غزوة بني قريظة عام 5 للهجرة

غزوة بني قريظة عام 5 للهجرة

في اليوم الذي رجع فيه النبي إلى المدينة، ودخل كل واحد من المسلمين بيته، يدعي المؤرخون والمؤلفون في السيرة النبوية، أن جبريل جاء الى النبي وقال له، ان الله يأمرك أن تسير الى بني قريظة، فأمر رسول الله (ص) منادياً، فأذن في الناس أن من كان سامعاً مطيعاً، فلا يصلينّ العصر إلا في بني قريظة. وأعطى النبي رايته لعليّ(ع)، وتبعه المسلمون بالرغم مما كانوا عليه من التعب والسهر خلال حصار قريش وغطفان لهم، وسار عليّ والمسلمون الى بني قريظة وهم في حصونهم، حتى إذا دنا منهم، سمعهم يشتمون النبي ويتكلمون فيه بأفحش ما يكون من الكلام، فرجع ليطلب من النبي أن لا يدنو من حصونهم حتى لا يسمع مقالهم فيه، ولكن النبي تابع مسيرته، حتى إذا دنا من حصونهم، قال كما جاء في رواية الطبري:

يا إخوان القردة، هل أخزاكم الله وأنزل فيكم نقمته، فقالوا يا ابا القاسم، ما كنت جهولاً. ونزل على بئر من آبارهم حتى تكامل المسلمون وحاصرهم النبي(ص) نحواً من شهر تقريباً، فلما اشتد عليهم الحصار، قيل لهم: انزلوا على حكم رسول الله. وكان الخوف قد استولى عليهم، ودخل حيي بن أخطب معهم في حصونهم حين رجعت قريش وغطفان، وفاءً منه‏ بالعهد الذي أعطاه لكعب بن أسد أحد زعمائهم، ولما أيقنوا أن رسول الله(ص) غير منصرف عنهم حتى يناجزهم، قال لهم كعب بن أسد: يا معشر اليهود، انه قد نزل بكم من الأمر ما ترون، واني عارض عليكم خلالاً ثلاثاً، فخذوا أيها شئتم. قالوا وما هي: قال نتابع هذا الرجل ونصدقه، فوالله لقد تبين لكم أنه نبي مرسل، وأنه الذي تجدونه في كتابكم، فتأمنوا على دمائكم وأموالكم وأبنائكم ونسائكم.

فقالوا: لا نفارق حكم التوراة ولا نستبدل به غيره، فقال لهم: إذا أبيتم هذا، فهلم نقتل أبناءنا ونساءنا، ثم نخرج من حصوننا الى محمد واصحابه مصلتين سيوفنا، وليس وراءنا ما يهمنا، حتى يحكم الله بيننا وبينه، فإن نهلك لا نكون قد تركنا وراءنا ما نخشى عليه، وإن نظهر على محمد فالنساء كثير. فقالوا: أنقتل النساء والذرية بلا ذنب، فلا خير في العيش بعدهم. قال: فاذا أبيتم هذه عليّ، فان الليلة ليلة السبت، ولعل محمداً وأصحابه قد أمنوا أننا لا نحاربهم فيها، فانزلوا من حصونكم لعلنا نصيب من محمد وأصحابه غرة. فقالوا: إذا فعلنا ذلك، فقد أفسدنا سبتنا، وأحدثنا فيه ما لم يحدثه أحد من قبلنا، وقد علمت ما أصاب من أحدث فيه من المسخ.

وظلوا داخل حصونهم، والمسلمون قد أحاطوا فيهم من جميع الجهات، ولم يقع بينهم غير التراشق بالنبل والحجارة بين الحين والآخر، ولما يئسوا من تراجع المسلمين عنهم، بعثوا الى النبي أن أرسل لنا أبا لبابة بن عبد المنذر أخا عمروبن عوف، نستشيره في أمرنا، فأرسله رسول الله(ص)، فلما رأوه، قام إليه الرجال، والتفّ حوله النساء والأطفال يبكون في وجهه، فرقّ لهم، وقالوا له: يا أبا لبابة: أترى أن ننزل على حكم محمد؟ قال نعم، وأشار بيده الى حلقه يريد بذلك، إنه الذبح ان لم تنزلوا...

