مرّة جديدة نتوقّف مع الأسلوب القرآنيّ المميّز في ذكره للقصص الّتي تحوي قضايا مثيرة ومعبِّرة عن واقعٍ ما، من أجل تحريك الفكر والشعور، واستخلاص الدروس والعِبَر، وتقديم الخُلاصات والحِكَم، من أجل تربية الإنسان وإرشاده، وتنمية روحه وعقله في الخطّ التّوحيديّ الخالص الّذي يبتغي رضوان الله، ويسعى إلى مواطن عبادته ورضوانه.
يقول الله تعالى في محكم كتابه العزيز: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ* مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ* سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ* وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ* فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ}[المسد: 1-5]..
و"تبّت" هنا كناية عن خلوِّ اليدين وفراغهما، ويتّسع المعنى ليشمل كلّ ما يجلبه الإنسان لنفسه من خير من كلّ ما يحقّق له الرّبح والنجاة والنجاح، لأنّ الله تعالى ـ والكلام لسماحة المفسِّر السيّد محمد حسين فضل الله(رض) ـ قد جرّده من كلّ ذلك من جهة كفره وعناده وغلوّه في عداوته للرّسول والرّسالة، ما جعل يديه خاسرتين في النتائج الطيّبة في الحياة، كما جعله خاسراً من سلامة مصيره في الآخرة... [تفسير من وحي القرآن، ج24، ص: 477].
وعن الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء، أنّه خصّ اليدين بالثّبات، لأنّ العمل أكثر ما يكون بهما، أي خسرتا وخسر هو، وقيل المراد باليدين نفسه، وقد يعبّر عن النّفس باليد، كما قال الله تعالى: {بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ}[الحجّ: 10]، أي نفسك، وهذا كلام العرب، تعبّر ببعض الشّيء عن كلّه، تقول: أصابته يد الدّهر، ويد الرّزايا والمنايا، أي أصابه كلّ ذلك، قال الشّاعر: "لما أكبّت يد الرّزايا عليه نادى ألا مجير".
كان أبو لهب بن عبد المطّلب، واسمه عبد العزّى، عمَّ النبيّ(ص)، وامرأته أمّ جميل بنت خصر، عدوّين لدودين للرّسول الأكرم(ص)، بالرّغم من القرابة القريبة الّتي تربطه بهما، وقد انضمّا إلى قريش في حربها ضدّ الرّسول(ص)، وكان معهم في الصّحيفة الّتي كتبوها بمقاطعة بني هاشم، كي يسلّموا لهم محمداً(ص).
وحول هذه النّقطة، يعلّق سماحة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله(رض)، فيقول: والواقع أنّنا لا نملك تفسيراً لذلك في هذه العقدة المستحكمة في هذا الرّجل، لأنّنا لا نستطيع إرجاعها إلى شِرْكِه العقيدي والعبادي، لأنّ بني هاشم لم يكونوا قد دخلوا في الإسلام جميعاً في بداية الدّعوة، بل كانت لهم عاطفة الرّحم وعصبيّة العشيرة، وإن لم تكن لهم روحيّة الإسلام.
فهل تكون امرأته معقّدة من النبي(ص) بفعل بعض الحساسيّات والتعقيدات المرضيّ،ة من خلال قرابتها لأبي سفيان، لأنها أخته، فكان لها تأثير كبير فيه، كما يحدث لبعض الرّجال الذين يخضعون ـ عاطفيّاً ـ لزوجاتهم اللاتي قد يعشن العقدة ضدّ بعض أهاليهم، فيعقّدون الرّجال منهم؟
وهل يكون لوضعه الماليّ المميّز الّذي يوحي به القرآن في قوله تعالى: {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} دخلٌ في هذا الموقف، باعتبار إخلاصه لموقعه الطبقيّ الّذي يضمّ كلّ أصحاب الأموال المترفين الّذين كانوا في طليعة المعادين للرّسالة وللرّسول في كلّ مواقفهم العدوانيّة؟ [تفسير من وحي القرآن، ج24، ص:474].
وعن طارق بن عبدالله المحاربي أنَّه قال: "إنّي بسوق ذي المجاز، إذ أنا بإنسان يقول: "يا أيّها النَّاس، قولوا لا إله إلا الله تفلحوا"، وإذ برجل خلفه يرميه، قد أدمى ساقيه وعرقوبيه، ويقول: يا أيّها النّاس، إنّه كذّاب فلا تصدّقوه. فقلت: مَن هذا؟ قالوا: محمّد، زعم أنّه نبيّ.. وهذا عمّه أبو لهب يزعم أنّه كذّاب".
إنّ العقل والشّرع يرفضان أيّة قرابة لا تأخذ في الاعتبار الانتماء الخالص والأصيل لخطّ التّوحيد وروح التّشريع الّذي يبني الإنسان والحياة، حتّى لو كانت صلة القربى مع صاحب الرّسالة، فأبو لهب المشرك لن يحصل على أيّ شفاعة وامتياز من قرابته للرّسول(ص) يوم يُعرض على ربّه، بل نال اللّعنة في الدّنيا والآخرة على سوء أعماله.
ومن وحي ذلك، يقول سماحته(رض): "وقد نجد في هذه السّورة تأكيداً للقيمة الإسلاميّة الرّافضة للقرابة إذا كانت منفصلة عن الانتماء الإسلاميّ، حتّى لو كانت متّصلة بالنبيّ(ص) بأوثق الصّلات، فإنّ أبا لهب الكافر المشرك لم يحصل من قرابته للنبيّ على أيّ امتياز، بعد أن كان عدوّاً لله ورسوله، بل كانت المسألة ضدّ الامتياز، فقد ذكره القرآن بالذمّ والتّحقير، ولم يذكر أحداً من المشركين غيره، تأكيداً للرّفض الإسلاميّ له بالمستوى الّذي يفوق رفضه للآخرين من المشركين، لأنّ النّسب قد أضاف إلى جريمته جريمةً، باعتباره الأعرف بالرّسول، فكيف يتنكّر له ولرسالته؟.. [تفسير من وحي القرآن، ج24، ص:475].
ويبقى العمل هو الصّحيفة الّتي تقدَّم بين يدي الله تعالى، وبها يخطّ المرء مصيره، بعيداً عن أيّ اعتبارات أخرى مهما كانت.
إن الآراء الواردة في هذا المقال لا تعبِّر بالضرورة عن رأي الموقع ، وإنما عن رأي صاحبه .