ولما أُدخلت بنات أمير المؤمنين إلى الكوفة، اجتمع أهلها للنظر إليهم، فصاحت اُمّ
كلثوم: يا أهل الكوفة، أما تستحون من الله ورسوله أنْ تنظروا إلى حرم النّبي (صلى
الله عليه وآله)؟.
وأشرفت عليهنّ امرأة من الكوفيّات، ورأتهن على تلك الحال التي تشجي العدوّ الألد،
فقالت: من أيّ الأسارى أنتم؟ قلن: نحن أسارى آل محمد.
وأخذ أهل الكوفة يناولون الأطفال التمر والجوز والخبز، فصاحت أمّ كلثوم وهي زينب
الكبرى: إنّ الصّدقة علينا حرام. ثمّ رمت به إلى الأرض.
خطبة زينب
ولقد أوضحت ابنة أمير المؤمنين (عليه السلام) للنّاس خُبث ابن زياد ولؤمه في
خطبتها، بعد أنْ أومأت إلى ذلك الجمع المتراكم، فهدأوا حتّى كأنَّ على رؤوسهم الطير.
وليس في وسع العدد الكثير أنْ يسكن ذلك اللّغط أو يردّ تلك الضوضاء، لولا الهيبة
الإلهيّة والبهاء المحمّدي الذي جلّل عقيلة آل محمّد (صلى الله عليه وآله .(
فيقول الراوي: لمّا أومأت زينب ابنة علي (عليه السلام) إلى النّاس، فسكنت الأنفاس
والأجراس، فعندها اندفعت بخطابها مع طمأنينة نفس وثبات جأش، وشجاعة حيدريّة، فقالت
(صلوات الله عليها): "الحمد لله، والصلاة على أبي محمّد وآله الطيّبين الأخيار.
أمّا بعد، يا أهل الكوفة، يا أهل الختل والغدر، أتبكون؟! فلا رقأت الدمعة، ولا هدأت
الرنّة، إنّما مثَلكم كمثَل التي نقضت غزلها من بعد قوّة أنكاثاً، تتّخذون أيمانكم
دخلاً بينكم، ألا وهل فيكم إلا الصلف النطف والعجب والكذب والشنف وملق الإماء، وغمز
الأعداء؟! أو كمرعى على دمنة أو كقصّة على ملحودة؟! ألا بئس ما قدّمتْ لكم أنفسكم
أنْ سخط الله عليكم، وفي العذاب أنتم خالدون".
الغرض التعريف، بأنّ الدمنة وإنْ زها ظاهرها بالنبت، إلاّ أنّه لا يفيد الحيوان
قوّة؛ لأنّها مجمع الأوساخ والكثافات السّامة القاتلة، فنتاج الدمنة لا يكون طيّباً.
وأهل الكوفة وإنْ زها ظاهرهم بالإسلام، إلا أنّ الصدور انطوت على قلوب مظلمة، لا
يصدر عنها إلا بما يقوم به أهل الجاهليّة والإلحاد.
"أتبكون وتنتحبون؟! إي والله فابكوا كثيراً، واضحكوا قليلاً؛ فلقد ذهبتم بعارها
وشنارها، ولن ترحضوها بغسل بعدها أبداً، وأنّى ترحضون قتْل سليل خاتم النبوّة ومعدن
الرسالة، ومدرة حجّتكم ومنار محَجّتكم، وملاذ خيرتكم ومفزع نازلتكم، وسيّد شباب أهل
الجنّة، ألا ساء ما تزرون.
فتعساً ونكساً وبُعداً لكم وسحقاً، فلقد خاب السّعي وتبّت الأيدي، وخسرت الصفقة،
وبؤتم بغضب من الله ورسوله، وضُربت عليكم الذلّة والمسكنة.
ويلكم يا أهل الكوفة، أتدرون أيّ كبدٍ لرسول الله فريتم؟ وأيّ كريمةٍ له أبرزتم؟
وأيّ دمٍ له سفكتم؟ وأيّ حرمةٍ له انتهكتم؟ لقد جئتم شيئاً إدّاً، تكاد السّموات
يتفطّرن منه، وتنشقّ الأرض، وتخرّ الجبال هدّاً. ولقد أتيتم بها خرقاء شوهاء كطلاع
الأرض وملء السّماء.
أفعجبتم أنْ مطرت السّماء دماً؟! ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا يُنصرون، فلا يستخفنّكم
المهل، فإنّه لا يحفزه البدار، ولا يخاف فوت الثار، وإنّ ربّكم لَبِالمرصاد". فقال
لها الإمام السّجاد (عليه السلام): "اسكتي يا عمّة، فأنت بحمد الله عالمة غير
معلَّمة، وفهِمة غير مفهَّمة".
فقطعت العقيلة الكلام، وأدهشت ذلك الجمع المغمور بالتمويهات والمطامع، وأحدث كلامها
إيقاظاً في الأفئدة ولفتة في البصائر، وأخذت خطبتها من القلوب مأخذاً عظيماً،
وعرفوا عظيم الجناية، فلا يدرون ما يصنعون.
خطبة السجّاد (عليه السلام)
وجيء بعليّ بن الحسين (عليه السلام) على بعير ضالع، والجامعة في عنقه، ويداه
مغلولتان إلى عنقه، وأوداجه تخشب دماً، وأومأ إلى النّاس أنْ اسكتوا، فلمّا سكتوا،
حمد الله وأثنى عليه، وذكر النّبي فصلّى عليه، ثمّ قال: "أيّها النّاس، مَن عرفني
فقد عرفني، ومَن لَم يعرفني، فأنا علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، أنا ابن من
انتُهكت حرمته، وسُلبت نعمته، وانتهب ماله، وسُبي عياله، أنا ابن المذبوح بشطّ
الفرات من غير ذحل ولا ترات، أنا ابن من قُتل صبراً، وكفى بذلك فخراً .
أيّها النّاس، ناشدتكم الله، هل تعلمون أنّكم كتبتم إلى أبي وخدعتموه وأعطيتموه من
أنفسكم العهود والميثاق والبيعة، وقاتلتموه؟
فتّباً لكم لِما قدّمتم لأنفسكم، وسوأة لرأيكم، بأيّة عين تنظرون إلى رسول الله؟ إذ
يقول لكم: قتلتم عترتي، وانتهكتم حرمتي، فلستم من اُمّتي؟!".
فارتفعت الأصوات بالبكاء وقالوا: هلكتم وما تعلمون.
ثمّ قال (عليه السلام): "رحم الله امرءاً قبِل نصيحتي، وحفظ وصيّتي في الله وفي
رسوله وأهل بيته، فإنَّ لنا في رسول الله اُسوة حسنة".
فقالوا بأجمعهم: نحن يابن رسول الله سامعون مطيعون حافظون لذمامك، غير زاهدين فيك،
ولا راغبين عنك، فمرنا بأمرك يرحمك الله، فإنّا حرب لحربك، وسِلم لسلمك، نبرأ ممَّن
ظلمك وظلمنا.
فقال (عليه السلام): "هيهات هيهات أيّها الغدرة المكرة! حِيل بينكم وبين شهوات
أنفسكم، أتريدون أن تأتوا إليَّ كما أتيتم إلى أبي من قبل؟ كلاّ وربّ الراقصات، فإنّ
الجرح لمّا يندمل، قُتل أبي بالأمس وأهل بيته، ولَم ينس ثكل رسول الله وثكل أبي
وبني أبي، إنّ وجده والله لبين لهاتي ومرارته بين حناجري وحلقي، وغصّته تجري في
فراش صدري".
*من كتاب "مقتل الإمام الحسين(ع)".