وبعثت قريظة الى النبيّ(ص) تعرض عليه الخروج الى أذرعات، تاركة وراءها ما تملك، فأبى عليهم الا أن ينزلوا على حكمه، فأرسل بنو قريظة الى الأوس يطلبون إليهم التدخل مع النبيّ(ص) بقبول هذا العرض، كما تدخل الخزرج معه في أمر بني النضير، فمشى جماعة من الأوس الى النبيّ(ص) وقالوا: يا رسول الله، ألا تقبل من حلفائنا مثل الذي قبلت من بني النضير حلفاء الخزرج، فقال لهم النبيّ: ألا ترضون أن أجعل بيني وبين حلفائكم رجلاً منكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: فقولوا لهم أن يختاروا من الأوس من شاؤوا، فاختار اليهود سعد بن معاذ، ونسوا موقفهم مع سعد حينما نقضوا العهد وانضموا الى الغزاة، وتحذيره اياهم من الإقدام على هذا الأمر، وكيف قابلوه بشتم رسول الله وأصحابه حتى اضطروه أن يقابلهم بالمثل.

وكان سعد بن معاذ قد اصيب بسهم في أكحله قطع عرقاً منه خلال حصار الأحزاب للمسلمين، نزف منه اكثر دمه، واصبحت حياته مهددة بالخطر، وكان قد قال حين اصابه السهم: اللهم ان كنت ابقيت من حرب قريش شيئاً، فابقني لها، فإنه لا قوم احب إلي من ان اجاهدهم من قوم آذوا رسولك وكذبوه وأخرجوه، اللهم ان كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم، فاجعلها لي شهادة، ولا تمتني حتى تقرّ عيني من بني قريظة. وكان النبي بعد رجوعه من الخندق، امرهم ان يضعوه في خيمة رفيدة في المسجد ليكون قريباً منه، لأنها كانت تعالج الجروح الصعبة وتداوي الجرحى، فلما اختارته قريظة ليكون حكماً بينها وبين النبيّ(ص)، اتاه قومه من الأوس، واحتملوه، وأقبلوا به الى رسول الله، وهم يقولون: يا أبا عمرو، احسن في مواليك، فإن رسول الله انما ولاك ذلك لتحسن فيهم. فلما اكثروا عليه قال: لقد آن لسعد ان لا تأخذه في الله لومة لائم...

ولا شكّ ان النبي(ص) كان يرى فيهم هذا الرأي، ولو كان يحتمل فيهم ان يهادنوا المسلمين ولو احتمالاً خفيفاً، لم يقدم على ما أقدم عليه، لأنه لم يكن يلجأ الى السيف الا لعلاج أخير لا يرى بديلاً عنه، وهو القائل لذة العفو خير من لذة الانتقام، واذا ظفرت في خصمك، فليكن العفو أحلى الظفرين، ولكنه كان يائساً من مهادنتهم للمسلمين مهما صنع معهم من الخير والاحسان.

واذا عفا عنهم اليوم، فسيمثلون معه نفس الدور الذي مثلوه بالأمس، حينما انضموا لأخصامه، كما كان واثقاً من ان سعداً لا يداري ولا يحابي أحداً على حساب الإسلام، ومن سوء طالع بني قريظة، أنهم اختاروا زعيم حلفائهم ليكون حكماً بينهم وبين رسول الله(ص)، وهو الذي جاءهم بالأمس القريب يذكرهم فيما بينه وبينهم من تحالف وتعاون من عشرات السنين، ويخوّفهم عواقب غدرهم ونقضهم للعهد القائم بينهم وبين النبيّ(ص)، ويستعطفهم بأن لا يتعاونوا مع الأحزاب، وأن يقفوا على الحياد، في حين أن المعاهدة بينهم وبين النبيّ تنصّ على التعاون المتبادل لخير الطرفين، فقابلوه بأفحش ما يكون من القول.

وكان لا بدّ لسعد، وهو الذي شهدت له مواقفه في بدر وأحد والخندق وبقية الغزوات بالإخلاص والصلابة في الحق، كان لا ينتظر منه أن يحكم فيهم بغير حكم الله سبحانه، مادام يعتقد أن بقاءهم يهدد الاسلام بأشد الأخطار بعد المراحل التي مر فيها معهم.

