قال المفيد: روى الكلبي والمدائني وغيرهما من أصحاب السيرة، قالوا: لما مات الحسن (عليه السلام)، تحركت الشيعة بالعراق، وكتبوا إلى الحسين (عليه السلام) في خلع معاوية والبيعة له، فامتنع عليهم، وذكر أن بينه وبين معاوية عهداً وعقداً لا يجوز له نقضه حتى تمضي المدة، فإذا مات معاوية نظر في ذلك .
فلما مات معاوية منتصف رجب سنة ستين من الهجرة، وتخلف بعده ولده يزيد، وكان الوالي في ذلك الوقت على المدينة الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، وعلى مكّة عمرو بن سعيد بن العاص المعروف بالأشدق من بني أمية، وعلى الكوفة النعمان بن بشير الأنصاري، وعلى البصرة عبيد الله بن زياد .
كتب يزيد إلى ابن عمه الوليد بن عتبة والي المدينة مع مولى لمعاوية يقال له ابن أبي زريق، يأمره بأخذ البيعة على أهلها، وخاصة على الحسين (عليه السلام)، ولا يرخص له في التأخر عن ذلك، ويقول إن أبى عليك فاضرب عنقه وابعث إليَّ برأسه .
وكان معاوية قبل وفاته قد حذَّر يزيد من أربعة: الحسين بن عليّ، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمر، وعبد الرحمن بن أبي بكر، ولا سيّما من الحسين وابن الزبير. أما ابن الزبير، فهرب إلى مكة على طريق الفرع هو وأخوه جعفر، ليس معهما ثالث، وأرسل الوليد خلفه أحداً وثمانين راكباً، فلم يدركوه وكان ابن عمر بمكة .
وأما الحسين (عليه السلام)، فأحضر الوليد مروان بن الحكم واستشاره في أمره؛ فقال إنه لا يقبل، ولو كنت مكانك لضربت عنقه، فقال الوليد: ليتني لم أك شيئاً مذكوراً. ثم بعث إلى الحسين (عليه السلام) في الليل، فاستدعاه، فعرف الحسين (عليه السلام) الذي أراد، فدعا بجماعة من أهل بيته ومواليه، وكانوا ثلاثين رجلاً، وأمرهم بحمل السلاح، وقال لهم إن الوليد قد استدعاني في هذا الوقت، ولست آمن أن يكلفني فيه أمراً لا أجيبه إليه، وهو غير مأمون، فكونوا معي، فإذا دخلت، فاجلسوا على الباب، فإن سمعتم صوتي قد علا، فادخلوا عليه لتمنعوه عني.
فصار الحسين (عليه السلام) إلى الوليد، فوجد عنده مروان بن الحكم، فنعى إليه الوليد معاوية، فاسترجع الحسين (عليه السلام)، ثم قرأ عليه كتاب يزيد وما أمره فيه من أخذ البيعة منه ليزيد، فلم يرد الحسين (عليه السلام) أن يصارحه بالامتناع من البيعة، وأراد التخلص منه بوجه سلميّ، فورى عن مراده وقال: إني أراك لا تقنع ببيعتي سراً حتى أبايعه جهراً، فيعرف ذلك الناس، فقال له الوليد أجل، فقال الحسين (عليه السلام): تصبح وترى رأيك في ذلك. فقال له الوليد: انصرف على اسم الله حتى تأتينا مع جماعة الناس، فقال له مروان: والله لئن فارقك الحسين الساعة ولم يبايع، لا قدرت منه على مثلها أبداً حتى تكثر القتلى بينكم وبينه، ولكن احبس الرجل، فلا يخرج من عندك حتى يبايع أو تضرب عنقه.
