في سورة النّور، يقول تعالى: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا}.
هذا هو العنوان الكبير الذي يقدّمه المؤمنون أمام الناس، عندما يعلنون انتماءهم الفكري إلى الإسلام، وهو ما نصطلح عليه بــ (الخطّ الفكري)، ثم عندما تتحرَّك التجربة في الواقع {ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ}، يعرضون وينحرفون ويتحدّثون بطريقة أخرى، أو يتحرّكون بخطّ آخر، وقد يكون كما قال تعالى: {وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ}[النور: 47]، لأنَّ المؤمن هو الذي يتحرّك في خطّه العملي وفي امتدادات خطّه الفكري، بحيث لا يكون هناك أيّ فاصل بين منطق الفكرة ومنطق العمل.
فهؤلاء مؤمنون بالشَّكل فقط، في حين أنّ مسألة الإيمان هي مسألة تتّصل بالعمق؛ عمق الاقتناع في عقلك، وعمق الإحساس في شعورك، وعمق الحركة في اتجاهاتك. {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ}، عندما يواجهون الواقع، فيما هو الحقّ وما هو الباطل، وقيل لهم إنَّكم مؤمنون، والمؤمن لا بدَّ أن يرجع إلى الله وإلى رسوله، لأنَّ الله تعالى يقول: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ}[النساء: 59]، تعالوا إلى الله والرسول ليحكم بينكم {إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ}[النّور: 48]، لا ينفتحون على هذه الدَّعوة، ولا يستجيبون لله ولرسوله، ولا يحكّمون الله ورسوله، بل يحكِّمون الطاغوت الذي يتحرّك في غير خطِّ الله ورسوله {وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ}، يأتوا إليه ويظهروا الإذعان والتسليم، لا من موقع الإيمان، بل من موقع معرفتهم بأنَّ الحقّ لهم، ما يجعل الإذعان إذعاناً بالمصلحة للذَّات لا بالحقّ في الإيمان.
أمّا عندما يحدث الخلاف بيننا وبين فريق آخر، وعندما تندلع مشكلة، فحينئذٍ يُسأل المختصّون: ما هو الحكم الَّذي يمكن أن يصدر في هذه القضية؟ فإذا رأوا أنَّ الحكم الذي سيصدر ينسجم مع مصالحهم، جاؤوا إلى ساحة حكم الله ورسوله، وأعلنوا حماسهم له وتقبلهم له، أمَّا إذا رأوا أنّ الحكم لن يكون لصالحهم، بل لصالح خصمهم، رفضوا ذلك {وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ}[النور: 49].
{أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ}؟ هل كانوا منافقين عندما أعلنوا إيمانهم، فكانوا يعلنون الإيمان ويبطنون الكفر؟ والنفاق ـــ كما هو معلوم ـــ مرض، وهو أن تعيش حياتك في شخصية مزدوجة، فشخصيتك المعلنة تمثّل خطاً، وشخصيتك الخفيّة تمثّل خطاً آخر {فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضاً}، إنّه المرض العقلي والمرض النفسي والمرض الشعوري والمرض العملي {أَمِ ارْتَابُوا}، شكّوا بالحق بعدما كانوا يؤمون به {أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ}، يخافون أن يظلمهم الله، ولم يسألوا أنفسهم لماذا يظلم الله الناس؟ إنّ الذي يظلم، كما جاء في دعاء زين العابدين (ع)، هو الضعيف، من يأكل مالك بغير حقّ، ومن يضربك بغير حقّ، ومن يتّهمك بغير حقّ، ومن يسبّك بغير حقّ، فهو لا ينطلق من موقع قوّة، وإنّما ينطلق من موقع ضعف، ذلك لأنّ ضعف موقفه وضعف حجّته التي يدافع عنها تفرض عليه أن يهرب إلى الإمام، فيظلمك وينتهك حرمتك "وإنّما يحتاج إلى الظّلم الضّعيف، وقد تعاليت يا إلهي عن ذلك علوّاً كبيراً" .
{بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}[النّور: 50] الَّذين ظلموا أنفسهم، وظلموا الحقيقة، وظلموا الإنسان والحياة كلّها. وهذا تعبير قرآني يعبّر به عن المنحرفين بأنّهم الظالمون، لأنَّ الإنسان المنحرف لا يظلم نفسه عندما ينحرف بها عن الخطّ المستقيم، ولكنّه يظلم الناس عندما يحرّك الخطّ المنحرف ليحكم حياتهم، ويظلم الحياة عندما يبتعد بها عن خطِّ الاستقامة التي يبني لها قوَّتها وثباتها وانطلاقها وانفتاحها. {بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} الذين ظلموا ربّهم بالمعصية، لأنَّ من حقّ الله أن يُطاع ولا يُعصى، وظلموا أنفسهم فاستحقّوا غضب الله وسخطه، وظلموا الإنسان من حولهم عندما حرّكوا في حياته الانحراف، وظلموا الحياة عندما أبعدوها عن خطِّ الاستقامة. ثم يقول الله سبحانه وتعالى بأنَّ هذا النموذج هو نموذج الناس الظالمين لأنفسهم وللناس.
غير أنَّ هناك المؤمن الحق الذي ينطلق من قاعدة واحدة ويسير في خطّ واحد، المؤمن الذي لا يعيش الازدواجيَّة بين ما هو فكره وبين ما هو عليه، لا يعيش الازدواجيَّة والاهتزاز بين ما يعلنه للناس وما يعيشه في نفسه. إنَّ المؤمن واحدٌ ينطلق في خطّ واحد، ويؤمن بإله واحد، ويتحرّك في الحياة من خلال وحدة الفكر والقلب والحركة والاتجاه.
{إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا}، لأنّهم آمنوا بالله، وانطلق إيمانهم ليحكم كلَّ وجدانهم، وليتحرّك في كلِّ حياتهم. وعندما آمنوا بالرسول، عرفوا أنّه هو الذي يمثِّل وحي الله بكلِّ صدق وبكلِّ عصمة. ولذلك، عندما آمنوا بالقاعدة، تحرّكوا بشكل عفوي وطبيعيّ لا يحتاج إلى المزيد من الفكر، تحرّكوا في الخطّ المستقيم، وأولئك هم الذين يطابق قولهم فعلهم، ويطابق إيمانهم العلني إيمانهم الباطني، الداخلي، الفكري، {وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[النّور: 51].
*من كتاب "النَّدوة"، ج 2.
في سورة النّور، يقول تعالى: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا}.
هذا هو العنوان الكبير الذي يقدّمه المؤمنون أمام الناس، عندما يعلنون انتماءهم الفكري إلى الإسلام، وهو ما نصطلح عليه بــ (الخطّ الفكري)، ثم عندما تتحرَّك التجربة في الواقع {ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ}، يعرضون وينحرفون ويتحدّثون بطريقة أخرى، أو يتحرّكون بخطّ آخر، وقد يكون كما قال تعالى: {وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ}[النور: 47]، لأنَّ المؤمن هو الذي يتحرّك في خطّه العملي وفي امتدادات خطّه الفكري، بحيث لا يكون هناك أيّ فاصل بين منطق الفكرة ومنطق العمل.
فهؤلاء مؤمنون بالشَّكل فقط، في حين أنّ مسألة الإيمان هي مسألة تتّصل بالعمق؛ عمق الاقتناع في عقلك، وعمق الإحساس في شعورك، وعمق الحركة في اتجاهاتك. {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ}، عندما يواجهون الواقع، فيما هو الحقّ وما هو الباطل، وقيل لهم إنَّكم مؤمنون، والمؤمن لا بدَّ أن يرجع إلى الله وإلى رسوله، لأنَّ الله تعالى يقول: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ}[النساء: 59]، تعالوا إلى الله والرسول ليحكم بينكم {إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ}[النّور: 48]، لا ينفتحون على هذه الدَّعوة، ولا يستجيبون لله ولرسوله، ولا يحكّمون الله ورسوله، بل يحكِّمون الطاغوت الذي يتحرّك في غير خطِّ الله ورسوله {وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ}، يأتوا إليه ويظهروا الإذعان والتسليم، لا من موقع الإيمان، بل من موقع معرفتهم بأنَّ الحقّ لهم، ما يجعل الإذعان إذعاناً بالمصلحة للذَّات لا بالحقّ في الإيمان.
أمّا عندما يحدث الخلاف بيننا وبين فريق آخر، وعندما تندلع مشكلة، فحينئذٍ يُسأل المختصّون: ما هو الحكم الَّذي يمكن أن يصدر في هذه القضية؟ فإذا رأوا أنَّ الحكم الذي سيصدر ينسجم مع مصالحهم، جاؤوا إلى ساحة حكم الله ورسوله، وأعلنوا حماسهم له وتقبلهم له، أمَّا إذا رأوا أنّ الحكم لن يكون لصالحهم، بل لصالح خصمهم، رفضوا ذلك {وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ}[النور: 49].
{أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ}؟ هل كانوا منافقين عندما أعلنوا إيمانهم، فكانوا يعلنون الإيمان ويبطنون الكفر؟ والنفاق ـــ كما هو معلوم ـــ مرض، وهو أن تعيش حياتك في شخصية مزدوجة، فشخصيتك المعلنة تمثّل خطاً، وشخصيتك الخفيّة تمثّل خطاً آخر {فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضاً}، إنّه المرض العقلي والمرض النفسي والمرض الشعوري والمرض العملي {أَمِ ارْتَابُوا}، شكّوا بالحق بعدما كانوا يؤمون به {أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ}، يخافون أن يظلمهم الله، ولم يسألوا أنفسهم لماذا يظلم الله الناس؟ إنّ الذي يظلم، كما جاء في دعاء زين العابدين (ع)، هو الضعيف، من يأكل مالك بغير حقّ، ومن يضربك بغير حقّ، ومن يتّهمك بغير حقّ، ومن يسبّك بغير حقّ، فهو لا ينطلق من موقع قوّة، وإنّما ينطلق من موقع ضعف، ذلك لأنّ ضعف موقفه وضعف حجّته التي يدافع عنها تفرض عليه أن يهرب إلى الإمام، فيظلمك وينتهك حرمتك "وإنّما يحتاج إلى الظّلم الضّعيف، وقد تعاليت يا إلهي عن ذلك علوّاً كبيراً" .
{بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}[النّور: 50] الَّذين ظلموا أنفسهم، وظلموا الحقيقة، وظلموا الإنسان والحياة كلّها. وهذا تعبير قرآني يعبّر به عن المنحرفين بأنّهم الظالمون، لأنَّ الإنسان المنحرف لا يظلم نفسه عندما ينحرف بها عن الخطّ المستقيم، ولكنّه يظلم الناس عندما يحرّك الخطّ المنحرف ليحكم حياتهم، ويظلم الحياة عندما يبتعد بها عن خطِّ الاستقامة التي يبني لها قوَّتها وثباتها وانطلاقها وانفتاحها. {بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} الذين ظلموا ربّهم بالمعصية، لأنَّ من حقّ الله أن يُطاع ولا يُعصى، وظلموا أنفسهم فاستحقّوا غضب الله وسخطه، وظلموا الإنسان من حولهم عندما حرّكوا في حياته الانحراف، وظلموا الحياة عندما أبعدوها عن خطِّ الاستقامة. ثم يقول الله سبحانه وتعالى بأنَّ هذا النموذج هو نموذج الناس الظالمين لأنفسهم وللناس.
غير أنَّ هناك المؤمن الحق الذي ينطلق من قاعدة واحدة ويسير في خطّ واحد، المؤمن الذي لا يعيش الازدواجيَّة بين ما هو فكره وبين ما هو عليه، لا يعيش الازدواجيَّة والاهتزاز بين ما يعلنه للناس وما يعيشه في نفسه. إنَّ المؤمن واحدٌ ينطلق في خطّ واحد، ويؤمن بإله واحد، ويتحرّك في الحياة من خلال وحدة الفكر والقلب والحركة والاتجاه.
{إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا}، لأنّهم آمنوا بالله، وانطلق إيمانهم ليحكم كلَّ وجدانهم، وليتحرّك في كلِّ حياتهم. وعندما آمنوا بالرسول، عرفوا أنّه هو الذي يمثِّل وحي الله بكلِّ صدق وبكلِّ عصمة. ولذلك، عندما آمنوا بالقاعدة، تحرّكوا بشكل عفوي وطبيعيّ لا يحتاج إلى المزيد من الفكر، تحرّكوا في الخطّ المستقيم، وأولئك هم الذين يطابق قولهم فعلهم، ويطابق إيمانهم العلني إيمانهم الباطني، الداخلي، الفكري، {وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[النّور: 51].
*من كتاب "النَّدوة"، ج 2.