ولما انتهى الى النبي، استقبله وقال لمن حوله من الأوس: قوموا الى سيدكم، فقاموا إليه وأنزلوه عن دابته، فلما جلس قالوا: يا أبا عمرو، ان بني قريظة قد حكموك ورضي رسول الله بحكمك فيهم...

وقال ابن هشام في سيرته: ان الذي اضطرهم الى النزول على حكم سعد بن معاذ، هو انهم رأوا علياً(ع) قد هاجمهم ومعه الزبير بن العوام، وهو يقول: لأذوقن ما ذاق عمي حمزة، او لأفتحن حصونهم، فلما رأوه يشتدّ إليهم، اخذهم الخوف والرعب منه، وأيقنوا بالهلاك، وقالوا: يا محمد، رضينا بحكم سعد فينا.

ثم ان رسول الله خرج الى سوق بالمدينة، فحفر بها الخنادق، وقتلهم عن آخرهم ودفنهم فيها، وكان بينهم حيي بن أخطب، وعليه حلة قد شققها من كل ناحية، حتى لا يطمع فيها احد، ويداه مجموعتان الى عنقه، فلما نظر الى رسول الله، قال: والله ما لمت نفسي في عداوتك، ولكنه من يخذل الله يخذل.

ثم التفت الى الناس وقال: أيها الناس، لا بأس بأمر الله كتاب الله وقدر وملحمة كتبت على بني اسرائيل، ثم جلس وضربت عنقه، ولم يقتل من نسائهم الا امرأة واحدة...

قال العقاد في كتابه "العبقريات الإسلامية"، ص 219 طبع دار الفتوح:

إنما دانهم سعد بنص التوراة التي يؤمنون بها، كما جاء في الاصحاح 10 الى 15 من التثنية: حين تقترب من مدينة لكي تحاربها، استدعها الى الصلح، فان اجابتك الى الصلح، وفتحت لك، فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير ويستعبد لك، وان لم تسالمك، بل عملت معك حرباً، فحاصرها، واذا دفعها الربّ إلهك الى يدك، فاضرب جميع ذكورها بحدّ السيف، وأما النساء والأطفال والبهائم وكلّ ما في المدينة، كل غنيمة تفتحها لنفسك، وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك إلهك.

وجاء في الكاشف، ج 6 ص 209، أن هذا النص موجود في التوراة إصحاح 20 من التثنية، لا إصحاح 10 إلى 15. واضاف إلى ذلك ان هذا النص يدلّ بوضوح على اكثر مما حكم به سعد بن معاذ على بني قريظة، لأنّه يقول بصراحة إن استجابت المدينة الى الصلح، فجميع اهلها عبيد مسخرون، وإن ابت، وجب ذبح جميع الذكور بحدّ السيف، المقاتلين منهم وغير المقاتلين، ونهب الأموال وسبي الأطفال والنساء والذراري.

ومضى صاحب الكاشف يقول: وهناك نص آخر في التوراة لم يذكره العقاد، وهو أعظم جوراً من النص الأول، لأنه يأمر بقتل جميع السكان، ولا يستثني النساء والأطفال، كما يأمر بإحراق المدينة بجميع ما فيها، بحيث لا يمكن بناؤها وتجديدها الى الأبد.

فقد جاء في الاصحاح الثالث عشر من التثنية، ما نصه بالحرف الواحد: فضرباً تضرب سكان تلك المدينة بحد السيف، وتحرقها بكلّ ما فيها مع بهائمها بحدّ السيف، وتجمع كلّ أمتعتها الى وسط ساحتها، وتحرق بالنار المدينة، وكلّ أمتعتها كاملة للرب إلهك، فتكون تلاً الى الأبد لا تبنى بعد.

