في هذه المقالة، ردّ علمي على شبهة مطروحة حول القرآن الكريم، حيث زعم طارحها أن القرآن قد تأثر بالبيئة العربية الجاهلية لاعترافه بإصابة العين .
قالوا: وممّا نجد القرآن متأثّراً بالبيئة العربية الجاهلية، اعترافه بإصابة العين في مواضع:
الأوّل: قوله تعالى ـ حكاية عن يعقوب (عليه السَّلام) ـ: ﴿وَقَالَ يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللهِ مِن شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾. قيل: خاف عليهم إصابة العين، لأنّهم كانوا ذوي جمالٍ وهيبةٍ وكمالٍ، وهم إخوة أولاد رجلٍ واحد.
الثاني: قوله تعالى: ﴿وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ* وَمَا هُو إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ﴾. قيل: يزلقونك بمعنى يصيبونك بأعينهم. قال الطبرسي: والمفسِّرون كلّهم على أنّه المراد من الآية.
الثّالث: قوله تعالى: ﴿وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ﴾. قيل: أي من شرّ عينه. وعن ابن أبي عمير رفعه قال: أما رأيته إذا فتح عينيه وهو ينظر إليك، هو ذاك.
والكلام هنا من جهتين:
الأولى: هل القرآن تعرّض لتأثير العين، سواء كان حقّاً أم باطلاً؟
الثاني: هل للعين تأثير سوءٍ ذاتياً، مع قطع النظر عمّا جاء في القرآن؟
أمّا الجهة الأولى، فليس في ظاهر تعبير القرآن ما يدلّ على ذلك:
أمّا قولة يعقوب لبنيه: ﴿... لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ ...﴾، فإنّما كانت في عودتهم إلى مصر بعد سفرتهم الأولى التي رجعوا منها خائبين. فلو كان يخاف عليهم العين، لأمرهم بذلك في المرّة الاُولى، بل وفي كلّ سفرةٍ وحلٍّ وارتحال، فيمنعهم أن يترافقوا في الأسفار على الإطلاق، ولا خصوصية لهذه المرّة من الدخول على يوسف .
قيل: إنّما قال لهم ذلك ـ في هذه المرّة ـ ليستخبر من حالة العزيز حين يدخل عليه كلّ أخٍ له، فيستعلم من تأثير كلّ واحدٍ عند الدّخول عليه حالته الخاصّة، وما يظهر على أسارير وجهه وحركات عينيه حين رؤية شقيقة من اُمّه بنيامين. ولعلّ يعقوب استشعر من ردّ العزيز إخوته ليأتوا بأخٍ آخر لهم من أبيهم، أنّه هو يوسف، فحاول بهذه التجربة معرفة شخصية العزيز، ولعلّه يوسف نفسه، الأمر الذي لا يُعلَم إذا دخلوا عليه كلّهم جماعةً واحدةً. ومن ثمّ، لمّا دخل عليه أخوه بنيامين، آواه وأفشى نفسه لديه، الأمر الذي يدلّ على دخوله عليه لوحده، فقد تحقّق تدبير يعقوب في تفرّسه .
وهذا يدلّ على فراسة يعقوب القويّة، حيث يقول عنه تعالى: ﴿...وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ ...﴾، أي ذو فراسةٍ قويّة .
قال إبراهيم النخعي ـ وهو تابعيّ كبير ـ: إنّ يعقوب (عليه السَّلام) كان يعلم بفراسته بأنّ العزيز هو ابنه يوسف، إلاّ أنّ الله لم يأذن له في التصريح بذلك، فلمّا بعث أبناءه إليه، أوصاهم بالتفرقة عند الدخول، وكان غرضه أن يصل بنيامين وحده إلى يوسف في خلوةٍ من سائر إخوته.
وقوله تعالى: ﴿...مَّا كَانَ يُغْنِي عَنْهُم مِّنَ اللهِ مِن شَيْءٍ إِلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا ...﴾، إنّ هذا التدبير الذي قام به يعقوب، لم يكن يغيّر من المصلحة التي رعاها الله بشأنه، ولكن كانت تلك بغية أملٍ في نفس يعقوب، قضاها الله رعايةً لجانبه العزيز على الله .