فلما سمع الحسين (عليه السلام) هذه المجابهة القاسية من مروان الوزع ابن الوزع، صارحهما حينئذ بالامتناع من البيعة، وأنه لا يمكن أن يبايع ليزيد أبداً، فوثب الحسين (عليه السلام) عند ذلك وقال لمروان: ويلي عليك يابن الزرقاء، أنت تأمر بضرب عنقي؟ كذبت والله ولؤمت. ثم أقبل على الوليد فقال: "أيها الأمير، إنّا أهل بيت النبوّة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، بنا فتح الله وبنا ختم، ويزيد فاسق شارب الخمر قاتل النفس المحترمة معلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله، ولكن نصبح وتصبحون، وننظر وتنظرون أيّنا أحقّ بالخلافة والبيعة"، ثم خرج يتهادى بين مواليه، وهو يتمثّل بقول يزيد بن المفرع :
لا ذعرت السوام في غسق الصبح مغيراً ولا دعيت يزيد
يوم أعطي مخافة الموت ضيماً والمنايا يرصدنني أن أحيد
حتى أتى منزله، وقيل إنه أنشدهما لما خرج من المسجد الحرام متوجّهاً إلى العراق، وقيل غير ذلك، فقال مروان للوليد: عصيتني، لا والله لا يمكنك مثلها من نفسه أبداً. فقال له الوليد: ويحك، إنك أشرت عليّ بذهاب ديني ودنياي، والله ما أحبّ أن أملك الدنيا بأسرها وإني قتلت حسيناً. سبحان الله! أقتل حسيناً لما أن قال لا أبايع، والله ما أظن أحداً يلقى الله بدم الحسين إلا وهو خفيف الميزان، لا ينظر الله إليه يوم القيامة،ولا يزكيه، وله عذاب أليم .
فقال مروان: فإذا كان هذا رأيك، فقد أصبت فيما صنعت. يقول هذا وهو غير حامد له على رأيه. قال المؤرخون: وكان الوليد يحبّ العافية .
والحقيقة، أنه كان متورعاً عن أن ينال الحسين (عليه السلام) منه سوء، لمعرفته بمكانته، لا مجرّد حبّ العافية.
ولما بلغ يزيد ما صنع الوليد، عزله عن المدينة، وولاها عمرو بن سعيد بن العاص الأشدق، فقدمها في رمضان .
وأقام الحسين (عليه السلام) في منزله تلك الليلة، وهي ليلة السبت لثلاثٍ بقين من رجب سنة ستين، فلما أصبح، خرج من منزله يستمع الأخبار، فلقيه مروان، فقال له: يا أبا عبد الله، إني لك ناصح، فأطعني ترشد، فقال الحسين (عليه السلام): وما ذاك؟ قل حتى أسمع. فقال مروان: إني آمرك ببيعة يزيد بن معاوية، فإنه خير لك في دينك ودنياك. فقال الحسين (عليه السلام): "إنّا لله وإنّا إليه راجعون، وعلى الإسلام السلام إذ قد بليت الأمّة براع مثل يزيد" .
وطال الحديث بينه وبين مروان، حتى انصرف وهو غضبان، فلما كان آخر نهار السبت، بعث الوليد الرجال إلى الحسين (عليه السلام) ليحضر فيبايع، فقال لهم الحسين (عليه السلام): "أصبحوا، ثم ترون ونرى". فكفّوا تلك الليلة عنه، ولم يلحّوا عليه، فخرج في تلك الليلة، وقيل في غداتها، وهي ليلة الأحد، ليومين بقيا من رجب متوجّهاً نحو مكّة .
ولما علم ابن الحنفية عزمه على الخروج من المدينة، لم يدر أين يتوجّه، فقال له: "يا أخي، أنت أحبّ الناس إليَّ وأعزّهم عليَّ، ولست والله أدّخر النصيحة لأحد من الخلق، وليس أحد من الخلق أحق بها منك، لأنك مزاج مائي ونفسي وروحي وبصري، وكبير أهل بيتي، ومن وجبت طاعته في عنقي، لأن الله قد شرَّفك عليّ، وجعلك من سادات أهل الجنة. تنحّ ببيعتك عن يزيد وعن الأمصار ما استطعت، ثم ابعث رسلك إلى الناس، فادعهم إلى نفسك، فان تابعك الناس وبايعوا لك، حمدت الله على ذلك، وإن اجتمع الناس على غيرك، لم ينقص الله بذلك دينك ولا عقلك، ولا تذهب به مروءتك ولا فضلك، وإني أخاف عليك أن تدخل مصراً من هذه الأمصار، فيختلف الناس بينهم، فمنهم طائفة معك وأخرى عليك، فيقتتلون، فتكون لأوّل الأسنة غرضاً، فإذا خير هذه الأمة كلها نفساً وأباً وأمّاً، أضعيها دماً، وأذلّها أهلاً".