وبعد هذه النصوص التي يدين بها اليهود ويطبقونها على الشعوب في تاريخهم الطويل، تنفيذاً لنصوص توراتهم وكتبهم المقدسة، فيقتلون الرجال، وينهبون الأموال، ويسبون النساء والأطفال، ويحرقون المدن والقرى من كلّ شعب يغتصبونه، ولو لم ينكث لهم عهداً او يعلن عليهم حرباً، فهل بعد تلك النصوص التي وردت في كتبهم المقدَّسة وتلك المعاملة التي يعاملون بها الشعوب التي يسيطرون عليها في ماضيهم وحاضرهم، يكون ظالماً لهم من حكم عليهم بما يدينون به، وعاملهم بما عاملوا به الناس، ولو لم ينقضوا لهم عقداً، أو يعلنوا عليهم حرباً، مع العلم بأنّ النبيّ(ص) لم يقتل احداً منهم الا بعد ان نقضوا العهد الذي أبرمه معهم، وأعلنوا عليه الحرب مع قريش واحلافها الغزاة، وبعد ان اعذر إليهم وأرسل إليهم زعماء احلافهم من الأوس يطلبون إليهم الالتزام بالعهود والمواثيق التي أابرموها مع النبيّ(ص)، فقابلوهم بشتم الاسلام ونبي الاسلام، وبعد ان اختاروا سعداً ليحكم عليهم بما يستحقون، وقد اتفقت جميع الشرائع السماوية والوضعية على ان من دان بدين لزمته احكامه، وهنا يكمن السر في قول الرسول الأعظم(ص) لسعد بن معاذ: حكمت فيهم بحكم الله من سبعة ارقعة...

وبمناسبة موقف بني قريظة من النبيّ(ص) وما أصابهم بعد ذلك، قال الله سبحانه:

{وأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وتَأْسِرُونَ فَرِيقاً* وأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ ودِيارَهُمْ وأَمْوالَهُمْ وأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وكانَ الله عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيراً (الأحزاب: 26- 27).

وبعد أن نفذ رسول الله حكم سعد في بني قريظة، توفي سعد بن معاذ، فلما أخبر رسول الله بوفاته، قام يجرّ ثوبه الى المسجد فوجده ميتاً.

وجاء في بعض المرويات أنه قال: والذي نفسي بيده، لقد استبشرت الملائكة بروح سعد، ولما صلّى عليه ودفنه، قال: إن للقبر لضغطة لو كان أحد ناجياً منها، لنجا سعد بن معاذ، وأكثر من الترحم عليه وعلى من مضى ممن صدقوا ما عاهدوا عليه الله ورسوله.

ولما سمع أمّه تندبه وتنوح عليه ونسوة من الأنصار، قال: كل نائحة تكذب إلا نائحة سعد بن معاذ.

*من كتاب "سيرة المصطفى".

في اليوم الذي رجع فيه النبي إلى المدينة، ودخل كل واحد من المسلمين بيته، يدعي المؤرخون والمؤلفون في السيرة النبوية، أن جبريل جاء الى النبي وقال له، ان الله يأمرك أن تسير الى بني قريظة، فأمر رسول الله (ص) منادياً، فأذن في الناس أن من كان سامعاً مطيعاً، فلا يصلينّ العصر إلا في بني قريظة. وأعطى النبي رايته لعليّ(ع)، وتبعه المسلمون بالرغم مما كانوا عليه من التعب والسهر خلال حصار قريش وغطفان لهم، وسار عليّ والمسلمون الى بني قريظة وهم في حصونهم، حتى إذا دنا منهم، سمعهم يشتمون النبي ويتكلمون فيه بأفحش ما يكون من الكلام، فرجع ليطلب من النبي أن لا يدنو من حصونهم حتى لا يسمع مقالهم فيه، ولكن النبي تابع مسيرته، حتى إذا دنا من حصونهم، قال كما جاء في رواية الطبري:

يا إخوان القردة، هل أخزاكم الله وأنزل فيكم نقمته، فقالوا يا ابا القاسم، ما كنت جهولاً. ونزل على بئر من آبارهم حتى تكامل المسلمون وحاصرهم النبي(ص) نحواً من شهر تقريباً، فلما اشتد عليهم الحصار، قيل لهم: انزلوا على حكم رسول الله. وكان الخوف قد استولى عليهم، ودخل حيي بن أخطب معهم في حصونهم حين رجعت قريش وغطفان، وفاءً منه‏ بالعهد الذي أعطاه لكعب بن أسد أحد زعمائهم، ولما أيقنوا أن رسول الله(ص) غير منصرف عنهم حتى يناجزهم، قال لهم كعب بن أسد: يا معشر اليهود، انه قد نزل بكم من الأمر ما ترون، واني عارض عليكم خلالاً ثلاثاً، فخذوا أيها شئتم. قالوا وما هي: قال نتابع هذا الرجل ونصدقه، فوالله لقد تبين لكم أنه نبي مرسل، وأنه الذي تجدونه في كتابكم، فتأمنوا على دمائكم وأموالكم وأبنائكم ونسائكم.