ومما يبعّد إرادة إصابة العين ـ إضافة إلى ما ذكرنا ـ أنّ التحرّز من ذلك لا يتوقّف على الدخول من أبوابٍ متفرّقة، بل يكفي الدخول متعاقبين وفي فترات. ثمّ إنّهم كانوا يدخلون مصر في جمعٍ غفيرٍ من رفقة القافلة الحشدة بالأحمال والأثقال، فكيف يعرف الناس أنّ هؤلاء إخوة من أبٍ واحد؟
وكذا قوله تعالى: ﴿وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ ...﴾.
الزّلَق: الزلّة . وأزلقه: أزلّه ونحّاه عن مكانه. والمزلق: المكان الّذي ينزلق عليه ولا يمكن الثبات عليه .
والإزلاق بالأبصار، تحديق النظر إليه نظر ساخط، بحيث يكون مُرعباً يوجب الوحشة والتراجع عمّا هو فيه، خوفاً من إيقاع الأذى به .
و"إنْ" مخفَّفة من المثقلة، أي كادوا أن يزلّوك عن موضعك بشدَّة السّخط والإرعاب والإرهاب، البادي ذلك من تحديق نظرهم المغضب إليك .
أي إنّهم لشدَّة عداوتهم وبغضائهم، ينظرون إليك نظراً شزْراً، حتّى ليكادون يزلّون قدمك بغضاً، فتصدع حين سمعوك تتلو كتاب الله وتنبذ أصنامهم.
وهذا نظير قوله تعالى: ﴿وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا...﴾.
يقال: فزّه واستفزّه أي أزعجه .
فهذه النظرات الشزرة تكاد تؤثّر في موقف الرسول الصّلب، فتجعله يزلّ ويزلق ويفقد توازنه وثباته على الأمر. وهو تعبير فائق عمّا تحمله هذه النظرات العدائية من غيظٍ وحنقٍ وشرٍّ ونقمةٍ وضغن، وحمّى وسمّ ﴿... لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ...﴾. مصحوبة هذه النظرات المسمومة المحمومة بالسبّ القبيح والشّتم البذيء والافتراء الذّميم ﴿...وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ ﴾.
ويدلّنا على عدم إرادة إصابة العين في هذه الآية الكريمة بالذات، أنّ إصابة العين إنما تكون عند الإعجاب بشيء لا عن التنفّر والانزجار. والآية تصرّح بأنّهم كادوا يزلقونه لمّا سمعوا الذكر، ماقتين عليه، نافرين منه.
فجعلوا يسلقونه بالسّباب والشّتم، ويرمونه بالجنون. فكيف، والحال هذه، يحسدونه فيصيبونه بأعينهم؟! الأمر الّذي لا يلتئم وسياق الآية الكريمة .
قال الزجّاج: معنى الآية، أنّهم ينظرون إليك عند تلاوة القرآن والدّعاء إلى التوحيد نظر عدواةٍ وبغضٍ وإنكارٍ لما يسمعونه وتعجّبٍ منه، فيكادون يصرعونك بحدّة نظرهم، ويزيلونك عن موضعك. وهذا مستعمل في الكلام. يقولون: نظر إليَّ فلان نظراً يكاد يصرعني، ونظراً يأكلني فيه. وتأويله كلّه، أنّه نظراً لو أمكنه معه أكلي أو يصرعني لفعل.
وهكذا قال الجبائي: إنَّ القوم ما كانوا ينظرون إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله) نظر استحسان وإعجاب، بل نظر مقتٍ ونقص.
وهكذا قوله: ﴿وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ﴾ ـ في سورة الفلق ـ أي إذا حاول السعي وراء حسده لغرض إيقاع الأذى والضّرر بالمحسود، أي استعذ بالله من شرِّ الحاسد إذا حاول إنفاذ حسده، بالسّعي والجدّ في إزالة نعمة مَن يحسده، فهو يعمل الحيل، وينصب شبائكه لإيقاع المحسود في الضّرر والخسران، وربّما بأدقّ الوسائل والذّرائع، وليس في الاستطاعة الوقوف على ما يدبّره من مكائد، إلّا أن يُستعان عليه بربِّ الفَلَق، أي مسبّب الفرج والخلاص من كيد الكائدين، والإحباط من مساعيهم الخبيثة.
