التربية النبويّة:
وقام الرسول الأعظم(ص) بدوره بتربية سبطه وريحانته، فأفاض عليه بمكرماته ومثله،
وغذاه بقيمه ومكوّناته، ليكون صورة عنه. ويقول الرواة:
إنه كان كثير الاهتمام والاعتناء بشأنه، فكان يصحبه معه في أكثر أوقاته، فيشمّه
عرفه وطيبه، ويرسم له محاسن أفعاله، ومكارم أخلاقه، وقد علّمه وهو في غضون الصبا
سورة التوحيد (3)، ووردت إليه من تمر الصّدقة، فتناول منها الحسين تمرة وجعلها في
فيه، فنزعها منه الرسول(ص) وقال له: "لا تحلّ لنا الصدقة".
وقد عوّده وهو في سنه المبكرة بذلك على الإباء، وعدم تناول ما لا يحلّ له. ومن
الطبيعي أن إبعاد الطفل عن تناول الأغذية المشتبه فيها أو المحرّمة، لها أثرها
الذاتي في سلوك الطفل وتنمية مداركه، حسب ما دلّت عليه البحوث الطبية الحديثة، فإنّ
تناول الطفل للأغذية المحرَّمة، مما يوقف فعالياته السلوكية، ويغرس في نفسه النزعات
الشرّيرة كالقسوة، والاعتداء والهجوم المتطرّف على الغير. وقد راعى الإسلام باهتمام
بالغ هذه الجوانب، فألزم بإبعاد الطفل عن تناول الغذاء المحرَّم. وكان إبعاد
النبيّ(ص) لسبطه الحسين عن تناول تمر الصّدقة التي لا تحلّ لأهل البيت(ع)، تطبيقاً
لهذا المنهج التربوي الفذ... وسنذكر المزيد من ألوان تربيته له عند عرض ما أثر
عنه(ص) في حقّه(ع).
تربية الامام له:
أما الإمام عليّ(ع)، فهو المربي الأول الذي وضع أصول التربية، ومناهج السلوك،
وقواعد الآداب، وقد ربى ولده الإمام الحسين(ع) بتربيته المشرقة، فغذاه بالحكمة،
وغذاه بالعفّة والنزاهة، ورسم له مكارم الأخلاق والآداب، وغرس في نفسه معنوياته
المتدفقة، فجعله يتطلّع إلى الفضائل، حتى جعل اتجاهه السليم نحو الخير والحقّ، وقد
زوّده بعدة وصايا حافلة بالقيم الكريمة والمثل الإنسانيّة، ومنها هذه الوصية
القيّمة الحافلة بالمواعظ والآداب الاجتماعيّة، وما يحتاج إليه الناس في سلوكهم،
وهي من أروع ما جاء في الإسلام من الأسس التربوية التي تبعث على التوازن والاستقامة
في السلوك. قال(ع):
"يا بنيّ، أوصيك بتقوى الله عزّ وجلّ في الغيب والشهادة، وكلمة الحقّ في الرّضا،
والقصد في الغنى والفقر، والعدل في الصّديق والعدوّ، والعمل في النشاط والكسل،
والرّضا عن الله تعالى في الشدّة والرّخاء.
يا بنيّ، ما شرّ بعده الجنّة بشرّ، ولا خير بعد النار بخير، وكلّ نعيم دون الجنة
محقور، وكل بلاء دون النار عافية... اعلم يا بنيّ، أن من أبصر عيب نفسه شغل عن غيره،
ومن رضي بقسم الله تعالى لم يحزن على ما فاته، ومن سلَّ سيف البغي قتل به، ومن حفر
بئراً وقع فيها، ومن هتك حجاب غيره انكشف عورات بيته، ومن نسي خطيئته استعظم خطيئة
غيره، ومن كابد الأمور عطب، ومن اقتحم البحر غرق، ومن أعجب برأيه ضلّ، ومن استغنى
بعقله زلّ، ومن تكبَّر على الناس ذلّ، ومن سفه عليهم شتم، ومن دخل مداخل السّوء
اتهم، ومن خالط الأنذال حقر، ومن جالس العلماء وقر، ومن مزح استخفّ به، ومن اعتزل
سلم، ومن ترك الشهوات كان حراً، ومن ترك الحسد كان له المحبة من الناس.
يا بنيّ، عزّ المؤمن غناه عن الناس، والقناعة مال لا ينفد، ومن أكثر ذكر الموت رضي
من الدنيا باليسير، ومن علم أنّ كلامه من عمله قلّ كلامه إلا فيما ينفعه. العجب ممن
خاف العقاب ورجا الثواب فلم يعمل. الذكر نور والغفلة ظلمة، والجهالة ضلالة، والسعيد
من وعظ بغيره، والأدب خير ميراث، وحسن الخلق خير قرين.
يا بنيّ، ليس من قطيعة الرحم نماء، ولا مع الفجور غنى... يا بنيّ، العافية عشرة
أجزاء تسعة منها في الصمت إلا بذكر الله، وواحد في ترك مجالسة السفهاء، ومن تزين
بمعاصي الله عزّ وجلّ في المجالس، ورثه ذلاً. من طلب العلم علم...".
*تربية فاطمة له:
وعنت سيدة النساء(ع) بتربية وليدها الحسين، فغمرته بالحنان والعطف، لتكون له بذلك
شخصيته الاستقلالية، والشعور بذاتياته، كما غذّته بالآداب الإسلامية، وعوَّدته على
الاستقامة، والاتجاه المطلق نحو الخير. يقول العلائلي:
"والذي انتهى إلينا من مجموعة أخبار الحسين، أنّ أمّه عنيت ببثّ المثل الإسلامية
الاعتقادية، لتشيع في نفسه فكرة الفضيلة على أتمّ معانيها، وأصحّ أوضاعها. ولا بدع،
فان النبيّ(ص) أشرف على توجيهه أيضاً في هذا الدور الذي يشعر الطفل فيه بالاستقلال.
فالسيّدة فاطمة أنمت في نفسه فكرة الخير، والحبّ المطلق والواجب، ومدّت في جوانحه
وخوالجه أفكار الفضائل العليا، بأن وجهت المبادئ الأدبية في طبيعته الوليدة، من أن
تكون هي نقطة دائرتها إلى الله الّذي هو فكرة يشترك فيها الجميع.
وبذلك، يكون الطفل قد رسم بنفسه دائرة محدودة قصيرة، حين أدار هذه المبادئ الأدبية
على شخص والدته، وقصرها عليها، وما تجاوز بها إلى سواها من الكوائن، ورسمت له
والدته دائرة غير متناهية، حين جعلت فكرة الله نقطة الارتكاز، ثم أدارت المبادئ
الأدبيّة والفضائل عليها، فاتسعت نفسه لتشمل وتستغرق العالم بعواطفها المهذبة،
وتأخذه بالمثل الاعلى للخير والجمال...".
لقد نشأ الإمام الحسين(ع) في جوّ تلك الأسرة العظيمة التي ما عرف التاريخ الانساني
لها نظيراً في إيمانها وهديها، وقد صار(ع) بحكم نشأته فيها، من أفذاذ الفكر
الإنساني، ومن أبرز أئمّة المسلمين.
*من كتاب "حياة الحسين(ع)".