فقالوا: لا نفارق حكم التوراة ولا نستبدل به غيره، فقال لهم: إذا أبيتم هذا، فهلم نقتل أبناءنا ونساءنا، ثم نخرج من حصوننا الى محمد واصحابه مصلتين سيوفنا، وليس وراءنا ما يهمنا، حتى يحكم الله بيننا وبينه، فإن نهلك لا نكون قد تركنا وراءنا ما نخشى عليه، وإن نظهر على محمد فالنساء كثير. فقالوا: أنقتل النساء والذرية بلا ذنب، فلا خير في العيش بعدهم. قال: فاذا أبيتم هذه عليّ، فان الليلة ليلة السبت، ولعل محمداً وأصحابه قد أمنوا أننا لا نحاربهم فيها، فانزلوا من حصونكم لعلنا نصيب من محمد وأصحابه غرة. فقالوا: إذا فعلنا ذلك، فقد أفسدنا سبتنا، وأحدثنا فيه ما لم يحدثه أحد من قبلنا، وقد علمت ما أصاب من أحدث فيه من المسخ.

وظلوا داخل حصونهم، والمسلمون قد أحاطوا فيهم من جميع الجهات، ولم يقع بينهم غير التراشق بالنبل والحجارة بين الحين والآخر، ولما يئسوا من تراجع المسلمين عنهم، بعثوا الى النبي أن أرسل لنا أبا لبابة بن عبد المنذر أخا عمروبن عوف، نستشيره في أمرنا، فأرسله رسول الله(ص)، فلما رأوه، قام إليه الرجال، والتفّ حوله النساء والأطفال يبكون في وجهه، فرقّ لهم، وقالوا له: يا أبا لبابة: أترى أن ننزل على حكم محمد؟ قال نعم، وأشار بيده الى حلقه يريد بذلك، إنه الذبح ان لم تنزلوا...

وبعثت قريظة الى النبيّ(ص) تعرض عليه الخروج الى أذرعات، تاركة وراءها ما تملك، فأبى عليهم الا أن ينزلوا على حكمه، فأرسل بنو قريظة الى الأوس يطلبون إليهم التدخل مع النبيّ(ص) بقبول هذا العرض، كما تدخل الخزرج معه في أمر بني النضير، فمشى جماعة من الأوس الى النبيّ(ص) وقالوا: يا رسول الله، ألا تقبل من حلفائنا مثل الذي قبلت من بني النضير حلفاء الخزرج، فقال لهم النبيّ: ألا ترضون أن أجعل بيني وبين حلفائكم رجلاً منكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: فقولوا لهم أن يختاروا من الأوس من شاؤوا، فاختار اليهود سعد بن معاذ، ونسوا موقفهم مع سعد حينما نقضوا العهد وانضموا الى الغزاة، وتحذيره اياهم من الإقدام على هذا الأمر، وكيف قابلوه بشتم رسول الله وأصحابه حتى اضطروه أن يقابلهم بالمثل.

وكان سعد بن معاذ قد اصيب بسهم في أكحله قطع عرقاً منه خلال حصار الأحزاب للمسلمين، نزف منه اكثر دمه، واصبحت حياته مهددة بالخطر، وكان قد قال حين اصابه السهم: اللهم ان كنت ابقيت من حرب قريش شيئاً، فابقني لها، فإنه لا قوم احب إلي من ان اجاهدهم من قوم آذوا رسولك وكذبوه وأخرجوه، اللهم ان كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم، فاجعلها لي شهادة، ولا تمتني حتى تقرّ عيني من بني قريظة. وكان النبي بعد رجوعه من الخندق، امرهم ان يضعوه في خيمة رفيدة في المسجد ليكون قريباً منه، لأنها كانت تعالج الجروح الصعبة وتداوي الجرحى، فلما اختارته قريظة ليكون حكماً بينها وبين النبيّ(ص)، اتاه قومه من الأوس، واحتملوه، وأقبلوا به الى رسول الله، وهم يقولون: يا أبا عمرو، احسن في مواليك، فإن رسول الله انما ولاك ذلك لتحسن فيهم. فلما اكثروا عليه قال: لقد آن لسعد ان لا تأخذه في الله لومة لائم...