نظرة فاحصة عن إصابة العين
أمّا الجهة الأخرى ـ وهو البحث عن إصابة العين ومدى تأثيرها في النفوس والأموال ـ فقد شاع الإشفاق منها في أوساط بدائية، وربما في أوساط متحضّرة أيضاً، وفي ذلك نوع من الاعتراف بحقيقة إجماليّاً. وربّما علّلوه بتعاليل تبدو طبيعية ترجع إلى نفس العاين. قالوا: هي تشعشعات تموّجيه تنبعث من عين الرائي الذي أعجبه شيء على أثر انفعاله النفسي الخاصّ، والأكثر إذا كان عن حسدٍ خبيث، وربما من غير شعور بهذا الانفعال النّفسي المفاجئ في غالب الناس، وهي خاصّية غريبة قد توجه شديدة في البعض، وخفيفة في الآخرين .
وهذه التشعشعات السامّة تشبه التيّارات الكهربائية، تؤثّر في المتكهرب بها تأثيراً بالفعل، الأمر الذي يكون طبيعياً وليس شيئاً خارقاً، وإن كان لم يعلم كنهها، ولا عُرفت حدودها ومشخّصاتها، ولا إمكان مقابلتها مقابلةً علميّةً فيما سوى الدّعاء والصّدقة والتوكّل على الله تعالى .
قال الشّيخ ابن سينا: إنَّ لبعض النفوس تأثيراً في الخارج من بدنه بتعلّق روحاني كتعلّقه ببدنه.
وقال أبو عثمان الجاحظ: لا ينكر أن ينفصل من العين الصّائبة إلى الشيء المستحسن أجزاء لطيفة متّصلة به وتؤثّر فيه، فيكون هذا المعنى خاصّية في بعض الأعين كالخواصّ للأشياء.
قال ـ في كتاب الحيوان بصدد التحرّز من أعين ذوي الشّره والحِرص ونفوسهم ـ: كان علماء الفرس والهند وأطبّاء اليونان ودُهاة العرب وأهل التّجربة من نازلة الأمصار وحُذّاق المتكلّمين، يكرهون الأكل بين يدي السِّباع، يخافون نفوسها وعيونها، للّذي فيها من الشَّرَه والحِرص والطَّلَب والكَلَب، لما يتحلَّل عند ذلك من أجوافها من البخار الرّديء، وينفصل من عيونها من الأمور المفسدة، ما إذا خالطت طبائع الإنسان نقضته.
ولذلك، كانوا يكرهون قيام الخَدَم بالمذابّ (مطردة الذّباب) والأشربة على رؤوسهم وهم يأكلون، مخافة النفس والعين، وكانوا يأمرون بإشباعهم قبل أن يأكلوا، وكانوا يقولون في السنّور والكلب إمّا أن تطرده قبل أن تأكل، وإمّا أن تُشغله بشيء يأكله ولو بعظم يطرح له .
قال: ورأيت بعض الحكماء وقد سقط من يده لقمة، فرفع رأسه، فإذا عين غلام تحدَق نحو لقمته، وهو يزدرد ريقه لتحلّب فمه من الشهوة، وكان ذلك الحكيم جيّد اللّقم، طيّب الطعام، ويضيّق على غلمانه .
وقالت الحكماء: إنَّ نفوس السباع وأعينها في هذا الباب أردأ وأخبث لفرط شرهها وشرّها.
قال الجاحظ: بين هذا المعنى وبين قولهم في إصابة العين الشّيء العجيب المستحسن شركةً وقرابة، ذلك أنّهم قالوا: قد رأينا أناساً يُنسب إليهم ذلك، ورأيناهم وفيهم من إصابة العين مقدار من العدد، لا نستطيع أن نجعل ذلك النّسق من باب الإتفاق، وليس إلى ردّ الخبر "العين حقّ" سبيل، لتواتره وترادفه، ولأنّ العَيان قد حقَّقه، والتجربة قد ضُمَّت إليه .
