أرسله أمير المؤمنين إلى مصر سنة 38هـ وجعله والياً عليها، وكتب لأهل مصر: "أمّا بعد، فانّي قد وجّهت إليكم عبداً من عباد الله، لا ينام أيّام الخوف، ولا ينكل عن الأعداء حذار الدوائر، أشدّ على الفجّار من حريق النّار، وهو مالك بن الحارث الأشتر، أخو مذحج، فاسمعوا له وأطيعوا، فانّه سيف من سيوف الله".
وعهده للأشتر هو أطول عهد كتبه (عليه السّلام)، ويشتمل على لطائف ومحاسن وحكم جمّة، بحيث يكون دستوراً وقانوناً لكلّ الأمراء والسلاطين طوال الدّهر، وفيه قوانين في الخراج والزكاة، ولا يبقى ظلم وجور إذا عمل بمضمونه، وهذا العهد معروف، وقد شرح وترجم مراراً، فلمّا كتب (عليه السلام) ذلك العهد، أمر مالكاً بالرحيل، فخرج في جمع من الجيش وتوجّه نحو مصر، فلمّا وصل الخبر إلى معاوية، أرسل كتاباً إلى (زارع عريش) أن يسمّه ويقتله، وفي المقابل، يعفيه معاوية عن الخراج والضرائب عشرين سنة.
فلمّا وصل الأشتر إلى عريش، سأل الزارع عن الأكلة التي يحبّها الأشتر، فقيل له إنّه يحبّ العسل، فجاء الزارع بعسل مسموم إلى الأشتر وأهداه إليه، وذكر له جملة من خواصّ العسل وفوائده، فشرب منه، فلم يستقر العسل في جوفه بعد، حتى ودَّع الدنيا ورحل عنها بذلك العسل المسموم.
وقال البعض: إنّه استشهد في قلزم، وقد سمّه نافع مولى عثمان، ولمّا وصل خبر استشهاده إلى معاوية، فرح فرحاً كثيراً، بحيث لم تسعه الدنيا من الفرح، وقال: "ألا وإنّ لله جنوداً من عسل". ولمّا بلغ ذلك أمير المؤمنين (عليه السلام)، حزن كثيراً، وتأسّف على مالك، فصعد المنبر وقال: "إنّا لله وإنّا إليه راجعون، والحمد لله ربّ العالمين، اللّهمّ إنّي أحتسبه عندك، فإنّ موته من مصائب الدّهر، رحم الله مالكاً، فلقد أوفى بعهده، وقضى نحبه، ولقي ربّه، مع أنّا قد وطّنّا أنفسنا على أن نصبر على كلّ مصيبة بعد مصابنا برسول الله (صلى الله عليه واله)، فإنّها من أعظم المصيبات".
فنزل عن المنبر، وذهب إلى داره، فجاء إليه مشايخ النخع، وكان (عليه السلام) متأسّفاً متلهّفاً على موت الأشتر، ثم قال: "لله درّ مالك! وما مالك؟ لو كان من جبلٍ لكان فنداً، ولو كان من حجر لكان صلداً، أما والله ليهدّنّ موتك عالماً، وليفرحنّ عالماً، على مثل مالك فلتبك البواكي، وهل مرجوّ كمالك؟ وهل موجود كمالك؟ وهل قامت النّساء عن مثل مالك؟".
وقال أيضاً في مالك: "لو كان صخراً لكان صلداً، ولو كان جبلاً لكان قيداً، وكأنّه قدّ منّي قدّاً".
وقال أيضاً: "أما والله هلاكه، فقد أعزّ أهل المغرب وأذلّ أهل المشرق"... ثم قال: "لا أرى مثله بعده أبدا" .
وقال القاضي نور الله في المجالس: ذكر صاحب البلدان في ذيل أحوال بعلبك، أنّ معاوية أرسل شخصاً إلى مالك كي يلاقيه في طريقه إلى مصر، فلقيه وسقاه العسل المسموم، فمات به حوالى قلزم، فلمّا بلغ معاوية ذلك، أظهر السرور والفرح وقال: "ألا إنّ لله جنوداً من عسل". ثم حمل بدنه الطاهر إلى المدينة، ودفن هناك، وقبره المنوّر معروف ومشهور. وقال أيضاً: لا يخفى أنّ مالكاً مضافاً إلى تمتعه بالعقل والشجاعة والعظمة والفضيلة، كان متحلياً بحلي العلم والزهد والفقر والدروشة .
وجاء في مجموعة ورام لابن فارس: أنّ مالكاً كان مجتازاً بسوق الكوفة وعليه قميص خام وعمّامة منه، فرآه بعض السّوقة، فازدرى بزيّه، فرماه ببندقة تهاوناً به، فمضى ولم يلتفت، فقيل له: ويلك، أتدري بمن رميت؟ فقال: لا، فقيل له: هذا مالك الأشتر، صاحب أمير المؤمنين (عليه السلام).
فارتعد الرجل، ومضى إليه ليعتذر منه، فرآه وقد دخل مسجداً وهو قائم يصلّي، فلمّا انفتل، أكبّ الرّجل على قدميه يقبّلهما. فقال: ما هذا الأمر؟ فقال: أعتذر إليك ممّا صنعت (لأنّي لم أعرفك)، فقال: لا بأس عليك، فواللّه ما دخلت المسجد الّا لأستغفرنَّ لك .
وقال ابن أبي الحديد: لو أنّ إنساناً يقسم إنّ الله تعالى ما خلق في العرب ولا في العجم أشجع منه إلّا أستاذه عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، لما خشيت عليه الإثم ... ما أقول في رجل هزمت حياته أهل الشّام، وهزم موته أهل العراق، وقال أمير المؤمنين (عليه السلام) في حقّه: "رحم الله مالكاً، فلقد كان لي كما كنت لرسول الله (صلّى اللّه عليه وآله)".
وقال لأصحابه: ليت فيكم رجلين مثله، بل رجل واحد مثله. ونرى شدَّة شوكته على الأعداء من هذه الأبيات التي أنشدها:
بقَّيْتُ وَفِري وانحرفْتُ عن العلى ولقيْتُ أضيافي بوجهٍ عبوسِ
إن لم أشن على ابن هندٍ غارة لم تخلُ يوماً من نهابِ نفوسِ
خيلاً كأمثال السَّعالي شزّبًا تغدو ببيضٍ في الكريهة شوسِ
حَمِيَ الحديدُ عليهم فكأنَّهُ ومضان برقٍ أو شعاعُ شموسِ
*منتهى الآمال في تواريخ النبيّ والآل، ج1.