ولا شكّ ان النبي(ص) كان يرى فيهم هذا الرأي، ولو كان يحتمل فيهم ان يهادنوا المسلمين ولو احتمالاً خفيفاً، لم يقدم على ما أقدم عليه، لأنه لم يكن يلجأ الى السيف الا لعلاج أخير لا يرى بديلاً عنه، وهو القائل لذة العفو خير من لذة الانتقام، واذا ظفرت في خصمك، فليكن العفو أحلى الظفرين، ولكنه كان يائساً من مهادنتهم للمسلمين مهما صنع معهم من الخير والاحسان.

واذا عفا عنهم اليوم، فسيمثلون معه نفس الدور الذي مثلوه بالأمس، حينما انضموا لأخصامه، كما كان واثقاً من ان سعداً لا يداري ولا يحابي أحداً على حساب الإسلام، ومن سوء طالع بني قريظة، أنهم اختاروا زعيم حلفائهم ليكون حكماً بينهم وبين رسول الله(ص)، وهو الذي جاءهم بالأمس القريب يذكرهم فيما بينه وبينهم من تحالف وتعاون من عشرات السنين، ويخوّفهم عواقب غدرهم ونقضهم للعهد القائم بينهم وبين النبيّ(ص)، ويستعطفهم بأن لا يتعاونوا مع الأحزاب، وأن يقفوا على الحياد، في حين أن المعاهدة بينهم وبين النبيّ تنصّ على التعاون المتبادل لخير الطرفين، فقابلوه بأفحش ما يكون من القول.

وكان لا بدّ لسعد، وهو الذي شهدت له مواقفه في بدر وأحد والخندق وبقية الغزوات بالإخلاص والصلابة في الحق، كان لا ينتظر منه أن يحكم فيهم بغير حكم الله سبحانه، مادام يعتقد أن بقاءهم يهدد الاسلام بأشد الأخطار بعد المراحل التي مر فيها معهم.

ولما انتهى الى النبي، استقبله وقال لمن حوله من الأوس: قوموا الى سيدكم، فقاموا إليه وأنزلوه عن دابته، فلما جلس قالوا: يا أبا عمرو، ان بني قريظة قد حكموك ورضي رسول الله بحكمك فيهم...

وقال ابن هشام في سيرته: ان الذي اضطرهم الى النزول على حكم سعد بن معاذ، هو انهم رأوا علياً(ع) قد هاجمهم ومعه الزبير بن العوام، وهو يقول: لأذوقن ما ذاق عمي حمزة، او لأفتحن حصونهم، فلما رأوه يشتدّ إليهم، اخذهم الخوف والرعب منه، وأيقنوا بالهلاك، وقالوا: يا محمد، رضينا بحكم سعد فينا.

ثم ان رسول الله خرج الى سوق بالمدينة، فحفر بها الخنادق، وقتلهم عن آخرهم ودفنهم فيها، وكان بينهم حيي بن أخطب، وعليه حلة قد شققها من كل ناحية، حتى لا يطمع فيها احد، ويداه مجموعتان الى عنقه، فلما نظر الى رسول الله، قال: والله ما لمت نفسي في عداوتك، ولكنه من يخذل الله يخذل.

ثم التفت الى الناس وقال: أيها الناس، لا بأس بأمر الله كتاب الله وقدر وملحمة كتبت على بني اسرائيل، ثم جلس وضربت عنقه، ولم يقتل من نسائهم الا امرأة واحدة...

قال العقاد في كتابه "العبقريات الإسلامية"، ص 219 طبع دار الفتوح:

إنما دانهم سعد بنص التوراة التي يؤمنون بها، كما جاء في الاصحاح 10 الى 15 من التثنية: حين تقترب من مدينة لكي تحاربها، استدعها الى الصلح، فان اجابتك الى الصلح، وفتحت لك، فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير ويستعبد لك، وان لم تسالمك، بل عملت معك حرباً، فحاصرها، واذا دفعها الربّ إلهك الى يدك، فاضرب جميع ذكورها بحدّ السيف، وأما النساء والأطفال والبهائم وكلّ ما في المدينة، كل غنيمة تفتحها لنفسك، وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك إلهك.

