من القصص العجيبة الّتي تثير فينا العبرة والتأمّل، ما لفت إليه القرآن الكريم، من أنّه في يوم من الأيّام، خرج سيّدنا سليمان(ع) بجيشه من الجنِّ والإنس، ومعه الحيوانات المختلفة في كامل العظمة والقوَّة، ومرَّ على وادٍ فيه نملٌ كثير، فلمّا رأت نملة من هذا النَّمل عظمة جيش سليمان، أمرت بني جنسها أن يختبؤوا حتى لا يصيبهم أذى من مرور الجيش فوقهم، ولما سمع سليمان كلام النّملة مع النمل، تبسّم ضاحكا من كلامها، وغيّر مسار طريقه، شاكراً الله تعالى على فضله ونعمته عليه.
قال تعالى في كتابه العزيز: {وَوَرِثَ سليمان دَاوُدَ وَقَالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ* وَحُشِرَ لِسْلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْس وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ* حَتَّى إذا أَتَوْا عَلَى وادي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ* فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَليَّ وَعَلَى والديّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضَاهُ وأدخلني بِرَحْمَتِكَ في عِبَادِكَ الصَّالحين}.
ومن هذه القصّة، قد يتساءل أحدٌ ما: هل إنّ النمل يتكلّم حتى يسمعها سليمان؟ وما هي كيفية كلامها؟
وبالمرور على الآيات، يتّضح أنّ الله تعالى قد خصّ سليمان(ع) بعلم منطق الطّير والحيوان، بطريقة خاصّة يفهم منها ما تعني وتقول: {وقال يا أيُّها الناسُ علِّمْنا منطقَ الطّير}.
ويوضح العلامة الشّيخ محمد هادي معرفة هذه النّقطة بقوله:
"النملة، وكذا سائر الحشرات، ليس لها صوت،وإنّما تَتَبادل أخبارَها وتتفاهم بعضها مع بعض عن طريق إشعاع أمواج لاسلكيّة، وهكذا تتلقّى الأخبار، وكذا عن طريق الشمّ، ممّا لا صلة له بالكلام الصّوتي .
لكنّ العُمدة، أنّ للحيوانات برُمّتها مَنطِقاً، أي طريقة خاصّة للتّفاهم مع بعضها البعض، سواء أكان ذلك عن طريق إيجاد أصوات خاصّة، كما في الدوابّ والطّيور، أم بطريقة أُخرى (إشعاع، أمواج لاسلكيّة) كما في الحشرات، الأمر الّذي يمكن الوقوف عليه بطريقةٍ ما. وبالفعل، قد عُرف شيء من مَنطِق البهائم، وحتّى بعض الحيتان في البحار، ولا يستحيل في قدرة الله تعالى، أنْ يُعلّم نبيّه مَنطِق الطّير وسائر الحيوان. يقول تعالى ـ حكايةً عن سليمان ـ : {عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ}.
يقول الأُستاذ الطنطاوي، صاحب تفسير "الجواهر": ويعتقد بعض العلماء اليوم، أنَّ تبادل الخواطر هو مستوى القوَّة التي تُمكِّن الشَّخص مِن نقل آرائه إلى شخصٍ آخر، بدون أيّة واسطة مادّية أو ظاهريّة، فهل هذا الرّأي مُمكن أو مُحتمَل الوقوع؟ وإجابةً على ذلك، يقول العالِم الإنجليزي (برسي): إنَّ نقل الأفكار قد يحدث في أوقات شاذَّة وحالات خاصَّة، وذلك ما لا يُعارض فيه أحد من الباحثينَ، ولكنّه لا ينطبق على الحالات العامَّة، وذلك التبادل قد يُرى بوضوح بين الحشرات والحيوانات وقد اقتربت حشرة من أُخرى. قال: وبذلك نعرف أنّ الحيوانات تُكلّم بعضها بنقل الخواطر. والنَّمل من هذا القبيل، وأنَّ الإنسان مُستعدّ لذلك؛ لأنّه من جُملة مواهبه، ولكنّ هذه المَوهبة تجيء تارةً بطريق الوحي الخارق للعادة، وتارةً بالتّمرين".[كتاب "شبهات وردود حول القرآن الكريم"، محمد هادي معرفة، ص 320-321].
وفي سياقٍ متّصل بالقصّة، وما تدلّ عليه، يقول العلّامة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله(رض):
"{وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً} مما ألهمهما الله منه، وحصلا عليه من حركة الفكر والتّجربة.
{وَقَالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ}، فكان لنا من ذلك ما نستطيع أن نتعرّفه من حديثهم مع بعضهم البعض بطريقةٍ تفصيليّة واضحةٍ، وما نستطيع أن نتحدّث به معهم فيما نثيره من حديث، وفيما نكلّفهم به من مهمّاتٍ بشكل مباشرٍ، تماماً كما يكلِّف بعضهم بعضاً في قضاياهم التي تهمّهم في مجتمعهم الواسع.