قالوا: ولولا فاصل ينفصل من عين الرائي المُعجَب إلى الشّيء المعجَب به ـ حتّى يكون ذلك الداخل عليه هو الناقض لقُواه ـ لما جاز أن يلقى المصاب بالعين مكروهاً من قبل العاين، من غير تماس ولا تصادم ولا رابط يربط أحدهما بالآخر .
قال الأصمعي: رأيتُ رجلاً عيوناً (الشديد الإصابة بالعين)، كان يذكر عن نفسه أنّه إذا أعجبه الشَّيء وَجَدَ حرارةَ تخرج من عينه.
وأضاف الجاحظ ـ ردّاً على مَن زعم أنّ الاعتراف بصحّة إصابة العين ينافي التّوحيد ـ: أنّ الاعتراف بالطبائع اعترافٌ بسنّة الله الجارية في الخلق والتّدبير، وليس أمراً خارجاً عن طوع إرادته تعالى. قال: ومَن زعم أنّ التوحيد لا يصحّ إلّا بإبطال حقائق الطبائع، فقد حملَ عجزَه على الكلام في التّوحيد. وإنّما يأنس منك الملحد إذا لم يدعك التوفُّرُ على التّوحيد إلى بخس حقوق الطبائع، لأنَّ في رفع أعمالها رفع أعيانها. وإذا كانت الأعيان هي الدالّة على الله فرفعت الدليل، فقد أبطلت المدلول عليه.
وللسيّد الشّريف الرّضي (قُدِّسَ سِرُّه) كلامٌ لطيفٌ عند شرحه لقول النبيّ (صلّى الله عليه وآله): "العين حقّ تستنزل الحالق".
قال: وهذا مجاز، والمراد أنّ الإصابة بالعين من قوّة تأثيرها وتحقّق أفاعيلها، كأنّها تستهبط العالي من ارتفاعه، وتَسْتَقْلِقُ (أي تُزحزح) الثابت بعد استقراره. والحالق، المكان المرتفع من الجبل وغيره، فجعل عليه الصّلاة والسّلام العين كأنّها تحطّ ذروة الجبل من شدَّة بطشها وحِدَّة أخذها. وقد تناصرت (تضافرت) الأخبار بأنَّ الإصابة بالعين حقّ. والذي يقوله أصحابنا: إنَّ الله سبحانه يفعل المصالح بعباده على حسب ما يعلمه من الصّلاح لهم في تلك الأفعال التي يفعلها والأقدار التي يقدّرها. وإذا تقرّرت هذه القاعدة، فغير ممتنع أن يكون تغييره تعالى نعمة زيدٍ مصلحة لعمرو، واذا كان تعالى يعلم من حال عمرو أنه لو لم يسلب زيداً نعمته ويخفض منزلته أقبل على الدّنيا بوجهه، ونأى عن الآخرة بعطفه، وأقدم على المغاوي، وارتكس في المهاوي، وإذا سلب سبحانه نعمة زيدٍ للعلّة الّتي ذكرناها، عوّضه عنها وأعطاه بدلاً منها عاجلاً أو آجلاً. وإذا كان ذلك كما قلنا ـ وقد روي عنه (صلى الله عليه وآله) ما يدلّ على أنّ الشيء إذا عظم في صدور العباد، وضع الله قدره وصغّر أمره ـ لم ينكر تغيير حال بعض الأشياء عند نظر بعض الناظرين إليه واستحسانه له وعِظَمِه في صدره وفخامته في عينه. كما روي أنّه (صلّى الله عليه وآله) قال: لمّا سُبِقَتْ ناقَته العَضْباء، وكانت إذا سوبق بها لم تُسْبَق: "ما رفع العباد من شيء إلّا وضع الله منه". فيمكن أن يتأوّل قوله (عليه الصّلاة والسلام): "العينُ حقّ" على هذا الوجه. ويجوز أن يكون ما أمَرَ بِهِ المُستَحسِنَ للشّيء عند رؤيته له من إعاذته بالله والصّلاة على رسول الله، قائماً في المصلحة مقام تغيير حالة الشّيء المُستَحسَنِ، فلا تُغَيَّر عند ذلك، لأنّ الرائي قد أظهر الرجوع إلى الله سبحانه والإخبات له، وأعاذ ذلك المرئي به، فكأنّه غيرُ راكنٍ إلى الدّنيا ولا مغترٌّ بها واثقٌ بما يرى عليه أحوال أهلها .
