية ـ وليس في الدول العربية فحسب ـ هم موظفون لدى إدارة الاستخبارات الامريكية. ولذلك فإن هذه الأنظمة التي تتمثل في أكثر من دولة إسلامية ـ أو دولة من دول العالم الثالث ـ أنها تمثل الحراس لمصالح الاستكبار العالمي في هذا المجال.

ولذلك، فإن القوة الاستكبارية تعمل على حماية هذه الأنظمة، حتى في الوقت الذي تسجّل عليها انتقادات لحفظ ماء الوجه بالنسبة لحقوق الإنسان. ولكن عندما تنطلق ثورة داخلية ضد هذا النظام أو ذاك النظام فإن الغرب يتدخل من أجل حمايته.

إننا لا نعتقد أن المسألة مستحيلة، لأن تطور الشعوب، وتحرك المفاهيم الإنسانية في العالم يمكن أن يفسح المجال للمستقبل لتغيير أسلوب الدولة، وتحويلها من دولة استبدادية إلى دولة إنسانية، أو شعبية، أو ما إلى ذلك.

س: .. سؤالنا الأخير ـ سماحة السيد ـ من خارج هذه المحاور وهو: مرّت علينا مؤخراً أجواء الحدث الانتخابي الإيراني (انتخابات مجلس الشورى في إيران) التي فاز بها التيار الإصلاحي. فما هو رأيكم بما جرى؟!

ج: إنني أتصور أن قيمة هذا الحدث إسلامياً هو أنه أثبت للعالم أن النظام الإسلامي عندما يفرض نفسه على أي واقع، فإنه يمنح الحرية للشعب أن يُعبر عن رأيه بكل استقلالية حتى لو كانت آراؤه ضد سياسة القائمين على النظام. فإننا عندما ندرس الأصوات التي حصل عليها أحد أعمدة النظام (وهو الشيخ هاشمي رفسنجاني) والتي جاءت في المرتبة الأخيرة من انتخابات طهران، نجد أن النظام لم يتدخل لحماية رمز من أعلى رموزه، ومن الذين ساهموا في تأسيس الجمهورية الإسلامية في هذا المقام. لهذا فإن مدلول هذه الانتخابات هو هذه الحرية (المنطقة) الكبيرة جداً التي يكفلها النظام، ويحميها للشعب لكي يقول كلمته مهما كانت طبيعة تلك الكلمة.

ومن ناحية ثانية، فإننا نلاحظ أن الدعوات التي انطلقت من رأس النظام (وهو آية الله السيد علي خامنئي) ومن رئيس الجمهورية لتطلب من الشعب أن يصوّت على أساس المسؤولية الشرعية، جعلت الشعب يقوم بعملية التصويت بنسبة(85%) على أساس التكليف الشرعي، مما يوحي بأن المسألة الشرعية تستطيع أن تؤصّل المسألة السياسية في خط المسؤولية التي يعيشها الناس..

والنقطة الثالثة، هي أن الخطوط مهما اختلفت فإنها خطوط داخل النظام، وليست خطوطاً في مواجهته. إن لكل تيار تفسيره للإسلام، ولكن هذين التيارين الكبيرين لم يطرحا المسألة على أساس إسلام أو لا إسلام، ولكنهما طرحا المسألة على أن هناك تفسيراً للإسلام بشكل محافظ، أو تفسير للإسلام بشكل آخر.

س: ..يعني هل أنتم متفائلون بشأن المستقبل الإسلامي في إيران، والمبادىء الإسلامية الأصيلة..؟!

ج: إنني لست متشائماً.

وأخيراً نشكركم ـ سماحة السيد ـ على هذا اللقاء الحواري والحضور الفكري الغني، وإلى اللقاء في ندوات ثقافية (حوارية) مقبلة.

 

حوار: نبيل علي صالح

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية