"أمُّ الكتاب".. مضمونات ودلالات

"أمُّ الكتاب".. مضمونات ودلالات

لعلّ قيمة هذه السورة (الفاتحة) تكمن في أنها تقدّم، في آياتها، تصوّراً شاملاً لعلاقة الله بالإنسان، وعلاقة الإنسان به، من خلال صفاته ذات الصّلة الوثيقة بهذه العلاقة المتبادلة، ليكون ذلك بمثابة الثقافة السّريعة، والوعي المتحرّك في الوجدان الإنساني، كلّما أراد تمثّل تصوّره العقيدي لله، لتتوازن تصوّراته، ولتستقيم خطواته في هذا الاتجاه؛ فهناك الإطلالة بالفكر على كلّ آفاق الحمد في صفات الله وأفعاله، مما يتحسّسه الإنسان في سرّ وجوده وحركته وعناصر شخصيّته وامتداد حياته، مما يتمثَّل فيه عظمة الخلق، وروعة النعمة، فيكون الحمد بكلّ إيحاءاته الفكرية والشعورية هو التّعبير الصّارخ لكلّ ما يحمله الإنسان من انفتاحٍ على مواقع الحمد لله.

وهناك الربوبيّة الشاملة للعالمين التي يتطلّع فيها الإنسان إلى الله في آفاق ألوهيّته التي لا حدود لها، ليجده في مواقع الكون كلّه، في عوالمه التي لا حصر لها، فيتحسّس موقعه كإنسان من بين هذه العوالم، ليجد التربية الإلهيّة تتعهّده بالرعاية الكاملة من موقع القدرة المطلقة المنفتحة على آفاق الألوهيّة، وليشعر بالوحدة الوجوديّة في ظلال الربوبيّة مع كلّ العالمين، فلا يحسّ بأيّ انفصال عن حركة الكون من حوله.

وإذا كانت الكلمتان "الله" و"رَبِّ الْعَـالَمِينَ" تختزنان إيحاء قوَّة العظمة، فإنَّ كلمتي "الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ" توحيان بالرّحمة التي تلامس قلب الإنسان وروحه، وكذلك كلّ حياته، لتنساب فيها محبّةً وخيراً وطمأنينةً وسلاماً، فترتاح مشاعره لإيحاءات الرّحمة في الوقت الذي تسمو أفكاره إلى معاني العظمة، ثُمَّ تنقله الأجواء الإيمانيّة إلى عالم آخر، هو عالم الآخرة الذي يواجه فيه الجزاء العادل على أعماله الصّالحة أو غير الصّالحة في يوم الدين الذي يملكه الله، فله ـ وحده ـ السيطرة المطلقة فيه، في كلّ ما يتعلّق بالثّواب والعقاب، والجنّة والنّار.. وبذلك تندفع مشاعر المسؤوليّة في كيان الإنسان، لينطلق تصوّره لله من خلال هذا الأفق الواسع، الذي يثير في داخله الرقابة الإلهيّة الشّاملة، لتتوازن خطواته في المواقع التي تتوازن فيها أعماله.

وهكذا يكون التصوّر لله في هذه الصفات الثلاث، أساساً لحركة العقيدة بالله في تفاصيلها الإيحائيّة التي تتحرّك في حياة الإنسان لتوجّهه إلى عبادة الله، مِمّا تفرضه الربوبيّة الشاملة والرحمة الواسعة والمالكية المطلقة للمصير كلّه، وفيما هي الهيمنة كلّها على الكون كلّه، فيتوجّه إليه ليعبّر عن خضوعه لعبادته بالمستوى الّذي ينفتح فيه على توحيد العبادة، فلا يعبد غيره، ولا تكون المسألة مسألةً تقريريّةً، بل هي مسألةٌ إقراريّةٌ، لأنه يسجّل على نفسه الاعتراف الحاسم بذلك بقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُد}.

ثُمَّ يتطلّع إلى الوجود كلّه ليجد أنَّ الله هو القادر على كلّ شيء فيه، لأنّه الخالق لكلّ الوجود، فكلّ مخلوق محتاجٌ إليه بفعل ارتباط وجوده به الذي يمثِّل الفقر كلّه، ما يجعله عاجزاً عن إدارة شؤون نفسه، أو إدارة شؤون غيره إلاّ بإذنه، فهو المستعان، فلا يملك أحدٌ أن يحصل على العون إلاَّ بإرادته، وهو الكافي الذي يكفي من كلِّ شيءٍ ولا يكفي منه شيء.

وهكذا ينطلق الفقر الإنساني في حاجاته الوجوديّة، ليصرخ، من موقع العقيدة المنفتحة على قدرة الله على كلّ شيء، بقوله: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، ما يوحي بالتّوحيد في الاستعانة، فلا استعانة للعبد إلا بربّه الواحد في عمق المعنى، لأنَّ ما يقدِّمه الآخرون من معونةٍ، فهو مستمدٌّ من اله.

وإذا كان الله هو المعين، فهو الهادي إلى سواء السّبيل، لأنّ الهداية جزءٌ من معونته، يفتح بها قلب الإنسان وعقله على الحقّ، ويوجّه حركته الاتّجاه السّليم، في ما يوجّهه إليه من رسالاته، ويلطف به من فيوضات ألطافه، ليهتدي بذلك كلِّه إلى الطّريق المستقيم الذي تتمثّل فيه كلّ نعم الله في وعي الحقّ المنفتح على كلّ قضايا العقيدة في الحياة، ويبتعد ـ من خلاله ـ عن كلّ الطرق المنحرفة التي تقوده في فكره وعمله إلى غضب الله، وعن كلّ المتاهات الفكرية والروحية والحركية التي تؤدي به إلى الضياع في صحراء الضّلال على كلّ المستويات.

وهكذا تحدّد السّورة للإنسان تصوّراته لربِّه، في موقع الربوبيّة والرحمة والمسؤوليّة، والتزامه بالله في موقع العبادة له والاستعانة به، وانفتاحه عليه، في الدّعاء له بأن يهديه {الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} الّذي يحصل من خلاله على محبّته ورضاه وهداه.

وبذلك نجد في السورة الإطلالة الواسعة على الأجواء القرآنيّة الرّحبة التي تضع هذه المبادئ عنواناً لها في الواجهة، لتكون آيات القرآن بمثابة التّفاصيل لكلّ مفرداتها، ولذلك سميت بـ "أمّ الكتاب".

وربما أمكننا أن نختصر خطَّها العامّ بتأكيدها على العقيدة والعمل اللّذين تندرج تحتهما كلّ المفاهيم القرآنيّة في حركة الفكر والواقع في تفاصيل الآيات القرآنيّة المتّصلة بالحياة الإنسانيّة في الواقع كلّه.

من كتاب "تفسير من وحي القرآن"، ج 1.

لعلّ قيمة هذه السورة (الفاتحة) تكمن في أنها تقدّم، في آياتها، تصوّراً شاملاً لعلاقة الله بالإنسان، وعلاقة الإنسان به، من خلال صفاته ذات الصّلة الوثيقة بهذه العلاقة المتبادلة، ليكون ذلك بمثابة الثقافة السّريعة، والوعي المتحرّك في الوجدان الإنساني، كلّما أراد تمثّل تصوّره العقيدي لله، لتتوازن تصوّراته، ولتستقيم خطواته في هذا الاتجاه؛ فهناك الإطلالة بالفكر على كلّ آفاق الحمد في صفات الله وأفعاله، مما يتحسّسه الإنسان في سرّ وجوده وحركته وعناصر شخصيّته وامتداد حياته، مما يتمثَّل فيه عظمة الخلق، وروعة النعمة، فيكون الحمد بكلّ إيحاءاته الفكرية والشعورية هو التّعبير الصّارخ لكلّ ما يحمله الإنسان من انفتاحٍ على مواقع الحمد لله.

وهناك الربوبيّة الشاملة للعالمين التي يتطلّع فيها الإنسان إلى الله في آفاق ألوهيّته التي لا حدود لها، ليجده في مواقع الكون كلّه، في عوالمه التي لا حصر لها، فيتحسّس موقعه كإنسان من بين هذه العوالم، ليجد التربية الإلهيّة تتعهّده بالرعاية الكاملة من موقع القدرة المطلقة المنفتحة على آفاق الألوهيّة، وليشعر بالوحدة الوجوديّة في ظلال الربوبيّة مع كلّ العالمين، فلا يحسّ بأيّ انفصال عن حركة الكون من حوله.

وإذا كانت الكلمتان "الله" و"رَبِّ الْعَـالَمِينَ" تختزنان إيحاء قوَّة العظمة، فإنَّ كلمتي "الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ" توحيان بالرّحمة التي تلامس قلب الإنسان وروحه، وكذلك كلّ حياته، لتنساب فيها محبّةً وخيراً وطمأنينةً وسلاماً، فترتاح مشاعره لإيحاءات الرّحمة في الوقت الذي تسمو أفكاره إلى معاني العظمة، ثُمَّ تنقله الأجواء الإيمانيّة إلى عالم آخر، هو عالم الآخرة الذي يواجه فيه الجزاء العادل على أعماله الصّالحة أو غير الصّالحة في يوم الدين الذي يملكه الله، فله ـ وحده ـ السيطرة المطلقة فيه، في كلّ ما يتعلّق بالثّواب والعقاب، والجنّة والنّار.. وبذلك تندفع مشاعر المسؤوليّة في كيان الإنسان، لينطلق تصوّره لله من خلال هذا الأفق الواسع، الذي يثير في داخله الرقابة الإلهيّة الشّاملة، لتتوازن خطواته في المواقع التي تتوازن فيها أعماله.

وهكذا يكون التصوّر لله في هذه الصفات الثلاث، أساساً لحركة العقيدة بالله في تفاصيلها الإيحائيّة التي تتحرّك في حياة الإنسان لتوجّهه إلى عبادة الله، مِمّا تفرضه الربوبيّة الشاملة والرحمة الواسعة والمالكية المطلقة للمصير كلّه، وفيما هي الهيمنة كلّها على الكون كلّه، فيتوجّه إليه ليعبّر عن خضوعه لعبادته بالمستوى الّذي ينفتح فيه على توحيد العبادة، فلا يعبد غيره، ولا تكون المسألة مسألةً تقريريّةً، بل هي مسألةٌ إقراريّةٌ، لأنه يسجّل على نفسه الاعتراف الحاسم بذلك بقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُد}.

ثُمَّ يتطلّع إلى الوجود كلّه ليجد أنَّ الله هو القادر على كلّ شيء فيه، لأنّه الخالق لكلّ الوجود، فكلّ مخلوق محتاجٌ إليه بفعل ارتباط وجوده به الذي يمثِّل الفقر كلّه، ما يجعله عاجزاً عن إدارة شؤون نفسه، أو إدارة شؤون غيره إلاّ بإذنه، فهو المستعان، فلا يملك أحدٌ أن يحصل على العون إلاَّ بإرادته، وهو الكافي الذي يكفي من كلِّ شيءٍ ولا يكفي منه شيء.

وهكذا ينطلق الفقر الإنساني في حاجاته الوجوديّة، ليصرخ، من موقع العقيدة المنفتحة على قدرة الله على كلّ شيء، بقوله: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، ما يوحي بالتّوحيد في الاستعانة، فلا استعانة للعبد إلا بربّه الواحد في عمق المعنى، لأنَّ ما يقدِّمه الآخرون من معونةٍ، فهو مستمدٌّ من اله.

وإذا كان الله هو المعين، فهو الهادي إلى سواء السّبيل، لأنّ الهداية جزءٌ من معونته، يفتح بها قلب الإنسان وعقله على الحقّ، ويوجّه حركته الاتّجاه السّليم، في ما يوجّهه إليه من رسالاته، ويلطف به من فيوضات ألطافه، ليهتدي بذلك كلِّه إلى الطّريق المستقيم الذي تتمثّل فيه كلّ نعم الله في وعي الحقّ المنفتح على كلّ قضايا العقيدة في الحياة، ويبتعد ـ من خلاله ـ عن كلّ الطرق المنحرفة التي تقوده في فكره وعمله إلى غضب الله، وعن كلّ المتاهات الفكرية والروحية والحركية التي تؤدي به إلى الضياع في صحراء الضّلال على كلّ المستويات.

وهكذا تحدّد السّورة للإنسان تصوّراته لربِّه، في موقع الربوبيّة والرحمة والمسؤوليّة، والتزامه بالله في موقع العبادة له والاستعانة به، وانفتاحه عليه، في الدّعاء له بأن يهديه {الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} الّذي يحصل من خلاله على محبّته ورضاه وهداه.

وبذلك نجد في السورة الإطلالة الواسعة على الأجواء القرآنيّة الرّحبة التي تضع هذه المبادئ عنواناً لها في الواجهة، لتكون آيات القرآن بمثابة التّفاصيل لكلّ مفرداتها، ولذلك سميت بـ "أمّ الكتاب".

وربما أمكننا أن نختصر خطَّها العامّ بتأكيدها على العقيدة والعمل اللّذين تندرج تحتهما كلّ المفاهيم القرآنيّة في حركة الفكر والواقع في تفاصيل الآيات القرآنيّة المتّصلة بالحياة الإنسانيّة في الواقع كلّه.

من كتاب "تفسير من وحي القرآن"، ج 1.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية