بعد هجرة رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى المدينة، وتثبيته دعائم الدولة الإسلامية الوليدة، بدأ يخطِّط للقضاء على عنفوان قريش ومنابع قوتها المادية المتمثلة بالتجارة، فكان خروجه لغزوة بدر من أجل القول للمشركين بأنهم باتوا تحت تهديد المسلمين، ولم يعودوا أحراراً في حركتهم. وهكذا، خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومعه أصحابه للسّيطرة على القافلة التجارية التي كان يقودها أبو سفيان، فعلم أبو سفيان بخُطّة المسلمين، فغيّر طريقه، وأرسل إلى مكّة يطلب النجدة من قريش، فخرجت قريش لقتال رسول الله (صلى الله عليه وآله).
وفي 17 شهر رمضان من العام ۲ﻫ، خرج المسلمون، وعلى رأسهم رسول الله، إلى منطقة بدر ـ وبدر اسم بئر كانت لرجل يدعى بدراً ـ في ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً، ومعهم سبعون بعيراً، وفرسان؛ أحدهما للزبير بن العوام، والآخر للمقداد بن الأسود. وخرجت قريش في تسعمائة وخمسين مقاتلاً، ومعهم سبعمائة بعير، ومائتا فرس. وكانت هذه المعركة أولى معارك المسلمين مع أهل الشرك، حيث أثبت المسلمون بقيادة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، حنكتهم العسكرية والتكتيكية، والأهم، إرادتهم في قهر الشرك وإعلاء راية التوحيد في العالم.
وعن محمّد بن الحنفية قال: "بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله) عليّاً في غزوة بدر أن يأتيه بالماء، حين سكت أصحابه عن إيراده، فلمّا أتى القليب وملأ القربة وأخرجها، جاءت ريح فهراقته، ثمّ عاد إلى القليب فملأها، فجاءت ريح فهراقته، وهكذا في الثالثة، فلمّا كانت الرابعة، ملأها، فأتى بها النبي (صلى الله عليه وآله) وأخبره بخبره.
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): أمّا الريح الأُولى فجبرائيل في ألف من الملائكة سلّموا عليك، والريح الثانية ميكائيل في ألف من الملائكة سلّموا عليك، والريح الثالثة إسرافيل في ألف من الملائكة سلّموا عليك".
وقد تجلّت العناية الإلهية بالنبي (صلى الله عليه وآله) وأصحابه منذ ليلة المعركة، إذ بعث الله المطر الغزير، والمسلمون يغشاهم النعاس، كما في قوله تعالى: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ * إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الّذِينَ كَفَرُواْ الرّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلّ بَنَانٍ}.
خرج عتبة بن ربيعة وأخوه شيبة والوليد بن شيبة إلى ساحة المعركة، وقال: يا محمّد، أخرج إلينا أكفّاءنا من قريش، فنظر رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى عبيدة بن الحارث بن عبد المطّلب ـ وكان له يومئذٍ سبعون سنة ـ فقال: "قم يا عبيدة"، ونظر إلى حمزة فقال: "قم يا عمّ"، ثمّ نظر إلى الإمام عليّ (عليه السلام) فقال: "قم يا عليّ ـ وكان أصغر القوم ـ فاطلبوا بحقّكم الذي جعله الله لكم، فقد جاءت قريش بخيلائها وفخرها، تريد أن تطفئ نور الله، ويأبى الله إلّا أن يتمّ نوره".
ثمّ قال: "يا عبيدة، عليك بعتبة بن ربيعة"، وقال لحمزة: "عليك بشيبة"، وقال لعليّ (عليه السلام): "عليك بالوليد".
أمر رسول الله عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب وحمزة بن عبد المطلب وعليّاً (عليه السَّلام) ليبارزوهم، فاتجه هؤلاء المجاهدون الشجعان الثلاثة إلى ساحة الحرب، وعرّفوا أنفسهم، فقبلوهم للمبارزة، وقالوا: إنّهم أكفاء كرام.
تواجه من بين هؤلاء الثلاثة حمزة مع شيبة، وعبيدة مع عتبة، وعليّ (وكان أصغرهم) مع الوليد خال معاوية، وبدأت المبارزة. قتل عليٌّ وحمزة قرينيهما، بينما كان القتال مستمراً بين عبيدة وعتبة، ولم ينتصر أحد منهما على الآخر، ولهذا انطلق عليّ وحمزة بعد قتل صاحبيهما لمساعدة عبيدة، وقضوا على عتبة أيضاً.
وقد كتب عليّ في إحدى رسائله إلى معاوية، مشيراً إلى هذا الحدث: "وعندي السيف الذي أعضضته بجدّك وخالك وأخيك في مقام واحد".
قال الإمام الباقر (عليه السلام) عن شجاعة عليّ (عليه السلام) يوم بدر: "نادى مُنادٍ في السماء يوم بدر يقال له رضوان: لا سيف إلّا ذو الفقار، ولا فتى إلّا عليّ".
استشهد من المسلمين يوم بدر أربعة عشر رجلاً، وقتل من المشركين في معركة بدر اثنان وخمسون رجلاً، قتل الإمام عليّ (عليه السلام) منهم مع الّذين شرك في قتلهم أربعة وعشرين رجلاً.
قال الشّاعر حسّان بن ثابت بهذه المناسبة:
يناديهم رسول الله لمّا قذفناهم كباكب في القليب
ألم تجدوا حديثي كان حقّاً وأمر الله يأخذ بالقلوب
فما نطقوا ولو نطقوا لقالوا صدقت وكنت ذا رأي مصيب
هذا النصر المبين المؤيّد بتسديد الله تعالى لعباده المؤمنين، شكّل انعطافة تاريخية مهمّة في مسيرة الإسلام والمسلمين في الجزيرة العربيّة، وتالياً على مستوى المنطقة. فلقد تسلح المسلمون بالإرادة الصّلبة، والإصرار على قهر الشرك ونشر الإيمان والتوحيد، على الرغم من الإمكانات المتواضعة التي كانت لديهم، فهم بامتثالهم لحكمة قيادتهم، وباستقامتهم على دينهم وتمسّكهم بإيمانهم وبصبرهم وتوكّلهم على الله وجهادهم في سبيله وابتغاء مرضاته، استطاعوا أن يسجّلوا نصراً عزيزاً شريفاً أذلّوا به الكفر والنفاق، وأعزّوا به الحقّ وأهله.
وبهذه المناسبة التاريخية المشرّفة، لا بد للمسلمين من أخذ العبرة والدّرس من معركة بدر، وتقوية إرادتهم، والتمسّك بالحقّ ونصرته، والمثابرة والتضحية والمواجهة السّليمة في سبيل الله، حتى يحصلوا على النتائج المرجوّة.
إنّ الآراء الواردة في هذا المقال، لا تعبّر بالضّرورة عن رأي الموقع، وإنّما عن وجهة نظر صاحبها.