فقال له الحسين (عليه السلام):"فأين أذهب يا أخي؟"، قال: "تخرج إلى مكّة، فإن اطمأنت بك الدار بها فذاك، وإن تكن الأخرى، خرجت إلى بلاد اليمن، فإنهم أنصار جدّك وأبيك، وهم أرأف الناس وأرقّهم قلوباً، وأوسع الناس بلاداً، فإن اطمانّت بك الدّار، وإلا لحقت بالرمال وشعف الجبال، وجزت من بلد إلى بلد، حتى تنظر ما يؤول إليه أمر الناس، ويحكم الله بيننا وبين القوم الفاسقين، فإنك أصوب ما تكون رأياً حين تستقبل الأمر استقبالاً". فقال الحسين (عليه السلام): "يا أخي، والله لو لم يكن في الدنيا ملجأ ولا مأوى، لما بايعت يزيد بن معاوية ". فقطع محمد بن الحنفية عليه الكلام وبكى، فبكى الحسين (عليه السلام) معه ساعة، ثم قال: "يا أخي، جزاك الله خيراً، فقد نصحت وأشفقت، وأرجو أن يكون رأيك سديداً موفّقاً، وأنا عازم على الخروج إلى مكّة، وقد تهيأت لذلك أنا وإخوتي وبنو أخي وشيعتي، أمرهم أمري، ورأيهم رأيي، وأما أنت يا أخي، فلا عليك أن تقيم بالمدينة، فتكون لي عيناً عليهم، لا تخفي عني شيئاً من أمورهم" .
وأقبلت نساء بني عبد المطلب، فاجتمعن للنياحة لما بلغهنّ أن الحسين (عليه السلام) يريد الشخوص من المدينة، حتى مشى فيهن الحسين (عليه السلام)، فقال: "أنشدكنّ الله أن تبدين هذا الأمر معصية لله ولرسوله". قالت له نساء بني عبد المطلب: فلمن نستبقي النياحة والبكاء، فهو عندنا كيوم مات فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعليّ وفاطمة والحسن ورقية وزينب وأمّ كلثوم، جعلنا الله فداك من الموت يا حبيب الأبرار من أهل القبور .
ولما عزم الحسين (عليه السلام) على الخروج من المدينة، مضى في جوف اللّيل إلى قبر أمّه، فودّعها، ثم مضى إلى قبر أخيه الحسن (عليه السلام)، ففعل كذلك، وخرج معه بنو أخيه وإخوته، وجلّ أهل بيته، إلا محمد بن الحنفية وعبد الله بن جعفر .
وخرج (عليه السلام) من المدينة في جوف اللّيل، وهو يقرأ، فخرج منها خائفاً يترقّب، قال ربّ نجني من القوم الظالمين. ولزم الطريق الأعظم، فقال له أهل بيته: لو تنكبت الطريق الأعظم كما فعل ابن الزبير كيلا يلحقك الطلب، فقال: "لا والله، لا أفارقه حتى يقضي الله ما هو قاض". فلقيه عبد الله ابن مطيع، فقال له: جعلت فداك، أين تريد؟ قال: أما الآن فمكّة، وأما بعد، فإني أستخير الله. قال: خار الله لك وجعلنا فداك، فإذا أتيت مكة، فإياك أن تقرب الكوفة، فإنها بلدة مشؤومة، بها قُتِل أبوك، وخُذِل أخوك، واغتيل بطعنة كادت تأتي على نفسه. الزم الحرم، فأنت سيد العرب، لا يعدل بك أهل الحجاز أحداً، ويتداعى إليك الناس من كلّ جانب، لا تفارق الحرم، فداك عمي وخالي، فوالله لئن هلكت لنسترقنّ بعدك .
وكان دخوله (عليه السلام) إلى مكة يوم الجمعة، لثلاثٍ مضين من شعبان، فيكون مقامه في الطريق نحواً من خمسة أيام، لأنه خرج من المدينة لليلتين بقيتا من رجب كما مرّ .
ودخلها وهو يقرأ: {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} [القصص: 22]، فأقام بمكة باقي شعبان وشهر رمضان وشوالاً وذا القعدة وثماني ليال من ذي الحجّة. وأقبل أهل مكة ومن كان بها من المعتمرين وأهل الآفاق يختلفون إليه، وابن الزبير بها، قد لزم جانب الكعبة، فهو قائم يصلي عندها عامّة النهار، ويطوف ويأتي الحسين (عليه السلام) فيمن يأتيه اليومين المتواليين، وبين كلّ يوم مرة ولايزال يشير عليه بالرأي، وهو أثقل خلق الله على ابن الزبير، لأنه قد علم أنّ أهل الحجاز لا يبايعونه مادام الحسين (عليه السلام) باقياً في البلد، وأن الحسين (عليه السلام) أطوع في الناس منه وأجلّ.
*من كتاب "أعيان الشيعة"، ج2، ص401-404.