قال: ولعمرو بن بحر الجاحظ في الإصابة بالعين مذهبٌ انفرد به، وذلك أنَّه يقول: إنّه لا يُنكر أن ينفصل من العين الصائبة إلى الشّيء المستُحسَن أجزاءٌ لطيفة فتؤثّر فيه وتجني عليه. ويكون هذا المعنى خاصّاً ببعض الأعين كالخواصّ في الأشياء. قال: وعلى هذا القول اعتراضات طويلة، وفيه مطاعن كثيرة.. .
وهذا الكلام نقلناه بطوله، لما فيه من فوائد جمّة، وتنبيهٌ على أنّ من حكمته تعالى القيام بمصالح العباد، فربما يحطّ من هيمنة المعيون كي لا يطغو العاين فيخرج عن حدِّه، ثمّ إنّه تعالى يعوّض المعيون بما يسدّ خلّة الضّرر الوارد به. وقد يكون ذلك في مصلحة المعيون لتكون كفّارةً لما فرط منه من الغلوّ أو التفريط بشأن العاين. لكن هذا لا ينافي ما علّل به ابن سينا أو الجاحظ في بيان السبب الطبيعي الواقع تحت إرادة الله الحكيمة .
وهكذا ذهب المتأخّرون في بيان التعليل الطبيعي لإصابة العين، وفق ما أودع الله من خصائص في طبيعة الأشياء .
قال سيّد قطب: والحسد انفعالٌ نفسي إزاء نعمة الله على بعض عباده مع تمنّي زوالها. وسواء أتبع الحاسد هذا الانفعال بسعيٍ منه لإزالة النعمة تحت تأثير الحقد والغيظ، أو وقف عند حدّ الانفعال النفسي، فإنَّ شرّاً يمكن أن يعقّب هذا الانفعال .
قال: ونحن مضطرّون أن نطامن من حدّة النفي، لما لا نعرف من أسرار هذا الوجود وأسرار النفس البشرية وأسرار هذا الجهاز الإنسانيّ.
فهنالك وقائع كثيرة تصدر عن هذه الأسرار، ولا نملك لها حتّى اليوم تعليلاً. هنالك مثلاً التخاطر على البُعد، وكذلك التنويم المغناطيسي. وقد أصبح الآن موضعاً للتجربة المتكرّرة المثبتة، وهو مجهول السرّ والكيفيّة. وغير التخاطر والتنويم كثير من أسرار الوجود وأسرار النفس وأسرار هذا الجهاز الإنساني .
فإذا حسد الحاسد ووجَّه انفعالاً نفسيّاً معيّناً إلى المحسود، فلا سبيل لنفي أثر هذا التوجيه لمجرّد أنَّ ما لدينا من العلم وأدوات الاختبار لا تصل إلى سرّ هذا الأثر وكيفيّته. فنحن لا ندري إلّا القليل في هذا الميدان، وهذا القليلُ يُكشَفُ لنا عنه مصادفةً في الغالب، ثمّ يستقرّ واقعةً بعد ذلك. فهنا شرٌّ يُستعاذ منه بالله.
*مقالة من كتاب "شبهات وردود حول القرآن الكريم"، ص231 ـ 237، تحقيق: مؤسّسة التمهيد، الطبعة الثانية، سنة: 1424 هـ 2003 م، منشورات ذوي القربى، قمّ المقدَّسة، الجمهورية الإسلاميّة الإيرانيّة.