وجاء في الكاشف، ج 6 ص 209، أن هذا النص موجود في التوراة إصحاح 20 من التثنية، لا إصحاح 10 إلى 15. واضاف إلى ذلك ان هذا النص يدلّ بوضوح على اكثر مما حكم به سعد بن معاذ على بني قريظة، لأنّه يقول بصراحة إن استجابت المدينة الى الصلح، فجميع اهلها عبيد مسخرون، وإن ابت، وجب ذبح جميع الذكور بحدّ السيف، المقاتلين منهم وغير المقاتلين، ونهب الأموال وسبي الأطفال والنساء والذراري.

ومضى صاحب الكاشف يقول: وهناك نص آخر في التوراة لم يذكره العقاد، وهو أعظم جوراً من النص الأول، لأنه يأمر بقتل جميع السكان، ولا يستثني النساء والأطفال، كما يأمر بإحراق المدينة بجميع ما فيها، بحيث لا يمكن بناؤها وتجديدها الى الأبد.

فقد جاء في الاصحاح الثالث عشر من التثنية، ما نصه بالحرف الواحد: فضرباً تضرب سكان تلك المدينة بحد السيف، وتحرقها بكلّ ما فيها مع بهائمها بحدّ السيف، وتجمع كلّ أمتعتها الى وسط ساحتها، وتحرق بالنار المدينة، وكلّ أمتعتها كاملة للرب إلهك، فتكون تلاً الى الأبد لا تبنى بعد.

وبعد هذه النصوص التي يدين بها اليهود ويطبقونها على الشعوب في تاريخهم الطويل، تنفيذاً لنصوص توراتهم وكتبهم المقدسة، فيقتلون الرجال، وينهبون الأموال، ويسبون النساء والأطفال، ويحرقون المدن والقرى من كلّ شعب يغتصبونه، ولو لم ينكث لهم عهداً او يعلن عليهم حرباً، فهل بعد تلك النصوص التي وردت في كتبهم المقدَّسة وتلك المعاملة التي يعاملون بها الشعوب التي يسيطرون عليها في ماضيهم وحاضرهم، يكون ظالماً لهم من حكم عليهم بما يدينون به، وعاملهم بما عاملوا به الناس، ولو لم ينقضوا لهم عقداً، أو يعلنوا عليهم حرباً، مع العلم بأنّ النبيّ(ص) لم يقتل احداً منهم الا بعد ان نقضوا العهد الذي أبرمه معهم، وأعلنوا عليه الحرب مع قريش واحلافها الغزاة، وبعد ان اعذر إليهم وأرسل إليهم زعماء احلافهم من الأوس يطلبون إليهم الالتزام بالعهود والمواثيق التي أابرموها مع النبيّ(ص)، فقابلوهم بشتم الاسلام ونبي الاسلام، وبعد ان اختاروا سعداً ليحكم عليهم بما يستحقون، وقد اتفقت جميع الشرائع السماوية والوضعية على ان من دان بدين لزمته احكامه، وهنا يكمن السر في قول الرسول الأعظم(ص) لسعد بن معاذ: حكمت فيهم بحكم الله من سبعة ارقعة...

وبمناسبة موقف بني قريظة من النبيّ(ص) وما أصابهم بعد ذلك، قال الله سبحانه:

{وأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وتَأْسِرُونَ فَرِيقاً* وأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ ودِيارَهُمْ وأَمْوالَهُمْ وأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وكانَ الله عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيراً (الأحزاب: 26- 27).

وبعد أن نفذ رسول الله حكم سعد في بني قريظة، توفي سعد بن معاذ، فلما أخبر رسول الله بوفاته، قام يجرّ ثوبه الى المسجد فوجده ميتاً.

وجاء في بعض المرويات أنه قال: والذي نفسي بيده، لقد استبشرت الملائكة بروح سعد، ولما صلّى عليه ودفنه، قال: إن للقبر لضغطة لو كان أحد ناجياً منها، لنجا سعد بن معاذ، وأكثر من الترحم عليه وعلى من مضى ممن صدقوا ما عاهدوا عليه الله ورسوله.

ولما سمع أمّه تندبه وتنوح عليه ونسوة من الأنصار، قال: كل نائحة تكذب إلا نائحة سعد بن معاذ.

*من كتاب "سيرة المصطفى".

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية