عيد الغدير، بما هو تمثيل حقيقيّ لإكمال الدين وإتمام النعمة وتبليغ الرّسالة، يلقي بثقل معانيه وإيحاءاته على المسلمين كافّةً، لجهة تحمّل المسؤوليّات تجاه أصالة دينهم في حفظ مفاهيمه وروحه، ومعرفة الحقّ واتّباعه، ومراعاة أصول وحدتهم، صوناً للإسلام من الضّياع والتشتّت.
وبعيداً عن كلّ تحيُّز، فإنّ القراءة الهادئة والموضوعيَّة لسيرة أمير المؤمنين عليّ(ع)، تبيِّن عظمة هذه الشخصيَّة الرّساليَّة الإسلاميَّة، وحجم عطاءاتها وتضحياتها، في سبيل حفظ رأس الإسلام من السّقوط، ونبذه لكلّ المصالح والأهواء والمطامع الدنيويّة، وهو القائل: "لأسلمنّ ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن فيها جور إلا عليّ خاصّة".
إنّه عيد للإسلام والمسلمين، عندما وضعت الرسالة في أيدٍ أمينة مجاهدة مخلصة لله، ساعية للقرب من مواطن رضاه، عاملةٍ في سبيل نصرة الحقّ والمظلومين، وإعلاء كلمة الله وزهق الباطل، فهل يتمثّل المسلمون كلّ هذه المعاني؟!
إنّ الواقع ـ للأسف ـ اليوم يزداد تراجعاً وانحداراً وتخلّفاً وجهلاً وارتماءً في أحضان الفتنة والعصبيّات والفوضى والأهواء، ولا تزال ثقافة التّراشق والتّجريح والاتهام ورمي الآخر بالكفر والفسق والفجور، وهو ما يمثّل في أبسط تعبير ضيق أفق وانعدام وعي لحقيقة الإسلام الضّابطة للعقل الجمعي.
فعيد الغدير للمسلمين جميعاً، دون تمييز بين مذهب وآخر، وأمير المؤمنين(ع) هو إمام المسلمين جميعاً سنّةً وشيعة، فلنجعل من هذه المناسبة محطّة للالتقاء ونبذ الأحقاد والعصبيّات، وإحياء آليّات الأخوّة والمحبّة والحوار والعفو والتّعاون والأمر بالمعروف.
وهذا الّذي يصنع حضارةً وتقدّماً، وينقلنا من ضيق الأفق إلى رحابته، ويرفع من مستوى وعينا في تحمّل المسؤوليّات، ولعب الدّور الطبيعيّ في البناء وإحياء النّفوس وعمران البلاد.
عليّ(ع) ليس إماماً لمذهب معيّن، فهو إمام للمسلمين كافّةً وللإنسانيّة جمعاء، وهو وليّ كلّ مؤمن ومؤمنة.. وفي السّياق ذاته، يقول سماحة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله(رض): "في الثّامن عشر من ذي الحجّة، نلتقي بذكرى الغدير، حيث وقف رسول الله(ص) راجعاً من حجّة الوداع في غدير خمّ، ليُعلن الخليفة من بعده، فقال فيما قال: "يا أيّها النّاس، إنّ الله مولاي وأنا مولى المؤمنين، وأنا أولى بهم من أنفسهم، فمن كنت مولاه فهذا مولاه ـ يعني عليّاً ـ اللّهم والِ مَن والاه، وعادِ من عاداه".
وفي موضع آخر يقول سماحته: نحن لا نوالي عليّاً لقرابته أو فروسيّته، بل لأنّه إمام للمسلمين حتّى وهو خارج الخلافة، يمثّل قوله الحجّة عند اختلاف النّاس، ويمثّل فعله المحجّة البيضاء إذا مال النّاس، وهو القدوة ـ بعد رسول الله ـ في كلّ ما انفتح عليه في حركة العلم والإاردة والإخلاص للإسلام والمسلمين، وهو الّذي قال: "علّمني رسول الله ألف باب من العلم، يُفتح لي من كلّ باب ألف باب"، وهو الّذي جمّد مطالبته بالخلافة ـ وهي حقّه ـ لما رأى راجعة النّاس قد رجعت عن الإسلام، يدعون إلى محق دين محمّد(ص)، وقال: "فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله، أن أرى فيه ثلماً أو هدماً، تكون المصيبة به عليّ أعظم من فوت ولايتكم، الّتي إنما هي متاع أيّامٍ قلائل، يزول ما كان، كما يزول السّراب، أو كما يتقشّع السّحاب، فنهضت في تلك الأحداث، حتّى زاح الباطل وزهق، واطمأنّ الدّين وتنهنه"...
وفي ضوء ذلك، نتعلّم من عليّ(ع) خطّ الوحدة الإسلاميّة، لننفتح على من نختلف معه بالحوار، ولنؤكّد ما يجمعنا، في سبيل حفظ الإسلام في مواجهة التحدّيات الّتي تعصف اليوم بالأمّة، ولا تفرّق بين مذهب وآخر، ولا بين مسلم ومسلم.
ويختم سماحته(رض): إنّ عليّاً(ع) يمكن أن يكون رمز وحدتنا الإسلاميّة، لأنّ المسلمين جميعاً لا يختلفون على احترام عليّ وتقديمه على غيره، وإذا كان المسلمون قد اختلفوا على عليّ في التّاريخ، في مسألة الخلافة والإمامة، فإنّ بإمكاننا اليوم أن نتوحّد من خلاله، وانطلاقاً من منهجه الّذي أكّده في الواقع... [خطبة الجمعة، 17 ذو الحجّة، 1430هـ].
واليوم، نحن مطالبون بأن نجتمع حول رموزنا الإسلاميّة والإنسانيّة الكبيرة، وأن نتوحّد حولها، فلقد ضحَّت وجاهدت من أجل أن يبقى كيان الإسلام، فلنحافظ عليه قويّاً منيعاً، بتعاوننا ووحدتنا وتضامننا، فها هم أعداء الله يجتمعون على الباطل، ويتوحّدون حول عصبيّاتهم وأهوائهم من أجل إسقاط الإسلام والمسلمين، فلنجعل من عيد الغدير محطّةً للانفتاح والتّعاون ووعي الدّور والمسؤوليّات، لأنّ الخطر كبير يطاول الجميع، والهيكل سيقع على رؤوس الجميع.
فمتى سيستفيد المسلمون من التّاريخ، ومن مناسباتهم ومحطّاتهم الأساسيّة الّتي هي للوحدة لا للفرقة؟!
إن الآراء الواردة في هذا المقال لا تعبِّر بالضرورة عن رأي الموقع ، وإنما عن رأي صاحبه .