وعلى ضوء هذا، فإنّ ما يتحدّث به سليمان من حدود المعرفة لمنطق الطّير، يختلف عن المعرفة التي يملكها بعض الناس من خلال الملاحظة المستمرّة، والتأمّل الدّقيق، ما يجعلهم يتعرفون إلى بعض الإشارات في أصوات الطير في الحالات المتنوّعة، ولكن بشكل غير دقيق ولا تفصيليٍّ، بينما النّبي سليمان يعرف من ذلك كلّه سرّ التفاهم الدّقيق، تماماً كما لو كان واحداً منهم في تفاصيل أمورهم الخاصّة، {وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شيْءٍ} مما يعطيه الله للإنسان من علم وقدرة وملك ونبوّةٍ وحكمٍ ومال ونحو ذلك، مما يمكن أن يحصل عليه الإنسان فيما يحتاجه موقعه المميَّز في حركيّته وفاعليّته بشكل طبيعيٍّ معقول.
{إِنَّ هَـذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ} الذي يعطينا موقع القيادة في حياتكم، ويفرض عليكم الطّاعة في ذلك كلّه، لأنّ الفضل في الطاعة يثبت الفضل في الموقع، تبعاً للحاجة والحركة والدّور، بما يتنوّع الناس به مما يملكونه ومما لا يملكونه.
{وَحُشِرَ لِسْلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْس وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ}، فقد كانت المهمّات التي أراد الله منه القيام بها في تنوّعها واختلاف مواقعها، تفرض أن تكون له هذه السّيطرة على الإنس، فيما يريد أن يتحرّك به في مجتمع الإنسان، وعلى الجنّ فيما يريد أن يثيره في مجتمعات الجنّ، وعلى الطّير فيما يريد أن يكلّفهم به من مهمّات.
{حَتَّى إِذَآ أَتَوا عَلَى وَادِي النَّمْلِ}، وهو من المناطق التي يتكاثر فيها النمل بشكل كثيف، كما توحي به الكلمة في نسبة الوادي إلى النّمل، {قَالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِّمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ}، عندما يسيرون في هذا الحشد الكبير، فيطأونكم بأقدامهم وهم غافلون أو عارفون. وهذا ما يوحي بأنّ لمجتمع النمل قيادةً تدير شؤونهم، وتتولّى تحذيرهم من الأخطار القادمة إليهم، سواء كان ذلك بطريقةٍ غريزيّةٍ أو بطريقةٍ واعيةٍ، مما لا نملك معرفته بتفاصيله الدّقيقة، ولكنَّ الآية توحي بشيء من هذا القبيل. وسمعها سليمان، وكان يعرف منطق النمل، كما يعرف منطق الطّير، وعرف بنعمة الله عليه ما يثيره موكبه من اهتمام حتى لدى النّمل، {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي} ألهمني {أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ}، حيث أعطيتني من شؤون العلم والقدرة والنبوّة، وأعطيت أبويَّ من ذلك ومن غيره، {وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ}، إذ يمثّل ذلك شكراً عمليّاً للنعمة، ويجسِّد وسائل القرب إلى الله الذي يقرِّب عباده إلى رضوانه من خلال طاعتهم وإيمانهم...".[تفسير من وحي القرآن، ج 17، ص 193- 196].
وجاء في "التّفسير المبين" إشارة إلى وجود طريقة تخاطب خاصّة بين الحيوانات:
"{حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ}: قرأت في مجلّة "عالم الفكر" الكويتية، العدد الثاني من المجلد السابع، مقالًا مطوّلاً بعنوان "لغة الحيوان"، جاء فيه: استمر العلماء العديد من السنوات وهم يحاولون تفسير سلوك الحيوان، حتى استطاع علماء هذا العصر متعاونين، أن يحلّوا ما استعصى على من سبقهم، وأنشأوا علماً جديداً، سموه "علم سلوك الحيوان"، وأثبتوا أن لكلّ صنف من الحيوانات والحشرات طريقة خاصّة في التفاهم، وهذا بالذّات ما نطق به القرآن منذ 1300 عام أو أكثر، فمن أين جاء محمّد(ص) بهذا وبما هو أعظم إن لم يكن من عند الله!؟ {لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ}: نملة لا تقتحمها الأعين، تخاف على رعيّتها أو جماعتها من الأقوى ومن أيّ أذى، فتبذل ما في وسعها من جهد لصيانة أُمّتها وسلامتها، وسجَّل ذلك سبحانه في كتابه، عسى أن يعتبر ويتّعظ كلّ من بيده زمام أمر من الأمور: {ولقد صرفنا للنّاس في هذا القرآن من كلّ مثل. حتى بالنَّمل والذُّباب - فأبى أكثر النّاس إلّا كفورًا}[الإسراء: 89].
{فَتَبَسَّمَ}: سليمان {ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي}: ألهمني {أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ}: ومن أفضل الشّكر كفّ الأذى عن النّاس، وأكمله على الإطلاق، أن تسدي إليهم خدمة أو تردّ عنهم نكبة".[التفسير المبين، العلامة الشّيخ محمد جواد مغنيّة].
من كلّ ما تقدّم، يتضح أن الله تعالى قد جعل لغة ومنطقاً يحكم التفاهم والتخاطب بين الحيوانات، وقد أطلع الله تعالى بعض أنبيائه على أسرار هذه اللّغة من باب فضله عليهم، وتأكيداً لمعجزتهم ونبوّتهم التي تقوّي رسالتهم بين النّاس، وما في ذلك من عبرة ودروس للإنسان، حتى يتّعظ ويعتبر من عظمة الله في مخلوقاته.
إنّ الآراء الواردة في هذا المقال، لا تعبّر بالضّرورة عن رأي الموقع، وإنّما عن وجهة نظر صاحبها.